الكاهن بين الجمع والجماعات

(حياتنا الليتورجيَّة، زمن عاديّ، 2010)

الكاهن بين الجمع والجماعات

الخوري بولس الفغالي

حين عدتُ من باريس بعد إنهاء الدروس، كان التهجير مالئًا لبنان. فطلب منِّي أبناء بلدتي أن أقيم لهم الشعنينة في جبيل، في كنيسة القدِّيس بطرس. وأردتُ أن أقوم بشيء جديد: باركنا أغصان الزيتون وقمنا بالمسيرة قبل القدَّاس. ودخلنا إلى الكنيسة فكانت فارغة. هذا يصوِّر ابنه، وتلك تصوِّر ابنتها. "السلام للبيعة ولبنيها"، أين هي البيعة؟ انتهوا من احتفالهم وتركوا الكاهن يقوم باحتفاله!

وكم نسمع الكهنة وهم فرحون. شعنينة رائعة. بالآلاف. الأطفال والشموع، يمشون وراء يسوع! ربَّما، هو عرض أزياء لأطفالنا. وعيد. لا بأس. ولكن ماذا بقي من هذا الاحتفال؟ لا شيء. سوى تجمُّع آخر يوم الجمعة العظيمة و"بَوس الصليب" وينتهي الأسبوع المقدَّس. بل إنَّ العيد الكبير، عيد قيامة الربِّ، الذي هو قمَّة الخلاص، لن تكون هذه الجموع.

وقرأتُ الإنجيل: "وتجمَّع في تلك الأيّام جمهور كبير وما كان معهم شيء يأكلونه. فدعا يسوع تلاميذه وقال لهم: "إنِّي أشفق على هذا الجمع، فهم منذ ثلاثة أيّام معي ولا طعام لهم" (مر 8: 1-2). الشفقة، الحنان. هذه عاطفة يسوع. ولا بدَّ له من أن يعمل شيئًا. أمّا التلاميذ فخافوا: "كيف لأحد أن يُشبع هؤلاء الناس خبزًا هنا في البرِّيَّة" (آ4). هذا أمر مستحيل، صعب. إذًا، لا نعمل شيئًا. أو نعمل الشيء القليل لئلاَّ نخسر "الوظيفة". أمّا يسوع فكسر لهم الخبز "فأكل الناس حتّى شبعوا، ثمَّ رفعوا ممّا فضل من الكسر سبع سلال" (آ8).

كلامنا لا يقف عند الخبز، ويسوع قال للذين أكلوا: "لا تعملوا للقوت الفاني، بل اعملوا للقوت الباقي للحياة الأبديَّة" (يو 6: 27). وما نلاحظ حين كسر يسوع الخبز في قلب شعبه هو أنَّه حين "رأى الجمع الكبير أشفق عليهم، لأنَّهم كانوا مثل غنم لا راعيَ لهم. فأخذ يعلِّمهم أشياء كثيرة" (مر 6: 34). ثمَّ كسر الخبز، كما نفعل اليوم في القدَّاس: مائدة الكلمة أوَّلاً. قراءة الكتب المقدَّسة، ثمَّ الوعظ. ثانيًا، مائدة القربان، خذوا كلوا هذا هو جسدي. خذوا اشربوا هذا هو دمي.

تلك هي المحطَّة الأولى في كلامنا: الكاهن أمام الجمع. أمام رعيَّة كبيرة. عليه أن يهتمَّ بالجميع. فكلُّ الذين يقيمون في حدود رعيَّته، هو مسؤول عنهم. لا على المستوى القانونيِّ فقط، بحيث لا يستطيع أحد أن يعمِّد أو يعطي أوراق الزواج إلاَّ كاهن الرعيَّة. بل على كلِّ المستويات، وخصوصًا على المستوى الإنسانيّ والروحيّ. هو ضعيف. فالربُّ يقوِّيه. الإمكانيّات ضئيلة. ذاك ما كان وضع الرسل: سبعة أرغفة (مر 8: 5) لإطعام أربعة آلاف. من يقدر أن يفعل هذا؟ ما هو مستحيل عند الناس هو سهل لدى الله: يكفي أن نضع يدنا بيده. خراف لا راعيَ لها. وأين الكاهن لا ينتبه إليها؟ وإن كان وحده يستعين بالمعاونين الذين يكون عملهم امتدادًا لعمله. هنا يأتي دور الجماعات الصغيرة في الرعيَّة، من أخويَّة وحركة رسوليَّة وجيش مريميّ ورسل الكلمة وجماعة مار شربل و....

من يرى الكاهن؟ أولئك الذين يأتون إلى الكنيسة. هم القريبون. وفي أيِّ حال، كم من الذين يأتون لا يعرفهم الكاهن وهم لا يأتون إليه إلاَّ عندما يحتاجون إلى ورقة رسميَّة. يحضرون يوم الأحد إلى القدَّاس، يسمعون، يصلُّون ربَّما صلواتهم الخاصَّة، يضعون بعض المال في الصينيَّة، ويمضون. اعتادوا على القدَّاس. ثمَّ هناك الوصيَّة: قدِّس يوم الربّ، أو اسمع القدَّاس أيّام الآحاد والأعياد المأمورة. هل عاشوا جماعة؟ هل صاروا جسد المسيح الواحد بعد أن أكلوا الخبز الواحد وشربوا من الكأس الواحدة؟ حرارة الاستقبال؟ غير موجودة. ثمَّ إنَّ القدَّاسات تتوالى، الواحد بعد الآخر ويتعب الكاهن أو الكهنة.

أشفق على هذا الجمع، قال يسوع. الكاهن في كنيسته. فمن يأتي إلى الكنيسة فأهلاً وسهلاً. هم القريبون. والبعيدون؟ قال يسوع حين تكثير الأرغفة: "منهم من جاء من بعيد" (مر 8: 3). هم البعيدون تجاه القريبين كما ننشد في الليتورجيّا: السلام للبعيدين، السلام للقريبين، فالمسيح قام من القبر وجمع المشتَّتين.

من يمضي إلى البعيدين ويردُّهم إلى الحظيرة حول الراعي الواحد؟ الكاهن. فهو رمز الوحدة في الرعيَّة، خصوصًا في رعايا أنشِئت حديثًا وما من رابط يجمعها. هذا جاء من هذه البلدة، وذاك من بلدة أخرى. من يجمعهم؟ من يأتي بهم إلى الكنيسة؟ الكاهن الذي يزورهم.

أمام الجمع الكثير، ماذا فعل يسوع؟ اهتمَّ بهم. أخذ يعلِّمهم. يقول عنه الإنجيليّ: "تجمَّع حوله جمع كبير جدًّا، حتَّى إنَّه صعد إلى قارب في البحر والجمع كلُّهم في البرِّ على شاطئ البحر، فعلَّمهم بالأمثال" (مر 4: 1). قيل مرَّة: كاد بعضهم يطأ البعض. فقيل: ازدحم الجمع لسماع الكلمة: أتُرى الكاهن يهرب؟ مرَّة أراد يسوع أن "يهرِّب" التلاميذ لأنَّهم تعبوا في الرسالة: "تعالوا أنتم وحدكم إلى مكان مقفر واستريحوا قليلاً" (مر 6: 31). ولكن رآهم الناس فسبقوهم. مرَّات لا يحقُّ للكاهن أن يرتاح. شأنه شأن الطبيب الذي هو دومًا على السمع.

أجل، هناك تجمُّعات، ويجب أن يكون الكاهن في وسطها. الإكليل وحفل الزواج. مناسبة لإسماع كلمة الله لأناس ربَّما لن تكون لهم مناسبة لكي يسمعوها. نتذكَّر مثلاً رجال الشرطة الذين أُرسلوا ليقبضوا على يسوع. نسوا المهمَّة التي أُوكلت إليهم، فأخذوا يستمعون بشوق وارتياحز سألهم رؤساء الكهنة، أجابوا: "ما تكلَّم إنسان من قبل مثل هذا الرجل" (يو 7: 46). لماذا يأتي الشابُّ والشابَّةُ إلى الكنيسة؟ ليعقدوا الزواج. هناك عقد. وفي فرنسا مثلاً، يمضيان إلى مركز البلديَّة فيتمُّ العقد. إذًا، لماذا المجيء إلى الكنيسة؟ لنسمع كلام الله ونعرف واجباتنا، ثمَّ نأخذ بركة الكنيسة التي ترافقنا بصلواتها. ويكون الهدف أن يكون الربُّ هو الشاهد قبل الإشبين والإشبينة والأهل والحضور. على ما قال النبيُّ ملاخي: "لأنَّ الربَّ كان شاهدًا بينك وبين المرأة التي غدرتَ بها وهي قرينتك والمرأة التي عاهدْتها على الوفاء" (2: 14).

وتجمُّع آخر لا يقلُّ أهمِّيَّة: الجنّاز. أناس كثيرون من الطوائف والمذاهب المتعدِّدة. يأتون تلبية لواجب اجتماعيّ. أرسلهم الربُّ إلينا. هل نتهرَّب؟ هل ننغلق على ذواتنا في طقوس نقوم بها، ولا نهتمُّ للحاضرين؟ أهو سحرٌ ما نقوم به؟ أين الكلمة، كلمة الله، ينبوع الماء الحيِّ التي طلبته السامريَّة خلال اللقاء مع الربّ؟ "أعطني من هذا الماء، يا سيِّدي" (يو 4: 15). هل الكاهن حاضر؟ وأيُّ حضور؟ يكتفي بالمجاملات ويقول للناس ما يريدون أن يسمعوا من مديح هو بعيد كلَّ البعد عن كلام الربّ: "ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرِّير".

أجل، يشفق الربُّ على هذا الجمع، لأنَّهم طلبوا خبزًا، خبز الكلمة، فما كان من يعطيهم. صاحب مراثي إرميا بكى. ويسوع ألا يبكي؟ مرَّة توفِّي أحد أقربائي وقيلت الكلمة "سردت حياة الفقيد". وبمناسبة الأربعين، قُدِّمت كلمة نابعة من الإنجيل. فقالت أرملة الفقيد: تلك هي الكلمة التي ننتظرها. أنبقى في عالم الموت ونحن أبناء القيامة؟ كم مرَّة يحسُّ الناس بخيبة أمل حين يسمعون "وعظًا" في الجماعير لا يحرِّك أحدًا. وكم نتألَّم حين يقال: نحن نسمع الراديو، أو التلفزيون، وماذا يُقال لنا؟ جماهير بالملايين تسمع غيرنا لأنَّهم يقدِّمون لهم الغذاء الروحيّ الذي ينتظرون. ولكن "كهنتنا" يهربون من الإنجيل، ويتكلَّمون عن السياسة والاجتماعيّات، وكأنَّهم أخصَّائيّون في هذه الأمور.

مرَّة رافقت "أوَّل قربانة". ماذا قال الكاهن للأطفال؟ لا شيء. مع أنَّ العيد عيدهم. أنتخيَّل الأطفال جاؤوا إلى يسوع لو أنَّهم لم يسمعوا منه كلامًا حلوًا اجتذبهم إليه؟ وماذا قال للناس؟ أمورًا عامَّة، فخرجوا وهم "ينتقدون". ولكن ما حيلتهم والأطفال أطفالهم؟!

وفي التجمُّعات الكبيرة! ينتظر الناس السياسيِّين ويسمعون لهم. ويقول هذا الكاهن أو ذاك: الناس لا يريدون أن يسمعوا كلام الله. وأسأله: لماذا كانوا يسمعون الأب ميشال حايك من الخليج إلى المحيط؟ أما صرنا نشبه الكتبة في زمن يسوع؟ كيف أنهى متّى عظة الجبل؟ "فلمّا أتمَّ يسوع هذا الكلام، تعجَّبت (بُهتت) الجموع من تعليمه، لأنَّه كان يعلِّمهم مثل من له سلطان، لا مثل الكتبة ومعلِّمي الشريعة" (7: 28-29).

الجمع يحتاج إلى الكاهن، ولكنَّهم يمكن أن يغرِّقوا الكاهن فينسوا أنَّه يطلب أوَّلاً رضى الله. فيسوع حين كان يُجري المعجزات، كان يطلب من الناس الصمت: "لا تخبر أحدًا". لماذا؟ لأنَّ الشعب ينتظر "المسيح". ولكن أيَّ مسيح؟ ذاك الذي يطرد الرومان ويحطِّم الأعداء ويعيد خبرة المسيرة في البرِّيَّة! في أيِّ حال، بعد تكثير الأرغفة، كانوا "يستعدُّون أن يختطفوه ويجعلوه ملكًا" (يو 6: 15). هي تجربة حاضرة: فالكلام عن السياسة حلو. ويظهر المتكلِّم في وسائل الإعلام. ماذا كان تصرُّف يسوع؟ "ابتعد عنهم ورجع وحده إلى الجبل". لا يمكن الكاهن أن يرافق الناس في نزواتهم! وكم وقعنا في هذا الوضع خلال أحداث لبنان فتحمَّسنا للأمور البشريَّة ونسينا الإنجيل: علَّمنا الناس على "القتل". علَّمناهم أن يتعلَّقوا بهذا وبترك ذاك. بل بحثنا عن قائد نسير وراءه ونحمله على الأكتاف، ونسينا القائد الحقيقيَّ، يسوع المسيح. فنحن لا نسير إلاَّ في موكبة، كما يقول الرسول. نمشي مع الجماهير لئلاَّ "يزعلوا" منّا. يا حرام على مثل هؤلاء الكهنة الذين نسوا أنَّهم للجميع لا لفئة على فئة.

سار الجمع مع يسوع يوم الشعانين "فحملوا أغصان النخل وخرجوا لاستقباله وهم يهتفون: المجد لله! تبارك الآتي باسم الربّ! تبارك ملك إسرائيل" (يو 12: 13). ذاك ما فعلت الجموع وهي تنتظر ثورة يقوم بها يسوع، على مثال ما حصل سنة 70 ب.م. حين دُمِّر الهيكل، أو سنة 132-135 مع الذي دعا نفسه "ابن الكوكب". وماذا كانت النتيجة؟ وما تكون النتيجة حين نختبئ وراء الله من أجل أهداف يكرهها الله؟ وأين يكون الكهنة؟ هنا نقرأ إنجيل لوقا فيعلِّمنا نحن خدَّام بيت الربِّ: كان "جماعة التلاميذ يهلِّلون ويسبِّحون الله بأعلى أصواتهم على جميع المعجزات التي شاهدوها، وكانوا يقولون: تبارك الملك الآتي باسم الربّ. السلام في السماء، والمجدُ في العلى" (19: 37-38). هم ردَّدوا ما قال الملائكة يوم مولد يسوع. السلام في السماء، بين البعيدين والقريبين. عندئذٍ يتمجَّد الله.

*  *  *

الفرق شاسع بين "الجمع" و"الحشود"، من جهة، وبين "الجماعات" الصغيرة الموجودة في الرعيَّة، الذين يشبهون التلاميذ المحتاجين إلى تربية خاصَّة. فبعد أن قال يسوع مثل الزارع، "دنا منه تلاميذه وقالوا له: لماذا تخاطبهم بالأمثال؟" فأجابهم: "أنتم أعطيتم أن تعرفوا أسرار ملكوت الله" (مت 13: 10-11). هل هناك أمور تُعطى للناس البسطاء، وأخرى محفوظة للكمّال؟ كلاَّ. فالربُّ قال لتلاميذه: "ما قلته لكم في الظلمة قولوه في النور، وما تساررتم به في المخادع فاكرزوا به على السطوح". ولكن لماذا ميَّز يسوع بين "الجمع" وهذه "الجماعة" التي هي الرسل؟ الجواب: "لأنَّ عيونكم تبصر وآذانكم تسمع" (آ16). هنا نفهم دور "الأخويّات" وغيرها من الجماعات في الرعيَّة. الأفراد أتوا بملء حرِّيَّتهم. والتزموا بأن يعملوا معًا. وكم يستطيعون أن يبدِّلوا وجه الرعيَّة. هذا يعني أنَّ الكاهن يهتمُّ بهم اهتمامًا خاصًّا. في أيِّ حال، لا نستطيع أن نوصل في العمق إلى ألف شخص، ما نوصله لعشرة أشخاص أو عشرين أو ثلاثين. ذاك ما عرفه يسوع حين قابل بين "جمع كبير" (آ1) و"التلاميذ" (آ10) الجمع الكبير "يسمع ولا يفهم، ينظر فلا يبصر". هذا يعني أنَّه يجب على الكاهن أن يؤمِّن الخمير في العجين، والملح في الطعام، ويجعل النور على منارة ليرى الداخلون نوره.

الناس هم مثل العجين. والخميرة مهما كانت صغيرة، فهي تُوضَع "في ثلاثة أكيال من الدقيق فيختمر العجين كلُّه" (آ33). أجل، الحركة الرسوليَّة، الطلائع، الكشّاف، أخويَّة مار شربل، أخويَّة القدِّيسة تريز... هي مثل الخمير في عجين الرعيَّة. ولكن يجب أن يكون الخمير فاعلاً، وإلاَّ فهو لا يحوِّل الدقيق إلى عجين وخبز يؤكل. هنا دور الكاهن بحضوره الروحيِّ في "جماعات" الرعيَّة. لا يكتفي "الأعضاء" ببعض الممارسات الخارجيَّة والتجمُّعات والرحلات... بل يتعمَّقون في الإنجيل، في كلام الله، بحيث تتبدَّل حياتهم لكي يستطيعوا أن يبدِّلوا المحيط الذي يعيشون فيه. فالراعي يوجِّه هذه "الخراف" لكي يصبح كلُّ واحد منهم "راعيًا" يستعدُّ أن يبذل نفسه عن الآخرين. يصبح ذاك الذي يتعلَّم من المسيح الوداعة والتواضع. فما أبشع التكبُّر والمزاحمة داخل "الأخويَّة" أو أيَّة جماعة في رعيَّتنا. والأمر ليس ببعيد عنّا. هناك من يقول: في أخويَّتنا، الأمور حسنة جدًّا، إمَّا لأنَّ الكاهن يسيطر فلا يسمح لأحد بأن يتكلَّم وإمَّا لأنَّ "الرئيسة" عتقت وشاخت في الرئاسة.

ما من "جماعة" يمكنها أن تثبت إن كانت لا تتغذَّى بالروح الإنجيليَّة. وفي أيِّ حال ينبِّهنا الرسول: من هو واقف فيلخف من السقوط. فمن اعتدَّ بنفسه، سوف يسقط سريعًا. وكذلك الجماعة. أمّا بولس الرسول فما افتخر إلاَّ بضعفه، وانتظر قوَّته من الربّ. وفي أيِّ حال، هذا التزاحم كان في زمن المسيح. أراد يعقوب ويوحنّا أن يكونا وزيرين بجانب المسيح في ملكه!" (مر 10: 41). حبُّ الرئاسة والترؤُّس! وربَّما أيضًا حبُّ المال، مع يهوذا، مع يوضاس، الذي كان الكيس في يده "فيختلس ما يودَع فيه" (يو 12: 6).

مثل هذه "الجماعة" لا يمكن أن تكون خميرة. فمثالها ليس المسيح، بل الشيطان. ولهذا يقول الرسول إلى "أخويَّة" كنيسة فيلبّي: "تمِّموا فرحتي بأن تكونوا على رأي واحد، ومحبَّة واحدة، وقلب واحد، وفكر واحد" (2: 2). أربع مرَّات أطلَّت الصفة "واحد" هذا لا يعني أن نكون كالغنم، كما هو الأمر في بعض البدع، بل أن نضع أمامنا هدفًا هو المسيح، لا أنفسنا، على ما يقول الرسول: نحن لا نكرز، نحن لا نعمل دعاية لأنفسنا، بل نكرز بالمسيح ربِّنا. نتجادل في آراء مختلفة، ولا نطلب منفعتنا. وفي النهاية، نتَّفق على الرأي الأصلح ونسير معًا. هنا يكون دور الكاهن مهمًّا وكذا نقول عن المحبَّة والقلب والفكر. وينبِّهنا الرسول من "التحزُّب والتباهي". ما أبشع التحزُّب في الرعيَّة، في الأخويَّة! في كلِّ جماعة، حيث أتباهى على الآخرين، أحسبُ نفسي أفضل منهم. ومقابل "التباهي" هناك "التواضع". في التواضع تكون أرجلنا على الأرض. نعرف قدرنا وإمكانيَّتنا. أمّا "التحزُّب" فيعني أنَّنا نكون أحزابًا في الرعيَّة، على ما حصل في كنيسة كورنتوس: هذا من حزب بولس. ذاك من حزب أبلُّوس. ثالث من حزب بطرس! رعيَّة ناجحة! أخويَّة ناجحة! والسؤال المطروح: من بقيَ من حزب المسيح؟ لا أحد. ونتعجَّب بعد ذلك إن نخر السوس الرعيَّة أو جماعة فيها. فحيث لا محبَّة، لا ننتظر سوى النحاس الذي يطنُّ والصنج الذي يرنّ.

في التواضع، "نفضِّل الآخرين على أنفسنا". هل نحن مستعدُّون؟ أين الروح الإنجيليَّة؟ في التجرُّد، لا نبحث عن منفعتنا، بل منفعة غيرنا، وفي النهاية منفعة الجماعة التي أنتمي إليها. ما أبشع من يقول: أو أنا أو لا أحد غيري. هذا يعني أنِّي صرت "الله". أمّا بولس فنبَّه الكورنثيِّين، ونحن ننبِّه أبناء رعايانا: هل بولس صُلب لأجلكم؟ إذا كان بولس صُلب لأجلكم فاتبعوه. وإن كان المسيح، فكيف تتعلَّقون بهذا أو ذاك؟ وقال الرسول: جعلتُ أمامكم يسوع المسيح ويسوع مصلوبًا. أنريد أن نصلبه من جديد من أجل أمور ضيِّقة ومنافع دنيئة؟

جماعة يعرف أعضاؤها التجرُّد والتواضع وتفضيل الآخرين على الذات، يمكن أن تكون الخمير في العجين. وإذا كانت فاسدة، تفسد العجين كلَّه. ذاك ما قال يسوع لتلاميذه: احذروا خمير الفرِّيسيِّين والصادوقيِّين. فالفرِّيسيّون يعتبرون نفوسهم قدِّيسين ويحتقرون الآخرين والصادوقيُّون يحبُّون المال فيكون تعليمهم معارضًا لتعليم الربّ: "لا تحملوا نقودًا من ذهب أو فضَّة..." (مت 10: 9). مثل هذا الخمير فاسد. يحمل الرياء والكذب، لأنَّهم يقولون ولا يفعلون. والتعليم الذي يقدِّمونه يبعد الناس عن الربِّ.

كلُّ "جماعة صغيرة" في الرعيَّة هي مثل الخمير الذي يعمل فيه الكاهن يومًا بعد يوم، ويتجاوب معه الأعضاء الذين وضعهم يسوع بأنَّ "عيونهم تبصر وآذانهم تسمع" (مت 13: 16). وهي مثل الملح في الطعام. ما قيمة طعام لا ملح فيه؟ لا نكهة له. وهذه "أعضاء" الجماعات التي ربَّاها الكاهن، دورها كبير في الرعيَّة. ولكنَّ التحذير جاء إلى الجماعة التي كتب إليها متّى: "فإذا فسد الملح فماذا يملِّحه؟" (مت 5: 13). نتخيَّل الملح الذي يحتاج إلى ما يملِّحه! انقلبت الآية. مثل هذا الملح يُرمى في الخارج ويدوسه الناس". هو لا ينفع شيئًا. يأخذ مكانًا ليس له. انتظر الربُّ منه ثمرًا فإذا هو بلا ثمر، مثل التينة العقيمة التي استحقَّت اللعنة. ونتذكَّر كلام النبيِّ إشعيا عن الكرمة التي غرسها واهتمَّ بها. ما أعطت عنبًا، بل حصرمًا برِّيًّا. يا ضيعان الاهتمام! فيقول الربُّ عن كرمه: "أجعلُه بورًا لا يُفلَح ولا يُزرَع، فيطلع فيه الشوك والعوسج" (إش 5: 6)، بل هو لا يستحقُّ المطر، أولى البركات في الزراعة.

و"الأخويَّة" وكلُّ جماعة خاصَّة في الرعيَّة هي "مدينة على جبل" (مت 5: 14). جميع الناس يرونها من بعيد. إذا كانت قبيحة، لا نرفع عيوننا إليها، ولا نتمنَّى أن نزورها. في إحدى الرعايا، لبثت "جماعة" لا أودُّ أن أذكر اسمها، هي هي مدَّة سبع سنوات. فلا عضو تركها، ولا عضو جديد دخل إليها. وفي النهاية، عجزت وماتت. شابهت الرسل الذين كانوا في العلِّيَّة والأبواب مغلقة، موصدة. أتاهم المسيح فارتاعوا. وأتى مرَّة ثانية، فوجد أيضًا الأبواب موصدة، خوفًا من اليهود. الخوف إن تركنا هذه الجماعة. ثمَّ من يتوق أن يكون بين "عجَّز وعجائز". حضور المسيح بدَّل الأمور بعض الشيء. ولمّا جاء الروح القدس يوم العنصرة، طارت الأبواب والنوافذ، ودخلت الريح من كلِّ جهة، فأجبر التلاميذ على الخروج من العلِّيَّة وإعلان البشارة. وكان أوَّل صيد ثلاثة آلاف نفس. فالأخويَّة التي لا تصطاد، والرعيَّة التي تبقى هي هي، والكنيسة التي تخاف، لا يُنتظر منها شيء. ومع ذلك، يعطيها الربُّ فترة إضافيَّة: يهتمُّ بها وإلاَّ يأتي وقت فيقطعها لأنَّها تعطِّل الأرض.

ونحن لا ننسى العثرة والشكوك التي تتركها هذه الجماعة في الرعيَّة. هي بنت أخويَّة ولا تتكلَّم مع حماتها. هو ابن الحركة الرسوليَّة وسلوكه معروف! قال الربّ: الويل لمن تقع على يده الشكوك. الخير له وللجماعة هو أن يوضع في عنقه رحى الحمار ويُلقى في البحر. هكذا تصرَّفنا مرَّة في إحدى الجماعات. اعتاد أحد الأعضاء أن "يزور" امرأة متزوِّجة، ممّا أوقع الشكوك بين الإخوة والأخوات. فخيَّرناه أن يبدِّل سلوكه أو يترك الجماعة. أما هكذا فعل الرسول في كنيسة كورنتوس؟ "رجل منكم يعاشر زوجة أبيه" (1 كو 5: 1). يجب أن تنوحوا حتَّى تزيلوا من بينكم من ارتكب هذا الفعل" (آ2). وعاد بولس إلى موضوع الخميرة: "أما تعرفون أنَّ قليلاً من الخمير يخمِّر العجين كلَّه؟" (آ6). عندئذٍ تصبح الخميرة نبع "الشرِّ والفساد" (آ7). مثل التفاحة المهترئة، تفسد كلَّ ما حولها. إذًا، تُرمى بعيدًا. وهكذا العضو المهترئ في الأخويَّة، وهكذا الجماعة التي تحمل التحزُّب إلى الرعيَّة، صارت "خميرة الشرِّ والفساد". لا تحمل الخير بل الشرّ، لا تحمل النقاوة، بل النجاسة، لا تحمل الحياة بل الفساد والموت.

حين كان يسوع على الجبل، دنا إليه تلاميذه. فأخذ يعلِّمهم (مت 5: 1-2). إذا أردتم السعادة والهناء، فلا يتعلَّق قلبكم بشيء. تعلَّموا التواضع والوداعة، اصنعوا السلام، أحلُّوا حيث تكونون واطلبوا مشيئة الله بنقاوة قلب (آ3-9). فإذا كنتم هكذا تكونون "نور العالم" (آ14). الناس العائشون في الظلمة يطلبون بعض النور. سواء كانوا في داخل البيت أو أتوا من الخارج. لهذا، قال الإنجيل، "يُوضَع السراج على مكان مرتفع" (آ15). وهنيئًا لرعيَّة يكون فيها كلُّ مؤمن "سراجًا". وتكون "الجماعات الصغيرة" سراجًا تجلب الآخرين إلى المسيح، الذي هو نور العالم. ويتابع يسوع كلامه: "فليضئ نورُكم هكذا قدَّام الناس ليشاهدوا أعمالكم الصالحة ويمجِّدوا آباكم الذي في السماوات" (آ16).

لا نكون نورًا حين نضع الصليب على صدرنا بحيث يرانا الناس. لا نكون نورًا إذا لبسنا لباسًا مميَّزًا عن الذين حولنا. لا نكون نورًا إن قمنا ببعض أعمال التقوى التي تبقى في الخارج. نكون نورًا "بأعمالنا الصالحة". فمحبَّتنا لا تكون بالقول والكلام، بل بالعمل. ولكن كم مرَّة نكذب على نفوسنا مثل ذاك الفرِّيسيّ الذي حسب نفسه بارًّا، قدِّيسًا، عائشًا بحسب وصايا الله. حسب نفسه بلا خطيئة، فإذا هو خاطئ يضيف خطيئة على خطيئة حين يحتقر العشّار الذي لبث بعيدًا وهو يقرع صدره: "اغفر لي يا ربّ أنا الخاطئ"!

ولهذا يقول لنا الربّ، لي أنا الكاهن والراهب والراهبة، أنا ابن الأخويَّة أو الحركة الرسوليَّة... أنا المؤمن الذي يأخذ إيمانه على محمل الجدّ: احذر أن يكون النور الذي فيك ظلامًا. فالظلام ماذا يكون! أجل، نور المسيح هو فينا تقبَّلنا سرَّ العماد، فأين صار هذا النور؟ نقول هذا الكلام بالنسبة إلى الأفراد، ونقوله بشكل خاصّ من أجل الجماعات: ما هو الأثر الذي تتركه هذه "الحركة" في الرعيَّة؟ وما هو دور الكاهن؟ لا يرى! لا يهتمّ! أو هو حاضر يذكِّر الجماعة بإنجيل المسيح. والويل له إن كان حاضرًا بغير روح المسيح، بل بروح العالم، بحيث لا يكون ذاك الذي يقرِّب، بل ذاك الذي يُبعد. لا يكون زجاجًا يمرُّ فيه نور المسيح، بل حجابًا يمنع هذا النور من الوصول إلى الذين يطلبون النور.

*  *  *

الكاهن، الأسقف. في الجمع الكبير. يقول لنا الربّ: أتحنَّن على هذا الجمع. نحن في وسطه. نودُّ أن نكون نورًا له بحياتنا، بكلامنا، بحضورنا. حيث اليأس نضع الرجاء. حيث الخوف نضع الشجاعة. حيث الضعف نجعل القوَّة. حضورنا حضور المسيح وسط الجموع الفقيرة، غير متَّكلين على ذاتنا، بل على الذي اختارنا ودعانا وأرسلنا. وكما المسيح عرف مرارًا أن يكون مع تلاميذه وحدهم، يدرِّبهم، يعطيهم التعليم لكي يكونوا بدورهم رسلاً، كذلك الكاهن مع الجماعات الصغيرة، المتلزمة في الرعيَّة هي تحتاج إلى عناية خاصَّة، إلى تثقيف، إلى تدريب. فكما أنَّ الأسقف لا يقدر أن يعمل شيئًا بدون كهنة، الذين هم في الصفوف الأولى من الشهادة، كذلك الكاهن يحتاج إلى أعضاء الأخويَّة، والحركة الرسوليَّة، والكشّافة، والطلائع والفرسان... فبدونهم لا تكون الرعيَّة حيَّة. وهنيئًا له إن عرف أن يضع يده بيدهم. وفي أيِّ حال، إن هو أعدَّ هذه الجماعات للرسالة، كانت الرعيَّة مثمرة. وإن هو تخلَّى عن مثل هذا العمل، ينبت في كرم الربِّ الشوك والعوسج، وتكثر البدع والضلالات، ويمتلئ الحقل بالزؤان، ونحن نيام.

الكاهن في الجمع يشبه يسوع، فلا يخاف أن يزحموه من كلِّ جهة. والكاهن في الجماعات الصغيرة يواصل عمل الربِّ مع تلاميذه. فبعد أن أعدَّهم أرسلهم وأوصاهم (مت 10: 5). وكان لهم المثل والمثال: "خرج من هناك يبشِّر ويعلِّم" (11: 1).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM