الربُّ الإله حصَّتهم

الربُّ الإله حصَّتهم

الخوري بولس الفغالي

بعد أن "احتلَّ" يشوع أرض الموعد، شرع يقسم الأرض. نال سبط بني رأوبين، الذي هو البكر، حصصًا بحسب عشائرهم (يش 13: 15). وكذلك سبط جاد (آ24). وهكذا توزَّعت الأرض. أمّا سبط لاوي فما نال حصَّة "لأنَّ الربَّ إله إسرائيل هو حصَّتهم" (آ33). وسبق وقال في آ14: "فأمّا سبط لاوي فما أعطي حصَّة، لأنَّ المحرقات التي كانت تقدَّم للربِّ إله إسرائيل، كانت هي حصَّتهم، كما قال الربُّ لموسى". الربُّ حصَّة بني لاوي، وبنو لاوي حصَّة الربِّ. فيا لسعادتهم، كما الطفل الأصغر يكون حصَّة الوالدين، يهتمّان به الاهتمام الخاصَّ، وينال من الغنج والدلال ما لا يناله الآخرون.

يكون كلامنا عن بني لاوي أو اللاويِّين. فالله اختار قبيلتهم اختيارًا خاصًّا من بين القبائل، وهو الذي وعد بأن يؤمِّن لهم ما يحتاجون من أجل حياتهم اليوميَّة. قيل في سفر التثنية: "لا يكون للكهنة اللاويّين، أي لكلِّ سبط لاوي، نصيبٌ ولا ملك مع بني إسرائيل. فهم يأكلون من الذبائح المحرقة وغيرها ممّا يقدِّمه بنو إسرائيل. ولا يكون لهم ما يملكونه فيما بين إخوتهم، لأنَّ الربَّ هو مصدر كلِّ ملك لهم" (تث 18: 1-2).

1. هذا لسبط لاوي

في نهاية المسيرة في البرِّيَّة، رأى موسى أنَّ أيّامه صارت معدودة، فأراد أن يبارك الأسباط سبطًا سبطًا. فالأسباط هي فروع شجرة اسمها يعقوب. كانوا اثني عشر سبطًا أو اثنتي عشرة قبيلة. بدأ الكلام مع رأوبين البكر الذي كاد نسله ينقرض، وانتقل إلى بني يهوذا الذين ضعفوا فاحتاجوا إلى عون من عند الربِّ (تث 33: 7). ولمَّا وصل إلى قبيلة لاوي، أطال الكلام لما لهذه القبيلة من أهمِّيَّة في شعب الله. هي قبيلة الكهنة التي لعبت دورًا كبيرًا منذ البدايات في البرِّيَّة، وحلَّت محلَّ الملك حين مضى نسل داود إلى السبي سنة 587 ق.م. صار المحاور مع السلطة الحاكمة، سلطة الفرس، رئيس الكهنة. يقول زكريّا النبيّ: "وأراني الربُّ يشوع الكاهن العظيم واقفًا أمام ملاك الربّ" (زك 3: 1). وفي المعنى الروحيِّ: أمام الربِّ نفسه. وجُعلت العمامة الطاهرة على رأسه، وأُلبس الثياب الناصعة البياض" (آ5). وقيل له ما قيل عن الملك سليمان: "إن سرتَ في طرقي وعملتَ بأوامري، فأنت تحكم بيتي وتسهر على دياري" (آ6). وفي ظلِّ الكهنوت، يكون الأمان والسلام في البلاد "فيدعو كلُّ إنسان قريبه إلى تحت كرمته، وإلى تحت تينته" (آ10). يا للسعادة والهناء!

رئيس الكهنة من سبط لاوي ومعه الكهنة. قيل يعود لفظ "لاوي" إلى العربيَّة. فالغلام الذي بلغ العشرين يُعتبر لاويًّا، بمعنى أنَّه صار بالغًا ويستطيع القيام بالخدمة. فنحن نقرأ في سفر العدد كلام الربِّ لموسى: "أحصِ أنت وهرون جماعة بني إسرائيل... أسماء جميع الذكور... من ابن عشرين سنة وصاعدًا..." (عد 1: 2-3). ويتطوَّر الوضع فيكون اللاويُّ ابن خمس وعشرين سنة. ذاك ما نقرأ في سفر العدد أيضًا في موضوع تطهير اللاوليِّين: "وكلَّم الربُّ موسى فقال: هذا ما فُرض على اللاويِّين: من خمس وعشرين سنة فصاعدًا، يدخلون الخدمة في خيمة الاجتماع" (8: 23-24). وحدَّثنا الكتاب ماذا يفعل موسى لكي يدخل هؤلاء في الخدمة: "تأخذ اللاويِّين من بني إسرائيل وتطهِّرهم على هذا النحو: تنضح عليهم من ماء التطهير من الخطيئة، ويُمرُّون الموسى على أبدانهم، ويغسلون ثيابهم فيتطهَّرون" (عد 8: 6-7). من المعروف في القديم (بل في أيَّام أجدادنا) دور الرماد في تهيئة الماء لغسل الثياب. أمّا "حلق شعر الجسم" فطقس قديم جدًّا وُجد عند المصريّين كما روى المؤرِّخ اليونانيّ هيرودوت (2: 37). نحن لا ننسى أنَّ الكاهن ينحر الذبائح فيأتي الدم على جسمه. لهذا كان الكهنة المصريُّون يحلقون أجسامهم أكثر من مرَّة.

أمّا العمر الأساسيّ فهو ثلاثون سنة كما يُقرأ في عد 4: 3: "من ابن ثلاثين سنة فصاعدًا إلى ابن خمسين سنة، ممَّن هم مؤهَّلون للخدمة والعمل في خيمة الاجتماع". ولكن لماذا التنوُّع في سنة الخدمة؟ في الثلاثين من العمر يكون اللاويُّ مؤهَّلاً للخدمة. ولكن لمّا نقص عدد اللاويِّين، أجبر المشترع على جعل العمر خمسًا وعشرين سنة، بل عشرين سنة، وربط هذا التدبير بداود النبيّ: "لهذا أحصي بنو لاوي من ابن عشرين فما فوق، فكانوا تحت تصرُّف هرون لخدمة هيكل الربّ، وللعناية بالدور والفرق، وتطهير كلِّ شيء مقدَّس للعبادة، وللمساعدة في تأمين الخبز وسميذ التقدمة ورقاق الفطير وما يُخبز على الصاج ويُعجَن بالزيت، وكذلك في كلِّ كيلٍ وقياس، وللحضور كلَّ صباح ومساء لحمد الربِّ وتسبيحه، ولتقديم محرقات الربِّ في أيّام السبوت ورؤوس الشهور والأعياد، بحسب العدد المفروض عليهم دائمًا أمام الربّ. وللقيام بحراسة خيمة الاجتماع وآنية الله المقدَّسة وحراسة بني هرون أنسبائهم في خدمة هيكل الربِّ" (1 أخ 23: 27-32).

أعمال كثيرة يقوم بها اللاويّون، ولها يستعدُّون. في هذا الإطار نفهم كلام القدّيس لوقا حين يتحدَّث عن يسوع. "وكان يسوع في نحو الثلاثين من العمر حين بدأ رسالته" (لو 3: 23). ما أراد الإنجيليُّ أن يحدِّد عمر يسوع فقال "نحو"، المهمُّ المعنى الروحيّ: ثلاثون سنة. في تلك السنة يبدأ الكهنة خدمتهم. والقدّيس لوقا اختلف عن القدّيس متّى الذي جعل يسوع في خطِّ الملوك، منذ داود وسليمان ورحبعام (مت 1: 6-7). أمّا لوقا فجعله في خطِّ الكهنة، فما ذكر سليمان ولا رحبعام في نسب يسوع، بل "ميتان، متاثا، ناتان" (لو 3: 31). وربطهم بداود. ومن المعروف أنَّ بني داود كانوا كهنة كما قال سفر صموئيل الثاني (8: 18). لهذا جعلهم سفر الأخبار "الأوَّلين في خدمة الملك" (1 أخ 18: 17) بانتظار التنظيم الكهنوتيِّ الذي سيقوم به داود "فيحصي اللاويّين من ابن ثلاثين سنة فما فوق ويكون عددهم ثمانية وثلاثين ألف رجل" (1 أخ 23: 3).

في عودة إلى اللغة العربيَّة، عرفنا أنَّ اللاويَّ يبدأ خدمته في العشرين من عمره. أمّا في الكتاب المقدَّس، فارتفع العمر إلى ثلاثين سنة. وهكذا بدا يسوع من سلالة الكهنة بواسطة أمِّه التي كانت نسيبة إليصابات، وإليصابات على ما قال لوقا هي "من بنات هرون" (لو 1: 5). والكهنة في الحقِّ القانونيِّ يبدأون خدمتهم في سنة معيَّنة مع ما يمكن أن يأتي من تقسيمات لا تكون دومًا مفيدة للخادم ولا للخدمة.

ونقرأ في العربيَّة أيضًا: لوى فلانًا على فلان: فضَّله. قرَّ بفضله تجاه الآخرين. عندها يأتي فعل اختار. فاللاويّ هو من يختاره الربُّ لخدمة خاصَّة. لهذا حين أحصيت القبائل، لم تُحصى معها قبيلة لاوي. فالذين يُحصَون في القبائل "يخرجون إلى الحرب"، أمّا الذين يُحصَون في لاوي، فمن أجل خدمة الربِّ: هم رجال أتقياء. امتُحنوا في الظروف الصعبة ففضَّلوا الله على الأب والأمِّ والإخوة والبنين (تث 33: 8-9). فكانوا في خطِّ ما سوف يطلب يسوع من تلاميذه: "من أحبَّ أبًا أو أمًّا أكثر منّي لا يستحقُّني. ومن لا يحمل صليبه ويتبعني لا يستحقُّني. من حفظ حياته يخسرها، ومن خسر حياته من أجلي يحفظها" (مت 10: 37-39). لمَّح سفر التثنية هنا إلى ما فعله اللاويّون للحفاظ على الإيمان بالله الواحد، ولمحاربة عبادة الأصنام ولاسيَّما فِعلة العبرانيّين مع العجل الذهبيّ (خر 32: 27-29). واللاويُّ هو من يعلِّم شريعة الربِّ وأحكامه، ويقدِّم البخور والمحرقات على المذبح (تث 33: 10).

2. وأنزل اللاويّون تابوت العهد

يروي سفر صموئيل الأوَّل ما حلَّ "بأهل بيت شمس لأنَّهم نظروا إلى تابوت العهد". خافوا جدًّا فقالوا: "من يقدر أن يصمد أمام الربِّ الإله القدّوس هذا؟" (1 صم 6: 19-20). وحدهم اللاويّون يقومون بهذا العمل (آ15). كرَّس إلعازر كاهنًا لحراسته (1 صم 7: 1).

"تابوت" لفظة مصريَّة حافظ عليها الكتاب (ت ب ت)، فتدلُّ على صندوق خشبيٍّ مغشَّى بالذهب وفيه لوحا الوصايا وجرَّة المنّ وعصا هرون. أمّا اللوحان فيدلاّن على كلام الله الحاضر وسط شعبه. وجرَّة المنّ علامة على عناية الله بالمؤمنين، لا في البرِّيَّة فقط، بل في أرض الموعد أيضًا. وعصا هرون تدلُّ على الكهنوت القائم  على خدمة الله وخدمة الشعب. لهذا، حين نظر أهل بيت شمس إلى "تابوت العهد"، اعتُبروا أنَّهم نظروا إلى الله نفسه، ومن يقدر أن ينظر إلى الله ويبقى على قيد الحياة؟

لهذا كان اللاويّون هم الذين يحملون تابوت العهد "بأربع حلقات من ذهب" (خر 25: 13) ويورد سفر العدد ما يفعله "هرون وبنوه" (أي الكهنة): ينزلون الحجاب الذي أمام تابوت العهد ويغطُّون به التابوت... ويركِّبون عصيَّه" (عد 4: 5). وهكذا يسير "التابوت" في مقدِّمة السائرين كعلامة عن حضور الله وسط شعبه. وهذا ما ظهر جليًّا في عبور الأردنّ. قال يشوع: "ها هو تابوت عهد الربِّ يعبر الأردنَّ قدّامكم... وحين تستقرُّ أقدام الكهنة، حاملي تابوت عهد إله الأرض كلِّها، في مياه الأردنِّ، تنشقُّ المياه، والمياه المنحدرة من فوق تتجمَّع وترتفع كما لو جدار" (يش 3: 11، 13). وهكذا كان: "فارتحل الشعب من خيامهم ليعبروا الأردنّ، والكهنة حاملو تابوت العهد قدَّامهم" (آ14). وهكذا عبر الشعب كلُّه. ويتواصل الكلام: "فظلَّ الكهنة حاملو تابوت عهد الربِّ واقفين على اليابسة في وسط الأردنّ إلى أن عبر الشعب كلُّه" (آ17).

هنا نكتشف معنى آخر للفظ "لاويّ"، وهو يعود إلى السريانيَّة "ل و ا" رافق، صاحب، شايع. فاللاويُّ هو الرفيق، هو الصاحب الذي يلازم من يحبُّ ويعاشره بحيث يصبح من عشيرته ومن أنسبائه. واللاويُّ هو الذي يشيِّع صديقه، يودِّعه، يبلِّغه إلى منزله.

فاللاويُّ هو من يرافق الملك أوَّلاً، حين يقدِّم الذبيحة. ففي الأساس، رئيس الكهنة هو الملك. فهو في الحضارات القديمة صورة الله على الأرض. وفي العالم اليهوديّ، "ابن الله" والقائم مقامه في خدمة شعبه. فحين يجلس الملك على عرشه، يُسمعه الكاهن الذي يمسحه: "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك". يتبنّى الله الملك، وكأنَّه يلده من جديد. هنا نفهم كيف أنَّ سليمان "ذهب إلى تلة جبعون ليقدِّم الذبائح... فتجلّى له الربُّ في الحلم ليلاً" (1 مل 3: 4-5).

اللاويُّ يرافق الملك حين يقوم بخدمة الله. ولمّا حلَّ رئيس الكهنة محلَّ الملك، بعد المنفى البابليّ، كان اللاويُّ بقربه. وحين أراد الملك سليمان أن ينقل تابوت العهد من خيمته إلى الهيكل، حمله الكهنة وأصعدوه، ثمَّ أدخلوه إلى مكانه في محراب الهيكل، في قدس الأقداس" (1 مل 8: 3-6). وهكذا فاللاويُّ يرافق تابوت العهد ويحرسه، كما كان يفعل صموئيل الصبيُّ: "يخدم الربَّ بإشراف عالي الكاهن" (1 صم 3: 1). "وينام في الهيكل حيث تابوت العهد" (آ3). وينتبه إلى مصباح الربِّ بحيث لا ينطفئ. هكذا يفعل كهنة العهد الجديد وخدَّام المذبح حين يُبقون المصباح مشتعلاً ليدلُّوا على حضور الربِّ في كنيسته. فإذا غاب الإنسان، أطفأ قنديله. وكذلك يفعل إن هو نام. أمّا الله الذي لا ينعس ولا ينام، كما يقول المزمور، فيحتاج إلى من يدلُّ على حضوره. وحضور اللاويِّ، كما حضور التلميذ، أكثر من مصباح لا يطلب منّا الجهد الكثير. فالمسيح دعا تلاميذه لكي يكونوا نور العالم: "أنتم نور العالم. لا تخفى مدينة على جبل، ولا يُوقَد سراجٌ ويوضع تحت المكيال، ولكن على مكان مرتفع حتّى يضيء لجميع الذين هم في البيت. فليضئ نوركم هكذا قدَّام الناس ليشاهدوا أعمالكم الصالحة ويمجِّدوا أباكم الذي في السماوات" (مت 5: 14-16).

هنا نعود إلى فعل "اختار". فاللاويُّ هو من يختاره الربّ. واللاويّون هم مختارو الربِّ من وسط الشعب. والاختيار لا يكون شرفًا فقط، بل هو مسؤوليَّة بشكل خاصّ. لاحظنا وقت عبور الأردنّ: اللاويّون، الكهنة، هم في قلب النهر. يشبهون قبطان السفينة. انتظروا أن يعبر الجميع. ثمَّ خرجوا هم من الماء. واللاويّون ضحيّة محلّ الأبكار في بني إسرائيبل. "وكلَّم الربُّ موسى فقال: تصدُّ كلَّ بكر ذكر من بني إسرائيل... واجعل اللاويّين لي أنا الربُّ بدل كلِّ بكر من بني إسرائيل" (عد 3: 40-41). نتذكَّر أنَّ كلَّ بكر هو مكرَّس للربّ "وكرِّسْ لي كلَّ بكر فاتح رحم... في بني إسرائيل" (خر 13: 2). في الأصل، قدَّس، جُعل جانبًا. فُرز من بين الإخوة. فالبكر يخصُّ الربَّ. في الحضارات القديمة، كان البكر يُقدَّم ذبيحة للإله. وهكذا ظنَّ إبراهيم أنَّ عليه أن يفعل. ولكنَّ الربَّ منعه من ذلك: "لا تمدَّ يدك إلى الصبيّ (إسحاق) ولا تفعل به شيئًا. الآن عرفتُ أنَّك تخاف الله، فما بخلْتَ عليَّ بابنك وحيدك" (تك 22: 12). وماذا حلَّ محلَّ البكر، محلَّ إسحاق؟ الكبش من الغنم. "أخذه إبراهيم وقدَّمه محرقة بدل ابنه" (آ13).

ولكن في إطار العهد، صار اللاويّون "بدل" الأبكار في شعب الله. في إطار الفصح، كان الحمل يُوضَع جانبًا في اليوم العاشر ويُذبَح في اليوم الرابع عشر. والآن، يُوضَع اللاويّون جانبًا، يقدَّسون، يكرَّسون، ولا يكونون ذبيحة مدى ساعة واحدة، بل تكون حياتهم كلُّها ذبيحة، منذ صغرهم حتّى وفاتهم. بما أنَّ اللاويَّ يكون ابن اللاويّ، فهو يعرف أنَّه إن خدم بين الثلاثين والخمسين من عمره، فهو خادم للربِّ منذ طفولته، على مثال ما فعلت حنَّة بابنها صموئيل. أخبرت الكاهن عالي: "طلبتُ من الربِّ هذا الصبيَّ، فأعطاني ما طلبت. فكرَّسته للربِّ كلَّ حياته. فهو مكرَّس لله" (1 صم 1: 27-28). ويروي الكتاب أنَّ حنَّة "كانت تنسج لابنها جبَّة صغيرة وتأتي بها كلَّ سنة حين تصعد مع زوجها ليقدِّم الذبيحة السنويَّة" (1 صم 2: 19).

اللاويُّ حصَّة الربّ. وصموئيل حصَّة الربّ. كانت كلمته نادرة (1 صم 3: 1)، فصارت متواترة، فقيل عن صموئيل: "لم يهمل شيئًا من جميع ما كلَّمه به الربّ" (آ19). كما حصل بعد تكثير الأرغفة: "لا تبقى كسرةٌ على الأرض، بل تُجمع الكسرات كلُّها. وكما كنّا نفعل في القديم حين تقع فتَّة خبز على الأرض. نلتقطها، نقبِّلها، ونأكلها. ويقول أيضًا سفر صموئيل: "وكانت الرؤى قليلة في ذلك الزمان" (1 صم 3: 1). ولكن حين اختار الربُّ صموئيل نبيًّا (آ20) "عاد الربُّ يتراءى في (معبد) شيلو، لأنَّه تجلّى لصموئيل هناك وكلَّمه" (آ21).

تلك صورة من يختاره الربُّ لخدمته. ولكن كانت صورة معاكسة مع ابني الكاهن عالي. هما "حقيران". في الأصل "ابنا بليعال" (1 صم 2: 12). لا يساويان شيئًا. بل عادَيا الله والملك. قال عنهما الكتاب: لا يعرفان الربَّ. صارا من أهل الظلمة. قال فيهما المزمور: قال الجاهل في قلبه: لا إله. لا وجود لله. وإن وُجد فهو لا يفعل. لا يعرفان حقَّ الكهنة على الشعب، كما لا يعرفان واجبات الكهنة تجاه الشعب. مثل هذين مصيرهما الموت. وذاك ما حصل لهما يوم اندحر الشعب وأُخذ تابوت العهد (1 صم 4: 17).

وبما أنَّ اللاويَّ حصَّة الربِّ، فهو لا يحتاج إلى حصَّة ولا إلى نصيب في الأرض. حصَّته الربّ. فهو يرضى بأن لا يملك شيئًا وينتظر عيشه من عند الربّ. لهذا عيَّن سفر اللاويّين حصَّة الكاهن "لذبيحة الإثم ولذبيحة الخطيئة شريعة واحدة: فهي تكون من نصيب الكاهن الذي يقوم بطقس التكفير... وكلُّ تقدمة ممّا تُخبز في التنّور أو تُغلى في مقلاة أو تُخبَز على الصاج، تكون للكاهن الذي يقرِّبها، وكلُّ تقدمة ملتوتة بزيتٍ أو جافَّة تكون لجميع بني هرون بالتساوي" (لا 7: 7-10). فما يقدِّمه المؤمنون للهيكل يعيش منه الكاهن. فهكذا كان الوضع في بداية الكنيسة: كان المسيحيُّ يأتي بتقدمة من غلَّة الأرض، فتوضع على المذبح مع سائر التقادم. يأخذ الكاهن ما يحتاج إليه من خدمة المذبح، وما يحتاجه هو وعياله. والباقي يوزَّع على الفقراء.

هذا يعني أنَّ الكاهن (أو: اللاويّ) يأخذ طعامه من يد الربّ. فحين يقدِّم المؤمن تقدمة للربّ، لم تَعُدْ له، بل صارت ملك الله. والله هو الذي يقوم بحياة الكهنة. ذاك ما قاله بولس: "تعرفون أنَّ من يخدم الهيكل يقتات من تقدمات الهيكل، وأنَّ من يخدم المذبح يأخذ نصيبه من المذبح. وهكذا أمر الربُّ للذين يعلنون البشارة أن ينالوا رزقهم من البشارة" (1 كو 9: 13). بالنسبة إلى العهد الجديد كما بالنسبة إلى العهد القديم. هذا يعني الاتِّكال التامَّ على الربّ، لا على البشر، ولا على العظماء في البشر. فالكاهن لا يتزلَّف للأغنياء لكي يكون له المال، ولا يستند إلى أبناء هذا الدهر الذين يحسبهم إشعيا النبيّ "قصبة مرضوضة". وفي أيِّ حال، افتخر الرسول "بأن يبشِّر مجّانًا ويتنازل عن حقِّه من خدمة البشارة"(آ18).

ذاك ما قال الربُّ لتلاميذه: "مجّانًا أخذتم مجّانًا أعطوا. لا تحملوا نقودًا من ذهب ولا من فضَّة ولا من نحاس (هكذا كانت النقود) في جيوبكم، ولا كيسًا للطريق ولا ثوبًا آخر ولا حذاء ولا عصا، لأنَّ الفاعل يستحقُّ طعامه" (مت 10: 9-10). هكذا يكون اللاويّون، وهكذا يكون الكهنة الذين يقال لهم: "لا تخف أيُّها القطيع الصغير، فأبوكم سُرَّ أن يعطيكم الملكوت. بيعوا ما تملكون وتصدَّقوا بثمنه على الفقراء، واقتنوا أموالاً لا تبلى، وكنزًا في السماوات لا ينفد، حيث لا لصّ يدنو ولا سوس يفسد. فحيث يكون كنزكم، هناك يكون قلبكم" (لو 12: 32-34).

تجاه ابنَي عالي اللذين أرادا أن يأخذا حصَّتهما من الذبيحة قبل الله، فاللاويّ يأكل ما تبقّى من الذبيحة. كدت أقول "الفضالة". هكذا يكون الخادم الحقيقيّ. لا يطلب "مقاعد الشرف في الولائم ومكان الصدارة في المجامع والتحيّات في الأسواق" (مت 23: 6-7). ماذا قال سفر اللاويّين عن الكهنة؟ "ما فضل من التقدمة يكون لهرون وبنيه" (لا 2: 3). فالتقدمة تقدَّست وصارت ملكًا للربّ، والربُّ يطعم منها كهنته الذين يكونون تقدَّسوا بعد أن قاموا بخدمتهم. وتتكرَّر العبارة في آ10: "هي حصَّة مقدَّسة لأنَّها بعض الطعام الذي قُدِّم للربّ". ففي أيِّ حال، صار اللاويُّ فقيرًا بين الفقراء. وحين يحمل أحد المؤمنين "ذبيحة سلامة"، يُوقَد ما يُوقَد للربِّ من شحم ودهن، ويأخذ الكاهن حصَّته. وما تبقّى يأكله مقدِّم الذبيحة مع الأهل والأصدقاء والفقير والغريب واليتيم والأرملة، ويكون مع هؤلاء "اللاويّ". فيا لسعادته لأنَّه يشارك المساكين الذين جعلوا ثقتهم بالربِّ وما طلبوا شيئًا آخر، ولكن نلاحظ أنَّ اللاويّين العائدين من السبي كانوا فقط أربعة وسبعين شخصًا. يبدو أنَّهم نظَّموا حياتهم المادِّيَّة، ونالوا بعض الغنى، فنسوا من هم، وفضَّلوا مجد الناس على مجد الله، نسوا "الصخر الذي نُحتوا منه، والمقلع الذي منه اقتُلعوا. نسوا إبراهيم أباهم وسارة التي ولدتهم" (إش 51: 1-2). نسوا مسيرة الإيمان التي كانت في أساس حياتهم، ولكنَّهم تاهوا كما آباؤهم في البرِّيَّة فما وصلوا إلى أرض الميعاد، ولا نالوا السعادة التي نالها العائدون. لا شكَّ في أنَّهم زرعوا في الدموع، ولكنَّهم حصدوا في الترنيم. ذهبوا وهم يبكون، وحملوا البذور للزرع. ولكنَّهم رجعوا وهم يرنِّمون وحملوا معهم الحزم فوق الحزم (مز 126: 5-6).

الخاتمة

هؤلاء هم اللاويّون. اختارهم الربُّ فاختاروه. قال لهم: أنتم شعبي. أجابوه: أنت إلهنا. قال لهم: لا حصَّة لكم بين إخوتكم، فقالوا له: أنت حصَّتنا. فنحن لا نريد سواك "من لنا في السماء إلاَّ أنت، وفي الأرض لا نريد غيرك" (مز 73: 25). أنت صحرتنا، أنت نصيبنا، أنت حمانا. مثل هؤلاء أجداد الرسل الذين قال بطرس باسمهم: "ها نحن تركنا كلَّ شيء وتبعناك" (مر 10: 28). فقال يسوع: "ما من أحد ترك بيتًا أو إخوة أو أخوات... إلاَّ نال في هذه الدنيا مئة ضعفٍ من البيوت..." (آ29-30). هؤلاء هم اللاويّون الذين ساروا بدل الأبكار في شعب الله، فتكرَّسوا بكلِّيَّتهم للربّ، فكتبوا بحياتهم ما سوف يقوله بولس الرسول لأهل رومة: "اجعلوا من أنفسكم ذبيحة حيَّة مقدَّسة مرضيَّة عند الله" (رو 12: 1). هكذا كان كهنة العهد القديم، وهكذا يكون كهنة العهد الجديد، فنسمع جميعًا كلام الرسول: "لا تتشبَّهوا بما في هذه الدنيا، بل تغيَّروا بتجديد عقولكم لتعرفوا مشيئة الله، ما هو صالح، وما هو مرضيّ، وما هو كامل" (آ2).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM