وكان موسى رجلاً حليمًا جدًّا

وكان موسى رجلاً حليمًا جدًّا

الخوري بولس الفغالي

في يوم من الأيّام تكلَّمت مريم وهرون على موسى . هل وحده نبيّ؟ هل وحده كلَّمه الربّ؟ أما كلَّمنا نحن أيضًا؟ فنحن لا ننسى أنَّ مريم دُعيَت نبيَّة (خر 15: 20) وسارت في مقدِّمة النساء، بعد عبور البحر، وأنشدت ردَّة ردَّدتها النساء حولها: "أنشدوا للربِّ جلَّ جلاله! الخيل وفرسانها رماهم في البحر". كما لا ننسى أنَّ هرون هو الكاهن الأوَّل في الشعب الخارج من مصر. وهكذا انتقد الأخ والأخت أخاهما موسى وربَّما "تذمَّرا" على الربّ. إن كان الربُّ كلَّمه فقد كلَّمنا نحن أيضًا (عد 12: 2). ماذا كانت ردَّة فعل موسى؟ هل دافع عن نفسه؟ كلاّ. هل انتهرهما؟ كلاّ. هل صرخ في وجههما وأظهر قوَّته؟ كلاَّ. فقال فيه الكتاب: "وكان موسى رجلاً حليمًا جدًّا أكثر من جميع الناس على وجه الأرض" (آ3). الحلم هو الصفح والتسامح وهو الصبر والأناة ورفض استعمال القوَّة مهما كانت قوَّتنا. وقيل عنه: كان متواضعًا جدًّا.

تلك صفة "كهنوتيَّة" ميَّزت موسى وتميِّز عددًّا من خدَّام الله. هذه الصفة رافقت موسى طول مسيرة البرِّيَّة تجاه الشعب الذي رافقه بأمر من الربّ. وهي لم تكن فيه منذ الابتداء، بل اقتناها شيئًا فشيئًا على مدِّ حياته مع الربّ. فالصفات التي نمتلكها قد تكون بشريَّة ولكنَّ ممارستها لا تطول، إذا لم يكن لنا لقاء بالربّ وخبرة الحياة معه. هنا يبرز وجه موسى الذي استضاء منذ بداية رسالته بنار العلَّيقة المشتعلة، وعرف الصلاة العميقة مع الربّ بحيث إنَّ وجهه تبدَّل فأخذ النور يشعُّ منه. أيكون الكاهن الذي يحمل جسد الربِّ ودمه أقلَّ حظًّا من موسى؟

1. من الغضب إلى الوداعة

أوَّل خبر عرفناه عن موسى لا يشرِّفه كثيرًا وكاد يكلِّفه حياته ورسالته. صار شابًّا متعلِّمًا، وتربّى لدى أخت الملك، فاعتبر نفسه فوق سائر الناس، شأن الكثيرين في أيّامنا. "خرج يومًا إلى بني قومه لينظر إلى حالتهم" (خر 2: 11). حاله غير حالهم. والمهمَّة التي أحسَّ بها في أعماقه جعلته يستعجل الأمور لكي يفعل. "رأى رجلاً مصريًّا يضرب رجلاً عبرانيًّا". تدخَّل حالاً وما فكَّر في نتيجة عمله. اعتبر أنَّ لا أحد يراه "فقتل المصريّ وطمره في الرمل" (آ12) واعتبر أنَّه عمل عملاً صالحًا. أما كان يمكن الدفاع عن أخيه العبرانيّ؟ أما كان بالإمكان أن "يضربه" فقط، لا أن يقتله. تلك خطيئة الكبرياء التي تجعل الإنسان يتصرَّف وكأنَّه "الله".

وعرف موسى خطأه، ولكن بعد فوات الأوان. في يوم آخر "رأى رجلين عبرانيّين يتشاجران" تدخَّل بسرعة، ولكن بأيِّ حقّ؟ وسوف يقول له المعتدي: "من أقامك رئيسًا وقاضيًا علينا؟" (آ13). أراد أن يترأَّس على إخوته، ساعة يرسل الله مثل هؤلاء الناس ليكونوا خدَّامًا لإخوتهم. قال الربُّ لتلاميذه رافضًا موقف الفرّيسيّين: "ليكن أكبركم خادمًا لكم" (مت 23: 11). وفي تقليدنا الشرقيّ حين يعيَّن كاهنٌ على رعيَّة يدعونه: "خادم الرعيَّة"، لا "رئيس الرعيَّة". وما أبشعه حين يريد أن يترأَّس فيعارض كلام الربِّ الذي يحكم على الخادم الشرّير: "يضرب رفاقه، ويأكل ويشرب مع السكّيرين" (مت 24: 49). وقال ذاك الرجل لموسى أيضًا: "من أقامك قاضيًا؟" فهو قال للمعتدي: "لماذا تضرب أخاك؟" مثل هذا التدخُّل في الأمور المادِّيَّة يضرُّ بالرسالة مرَّات عديدة، بحيث إنَّ يسوع رفض أن يتدخَّل في ما هو لقيصر. طلب منه أحدُهم يومًا أن يتدخَّل في قسمة الميراث. فأجاب يسوع: "يا رجل من أقامني عليك قاضيًا أو مقسِّمًا؟" (لو 12: 14). همُّ الربِّ أن يتدخَّل في ما هو لله. ويعلن كلام الله. فقال في هذه الحالة: "تحفَّظوا من كلِّ طمع" (آ15)، وما دلَّ على الطمّاع ولا على الظالم.

تسرَّع موسى فقال له ذاك الرجل: "أتريد أن تقتلني كما قتلتَ المصريّ؟" (خر 2: 14). عُرف الأمر، فخاف موسى وهرب. وهكذا ابتعد عن إخوته ومضى إلى البرِّيَّة. ولكنَّه ما بدَّل تصرُّفاته. رأى بنات يملأن الأحواض. "فجاء الرجال وطردوهنَّ. فقام موسى إلى نجدتهنَّ" (خر 2: 16-17). ولكنَّ الوقت سوف يعلِّم موسى الهدوء والسكينة. هو يعيش مع الغنم ويعرف أن يتعامل مع كلِّ خروف وكلِّ نعجة. وهذا ما يكون تصرُّفه فيما بعد مع شعبه، كما قرأنا عنه في هجوم أخته وأخيه: "كان موسى رجلاً حليمًا جدًّا". وهذا ما نكتشفه في مسيرة البرِّيَّة.

فما إن هرب العبرانيّون وتبعهم المصريّون حتّى بدأ التذمُّر: "ماذا عملت بنا، فأخرجتنا من مصر؟" (خر 14: 11). وهذا مع أنَّه خلَّصهم من العبوديَّة والأشغال الشاقَّة. فكان جوابه: "قفوا وانظروا اليوم خلاص الربّ" (آ13). وتوالى التذمُّر على موسى: "ماذا نشرب؟" (خر 15: 22). ثمَّ، يا موسى (ويا هرون) تريد أن تميتنا بالجوع (خر 16: 3). وجاء المنُّ واعتاد الشعب أن يلتقطوا مؤونة كلِّ يوم بيومه. قال لهم موسى: "لا تُبقوا منه شيئًا إلى الصباح" (آ19). ولكنَّ بعضهم أبقى، فسخط عليهم موسى" (آ20). ولكن لن نجد بعدُ هذا الفعل في سفر الخروج بالنسبة إلى موسى. وهكذا حين خاصموه لأنَّ لا وجود للماء، قال: "لماذا تخاصمونني، ولماذا تجرِّبون الربّ؟" (خر 17: 2). ثمَّ مضى يشتكي إلى الربّ (آ4).

ونتوقَّف بشكل خاصّ عند حادثة العجل الذهبيّ. هنا نقرأ عبارة "اجترَّ غضب الله"، اشتدَّ غضبُه. هذا يعني أنَّ العقاب يكون كبيرًا. وتوسَّل موسى إلى الربّ: "لماذا يشتدُّ غضبك؟" (خر 32: 11). وأعاد التوسُّل (آ12). ولكن حين "رأى العجل والرقص، اشتدَّ غضبه ورمى باللوحين من يديه وكسرهما" (آ19). هنا تجاوب غضب موسى مع غضب الله، ممّا يعني أنَّ العقاب آتٍ. ثمَّ عاد موسى يُهدِّئ غضب الربّ. وقال: "إمّا تغفر خطيئتهم أو تمحوني من كتابك الذي كتبته" (آ32). تضحية كبيرة قدَّمها موسى. ومثله سوف يفعل بولس الرسول حين يرى شعبه يرفض بشارة الإنجيل: "أتمنّى لو كنتُ أنا ذاتي محرومًا ومنفصلاً عن المسيح في سبيل إخوتي بني قومي في الجسد" (رو 9: 3).

ويتحوَّل قلب موسى إلى قلب أمّ حين يرى الربَّ غاضبًا على شعبه (عد 11: 10). فهو أضعف من أن يؤمِّن لهم ما يحتاجون إليه. قال: "هل أنا الذي حبل بهؤلاء الشعب كلِّهم؟ أم هل أنا الذي ولدهم حتّى تقول لي: "احملهم في حضنك كما تحمل الحاضنُ الرضيع...؟" (آ12). ها هو يسلِّم الشعب إلى الربّ، والربِّ يعيدهم إليه. شابه القدّيس يوحنّا ماري فيانّاي الذي أراد أن يهرب من المسؤوليَّة، لأنَّه أحسَّ بضعفه أمام هؤلاء الخطأة الذين يتقاطرون إليه، وأمام الصعوبات التي تعترض رسالته. كما شابه إيليّا النبيّ الذي هرب حين أراد نفسه وحده، فطلب منه الربُّ أن يرجع إلى الجهاد. وربَّما اعتبر هرون ومريم أنَّ موسى فشل، فلا بدَّ من وجود من يحلُّ محلَّه. ومع أنَّهما قاما عليه، فهو طلب الشفاء لمريم: "اللهمَّ اشفها" (عد 12: 13). لا مجال للانتقام مهما كانت الإساءة. هكذا بدا موسى حليمًا، صافحًا، غافرًا، متواضعًا.

تشفَّع موسى من أجل مريم، وها هو يتشفَّع من أجل الشعب الذي استعدَّ للرجوع إلى مصر، مع رئيس آخر غير موسى (عد 14: 4). فكيف كان تصرُّف موسى وهرون؟ "سقطا تضرُّعًا أمام الشعب" (آ5) وإذا أراد الربُّ أن "يفني" الشعب، ذكَّره موسى: ماذا يقول المصريّون؟ "لم يقدر أن يدخلهم إلى الأرض التي حلف لهم عليها" (آ16). وقال موسى: "اصفح يا ربّ...". فقال الربّ: "صفحتُ بحسب قولك" (آ19-20).

يروي التقليد عن أحد الرهبان أنَّ صحن الطبيخ وقع من يد رفيقه وانكسر. فما غضب، بل قال لرفيقه وهو ينحني ليأكل من على الأرض: بما أنَّ الطعام رفض أن يأتي إلينا، فنحن نذهب إليه. وقيل عن القدّيس فرنسيس السالسيّ الذي عمل الكثير في سويسرا، أنَّه كان غضوبًا جدًّا، ولكنَّه في نهاية حياته تحلَّى بالوداعة، وأيّ وداعة. وكان القدّيس يوحنّا الإلهيّ، ذاك الأسبانيّ الذي بنى عددًا من المستشفيات من أجل المرضى الذين لا يهتمُّ بهم أحد، مارًّا في رواق داخليّ، فصُبَّ عليه الماء من كلِّ جهة، وانتظر العاملون أن يروه غاضبًا. فابتسم وقال: "شكرًا لكم على هذا المياه فالطقس حارّ". ونتذكَّر بعض ما قيل في أفرام اليونانيّ في تعليم تلميذه: "إن لم تحتمل مضايقة طفيفة فكيف تحتمل الأكبر منها؟ إن كنتَ لا تستطيع أن تغلب ولدًا صغيرًا، فكيف ستلقي أرضًا الرجال الأقوياء؟ وإن لم تحمل كلمة سوء فكيف ستحتمل ضربة؟ وإن لم تحتمل ضربة أو لطمة فكيف ستحتمل صليبك؟ وإن لم تحتمل صليبك فكيف سترث المجد في السماوات؟"

بمثل هذا الكلام يحاول خادم الله أن ينظِّم حياته، مع ما في ذلك من صعوبات آتية من الخارج، وخصوصًا من الداخل. وموسى بدا لنا مثالاً في ذلك في آخر حياته قيل عنه إنَّه كان حليمًا، صفوحًا، متواضعًا، وديعًا. فكيف وصل إلى ذلك؟ هل بقواه الخاصَّة؟ كلاّ. فالإنسان ضعيف ونزواته حاضرة في حياته حتّى النهاية. هي مثل الأسد الذي يستعدُّ للوثوب، كما قيل لقايين. لهذا نحتاج إلى قدرة الله وحضوره. وكان لموسى اختباران كبيران مع الربِّ أضاءا على رسالته كلِّها. الأوَّل، عند العلَّيقة الملتهبة وما رافقها من نداء إلهيّ من أجل الرسالة، والثاني على الجبل حين طلب أن يرى مجد الله.

2. اخلع نعليك من على رجليك

كان موسى يرعى غنمات حميِّه يترو. لفت نظره علَّيقة تشتعل، تشتعل، ولا تحترق فتصير رمادًا. تعجَّب. دار حول العلَّيقة لكي يتكشف سرَّها. عندئذٍ ناداه الربُّ من وسط العلَّيقة: "اخلع نعليك من على رجليك، لأنَّ الموضع الذي أنت واقف فيه أرض مقدَّسة" (خر 3: 5). ومنذ ذلك الوقت، اعتاد مؤمنون عديدون أن يخلعوا من أرجلهم حين يدخلون لعبادة الله. خبرة فريدة عاشها موسى الهارب من مصر ومتاعبها، والبعيد عن إخوته العائشين في العبوديَّة. هو في راحة في هذه البرِّيَّة لا يفكِّر في شيء. ولماذا التفكير بعد وحياتي مؤمَّنة وأنا لا أحتاج شيئًا. الاهتمام بالآخرين؟

كان بإمكان موسى أن يقضي حياته راعيًا بين الرعاة الكثيرين في تلك البرِّيَّة. يمضي في الصباح مع الأغنام، يعود في المساء إلى البئر يسقيها ثمَّ يجعلها في الحظيرة. وهكذا يومًا بعد يوم. أهذه هي الحياة التي يريدها الله لنا؟ ولاسيَّما إذا نظر إلينا بمحبَّة كما نظر إلى ذلك الرجل الذي جاء يسأل عن الطريق إلى الحياة الأبديَّة. قال الإنجيل: "نظر إليه يسوع وأحبَّه" (مر 10: 21). وأحبَّ موسى، أحبَّ سمعان بطرس وأخاه أندراوس، ويعقوب وأخاه يوحنّا. هم صيّادون يعتاشون من صيدهم. لا بأس. والإنسان يأكل خبزه بعرق جبينه. ولكن إذا جعل الله نظره على إنسان، فهو لا يستطيع أن يبقى كما كان في الماضي. دُعيَ موسى. كان بالإمكان أن يفضِّل البقاء مع أغنامه على الاهتمام بأناس يجب أن يصيروا شعبًا. وسمعان بطرس ورفاقه أرادوا بعد القيامة أن يعودوا إلى صيد السمك (يو 21: 3)، ولكنَّ الربَّ دعاهم إلى محبَّة أكبر في شخص بطرس: "يا سمعان، أتحبُّني أكثر من هؤلاء؟" الحياة الهادئة، المطمئنَّة، العائشة في سلام. أمّا يسوع فما جاء يعطينا مثل هذا السلام الذي يعني اللامبالاة بالنسبة إلى القطيع.

قال الربُّ لموسى: "نظرتُ إلى معاناة شعبي... فنزلتُ لأنقذهم... فتعال أرسلك إلى فرعون". صدمة هائلة بالنسبة إلى هذا الذي صار راعيًا، مع أنَّه سبق له وتربّى في بلاط فرعون. كان "نسرًا" فصار "دجاجة". الخوف يسيطر عليه. مع أنَّ الربَّ هو الذي يرسله. أجاب موسى: "من أنا حتّى أذهب إلى فرعون؟" (خر 3: 11). وجاء الجواب الرائع الذي يحتاج أن يسمعه خدَّام الله: "أنا أكون معك" (آ12). من يكون معي؟ إنسان قدير؟ رجل غنيّ؟ شخص وجيه؟ لا. الربُّ معي. ويهتف صاحب المزمور: "إذًا، أنا لا أخاف".

ما كان موسى مثل الرسل. قال يسوع لمتّى الجالس على مائدة الجباية: "اتبعني". فقام وتبعه (مت 9: 9). لا حاجة إلى الكلام الكثير. وحين يقول الربُّ لإنسان: "اتبعني"، فهو يخلِّصه من جديد، يعطيه القوَّة، يعطيه النعمة. وهنا نفهم أهمِّيَّة تبديل الاسم. كان اسمه سمعان، فصار اسمه بطرس أي "الصخر" الذي يبني عليه الربّ. وهل أقوى من الصخر في الطبيعة؟ وإرميا صار ذاك السور من حديد، لا من حجارة ولا من طين. لا يقوى أحد عليك، كما قال له الربّ.

أمّا موسى فما زال يتردَّد. خاف من فرعون. قال له الربّ: أنا معك. ألا تؤمن أنّي أقوى من فرعون؟ أرسله الربُّ إلى الرؤساء. ولكن يمكن أن لا يصدِّقوني! ولكن هل هي كلمتك أم كلمة الربّ. وتهرَّب موسى مرَّة ثالثة: لستُ أنا صاحبَ كلام. أنا ثقيل الفم واللسان. متى صرتَ كذلك يا موسى؟ منذ أمس، أو قبل أمس! وقبل ذلك كنتَ فصيح اللسان! تغلَّب الربُّ على كلِّ سؤال من أسئلة موسى: من صنع للإنسان فمًا؟ وفي النهاية، قال له: فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلِّمك ما تتكلَّم به" (خر 4: 12). أما هكذا قال لنا يسوع حين حدَّث التلاميذ: "لستم أنتم المتكلِّمين، بل روح أبيكم هو المتكلِّم فيكم"؟

ومع ذلك بان الرفض تامًّا عند موسى: ارأف بي، يا سيِّدي، أرسل بلاغك بيد من تريد أن أرسله، ولا تتَّكل عليَّ. أرسل أحدًا غيري (آ13). ويقول الكتاب: "حميَ غضبُ الربِّ على موسى" (آ14). كأنَّه استعدَّ أن يعاقبه. أما ترى يا موسى إلى ماذا أدعوك؟ ولكنَّه سيفهم فيما بعد. في البداية تربّى لدى الفرعون فأراد أن يكون الرئيس بسرعة دون أن ينتظر. والآن يدعوه الربُّ إلى رئاسة من نوع آخر، إلى عمل خلاص رائع، وها هو يتردَّد. أين هو الإيمان؟ مرَّات عديدة نحاول الاستناد إلى البشر، إلى العظماء، إلى المال، إلى البلاغة. وننسى أنَّ كلَّ هذا لا يدوم، استند ملك يهوذا في الماضي على مصر أقوى دولة في زمانه. فقال له إشعيا: هي قصبة مرضوضة. لا تسندك. ثمَّ هي تثقب يدك!

وأخيرًا، قبل موسى بالمهمَّة. سلَّم القطيع إلى حميِّه ومضى إلى إخوته: هل هم بعدُ أحياء أم ماتوا؟ (آ18). وبدأت المغامرة مع الله وأيّ مغامرة، بل ما أحلاها مغامرة، إذا قبلنا أن نضع يدنا بيد الربِّ وننطلق دون أن ننظر إلى الوراء. ومرَّات كثيرة يأخذنا الربُّ إلى حيث لا نريد. ذاك ما قيل عن بطرس. من يريد الصعوبة؟ من يريد الصليب؟ من يريد الألم؟ ولكن لا طريق إلاَّ هذه الطريق: من أراد أن يتبعني يحمل الصليب ويتبعني. وهو لا يتبعني بضع ساعات أو أيّامًا معدودة. بل "كلَّ يوم". وإن لم يكن ذلك، نترك يسوع وحده حاملاً صليبه ونحن نتفرَّج عليه. هذا ما يحدث مرارًا في حياة خادم الله إذا رفض أن يسمع صراخ البائسين من كلِّ نوع على مثال الكتبة والفرّيسيّين: يجعلون الأثقال على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحرِّكوها بإحدى أصابعهم.

ورافق موسى أولئك "الرعاع" (خر 32: 22). وجعل منهم شعبًا، فأوصلهم إلى عتبة أرض الميعاد. فهم بعد موته يدخلون. ونتذكَّر يوحنّا ماري فيانّاي ورعيَّته "آرس" حين أتى إليها. مستحيل العمل فيها! قال فيها: اتركوا رعيَّة بدون كاهن عشرين سنة، يعبدون "العجل" كما فعل الشعب العبرانيّ حين ابتعد عنه موسى وأبطأ في صلاته على الجبل" (خر 32: 1). وكيف صارت آرس يوم عاد خوريها إلى الربّ؟ وكيف هي اليوم؟ مركز حجّ. وهذا الكاهن الذي رفضوا أن يرسموه في البداية، صار مثالاً للكهنة في الكنيسة ونحن نتطلَّع إليه اليوم بعد موته بمئة وخسمين سنة. أجل ذاك هو عمل الكاهن: يبدو جافًّا في البداية، مخيفًا لأنَّ المهمَّة صعبة. ولكنَّ النهاية تكون رائعة. هو يوصل الناس إلى المسيح، ويتراجع لئلاَّ يأخذ مكان المسيح فيحتفظ بمحبَّة الناس له.

وهكذا بعد الألم المجد، وبعد الموت القيامة. قيل عن موسى إنَّه دُفن في الوادي وما عرف أحد مدفنه. وقال التقليد: دفنه الربُّ بيده فقدَّم له أطيب إكرام. كما قيل: صعد إلى السماء مثل أخنوخ وإيليّا. ولكنَّه نال إشعاع الربِّ وهو في حياته. هكذا يكون القدّيسون.

3. أرني مجدك

بعد محنة العجل الذهبيّ وغفران الله للشعب بفضل صلاة موسى وتشفُّعه، بعد الانطلاق من جديد، لا برفقة ملاك (خر 32: 34)، بل برفقة الربِّ بالذات حين قال: "أنا أسير معك وأهديك" (خر 33: 14)، بعد أن عرف أنَّ الربَّ رضي عنه وعرَّفه اسمه، قال له: "أرني مجدك" (آ18).

مجد الله نراه في الطبيعة. نراه في وجه كلِّ إنسان، لأنَّ الله خلقنا على صورته ومثاله ولكنَّ موسى أراد أكثر من ذلك. أراد أن يرى وجه الله، مع أنَّ هذا مستحيل. فالقول معروف: لا يرى إنسان وجه الله ويبقى على قيد الحياة. فالنور المنبعث منه يفني الإنسان.

أجاب الربّ: "أمّا وجهي فلا تقدر أن تراه" (آ20). أمرُّ أمامك فتراني بعد أن أمرُّ ترى ظهري، لا وجهي. ومع ذلك كان لموسى خبرةٌ لم تكن لأحد في العهد القديم. حين خاصمه هرون ومريم. قال الربُّ: "لو كان فيكم نبيٌّ لي أنا الربّ، لظهرتُ له بالرؤيا وخاطبته في حلم، وأمّا عبدي موسى فما هو هكذا، بل أنا أئتمنه على جميع شعبي. فمًا إلى فم أخاطبه، صراحًا لا بألغاز، وعيانًا يعاين شبهي أنا الربّ" (عد 12: 6-8).

وكيف رأى موسى مجد الربّ؟ حين أقام طويلاً على الجبل؟ قيل عنه: إنَّه لبث أربعين يومًا صائمًا مصلِّيًا. لا وقت له ليأكل. فمن يكون في حضرة الربِّ ينسى الطعام والشراب وسائر الأعمال البشريَّة. لن يعود من أهل الأرض، بل يكون في السماء قبل أن يموت. قال الكتاب: "لم يعرف موسى أنَّ وجهه صار مشعًّا من مخاطبة الربِّ له" (خر 34: 29). كلُّ هذا يعني قُربَه من الله. "خافوا أن يقتربوا منه". فالقداسة شعَّت عن وجهه. وهذا ما نقوله عن عدد من القدّيسين الذين انطبع فيهم نور الله وهم على قيد الحياة. فبقدر ما يكون الكاهن قريبًا من الربِّ مولَعًا بحبِّه، بالرغم من ضعفه السابق، يستطيع أن "يشعَّ" على رعيَّته. وإلاَّ يكون باني كنائس، مجهِّز مشاريع، أو منظِّم طقوس ليس إلاَّ. فإن هو لم يدخل في أعماق الله، فكيف يستطيع أن يأتي بالمؤمنين إلى الله. قال اليونانيّون: نريد أن نرى يسوع (يو 12: 21). لماذا طلبوا هذا الطلب؟ لأنَّهم تأكَّدوا أنَّ فيلبُّس وأندراوس يعرفان يسوع، رافقاه، أحبّاه، وهما يستطيعان أن يتكلَّما عنه كما لم يتكلَّم عنه أحد. أما قال لنا الإنجيل إنَّ أندراوس كان واحدًا من الاثنين اللذين سمعا يوحنّا المعمدان يقول: هذا هو حمل الله، فتبع يسوع وأقام معه النهارَ كلَّه" (يو 1: 35-39)؟

الخاتمة

من خلال وجه موسى حاولنا أن نكتشف كيف يكون الكاهن في هذه "السنة الكهنوتيَّة" التي أعلنها قداسة البابا. هو الذي سار مع الربِّ بالرغم من الصعوبات. تردَّد في البداية ولكنَّه عرف أن لا ينظر إلى الوراء، مثل العبرانيّين الذين لبثوا يحنُّون إلى مصر وخيراتها. هو من يتطلَّع إلى الأمام، إلى أرض الموعد. ولا يريد أن يمضي وحده، بل مع شعبه، مع أنَّ التجربة أطلَّت عليه مرارًا: "ها أنا والأبناء الذين أعطيتني". من مثل هؤلاء الوجوه نتعلَّم، وطموحهم طموحنا، وضعفُهم ضعفنا. ونحن نعرف أنَّ المجد ينتظرنا كما قال الرسول: "إذا متنا معه عشنا معه. وإذا صبرنا ملكنا معه" (2تم 2: 11-12).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM