6- بالابن خلق الله العالم عب 1: 3

6- بالابن خلق الله العالم

عب 1: 3

أحبائي نتابع قراءة رسالة القديس بولس الى العبرانيين. هي أكثر من رسالة، هي وعظة أُرسلت من جماعة عرفت بولس الرسول، وقدّمت الى كنيسة رومة، الى هؤلاء الذي يبحثون عن كهنوت بعد أن ضاع العهد القديم، حين دُمّر الهيكل وأحرق، ودُمّرت أورشليم وتشتّت الشعب الأول. هي رسالة من تلاميذ القديس بولس.

ونحن في كنيسة إنطاكية، حافظنا على هذه الرسالة، وتبعتنا كنائس كثيرة لأن الفكر الذي نجده هنا هو الذي نجده أيضاً في سائر الرسائل البولسية هذه الرسالة التي تشدّد على الذبيحة الوحيدة، على الهيكل الوحيد، لا الهيكل الذي من حجر، بل الهيكل الذي من لحم ودمّ. قال يسوع بعد أن طرد الباعة من الهيكل: انقضوا هذا الهيكل، إهدموا هذا الهيكل، وكأنه يتطلّع، أو هم يتطلّعون الى هيكل الحجر. أما هو فكان يتكلّم عن هيكل جسده. هيكلكم طلب 46 سنة حتى يُبنَى، أما هيكلي، جسدي فلا يحتاج إلى أكثر من ثلاثة أيام.

الهيكل، الكهنوت، الذبائح، العيش مع الربّ، هذا ما تقدّمه رسالة القديس بولس الى العبرانيين. ونبدأ كما في كلّ ذبيحة بمائدة الكلمة. مائدة الكلمة تأتي أولاً، ثم مائدة القربان. ونحن بعد هذه الحلقات التأملية، لا نزال في مائدة الكلمة.

أوّل لفظ في هذه الرسالة: كلّم اللّه. نحن نشارك في مائدة الكلمة. الأنبياء كلّمونا ونحن نقرأ كتاباتهم هكذا تكوّن العشاء السرّي، عشاء الربّ، القداس. فالاجتماع الأسبوعي يبدأ أولاً بكلام اللّه. كلّم اللّه أباءنا. والكنيسة في الليتورجية تبدأ وتقرأ العهد القديم، تبدأ فتقرأ الأنبياء: إرميا إشعيا هوشع عاموس. ولكن لا تتوقّف الكلمة عند العهد القديم، بل تصل الى من هو الكلمة يسوع المسيح.

ولهذا نقرأ: في هذه الأيام الأخيرة، كلّمنا اللّه بابنه. هي الكلمة الأخيرة في قديم الزمان، تكلّم الأنبياء. وفي الأيام الأخيرة، تكلّم الابن ونحن نتعرّف الى الابن، هذا الإبن الذي جعلنا معه أبناء. هذا الوارث الذي جعلنا معه وارثين. والآن هو الخالق الذي يجعلنا معه خالقين: نحن نخلق مع الابن الذي يخلق. يا لهذا الشرف العظيم!

لهذا يكون موضوع تأمّلنا اليوم: بالابن خلق اللّه العالم. ونعيد أحبّائي قراءة الفصل الأول (آ 1-2) كلّم اللّه أباءنا من قديم الزمان بلسان الأنبياء مرات كثيرة وبمختلف الوسائل (آ 2). ولكنه في هذه الأيام الأخيرة، كلّمنا بإبنه الذي جعله وارثاً لكلّ شيء وبه خلق العالم.

نعم، بالابن خلق اللّه العالم. نعم أحبائي، يسوع المسيح هذا الذي عاش في طرقاتنا، علّم في شوارعنا، أكلنا معه، شربنا معه، كما قال الذين رافقوه على طرقات الجليل والسامرة واليهودية. هذا ليس إنساناً فقط، ليس فقط بشراً مثل سائر البشر. هو ابن اللّه الذي اتّخذ جسداً ونفساً، هو ابن اللّه الذي صار بشراً، إنساناً مثل كلّ إنسان. فاستصعب الناس أن يتحدّثوا عنه على أنه اله وإنسان.

بدأوا فقالوا: هو تظاهر، اللّه تظاهر. عملياً، ما تجسّد. عملياً، ما أخذ جسداً. عملياً، ما كان بشراً. حسبوه، ظنّوه كذلك، أخطئوا. قيل: شُبّه به. مساكين هالبشر كيف أخطئوا! مساكين أصحاب الضلال! هم مساكين، لماذا؟ لأنهم اعتبروا المادة شيئاً باطلاً لا أكثر. إعتبروا المادة شراً في العالم. فكيف يتّحد اللّه بالشرّ؟ مستحيل مع أن الكتاب يقول منذ البداية في كلّ خلق من الخلائق ان ما خلقه الله هو حسن. صنع النور فرأى أنه حسن. صنع الماء. صنع كلّ شيء ورأى أنّ ذلك حسن. ست مرات ما خلقه اللّه رأه حسنًا. وحين خلق الإنسان، قال الكتاب: ورأى اللّه جميع ما خلقه فإذا هو حسن جداً.

إذاً كان العالم حسنًا جداً، فلماذا لا يستطيع اللّه أن يكون في العالم. العالم قصرٌ جميلٌ؛ فلماذا لا يأتي اليه اللّه، ويجلس الى عرشه، ويكون البشر حوله؟ أو هو بيت واسع، فلماذا لا يكون اللّه ذاك الأب، وحوله أبناؤه وبناته على ما نقرأ بصورة ضعيفة ولكنها تعطينا فكرة عن أبناء أيوب: 7 بنين وثلاث بنات يجتمعون مرة كلّ أسبوع حول والدهم. الكون جميل، جميل جداً. الكون حسن، الكون ليس موضع الشرّ، بل موضع الخير، فلماذا لا يأتي الابن اليه؟ لماذا لا يأخذ منه جسده، لحمه، دمه، عظامه، عينيه؟ أخذ كلّ شيء من هذا العالم ليرفعه الى العالم الآخر.

نحن نقول؟ صار إبن اللّه إنساناً ليرفع الإنسان الى بنوة اللّه. ونقول: أخذ الربّ هذه الأرض ليرفع هذه الأرض حتى السماء. ما استطاع الناس الذين حملوا معهم الفلسفة أن يتصوّروا أن الله يمكن أن يأخذ جسداً، بل قالوا أكثر من ذلك: لم يُؤخذ من إمرأة. فالمرأة شرُّ خصوصاً في العالم السامي. المرأة كائن ضعيف، المرأة حملت الخطيئة الى العالم، المرأة لا يمكن أن يُستَند اليها، لا تعرف أن تكون بارة قديسة. أنريد أيضاً أن يأتي يسوع من امرأة؟ ولكن الرسول قال. ولمَّا تمّ ملء الزمان، أرسل اللّه إبنه مولوداً من إمرأة. ومع ذلك هناك أناس قالوا: إذا كان وُلد منها فهو مرّ فيها كما تمرّ المياه في قسطل الحديد أو النحاس أو البرونز. لم يأخذ منها شيئاً. مساكين هؤلاء الضالّين: أخذ منها كلّ شيء، أخذ عينيه منها، أذنيه، وجهه، شخصيته. كل هذه أخذها من أمّه، لأنّ لا أب له على الأرض.

استصعبوا أن يكون هذا الذي لمسوه مساوياً للأب في الجوهر. هو خليقة ورأس الخلائق وأعظم الخلائق. وهذا لم يُقَل في القرن الرابع فقط، هو يقال اليوم من قبل البدع الآتية من الخارج. نعم شهود يهوه وغيرهم. الابن هو خليقة فقط، لأن اللّه واحد. وهكذا عادوا بنا الى العهد القديم، الى العهد الأول، بينما الهنا نحن هو ثالوث. يعني عائلة مؤلّفة من ثلاثة: الآب والإبن والروح القدس. وعملياً الابن معه كلّ الأبناء وكلّ البنات وكلّ البشرية. توسّعت عائلة اللّه، ودخل فيها كلّ واحد منّا. أنا وأنت وكلّ واحد منا دخلنا في هذه العائلة، عائلة اللّه. نعم يسوع هو إنسان لا شكّ وقبل كلّ شيء هو إله، هو الله.

نقول النؤمن: ابن اللّه الوحيد. تجسّد من مريم العذراء ومن الروح القدس. ولكنّ هذا الابن هو مساوٍ للأب في الجوهر. جوهره جوهر الأب. الآب هو النور والابن هو النور. الآب هو الإله الحقّ والابن هو الإله الحقّ. الآب هو الوالد والابن هو المولود ولكنّه غير مخلوق على مستوى الطبيعة الإلهية. جسده خُلق، ولكنْ على مستوى اللاهوت هو ابن اللّه المساوي للآب في الجوهر. وإن اتّخذ جسدنا، فمن أجلنا ومن أجل خلاصنا، لكي يتألّم ويموت ويُدفَن، ولكن لكي يقوم في اليوم الثالث ويُقيمنا معه.

إذا كان هذا الابن تجسّد، إذا هو أراد أن يتحمّل الآلام والموت، هل ننسى أنه إبن اللّه؟ وكيف نعرف ذلك؟ به خَلَقَ اللّه العالم. نعم، بدون الابن لا خلْق إذا كان الآب خلق بكلمته فقال: ليكن نور، فبالابن خلق، وبالابن يحفظ الخلائق في الوجود، وبالإبن يرسل الخلاص الى العالم. به خُلق العالمُ، يقول لنا الرسول في الرسالة الى كولوسي. كلّ شيء هو له. به خُلق الكون، هو الأول وكلّ خليقة لا يمكن أن تأتي الا على يده.

في العهد القديم، تحدّث سفر الأمثال عن الحكمة، الحكمة التي شاركت اللّه في الخلق. وطبّقُ العهد الجديد هذا الكلام على الابن. ولكن من المؤسف أننا لم نعرف أن نقرأ العهد القديم على ضوء العهد الجديد. الحكمة، قيل خُلقت، أو اقتناها الآب، أو تكوّنت. هي صورة والصورة لا يمكن أبداً أن تحيط بالشخص كلّه. هي صورة رائعة هذه الحكمة التي بدت مثل ولد يلعب أمام والده، جعلها الآباء صورة عن الابن الذي به خَلق اللّه كلّ شيء. نعم، الابن خالق مع الآب. وقال لنا فإنجيل يوحنا: الآب يعمل في كلّ حين، والابن أيضًا يعمل في كلّ حين. وهو إن تجسّد فليكون حاضراً في عمل الخلق المتواصل. والخلاص الذي حمله بصليبه، فهو خلقٌ جديد. قيل: الخطيئة بدّلت مشروع اللّه. كلا. اللّه ليس خاضعاً للخطيئة، واللّه ليس خاضعاً لأي شخص، لأي إنسان. مخطّطُه هو من البداية الى النهاية، ولا شيء يوقفه وإذا كان الابن بكر جميع الخلائق، فهو ما آتى على الأرض فقط لكي يخلّصنا من الخطيئة. منذ البداية. مشروع اللّه أراد أن يرسل ابنه الى العالم ليرافق البشرية، من بدايتها، هذه البذرة الصغيرة، الى نهايتها في كامل تفتحها، حين يصبح اللّه كُلاً في الكلّ.

نعم، لم يأتِ الابن لأن الخطيئة حلّت في العالم كلا، والقديس أوغسطين يقول يا لها من خطيئة. هو يفرح بالخطيئة. ما هذا الكلام! يا لها من خطيئة، لأنها أمنّت لنا مثل هذا الخلاص العظيم، مثل هذا العمل الكبير! ألَمْ يكن الخلاصُ حاضرًا؟ نعم، ألَمْ يكن الخلق حاضر؟ نعم، ولكن مع الخطيئة حلّت الظلمة على الأرض، كما كانت في بداية العالم، ولمّا جاء النور، رأى الإنسانُ النور. فالإنسان نصفه ظلام ونصفه نور، وما كان بإمكانه، بدون المسيح، أن يكتشف هذا النور العظيم الذي حلّ على الأرض، كما نقول في النؤمن: نور من نور. ولكنّ الخطيئة جعلت الظلمة على الأرض، فاكتشف الإنسان، بفضل هذا النور، هذا النور بأحلى بهائه. بأعظم جماله.

الابن خلق مرة أولى لما جاء بالبشرية من العدم. وهو خلق مرة ثانية على الصليب، حين هيّأ الخليقة لأن تكون أرضاً جديدة وسماء جديدة هكذا لا يصبح البشرُ عبيدًا كما كانوا من قبل لكنهم، أن يصبحون أبناء: لا أدعوكم عبيداً بعد بل أنتم أبناء، لأن العبد لا يعرف إرادة سيّده.

يا للشرف العظيم! هذا هو كاهننا يسوع المسيح، رفعنا من العبودية الى البنوّة، من الأرض الى السماء، من خليقة من الخلائق الى خالقٍ معه. نعم، نحن نخلق مع المسيح.

ما هذ الشرف الكبير! نحن نخلق مع اللّه. حين يتّحد الرجل والمرأة يصبحان خالقين. لا شكّ الابن، الابنة، عطية من لدن اللّه ذاك ما قالت حواء لما حبلت بقايين وولدته: رُزقتُ ولداً من عند اللّه. ولكن عملياً الرجل والمرأة يخلقان مع اللّه. وليس هما فقط فهناك خلق من نوع أخر: كلّ العلماء، كلّ الباحثين. هم يخلقون وخصوصاً الكاهن، الكهنة يخلقون من جديد.

هذا ما لم يفهمه نيقوديموس. قال له يسوع: يجب أن تُولَد من جديد، أن تُولَد مرة ثانية، أن تولد من علو. ماذا فهم؟ هو الرجل الكبير والجسيم يجب أن يدخل في بطن أمه. مستحيل. كلا، هناك ولادة من الماء والروح. كما أن والدينا ولدونا، كذلك الكنيسة كذلك الكاهن بإسم الكنيسة، يلدُ كلّ واحد منا الى الحياة الأبدية، الى الملكوت. لم نعد فقط أبناء الأرض وبنات الأرض، بل نصبح أبناء وبنات السماء، وهكذا تصبح الكنيسة خالقة مع الربّ يسوع الخالق. يصبح الكهنة خالقين، يلدون في السماء أولاداً جدداً.

شكراً لك يا ربّ على هذا الشرف العظيم وعلى هذه المسؤولية الكبيرة: نحن نلد لك أولادًا من بني البشر فيصبحون أولاداً لك في السماء. شكراً لك يا يسوع، إجعل الآباء الذين تختارهم أباءً حقيقيين، واجعل الأبناء يمجِّدونك ويمجِّدون الآب والروح القدس الى أبد الابدين، آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM