الخاتمة

الخاتمة

مرحلة أولى في مسيرة كهنوتيّة ترافقنا فيها لنقرأ الرسالة إلى العبرانيي. هو تأمل وقراءة معمّقة. قراءة لا نسرع فيها وكأننا نريد أن ننتهي منها. كل كلمة من كلمات الله كافية لكي تستوقفنا طويلاً. فالذين يحسبون أن واجبهم يقوم بأن ينهوا عدداً من الفصول الكتابيّة، لا يستفيدون الكثير. فالمسيرة في الطائرة فوق الغابة، لا تساعدنا حتى نكتشف جمال الأشجار وننظر إلى الأوراق، ونشمّ رائحة الزهور. بل نبدو وكأننا "نستحمّ" في هذا الجوّ العابق بالحياة والنموّ والهدوء، لولا أصوات بعض الحشرات وزقزقة العصافير.

هكذا قرأنا فصلين من الرسالة إلى العبرانيين وبعض الفصل الثالث، ويا ما أجمل ما اكتشفنا. غصنا في الكتاب المقدس بعهديه، من سفر التكوين مع الآباء ابراهيم واسحاق ويعقوب، ويوسف واخوته، بل قبل هؤلاء إذا عدنا إلى نوح وآباء ما قبل الطوفان وما بعد الطوفان. كل هؤلاء وهل إليهم كلام الله. مباشرة أو لا مباشرة. تكلّم مع نوح: إصنع سفينة، ثمّ مع ابراهيم: أترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك. ومنع اسحاق من النزول إلى مصر بسبب الجوع، فباركه بحيث صعد مئة ضعف في تلك السنة "الماحلة" بأراضيها القاحلة، وكلّم يعقوب أكثر من مرة، ورافق يوسف في ذهابه إلى مصر وإعداد المكان لإخوته لئلاّ يموتوا من الجوع.

وكلّمنا الله كما كلّم آباءنا الأقربين بالأنبياء. كما قال بولس الرسول لأهل آتينة: "الله غير بعيد عن كل واحد منّا" (أع 17: 27). فالنبي هو من يدخل في سرّ الله ويعلنه للناس. وما أسعدهم إن سمعوا صوته! وما أسعدهم إن لم يكتفوا بالسماع، بل عملوا إرادتهم. ففي عمل مشيئة الله حياتنا عن هؤلاء الأنبياء تكلّم يسوع في أحد أمثاله: هم عمّال في كرمه. أرسلهم الواحد بعد الآخر ولكنهم نالوا الجلد والقتل والرجم. وأرسل آخرين فلم يكن نصيبهم أفضل من نصيب الذين سبقوهم، وفي النهاية "أرسل إليهم ابنه" (مت 21: 37).

فشل الأنبياء لا لأنهم لم يكونوا على قدر المهمة، بل لأن الشعب كان قاسيّ الرقاب. أتُرى يتوقّف الرب عن مشروعه بسبب الارادات السيّئة وسط البشر، بل وسط شعب اختاره ليحمل اسمه وسط الأمم؟ كلا، لهذا أرسل ابنه. هو جاء بعد الأنبياء هو إله من إله، نور من نور، إله حقّ من إله حق، هو صورة الله الكاملة، هو بهاء مجد الآب. هو والآب واحد. فماذا تنتظر البشرية بعد ذلك؟ قال الرسول إلى أهل رومة: "الآب لم يمنع ابنه عنا، فماذا لا يعطينا بعد؟ هو لم يشفق على ابنه، بل أسلمه عن جميعنا" (8: 32). ماذا ننتظر بعد ذلك؟ ليس بعدُ شيء ننتظره.

هذا الابن تأسّس. مات عنا. طهّرنا من خطايانا وعاد إلى الآب السماوي. كل تاريخ الخلاص هو هنا، منذ المذود حتى الصليب، مروراً بحياة قضاها يسوع بين الناس "وهو يعمل الخير" (أع 10: 38). كل هذا يتجسّد في كهنوته. هو المختار من الله ليكون بين الناس، ويشارك إخوته في حياتهم. تأتّم وعرف معنى الألم. مات وهو يعرف كيف يعين المائتين. وفي النهاية، يقوم ويقيمنا معه، ويتشفّع من أجلنا.

هذا هو كاهننا الذي نعيّده بشكل خاص في هذه السنة، ونعيّد معه كهنة العهد الجديد الذين يواصلون عمله وحياته، الذي معهم تستمرّ الرسالة وتمتدّ في العالم كلّه، ولا تكون فقط في زمن من الأزمان، بل تتواصل إلى نهاية الأزمان.

هل يكفينا كتاب واحد لنقرأ الرسالة إلى العبرانيين؟ كلا. فهذا هو الجزء الأول وسوف تتبعه أجزاء تدخلنا في عمق كلام الله، كم تجعلنا نلج سرّ الكهنوت من خلال يسوع المسيح وصولاً إلى الذين اختارهم ليواصلوا مسيرته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM