محبوب من الناس، مقبول لدى الله

السلام والخير، أيلول 2009

محبوب من الناس، مقبول لدى الله

الخوري بولس الفغالي

هكذا يُنشد يشوعُ ابن سيراخ صموئيل: "محبوب من الشعب، مقبول لدى خالقه. طُلب من عند الربّ في حشا أمِّه. تكرَّس للربِّ في الخدمة النبويَّة. صموئيل القاضي والكاهن. أمره الله فأسَّس الملك وأقام حكّامًا للشعب" (سي 46: 13). ويتواصل الكلام: ""بأمانته للربِّ برهن أنَّه النبيّ، وبكلامه تبيَّن أنَّه صادقُ الرؤيا... وقبلَ رقاده الأبديّ (موته)، شهد أمام الربِّ ومسيحه (أو: الملك الذي مسحه) أنَّه لم يأخذ من أحدٍ من البشر مالاً، بل ولا حذاء، ولم يتَّهمه أحد" (آ15، 18). وننتهي بالنصِّ العبريّ كما بدأنا: "حتّى زمن النهاية وُجد حكيمًا في نظر الربِّ وفي نظر كلِّ حيّ".

هنا يكون تأمُّلنا في شخصيَّة رائعة من أشخاص العهد القديم. "محبوب من الشعب" وقال النصُّ اليونانيّ: "محبوب من الله". هي الصفة الأولى للكاهن: أن يكون محبوبًا. أن يحبَّه الجميع لأنَّه خادم الجميع وأبو الجميع. الصفة الثانية أن يكون متجرِّدًا على ما قال الربُّ لرسله حين أرسلهم: "مجّانًا أخذتم، مجّانًا أعطوا" (مت 10: 8). والصفة الثالثة، أن يكون القائد النبيّ، الذي يقرأ الأحداث والتطوُّرات ويتصرَّف لكي يحافظ على وحدة الجماعة. كلُّ هذا يفرض أنَّه قريب من الربّ، يعرف أن يسمع له ولا يترك كلمة من كلماته تسقط على الأرض (1 صم 3: 19). بل تسقط في قلبه وتعلِّمه ما ينبغي عليه أن يفعل.

  1. الكاهن يكون محبوبًا

حدَّثنا الكتاب عن صموئيل ذاك الحاضر وسط شعب الله. ظروف صعبة تحيط بالمؤمنين. فما رضيَ هو أن ينعزل في "برجه العاجيّ". ينظر إلى الناس من بعيد ويُشفق عليهم. فإشفاق من هذا النوع أكبر خطيئة. قيل عن صموئيل إنَّه كان يذهب كلَّ سنة ويطوف في بيت إيل والجلجال والمصفاة" (1 صم 7: 16). وفي النهاية، "يرجع إلى بيته في الرامة". وماذا كان يفعل في "زياراته"؟ أوَّلاً هو بقربهم يسأل عن أحوالهم ويعيش عيشهم. إلاَّ إذا اعتبر أنَّه فوق هؤلاء الناس "المساكين، الفلاّحين"، أن لا حاجة عنده أن يمضي إلاَّ إلى "الأقوياء أو الوجهاء" (1 كو 1: 26). في أيِّ حال، مثل هذه الزيارات متعبة، فلماذا لا نعيش في الراحة مع الزوجة والأولاد، كما يقول سفرُ الجامعة؟ "تمتَّعْ بالعيش مع المرأة التي تحبُّها كلَّ أيّام حياتك الباطلة التي وهبها الله لك تحت الشمس" (جا 9: 9).أجل، لماذا العناء؟ وما الفائدة من زيارة الناس في بيوتهم. وكأنَّ الأب لا يُطلَب منه أن يتفقَّد أبناءه وبناته؟ والكاهن يعرف مناسبات لا يقبله الناسُ فيها. والسبب: هم لا يعرفونه. وإن كانت الحالة هكذا، نسمع صوت الربّ يقول لتلاميذه: "وإذا دخلتم بيتًا فسلِّموا عليه. فإن كان أهلاً للسلام، حلَّ سلامكم به، وإلاَّ رجع سلامكم إليكم" (مت 10: 12-13). ولكن حين يكون الراعي منغلقًا على ذاته يقول: "ما من شيء خير للإنسان من أن يفرح ويتلذّذ في حياته" (جا 3: 12).

وماذا كان يفعل صموئيل في هذه الزيارات؟ كان "يقضي". في مفهومنا اليوم، القاضي هو الذي يحاول أن يفضَّ الخلافات، فيحكم على المذنب ويُنصف البريء. مثل هذا العمل خاصّ ببعض الناس ونحن نعرف التجاوزات التي ندَّد بها الكتاب المقدَّس، خصوصًا حين تأتي الرشوة والهدايا. ويسوع رفض هذا العمل. مرَّة قال له رجل من الجموع: "يا معلِّم، قلْ لأخي أن يقاسمني الميراث". فقال له يسوع: "يا رجل، من أقامني عليكما قاضيًا ومقسِّمًا" (لو 12: 13-14).

فالفعل "يقضي" في سفر القضاة وفي حياة صموئيل، يعني الاهتمام بالناس في حياتهم، ولاسيَّما حين يكون ظلم أو يكون ضيق. يسمع لهم، ينصحهم، يوحِّد بين قلوبهم. وإذا كنّا على مستوى الرعيَّة، فمن الذي يأتي بالناس إلى الكنيسة، إلى الله؟ الكاهن. يزور الجميع، يكون صلة الوصل. هكذا يحبُّونه ويحبُّهم. فكيف نريد للناس أن يحبُّوا الكاهن إذا كانوا لا يرونه إلاَّ في المناسبات، ويلا يزورونه إلاّ إذا احتاجوا ورقة رسميَّة؟ وكيف يمكن أن يحبَّهم إن كان لا يعرفهم بأسمائهم ولا يشعر بأحوالهم؟

مرَّة قلت لأحد الكهنة: "هل تزور الرعيَّة؟" فقال: "أرجع من المدرسة تعبًا فأرتاح". قلت له: "إذًا، هناك غيرك من يزورهم، وهم الشيع المنتشرة هنا وهناك". وإذا كان الراعي لا يتصرَّف مثل "الراعي الصالح"، أترى الله يحبُّه؟ أتراه يقبله؟ أتُراه يقول له ما قيل عن الابن يوم العماد: "رضيتُ به"؟

وزيارات الكاهن لا تكون مثل زيارات الأرامل، التي تكلَّم عنهنَّ الرسول: يتعلَّمن البطالة والتنقُّل من بيت إلى بيت، كما يتعلَّمن الثرثرة أيضًا والتشاغل بما لا يعنيهنَّ والتكلُّم بما لا يليق" (1 تم 5: 13). ويمكن أن يكون هدف آخر لمثل هذه الزيارات. الكاهن يزور الناس لكي يحمل إليهم بشارة الله، لكي يخدمهم، لأنَّ الكاهن حين يُعيَّن في رعيَّة، يُدعى "خادم الرعيَّة". فهو يخدم كما الأمّ تخدم في البيت. بل مثل المسيح الذي جاء ليَخدم لا ليُخدم، الذي جاء ليبذل حياته من أجل الكثيرين (مر 10: 45). مثل هذا الكاهن يكون محبوبًا من الناس، مقبولاً لدى الله. ويمكن أن نتذكَّر في هذا المجال خوري آرس (قرب ليون، في  فرنسا) الذي ربح قلوب الجميع في أصعب رعيَّة في فرنسا. كما نكون اختبرنا هنا وهناك كهنة تركوا الفراغ الكبير حين تركوا الرعيَّة لسبب أو لآخر. فهناك كاهن شابّ في رعيَّة جديدة، عرف الجميع وعرفوه. أحبَّهم وأحبُّوه. ولمّا مرض نظَّموا سلسلة صلاة معه ومن أجله. ولكنَّ الربَّ أراد أن يأخذه إليه، كما قال سفر الحكمة، ولكنَّ ذكره لبث عطِرًا بعد سنوات على موته.

  1. الكاهن يكون متجرِّدًا

حدَّثنا حزقيال النبيّ عن رعاة يرعون أنفسهم ولا يرعون الغنم. قال لهم: "تأكلون اللبن وتلبسون الصوف وتذبحون الخروف الثمين، ولكنَّكم لا ترعون الغنم" (جز 34: 3). ذاك هو الراعي الشرّير الذي يستفيد من الغنم ولا يرعاها. لهذا يستغني عنه الربُّ ويأخذ غنمه بيده: "سأسأل عن غنمي وأتفقَّدها" (آ11). فالراعي الحقيقيّ لا يطلب "مال" المؤمنين، بل يطلبهم هم لكي يقودهم إلى الربّ. قال الرسول: "لا أريد ما لكم، بل أريدكم أنتم". فالراعي يكون متجرِّدًا، على ما قال لتلاميذه: "لا تحملوا نقودًا من ذهب ولا من فضَّة ولا من نحاس في جيوبكم، ولا كيسًا للطريق ولا ثوبًا آخر ولا حذاء ولا عصا" (مت 10: 9-10). ما قاله صموئيل يدلُّ على واقع يعرفه الناس من تصرُّف كلِّ "رئيس" أو "مسؤول": الإساءة إلى الاخرين! وإن أسأنا، هل نعتذر؟ والظلم! ومن ينال الظلم سوى الضعفاء، كما ينالون الاحتقار والإهمال، مع أنَّ الربَّ ردَّد كلام النبيّ: "المساكين يبشَّرون"؟ والرشوة؟ يكفي أن ندفع المال فتسير "المعاملات" بسرعة فائقة. أهذا هو التجرُّد الذي يطلبه الربُّ من الراعي؟ قال الربُّ للفرّيسيّين: "تأكلون بيوت الأرامل، وأنتم تظهرون أنَّكم تطيلون الصلاة" (مت 23: 14).

نستطيع مرَّات أن نبرِّئ ذمَّتنا، فنبدو كالقبور المكلَّسة التي يمشي عليها الناس ولا يعلمون (آ27). نقول الكثير ونعمل القليل. نحمِّل الناس أحمالاً ثقيلة ونحن لا نمسُّ هذه الأحمال بإحدى أصابعنا. يجب أن يعيش الآخرون الفقر. يجب أن يقوموا بواجباتهم تجاه كهنتهم. هذه أمور معروفة. أما أحرى بالكاهن، سواء كان راهبًا أم لا، أن يتحلّى بالفقر وهو الذي أراد أن يسير في خطى ربِّه بشكل قريب؟ قال عن نفسه: "ابن الإنسان لا موضع له يُسند إليه رأسه" (لو 9: 58).

ما يلفت النظر هو أنَّ الناس قدَّروا هذا التجرُّد عند صموئيل": "ما أسأتَ إلينا، ولا ظلمتنا، ولا أخذتَ من أحدٍ شيئًا" (1 صم 12: 4). الله شهد، والملك شهد، والجماعة شهدت. هي شهادة مثلَّثة. فنحن نعرف كهنة لم يملكوا شيئًا ومع ذلك تعلَّموا العطاء ممّا يصل إلى أيديهم. ذاك الكاهن الذي توفِّي اليوم، ما كان يملك ثمن ثوبه الكهنوتيّ، فكانت الرعيَّة تهتمُّ به ولا تتركه يحتاج إلى شيء. وخوري آرس كان يعطي من يطلب منه. وإن لم يملك شيئًا يقول لسائله: انظرْ، أنت فقير وأنا فقير. ولا أملك شيئًا. ما كان لهذا الكاهن أن يهيِّئ طعامه كلَّ يوم، "فيسلق" البطاطا ويأكل من طبخة الاثنين طوال الأسبوع، حتّى مساء الأحد. هو يشبه ما قال الرسول: "نحن فقراء ونُغني كثيرًا من الناس، لا شيء لنا ونحن نملك كلَّ شيء" (2 كو 6: 10).

وأعرف أسقفًا أعلن أنَّه لن يحتفظ بشيء ممّا يناله من خدمته الأسقفيَّة. ينال أجرًا يناله الكاهنُ في رعيَّته. وقيل له: "كيف تؤمِّن حياتك بعد أن تترك الأبرشيَّة؟ أجاب: كنتُ راهبًا وأعود راهبًا إلى ديري. فلماذا تكديس الأموال عند خادم الربِّ والنفوس تأمينًا لحياة وادعة وشيخوخة سعيدة؟ الربُّ نفسه نبَّهنا من خلال مَثَل الغنيّ الغبيّ. ارتاح ذاك الغنيُّ لأنَّ أرضه أخصبت وازدادت الغلاّت؟ قال لنفسه: "لك خيرات وافرة تكفيك مؤونة سنين كثيرة. فاستريحي وكلي واشربي وتنعَّمي" (لو 12: 19). وجاءه الصوت الإلهيّ: في هذا الليل تُؤخَذ منك نفسك" (آ20). ويأتي الورثة، كما يقول سفر الجامعة فيقتسمون في أيّام ما نكون جمعناه في سنين وبأيِّ طريقة.

وأعرف أسقفًا آخر يتطلَّع إلى "تقاعده" لكي يعود إلى عمله الرعائيّ. كما كان من قبل. أمّا كردينال مونتريال في كندا، فحين ترك مهمَّته الأسقفيَّة مضى إلى أفريقيا لكي يهتمَّ بالبرص هناك. كانت له الشهرة والاستقبالات والزيارات، فطلب الحياة الخفيَّة على مثال معلِّمه في الناصرة وما خاف أن يموت جوعًا.

  1. القائد النبيّ

حين جمع بولس شيوخ أفسس دلَّهم على حياته الماضية التي عرفت الكدَّ والعمل من أجل مساعدة الضعفاء (أع 20: 35). وتطلَّع إلى المستقبل: "أنا أعرف أنَّ الذئاب الخاطفة ستدخل بينكم بعد رحيلي ولا تُشفق على الرعيَّة، ويقوم من بينكم أنتم أناس ينطقون بالأكاذيب ليقلقوا التلاميذ فيتبعوهم" (آ29-30). ذاك هو النبيّ. هو الذي يدخل في سرِّ الله ويستشرف على المستقبل. فالراعي الراعي لا يلتصق بالحاضر، وبالأحرى لا يحنُّ إلى الماضي. وإن هو نظر إلى الماضي، يحاول أن يكتشف فيه العبرة من أجل رسالة أفضل.

اعتاد صموئيل منذ صباه أن يسمع الله، أن يطلب وجهه، كلُّنا يعرف تلك الليلة الرائعة التي فيها سمع صوت الله يناديه: صموئيل، صموئيل. ناداه مرَّتين لأنَّ البلاغ الذي سوف يحمله مهمٌّ جدًّا. تكلَّم يا ربّ. ها هو النبع، كلام الله واللقاء بالذي ينتظرنا ليكون لنا الطريق التي تقود إلى الحياة.

تنبَّه صموئيل أوَّلاً إلى سلوك ابنَي عالي اللذين حكم عليهما الله بسبب سوء سلوكهما. وهو سوف يتصرَّف كما ينبغي بالنسبة إلى ولديه. لا مجال لأن يخلفاه في "قضاء" الشعب.

ويوم كانت الرؤى نادرة والأقوال قليلة، كان لصموئيل أن يرى الله ويسمع صوته. وذلك أكثر من مرَّة. يوم مسح شاول ملكًا. جاء الملك العتيد يبحث عن "الرائي" (1 صم 9: 19). وهذا الرائي عرف على ضوء الله من يكون الملك: شاول. كما عرف أنَّ ضياع الحمير كان واقعًا استغلَّه الله لكي يأتي بشاول إلى صموئيل. وهذا الرائي تغلَّب على نظرته الخاصَّة لكي يَدخل في مشروع الله.

أراد الشعب أن يكون لهم ملكًا "يقضي بينهم كما هي الحال في جميع الأمم" (1 صم 8: 5). بشريًّا، استاء صموئيل من هذا الكلام (آ6). ولكنَّ الربَّ قال له: "اسمع لقولهم" (آ9). ومن أين جاءه الجواب؟ في الصلاة. ففي الصلاة نكتشف إرادة الله ومخطَّطه بالنسبة إلى شعبه وإلى كلِّ واحد منّا. يقول الكتاب: "صلّى إلى الربّ، فقال له الربّ. لأنَّ الصلاة حوار بين الإنسان وبين الله. وهي أبعد ما يكون عن ثرثرة تتعب الله بعلَّة تطويل صلواتنا (مت 6: 7). في مسيرة يسوع مع التلميذين إلى قرية عمّاوس، تكلَّما هما فسمع لهما الربُّ مع أنَّه يعرف ما يقولان له. استمع إليهما بصبر وطول بال. وحين بدأ هو يتكلَّم، صمتا واستمعا فاحترق قلباهما في رفقة المعلِّم. مثل هذه الصلاة تجعل من الكاهن "نبيًّا" يعرف مشاريع الله، كما قال الله عن موسى حين هاجمه هرون ومريم: "وأمّا عبدي موسى فما هو هكذا، بل أنا أئتمنه على جميع شعبي. فمًا إلى فم أخاطبه صراحًا لا بألغاز، وعيانًا يعاين شعبي أنا الربّ" (عد 12: 7-8).

أجل، هكذا يكون الكاهن لكي يستطيع قيادة شعب الله. عليه أن يسير في المقدِّمة ولا يخاف الخطر، لا في المؤخِّرة بحيث تسلم حياته بعد أن يكون جميع الناس ماتوا. الخطر يُحدق بالشعب، فأتى صموئيل يعيش بينهم. صلّى مع الذين يصلُّون. قدَّم ذبيحة للربّ "حملاً رضيعًا" (1 صم 7: 9). كان العدوُّ آتيًا، فجاءه المطر الغزير فما عاد يستطيع التقدُّم. ولا عاد يجرؤ على الهجوم. فالقائد الحقيقيّ يفرض نفسه بحضوره بدون قول صاخب وعنف مستبدّ. وهذا ما نكتشفه عند صموئيل بشكل خاصّ حين مضى يمسح داود ملكًا.

اكتشف أوَّلاً أنَّ شاول لم يَعد ذاك الرجل الذي يمكن الاتِّكال عليه. إنَّه يجامل، يريد أن يرضي الجيش، أن يرضي الشعب، لا الله. فمن طلب رضى الناس لا يمكن أن يكون قائدًا. ومن مالق العظماء والأغنياء والكبار، جعل إرادته خاضعة لإرادتهم، كما نرى في عالمنا. قال الرسول: "لو كنت أريد أن أرضي الناس لما كنتُ عبدًا ليسوع المسيح" (غل 1: 10). كيف اكتشف صموئيل ما اكتشف؟ في الصلاة. قال له الربّ: "إلى متى تتأسَّف على شاول؟" (1 صم 16: 1). هو الذي اختاره فلم يكن على قدر الاختيار. والسبب؟ لأنَّه "التفت إلى منظره وطول قامته، لأنَّه نظر كما ينظر الإنسان" (آ7). غير أنَّ الربَّ يقوده الآن من أجل اختيار أفضل لا يتوقَّف "عند المظهر، بل يمضي إلى القلب".

الله يحتاج إلى راعٍ يقود القطيع، لا إلى شخص يتبجَّح بأعماله التي لم يعملها. فحين جاء جليات يتحدَّى الربَّ القدير، خاف إخوة داود الثلاثة الذين التحقوا بشاول. أمّا داود فاعتاد أن يدافع عن رعيَّته: "إذا خطف أسدٌ (كانت الأسود صغيرة في الشرق) أو دبٌّ شاةً من القطيع، خرجتُ وراءه وضربتُه وخلَّصتها من فمه" (1 صم 7: 34-35).

اختار صموئيل الصغير بين إخوته (1 صم 16: 11). ومسحه ملكًا، لا عودة إلى الوراء. أراد شاول أن يستعطف، أن يستميل صموئيل، فقال له النبيّ: "لا أرجع معك لأنَّك رفضتَ كلام الربِّ" (1 صم 15: 26).

كان صموئيل قائدًا "حربيًّا" في غياب قائد مثل شاول أو داود. ولكن لمّا وُجد ذاك القائد، تنحّى وسلَّم المهمَّة إلى من يقوم بها واختفى. ولكنَّه لبث القائد الروحيّ الذي يتدخَّل ساعة يرى الملك والشعب يخونون الأمانة. أما هكذا امتدحه ابن سيراخ: هو الأمين، الثابت، الذي لا يتزعزع، ولا يروح مع كلِّ ريح. وهو الصادق حين يتكلَّم ويقول ما رأى دون مواربة، لئلاَّ يكون النبيَّ الكاذب. والرسول قال في هذا المضمار: "نحن لا ندَّعي أكثر ممّا لنا... ولا نتعدَّى تلك الحدود فنفتخر بأعمال غيرنا" (2 كو 10: 14-15). ما تميَّز به صموئيل هو البساطة في إعلان ما عمله من أجل شعبه ولهذا لمّا طلب منهم أطاعوه حالاً. قال: "إذا رجعتم إلى الربِّ بكلِّ قلوبكم... ثبِّتوا قلوبكم في الربِّ واعبدوه وحده" (1 صم 7: 3). ودعاهم إلى الاجتماع فاجتمعوا (آ5). فسار صموئيل في المقدِّمة من أجل سلام يعيشونه.

الخاتمة

قرأنا حياة صموئيل على ضوء حياة الكاهن في هذه السنة الكهنوتيَّة. هو ذلك الذي أحبَّه الناس ورضي عنه الله. وهو ذلك الذي أحبَّه الله فتصرَّف كنبيّ في لحظة حرجة من تاريخ شعبه. فراح في عمله "كنبيّ وكاهن" يعيش التجرُّد التامّ على مثال بولس الرسول الذي افتخر بأنَّه خدم كنيسة كورنتوس مجّانًا وأعلن أنَّ حبَّ المال أصل كلِّ شرّ (1 تم 6: 10). "ما جئنا العالم ومعنا شيء ولا نقدر أن نخرج منه ومعنا شيء، يكفينا القوتُ والكسوة" (آ7). وأخيرًا كان صموئيل ذاك النبيّ المترقِّب دومًا كلام الله لكي يسير في مقدِّمة شعبه، متحدِّيًا الأخطار كالراعي الصالح الذي يبذل حياته عن رعيَّته. أما يصلح أن يكون المثال للكاهن في كنيسة المسيح؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM