5- الابن هو الوارث 1: 2

5- الابن هو الوارث

1: 2

الإبن هو الوارث هذا هو موضوع تأملنا في هذا النهار المبارك. إبن اللّه هو الوارث كما تقول الرسالة الى العبرانيين، الرسالة الكهنوتية بإمتياز.

نقرأ الفصل الأول (آية 2) حيث يقول الرسول عن اللّه: "ولكنّه في هذه الأيام الأخيرة كلِّمنا بإبنه الذي جعله وارثاً لكلّ شيء.

نعم الإبن هو الوارث. في مفهومنا البشري، حين يكون الإبن حاضرًا فهو الذي يرث أباه هي طرق بشرية نتكلّم بها عن اللّه، لأنّ لساننا لسان بشري. ولا نعرف أن نتكلّم لغة اللّه إلاّ حين نصل الى اللّه، الى السماء. من هنا كانت محاولات عديدة لكي نقول: هكذا يتكلّم القديسون، هكذا يتكلّم الملائكة. من أجل هذا نجد، مرات عديدة، كيف أن ملاك الربّ يعني رسول الرب. ولكنه رسول روحي، لا يمكن أن نراه بعيوننا. ويمكن أن يكون رسولاً جسديًا. هؤلاء نقول عنهم: يتكلّمون عن اللّه. لغة اللّه فوق لغة البشر. نظرة اللّه فوق نظرة البشر. لهذا السبب جعل الكتاب معنى صورة، صورة الملاك، كما قلت الملاك هو المرسل.

هي طريقة بشرية لا نعبّر عن حضور اللّه. ولا نسرع في الالتصاق به، فمع أنه قريب، مع أنّ كلامه في متناول أيدينا، إلا أنه لا يمكن أن يكون على مستوانا، كما يقول النبي هوشع! أنا إله لا إنسان، أنا القدوس في وسطكم.

القدوس ليس فقط القديس ليس فقط المقدّس. القدوس هو الذي يمنح القداسة لكلّ واحد منا، الذي يقدّس، العالم يقدّس الكون، يقدّس السماوات والأرض. ونحن حين نتحدّث عن الملائكة، مثلاً في مشهد العليقة الملتهبة، مع موسى، في سفر الخروج (الفصل 3) يقال لنا: جاء ملاك الربّ الى موسى، وكلّمه: إخلع نعليك من رجليك فالموضع الذي أنت قائم فيه هو مقدّس. ولكن بعد ذلك، إختفى ملاك الربّ، وبدأ الحوار بين موسى وبين اللّه، فأعطاه الله المهمة، الرسالة.

ويمكن أن نقول أيضاً الشيء عينه بالنسبة الى جدعون، أو شمشون أو أشخاص آخرين. ولاسيما مع طوبيا حيث الملاك الذي اسمه رفائيل، ومعنى اسمه شفاء اللّه، هو عملياً عزرياً، هو شخص بشري. وهكذا نفهم عندما نقول إن الملاك كلّم الإنسان أننا أمام مقدّمة لكي يكلّم اللّهُ الإنسان. وهنا نفهم أيضًا أن الرجال الذين جاؤوا الى ابراهيم في سفر التكوين الفصل 18، سوف يدعوهم التقليد ملائكة ويقول: اللّه جاء بين ملاكين، كما يأتي الملك ويرافقه حارساه. ونقول أيضاً الشي عينه بالنسبة ليوسف ابن يعقوب، حين مضى ليستفقد إخوته: لاقاه رجل، ولكنَّ هذا الرجل يعرف عنه كلّ شيء. فقال الآباء: بل هو ملاك، بل هو إشارة الى غاية اللّه بيوسف، وكأنّه يقول له قبل الوقت، قبل أن يهدّده إخوته، قبل أن يبيعوه ليكون عبداً في مصر، هي إشارة ليقول له: أنا معك. وفي الواقع، كان اللّه معه، فنقله من العبودية الى أعلى درجة في مصر، أعظم بلد في ذلك الزمان. رفعه إلى أعلى درجة بعد الملك فرعون.

نتحدّث عن اللّه بلغة البشر، ونحن مجبَرون على ذلك نسمّي ذلك اللغة التشبيهية. فحين نقول: نزل اللّه من السماء، فاللّه لا ينزل ولا يصعد، والسماء أين هي؟ كلّ ما يسمو عينينا، حيث يقيم اللّه، هناك والسماء. ونحن حين نقول: نصعد الى السماء، يعني نكون مع اللّه، على ما قال بولس الرسول الى أهل تسالونيكي: وهكذا نكون مع الربّ في كلّ حين.

واللغة التشبيهية نجعلها في الابن. في يسوع المسيح.

كلّمنا بابنه. في الماضي كلّنا بواسطة الأنبياء. عملياً، بشرياً، بحسب عيوننا وآذاننا. النبي هو من يتكلّم. إشعيا يقول: هكذا قال الربّ وإرميا: هكذا قال الربّ. ومرّات لا يقولون هكذا قال الربّ، بل يتكلّمون، ولكن عملياً كلامُهم كلامُ الربّ، لكنّه يبقى كلاماً بشرياً، بالنظر الى الإنسان الذي في الخارج، الذي يعيش خارج الإيمان. ولكن في النهاية هي كلمة الربّ. فالنبي لا يتكلّم من عنده، بل يرسلُه اللّه.

الابن يتكلّم. كلّمنا، لا فقط في الرمز، لا فقط في الصورة، بل في الحقيقة. بما أنه الابن هو الوارث، وارث على مستوى اللّه. نعم، كلّ ما للأب هو لي. ذاك ما قاله الربّ يسوع: كلّ ما هو للأب هو لي. كما أن الآب يقيم الموتى، كذلك الابن. بل إنّ الآب لا يدين أحد، بل ترك الدينونة للابن.  كلّ ما للآب هو للابن. وكلّ ما هو للابن هو للآب. ونقول في لاهوتنا: كلّ ما عند الآب أعطاه للابن، فلم يبقَ له شيء يعطيه. وهكذا لا يتميّز الابن عن الآب الا بالأبّوة، هو أب والابن هو إبن. ولكن كلّ ما هو في الأب صار في الابن.

هنا كان الصراع في الكنيسة خصوصاً مع أريوس، ذلك الراهب الآتي من مصر: الابن هو في درجة ثانية. كلاّ الآب أزلي، والابن أزلي الآب خالق والابن خالق. كلّ ما للآب. والابن وارث الآب السماوي، وليس فقط بالنسبة الى السماء بل بالنسبة الى الأرض. تقول الرسالة: وارث كلّ شيء. يعني كلّ مخلوق. نعم الآب جعل كلّ شيء في يدي الإبن. ولكن تقولون: كيف يمكن ذلك؟ فالابن تجسّد كما قال الرسول في ملء الزمان، يعني منذ ألفَيْ سنة. كيف يكون وارث كلّ شيء وهو جاء بعد كلّ شيء؟ اليوم، يقول العلماء، الخليقة عمرها عشر مليارات سنة عشرين مليار سنة، لا نعرف كم. والإبن جاء منذ ألفي سنة، فكيف يكون الابن وارث كلّ شيء؟ هذا لا يمكن في المنظار البشري. ولكن في المنظار الإلهي، في المنظار اللاهوتي، تلك هي الحقيقة.

فبولس الرسول يقول لنا: إن الابن هو بكر الخليقة. البكر هو الأول على مستوى البشر. لا شكّ، يسوع تجسّد منذ ألفي سنة، ولكن على مستوى اللّه، يسوع المسيح هو الأول، هو البكر. والبكر هو من يرث أباه. البشرية كلّها جاءت بعده. هو بكر الأحياء، وبكر الأموات. هو الأول في الخلق، وهو الأخير في الخلاص. يضمّ البشرية كلّها كما يقول الكتاب: هو الألف والياء، البداية والنهاية.

قال يسوع: أعطيَ لي كلّ شيء، وما هو للآب هو للابن وحين يقدّم يسوع نفسه على الصليب، ما قدم فقط شخصه البشري، يسوع إبن مريم، يسوع الذي ربّاه يوسف، يسوع ابن الناصرة الذي رآه الجميع، رافقوه. وسوف يقول في الإنجيل: يحسبونه واحدًا بين كثيرين من الذين يصعدون الى أورشليم من أجل العيد، من اريحا الى أورشليم. ولكن لا. هو الوارث، وارث كلّ شيء. كلّ شيء هو له، وعلى الصليب لم يكن وحده، بل البشرية كلّها، العالم كلّه، كان معه على الصليب لأنه إذا العالم لا يموت، لا يكون وإذا البشرية لا تموت، لا تكون. نعم كنّا كلّنا معه على الصليب، كلّنا في كلّ جيل من الأجيال. الذين كانوا بقربه، مريم، التلميذ الحبيب، النساء. ويحدّثنا القديس لوقا عن بعض الأصدقاء. وعملياً، هم معه على الصليب، رأوه يُصلَب، رأوه يُدفَن، رأوا المكان الذي دُفن فيه، هذا بعين الجسد. أما بعين الإيمان فكلّهم كانوا معه على الصليب، وكلّهم كانوا معه في القبر، واليوم وغداً نحن مع يسوع نكون كلنا حتى نهاية العالم.

وهنا نفهم أعمال الرسل. فيسوع لم يُصلَب بضع دقائق، أو بضع ساعات. المسيح لا يزال مصلوباً حتى اليوم، على مشارف الكون. كلّ من يتألّم، يسوع يتألّم فيه ومعه. كلّ من يتعذّب. كلّ من يموت. يسوع يتعذّب ويموت فيه ومعه.

رُجِم إستفانوس، فكأنَّ يسوع رُجِم وما قاله يسوع على صليبه، قاله إستفانوس من تحت الحجارة: أيها الربّ يسوع أسلم لك روحي على مثال يسوع الذي قال على الصليب: يا أبتاه في يديك استودع روحي. وكما غفر المسيح فقال: أغفر لهم يا ابتِ لأنهم لا يدرون ماذا يعملون، كذلك غفر استفانوس: يا أبتاه لا تحسب عليهم هذه الخطيئة.

والمسيح يواصل تألمه، يواصل موته، يواصل عذابه، يواصل إهانته حتى نهاية العالم، في كلّ إنسان من الناس، سواء كان معمّداً أو غير معمّد، كبيرًا كان أو صغيرًا مجرمًا أو قديسًا، بريئًا أو مخطئًا. المسيح هو وارث كلّ شيء، وارث كلّ واحد منا، قبل أن نولد، قبل أن نعيش، قبل أن نموت.

والقديس بولس يقول لنا في الرسالة الى أفسس: إن الأب يجمع كلّ شيء في ابنه الحبيب، ما في السماء وما في الأرض ونفهم هنا هذه الصورة الرائعة: عادة المصلوب يكتَّف، يُربَط على الصليب. وإذا تأخّر موته يَكسرون له رجليه فلا يعود يسنده شيء فينغلق على ذاته ويختنق.

أما المسيح فصُلب ويداه ممدودتان، كأنهما تريدان أن تضمّا الكون كلّه. ومات يسوع قبل أن يأتي الجنديان ويطعناه بالحرية. هو مات لأنه أراد أن يموت، كما يموت كلّ البشر. ورث موتنا كما ورث حياتنا. ورث موتنا ورث آلامنا، ورث أفراحنا، ورث صعوباتنا وشدائدنا. ورث منّا كلّ شيء، لكي يجعلنا نحن وارثين معه. وإذا رفضنا أن نشاركه في هذه الورثة، في هذا الميراث، لن تكون لنا شركة معه في النهاية. يقول الرسول: إذا آمنا به آمنَ بنا. إذا اعترفنا به، إعترف بنا، إذا متنا معه يموت معنا. والا نبقى خارجاً مثل الإبن الأكبر: العيد في الداخل مع الابن الضال والابن الأكبر هو في الخارج. المسيح ورثنا ونحن نرثه.

يقول لنا الرسول: نحن وارثون مع الابن. وكلّ ما هو للابن صار لنا. كلّ ما أخذه من الأب أعطانا إياه يا للشرف الكبير يا للعظمة هكذا كان يسوع كاهننا الأول: يعرف ضعفنا، يرثي لحالنا، يقدّم ذاته من أجلنا ومن أجل خلاصنا نحن البشر، هو ما وقف بعيداً مثل كهنة العهد القديم وبذبح ذبيحة خارجاً عنه. بل قدّم ذاته ذبيحة وقدّمنا معه، وما أسعدنا إن أردنا أن نكون ذبيحة مع ذبيحته.

نعم هو وارث لكلّ شيء. الخليقة كلّها هي له. نحن كلّنا له. ولكنه لا يبقينا له، لا يبقي الخليقة له.

يقول الرسول: فيقدم كلّ شيء، كلّ الخليقة، يقدّمها الى اللّه الآب. وهو يريد أن يقدّمنا نحن. ولكن أين هو المسيح؟ هو في السماء، نعم، ولكنّه على الأرض. وحين يرفع الكاهنُ الكأس والخبز يرفع الجسد والدم ويقول: يا أبا الحقّ، هوذا ابنك الحبيب ذبيحة ترضيك. فهو يواصل عمل المسيح ونحن لا نقدّم فقط الخبز الذي يصبح الجسد، ولا نقدّم فقط الخمر الذي يصبح الدمّ، بل نقدّم كل الحاضرين، نقدّم الكنيسة كلّها، لتكون ذبيحة للمسيح حاضرة على مشارف الكون. دم المسيح هو الذي يقدّس البشرية كلّها، هو الذي يغسل البشرية من خطاياها.

يا ربّ أنت وارث كلّ شيء، ونحن نرث معك. أنت تقدّمنا الى الآب ونحن نفرح بأن نكون معك تقدمة. فقدِّس كهنتنا فيقدِّمونا مع الخبز والخمر حتى نكون إمتداداً لعملك على الأرض، أنت يا من تحيا وتملك الى دهر الداهرين آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM