استجب لي يا ربّ، استجب لي

استجب لي يا ربّ، استجب لي

الخوري بولس الفغالي

تلك هي صرخة النبيّ إيليّا على جبل الكرمل أمام الشعب المجتمع في وقت ذبيحة المساء. وتلك هي الطلبة التي يرفعها الكاهن المسيحيّ بعد كلام التقديس متوجِّهًا إلى الروح القدس لكي ينزل ويحلَّ على هذا الخبز وعلى هذا الخمر اللذين يصيران جسد الربِّ ودمه. استجاب الربُّ طلبة إيليّا فأرسل النار على المحرقة. والروح القدس يكمِّل عمل التقديس بعد الدعاء إلى الآب الخالق وتذكُّر ما فعله الابن ليلة العشاء السرّيّ، إذا أخذ خبزًا بيديه المقدَّستين، ثمَّ أخذ الخمر: هذا هو جسدي، هذا هو دمي.

إيليّا هو صورة بعيدة عن الكاهن الذي نتذكَّره في هذه السنة التي أعلنها قداسة البابا سنة كهنوتيَّة بمناسبة مرور 150 سنة على وفاة يوحنّا ماري فيانّاي، خوري آرس (قرب ليون، في فرنسا) شفيع الكهنة. إيليّا حمل كلمة الله إلى شعبه. هو مثال للكاهن الذي يقدِّم خبز الكلمة. إيليّا جمع الشعب حوله على جبل الكرمل، بعد أن أضاعوا هويَّتهم بين الله وبين البعل. وكذا يفعل الكاهن أقلَّه في الاجتماع الأسبوعيّ. وأخيرًا، إيليّا قدَّم الذبيحة على الجبل فهتف الشعب: الربُّ هو الإله، الربُّ هو الإله. والكاهن يدعو الشعب فيقولون: نتذكَّر موتك يا ربّ، ونعترف بقيامتك وننتظر مجيئك.

1. مائدة الكلمة

إيليّا ومعنى اسمه: الربُّ هو الله. رأى الشعب ضائعًا. من هو الله؟ البعل ومعنى اسمه السيِّد والملك بانتظار أن يملك على قلوب الناس الذين ينتظرون منه المطر وخصب الأراضي. أمّا يهوه أو الإله الذي هو، فهو سيِّد الصحراء. لا شكَّ أنَّه في الماضي أعطى المنَّ من السماء والماء من الصخر، ولكنَّ دوره انتهى حين الدخول إلى الأرض المقدَّسة. وفي أهون الأحوال، يكون الشعب راضيًا يهوه وراضيًا البعل. تارة، يمضي إلى هنا، وطورًا إلى هناك. وفي أيِّ حال، القوى غير متعادلة. من جهة إيليّا وحده، ومن جهة أخرى، 450 كاهنًا، يخدمون بعل ويأكلون على مائدة الملكة.

ماذا بقي لإيليّا أن يفعله؟ أن يعلن الكلمة في وقتها وفي غير وقتها. ويُقرن الكلمة بالقوَّة الآتية من الربّ. أنتم تقولون: بعل هو سيِّد المطر، فأنا باسم الربِّ أمنع عنكم المطر: "حيٌّ هو الربُّ إله إسرائيل الذي أعبده، لن يكون في هذه السنين المقبلة ندى ولا مطر إلاَّ حين أعلنُ ذلك" (1 مل 17: 1).

الربُّ حيٌّ وليس مثل الأصنام الميتة. يدعوه النبيّ فيجيبه. أمّا البعل فلا يسمع ولا يجيب. والشعب اختبر ذلك على جبل الكرمل. صرخ الكهنة الكثر: "أيُّها البعل، استجب". ولكن لا صوت ولا مجيب (1 مل 18: 26). رفعوا الصوت، هشَّموا أجسادهم. فهزئ منهم إيليّا "فربَّما إلهكم غارق يتأمَّل أو هو مشغول أو في سفر أو لعلَّه نائم فيفيق" (آ27). إن كان بعل كما تقولون، فهو إله ميت. هو صنم. بعض الحجر أو الخشب المطليّ بالفضَّة والذهب. أمّا الربُّ الذي أعبد، فهو الإله الحيّ وسوف ترون أنَّه يفعل.

وفي الحقيقة فعل. المحرقة تحتاج إلى النار، والربُّ يرسل النار. نادى إيليّا، استجِب لي، فاستجاب. طلب المطر فجاء المطر الغزير بعدما "اسودَّت السماء بالغيوم وهبَّت الرياح" (1 مل 18: 45). الله يفعل، ولكن لا بدَّ مَن يعلن الكلمة ولا يخاف. أن يسعى لكي يرضي الله لا الناس، كهنة إيزابيل يُرضون إيزابيل فترضى عنهم وتكرمهم. وأنبياء آخاب الملك يقولون ما يريد الملك منهم أن يقولوا. فسمع ما قال "رسول الملك لميخا ابن يملة (الذي هو غير ميخا المورشتيّ): "بصوت واحد تنبَّأ الأنبياء للملك بالنصر. فليكن كلامك مثل كلامهم" (1 مل 22: 13). وكان جواب ميخا شبيهًا بكلام إيليّا: "حيٌّ هو الربَّ ما يقوله لي الربُّ أنا أقوله" (آ14).

ولكنَّ كلام الربِّ يشكِّل الخطر على قائله. ميخا نال "لطمة على فكِّه" (1 مل 33: 24)، وجُعل في السجن مع قليل من الخبز والماء (آ27). وأعلن الملك: سوف أعود سالمًا، ولكنَّ النبيّ الحقيقيّ متأكِّد أنَّ ما قاله هو كلام الربّ. فقال من عمق سجنه: "إن رجعتَ سالمًا، فلا يكون الربُّ تكلَّم على لساني" (آ28).

ولم يكن حظُّ إيليّا أفضل من حظِّ ميخا. فعل ما فعل بكهنة إيزابيل فهدَّدته قائلة: "ويل لي من الآلهة إن لم أجعلك في مثل هذه الساعة، غدًا، كواحد منهم" (1 مل 19: 2). الآلهة عديدون وهم "يفعلون" مثل "جيش جرّار". فماذا يفعل الإله الواحد، والسلطة البشريَّة بين يديه ضعيفة: إيليّا الذي لا مال له ولا رجال، إلاّ ذاك المعطف الذي يغطّي عريه. فاحتاج أن يمضي إلى الشرق ليكون له الطعام من لدن الربّ. وإلى الغرب لدى أرملة فقيرة. إيليّا ضعيف. لهذا قال عنه الكتاب: "خاف فهام على وجهه حتّى وصل إلى بئر سبع في يهوذا. ترك مملكة إسرائيل بعاصمتها السامرة، ومضى إلى مملكة يهوذا بعاصمتها أورشليم. صار بمأمن من الخطر، ولكنَّه بدا محبطًا، كدتُ أقول: قريبًا من اليأس. "ثمَّ سار في البرِّيَّة مسيرة يوم حتّى بلغ شجرة وزّال قعد تحتها وتمنّى الموت وقال: كفاني الآن يا ربّ، فخذ حياتي، فما أنا خيرٌ من آبائي" (آ4).

ولكنَّ حامل الكلمة لا يكون ابن الموت، بل ابن القيامة. "لمسه الملاك وقال له: قُمْ فكُلْ، فأكل وشرب. ثمَّ عاد ونام. فعاوده ملاك الربِّ ثانية، ولمسه وقال: قمْ فكلْ. فالطريق بعيدة أمامك" (آ5-6). لم تنتهِ مهمَّة إيليّا بعد. فعليه أيضًا أن يدافع عن الضعفاء في حوريب، أرسله الربُّ من جديد، ليكمِّل مهمَّة نقل الكلمة إلى شعب الله.

كان إيليّا "كاهن" العهد القديم. ومثله يكون كاهنُ العهد الجديد. هو رسول الكلمة في الوعظ والإرشاد. وهذه الكلمة يأخذها ممّن هو الكلمة، يسوع المسيح. فالمناداة بالكلمة أساس الرسالة الكهنوتيَّة، كما هو أساس المؤمنين. والربُّ قال لتلاميذه قبل أن يودِّعهم الوداع الأخير قبل صعوده: "تلمذوا، عمِّدوا، علِّموا... وها أنا معكم كلَّ الأيّام حتّى انقضاء العالم" (مت 28: 16-20).

2. مذبح الله

أحسَّ إيليّا بالخطر فهرب. ماذا حصل لمذبح الله؟ صار مهدومًا. لم يعد كاهن يتجاسر أن يأتي إليه. فالملكة هي هنا، ومذابح آلهتها عديدة. وهي تدعو "مؤمنيها" لكي يكونوا حاضرين. والويل لمن يتغيَّب! كلُّهم هنا. والبرهان، وجودهم على جبل الكرمل الذي كان، على ما يبدو، موضعًا للبعل قبل أن يصير للربِّ الإله. فلفظ "الكرمل" يعني الحديقة والجنَّة الغنّاء، مع أل التعريف، لا حديقة من الحدائق. وهو يليق بإله المطر والخصب.

بدأ إيليّا "فرمَّم مذبح الربّ" (1 مل 18: 30). بدأ ببناء الحجر. فكنيسة الله مبنيَّة بحجارة وفيها يجتمع المؤمنون حول المذبح. من يجمعهم؟ الكاهن، ولاسيَّما حول الذبيحة التي قدَّمها يسوع على الصليب يوم الجمعة العظيمة، ويعيشها المؤمنون في كلِّ قدّاس. "قال إيليّا لجميع الشعب: اقتربوا منّي، فاقتربوا". ربَّما ساعدوه مع بعض التردَّد والخوف. ولكنَّ إيليّا يجب أن لا يخاف. فالكتاب قال: "كانت يد الربِّ مع إيليّا" (1 مل 18: 46). وإذا كان الله معنا، فمن يقدر علينا؟ أما هذا الذي قاله رسول الأمم إلى أهل رومة (رو 8: 31)؟

مَن يجسر أن يرمِّم مذبح الربِّ الذي قد تكون إيزابيل هدمته؟ في أيِّ حال، هذا المذبح لا يُصنَع بالأبَّهة والجلال. فالطريقة معروفة منذ شريعة سيناء: "وإن بنيتم لي مذبحًا من حجارة فلا تنحتوها" (خر 20: 25). هكذا فعل إيليّا. ولكنَّه حافظ على رمز شعب الله المؤلَّف من اثنتي عشرة قبيلة. قيل: أخذ اثني عشر حجرًا على عدد أسباط بني يعقوب" (1 مل 18: 31). ويتواصل الكلام: "وبنى تلك الحجارة مذبحًا على اسم الربّ" (آ32). وهكذا صار اسم الربِّ مرفوعًا على جبل الكرمل. كانت الجبال في العهد القديم بمثابة آلهة يغطِّيها السحاب والضباب فيخشع الناس أمامها. ثمَّ احتلَّها بعل، فصارت مواضع حجٍّ وأعياد على ما نعرف من خبر البرِّيَّة بعد أن صنع هارون ذلك العجل: "بكَّروا في الصباح وأصعدوا محرقات وقدَّموا ذبائح سلامة وجلسوا يأكلون ويشربون، ثمَّ قاموا يمرحون" (خر 32: 6).

أمّا الآن، ومع إيليّا، فالكرمل صار للربِّ الإله. ولا حاجة إلى الغنى الكبير الذي سوف يعرفه الهيكل فيما بعد. بل لا حاجة إلى الحجر حيث لا تكون حجارة. فالتراب يكفي. كذا قالت الشريعة: "ابنوا لي مذبحًا من تراب، واذبحوا عليه محرقاتكم... وأنا إلى كلِّ موضع يُذكَر فيه اسمي أجيء وأبارككم" (خر 20: 24).

ذكر إيليّا اسم الربّ. دعاه: استجب لي. فجاء من خلال النار التي هي رمز لحضوره منذ خبرة العلَّيقة الملتهبة. وفعل إيليّا كما فعل إبراهيم حين أراد أن يقدِّم ابنه إسحاق على الجبل. "رتَّب الحطب". ولكن بدل "إسحاق" كان "الثور الموضوع على الحطب" (1 مل 18: 31). فبالذبيحة يتقدَّس المؤمنون. فإذا هم غابوا عن مذبح الربِّ وتحلَّقوا حول مذابح البعل، أيَّ خيرٍ يرتجون؟ لا شيء. فالذبيحة وسيلة بها يقدِّم المؤمنون أنفسهم للربِّ. يضع المؤمن يده على ما يقدِّم للكهنة وكأنَّه يقول: حياتي هي للربّ. ولكنَّ الربَّ طلب أن يحلَّ محلَّ إسحاق "كبشٌ" عالق بقرنيه بين الشجيرات. فأقبل (إبراهيم) على الكبش وأخذه وقدَّمه محرقة بدل ابنه" (تك 22: 13). يبدو أنَّها كانت عادة قديمة بأن يقدَّم البكر ذبيحة للربّ. عادة وثنيَّة سوف يقوم بها حيئيل حين بنى مدينة أريحا: "على أبيرام ابنه البكر أسَّسها، وعلى سجوب أصغر بنيه أقام أبوابها" (1 مل 16: 34). أجل، ذبح ابنيه إكرامًا للآلهة، وربَّما لبعل. أتُرى الله يرضى بذلك؟ والنبيّ؟ كلاّ. فالأمانة لله تمنع مثل هذه الممارسات. فالربُّ قال: "افتدوا كلَّ بكر من بنيكم" (خر 12: 13).

لا. لا يُذبَح الأطفال بعدُ في شعب الله. تلك هي شريعة الربّ، وإن خالفها هذا وذاك إرضاء لأنانيَّته أو طلبًا لشفاعة "الآلهة". أمّا إيليّا "فقطَّع الثور ووضعه على الحطب". نحن لا ننسى أنَّ الثور حيوان يركبه البعل. هكذا صُوِّر جوبيتر حين جاء يخطف أوروبّا من أرض صور.

والذبيحة لا تقدَّم في أيِّ وقت كان. هناك ذبيحة الصباح وذبيحة المساء. غابت ذبيحة الصباح، بعد أن أخذ كهنة البعل وقتهم. فبقي لإيليّا ذبيحة المساء: "لتقم صلاتي كالبخور أمامك ورفع يديَّ كتقدمة المساء" (مز 141: 2). فالربُّ اعتاد أن يأتي في المساء إلى أحبّائه. هذا ما فعله في الجنَّة مع آدم: "كان يتمشّى في الجنَّة عند المساء" (تك 3: 8). ولكنَّ آدم اختبأ من وجهه في ذلك المساء، بين شجر الجنَّة. أمّا الآن، فإيليّا يدعوه وهو يجيبه. والشعب الحاضر هنا سوف يشهد على هذا المجيء، وهذا الحضور. فالإله الذي تعبده هو الحيّ، خالق السماء والأرض.

لكنَّ هذا يفترض الإيمان. فالله لا صورة له ولا تمثال. فأمام "من" يقف المؤمنون؟ أمّا في عبادة البعل، فصنمه حاضر والناس يقتربون منه ويلمسونه. أمّا إيليّا فعاد إلى خبرة الآباء، إبراهيم وإسحاق ويعقوب. هكذا دعا الله نفسه حين حضر على موسى: "قلْ لبني إسرائيل: أنا الربُّ إله آبائكم، إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب" (خر 3: 15). ويواصل: "هذا اسمي إلى الأبد. وهذا ذكري مدى الأجيال". هذا الإله دعاه إيليّا، لا بفمه فقط، بل بكلِّ حياته. فالشاهد لا يكون فقط بالكلام. والكاهن كذلك على ما قال بولس لتيموتاوس: "كن قدوة للمؤمنين في الكلام والتصرُّف والمحبَّة والإيمان والعفاف". لو كان إيليّا يكتفي بالكلام، لبقيَ وحده. ولكنَّ اسمه كان برنامج حياة للمؤمنين. لا يهمُّه إلاَّ الربّ. كان باستطاعته أن يكون "رئيس كهنة بعل" لقوَّة شخصيَّته لو قبل أن يكون في خدمة الملكة ولكنَّه فضَّل أن يبقى في خدمة الكلمة: الربُّ وحده هو إلهي. "أنا هو الربُّ إلهك، لا يكن لك إله غيري" (خر 20: 1-2). هكذا يجتمع الربُّ حول إلهه ولا يتبعثر وراء هذا الإله أو ذاك. لهذا قال إيليّا للمجتمعين على جبل الكرمل والمفروض فيهم أن يكونوا من أبناء العهد. على مثال المؤمنين في كنائسنا. يفترض أنَّهم معمَّدون. وأنَّ الاجتماع الأسبوعيّ أمرٌ ملحٌّ حول الكاهن. ولكنَّهم يمضون تارة وراء الربِّ وطورًا وراء "آلهة" أخرى، لا تكون دومًا من الحجر والخشب. هي آلهة بشريَّة يتبعها الناس للفائدة التي ينالون منها، أو لأنَّهم يحتاجون إلى "إله" يمشي أمامهم "ويخلِّصهم". ولكن أيُّ "خلاص" وهو لا يقدر أن يخلِّص نفسه. وهناك آلهة الكسب السريع والزنى والسلطة وغيرها. وكلُّها تمرُّ أمام الله، لأنَّها "ملموسة" ولأنَّ الشعب يحبُّها. كفى أن يمضي موسى بضعة أيّام على الجبل ليعود الشعب سريعًا إلى أصنامه: يأكلون ويشربون ثمَّ يمرحون.

وإيليّا سأل الشعب: إلى متى تمضون تارة إلى الربِّ وطورًا إلى البعل؟ لماذا تعرِّجون بين الجنبين، كما يقول الفلاّحون في بلادنا: رِجل في البور ورِجل في الفلاحة. من يدري؟ إن كان الربُّ لا يقدر أن يفعل؟ ربَّما البعل يفعل.

وهكذا بعد الذبيحة، عاد الشعبُ إلى الربّ. قال إيليّا: "استجب لي يا ربّ، استجب لي، ليعلم هذا الشعب أيُّها الربُّ أنَّك أنت الإله، وأنَّك رددتَ قلوبهم إليك" (1 مل 18: 37). ماذا كانت ردَّة الفعل لدى الذين أحاطوا بالمذبح؟ "سجدوا إلى الأرض وقالوا: الربُّ هو الإله، الربُّ هو الإله!" (آ39).

3. بقيتُ وحدي

مضى إيليّا يصلّي في جبل حوريب. "رعيَّته" لم تعد موجودة. من هم الذين يأتون لعبادة الربِّ الواحد؟ قلَّة قليلة. وربَّما لا أحد، في نظره. قال للربّ: "بحرارة وقفتُ من أجلك، أيُّها الربُّ الإله القدير، لأنَّ بني إسرائيل نبذوا عهدك، وهدموا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف، وبقيتُ أنا وحدي معك، وها هم يطلبون حياتي" (1 مل 19: 10). هو النبيّ يبكي وينتحب. ماذا بقي من شعب الله بعد هذا الاضطهاد المريع الذي "ضخَّمه" إيليّا بدون شكّ. فهو يحتاج إلى نظرة جديدة. ولهذا قال له الربّ: "قفْ على الجبل أمامي" (آ11).

مرَّات عديدة، وحدنا، نضيع ولا تعود لنا فكرة عن الأمور. نريد أن نستقيل ونترك المهمَّة الصعبة، لاسيَّما إذا كنّا لا نجد ثمرًا. فيُروى مثلاً عن خوري آرس أنَّه حاول ثلاث مرّات أن يترك الرعيَّة. هو في الضباب، لا يرى شيئًا. وما الفائدة ممّا يعمل؟ وكان الربُّ يعيده في كلِّ مرَّة. فطريق النجاح تمرُّ في الفشل مرارًا، ومن يجسر أن يقول: نجحت من المحاولة الأولى؟ لا أحد.

خبرة مماثلة عاشها إيليّا. ترك "الرعيَّة" ومضى. إلى أين؟ هو لا يعرف. هذا ما ندعوه الهرب إلى المجهول. "هام على وجهه" لا يعرف إن هو أراد أن ينجو بحياته، أو يجب أن يموت؟ أهكذا يكون الرسول؟ أهكذا يكون الراعي؟ هل يتصرَّف مثل الأجير؟ ساعة يرى الذئبُ مُقبلاً، يهرب ويترك هذا الوحش يمزِّق الخراف. فما يكون مصير الذين تركهم إيليّا وهم الذين ساندوه على الجبل، وتحدُّوا أمر الملكة؟ الذين لاحقوا كهنة بعل. لا. هذا لا يكون. فيجب على "الراعي" أن يعود إلى "رعيَّته" مهما كلَّفه الأمر. قيل عن القدّيس قبريانس إنَّه هرب وقت الاضطهاد. اختبأ. أهو اختبأ لئلاّ تبقى الرعيَّة بدون راع، أم خاف على حياته؟ القائد الرومانيّ يكون في مقدِّمة الجيش وأين يكون الأسقف والكاهن؟ وفهم بعد ذلك أنَّ حضوره ضروريّ من أجل الذين يموتون في سبيل المسيح: يحتاجون إليه لكي يشجِّعهم، وربَّما ليدافع عنهم ولو بذل حياته من أجلهم.

قال إيليّا "باكيًا": بقيتُ وحدي (1 مل 19: 10). أجابه الربُّ على جبل حوريب: "أبقيتُ لي سبعة آلاف لم يركعوا للبعل ولا قبَّلوا صنمه" (آ18). الرقم سبعة رقم الكمال. الألف عدد كبير جدًا. من قال لك بأنَّك وحدك؟ ولكن امشِ أمامهم فترى كم هم عديدون أولئك الذين لبثوا أمناء للربّ. ولكنَّهم يحتاجون إلى قائد، إلى من يدبِّر أمورهم. تذكَّرْ أيّام القضاة: الشعب مبعثر. قام جدعون، فاجتمع الناس حوله. وأنتَ يا إيليّا، صعدتَ إلى جبل الكرمل، ووضعتَ الملك آخاب أمام شرِّه. حينئذٍ اقترب الناس منك، وهتفوا ساعة وجب الهتاف.

والآن، يا إيليّا، ارجع من حيث أتيت. لا مجال للهرب. لا مجال للاختباء. وإلاَّ بدِّلْ اسمك ولا تقل بعد اليوم: الربُّ هو إلهي. قُلْ ما تريد، ولكن لا تحسب نفسك بعدُ مرتبطًا بالربّ. كلَّم الربُّ إيليّا. شدَّده. خلقه من جديد "ارجع في طريقك" (آ15)، إلى ساحة الجهاد. على المستوى "السياسيّ" أوّلاً، فيقف الملك عند حدِّه ويعرف أنَّه الوكيل في شعب الله، لا الأصيل، فالملك هو الله وآخاب يجب أن يقوم مقامه على الأرض فيقيم الحقَّ والعدل.

والتقى النبيّ بالملك. فقال له الملك: "هل وجدتني، يا عدوِّي؟" (1 مل 21: 20). أجل، صار النبيُّ عدوَّ الملك لأنَّه كلَّمه باسم الله. ولكن إن لم يسمع الملك للنبيّ يصبح عدوَّ نفسه وعدوَّ شعبه. قال إيليّا: "نعم وجدتك، لأنَّك بعت نفسك وفعلتَ الشرَّ أمام الربّ".

وما انتهت الرسالة على مستوى "الملوك". فلا بدَّ من نبيّ يخلف إيليّا النبيّ. قال له الربّ: "وامسح إليشاع بن شافاط من آبل محولة نبيًّا بدلاً منك" (1 مل 19: 16).

هرب إيليّا فتشتَّت الشعب. عاد إيليّا فجمعه. على ما قال الربُّ لبطرس: "أنتَ متى عدتَ فثبِّتْ إخوتك". تثبَّت إيليّا في الله، ومضى لا يهاب شيئًا. وترك أمثولة لإليشاع الذي أراد أن يؤجِّل". "دعني أودِّعُ أبي وأمّي ثمَّ أتبعك" (آ20). لا مجال بعد لاهتمام بأمور الأهل والأرض. فمضى "يخدم" إيليّا (آ21). أي يكون رفيقه وتلميذه الذي يأخذ المشعل من يده.

الخاتمة

ذاك هو وجه إيليّا. تعرَّفنا إليه في هذه السنة الكهنوتيَّة. وغيرته تدعو الكاهن إلى الغيرة. قال: "غيرة غرت". وتبعه يوحنّا المعمدان في هذه الغيرة، فقرَّب قلوب الأبناء من الآباء. قوَّة الكلمة التي جعلت الملك يخاف منه، تعرِّف الكاهن أنَّ كلام الربِّ سيف ذو حدَّين يصل إلى مفرق النفس والجسد. فهل نعرف قوَّة الكلمة وما يمكن أن تفعل في النفوس وفي القلوب؟ حضوره وسط الشعب، ترميم المذبح وتقدمة الذبيحة من أجل تقديس شعبه، أمثولة لنا في مهمَّة تقديس أبناء الله وبناته. والضعف الذي حصل له مع الهرب، يمكن أن يحصل لكلِّ رسول، لكلِّ كاهن، لكلِّ خادم في كرم الربّ. إمّا نهرب وهو أهون الشرَّين. وإمّا نضع رأسنا في الرمال، وهذا هو الشرُّ الأكبر: لا نريد أن نرى. نهتمُّ بأمورنا وأحوالنا ولا تهمُّنا أمور الرعيَّة. حينئذٍ يأتي كلام الربِّ قاسيًا علينا، كما قال حزقيال. يستغني عن الربِّ فيقول: "أسأل من غنمي وأتفقَّدها، كما يتفقَّد الراعي قطيعه" (حز 34: 12-13). والأقسى من ذلك، كلام الربّ: تؤخذ منّا الرعيَّة وتسلَّم إلى راعٍ آخر يجعلها تثمر (مت 21: 43).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM