3- كلمنا الله بمختلف الوسائل 1:1

3- كلمنا الله بمختلف الوسائل

1:1

أحبائي رسالة القديس بولس الى العبرانيين هي رسالة الخدمة، خدمة يسوع الذي ما جاء ليُخدم بلّ ليخدم ويبذل حياته عن الآخرين. وفي خطّ هذا الخادم الأول مريم التي راحت في خطّه حين قالت: أنا خادمة للربّ، أنا آمة الربّ. ويسوع ترك وراءه الكنيسة التي دعت نفسها في المجمع الفاتيكاني الخادمة والمعلّمة. وهي تُرسَل الخدمة بكلّ أنواعها. وخصوصاً الكهنة يخدمون الكلمة، يخدمون الأسرار، يخدمون شعب اللّه.

الرسالة الى العبرانيين أرسلت الى الذين حَسبوا أن الخدمة القديمة هي الأهمّ، حيث الذبائح الخارجية حاضرة. أما نحن المسيحيين، فما لنا سوى ذبيحة واحدة ذبيحة الصليب، وهي التي نعيشها يوماً بعد يوم حتى إنقضاء العالم.

وهذا الكاهن، الكاهن الأعظم يسوع المسيح، الذي حمل وحي الأب الكامل، الذي كان وحي الأب، الذي كان الكلمة التي ما بعدها كلمة، جاء بعد إنتظار طويل. وهذا ما تقوله هذه الرسالة التي أرسلت الى العبرانيين، الى هؤلاء اليهود المقيمين في رومة.

ونقرأ أحبائي الفصل الأول أية واحد وإثنين.

"كلّم اللّه أباءنا في قديم الزمان بلسان الأنبياء، مرّات كثيرة وبمختلف الوسائل، ولكنه في هذه الأيام الأخيرة، كلّمنا بإبنه الذي جعله وارثاً لكلّ شيء وبه خلق العالم".

قرأنا الرسالة الى العبرانيين الفصل الأول واحد واثنين.

في مرّة سابقة، ذكرنا الأباء إبراهيم، إسحاق، يعقوب، بل ذكرنا قبلهم أنوش الذي دعا الربّ، فأجابه. ذكرنا نوحًا، ذكرنا موسى، والشعب العبراني المجتمع حول جبل سيناء وكأنّه مذبح كبير يقيم حوله الشعب المؤمن. وذكرنا بشكل عابر إيليا النبي الذي سمع صوت الربّ، لا من خلال النار ولا من خلال العاصفة، ولا من خلال الرعد، بل سمع صوت الربّ من خلال نسيم هادئ، بل من خلال الصمت. فاللّه لا يتكلّم الا بالصمت ونتذكر الكاهن الأوحد يسوع المسيح في المذود. هو طفل، هو ابن اللّه، هو ابن البشر، هو الكاهن الذي يربط السماء بالأرض، هو طفل صامت في مغارة، والكلّ يأتون اليه ويحملون كلمته.

أتى الرعاة، هؤلاء الفقراء، هؤلاء المساكين، أتوا الى المذود. رأوا ومضوا يخبرون ويبشّرون، فكانوا صورة بعيدة عن الرعاة، عن الرسل الذين انطلقوا يوم العنصرة. وأتى المجوس هؤلاء الذين يمثّلون الشعوب الوثنية، من خلال أولاد نوح سام وحام وياخت، وهم أيضاً رأوا الإبن، عرفوا من هو، سجدوا له، ومضوا يخبرون عنه. اللّه، يأتي الينا في الصمت، يأتي الينا في صمت طفل يقيم في مذود، شأنه شأن أبناء الفقراء في أيامه.

كلّمنا اللّه ويكلّمنا من خلال الصمت، من خلال الهدوء، وتعرف مريم، تعرف مريم كيف تسمع لابنها. الناس يأتون ويروحون، يزورون مريم في ذلك البيت ويمضون. وحدها مريم صامتة تكلّم ابنها في أعماق قلبها. هو يستعدّ لأن يكون الخادم، وهي هتفت حين بشّرها الملاك: "ها أنا خادمة للربّ فليكن لي بحسب قولك.

كلّم اللّه آباءنا من قديم الزمان، ما انتظر أن يأتي الابن في ملء الزمان كما قال بولس الرسول: فلمّا تمّ ملءُ الزمان أرسل اللّه ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس لكي يفتدي الذين هم تحت الناموس، ويعطينا نعمة التبنّي. كلّم اللّه البشر بلسان الأنبياء. لا فمّ للربّ مثل أفواهنا ينطقه كما ننطق نحن. اللّه ليس ببشر ليتكلّم كالبشر، ولا فمّ بشرياً له. ليتلفّظ بالكلمات، ولا لسان بشري له هو يأخذ فمنا، يأخذ لساننا حتى يتكلّم به. قال لإرميا: إذهب. قال لموسى: إذهبْ وكلّمْ هذا الشعب. ويخبرنا الكتاب كيف أن موسى كان يسمع صوت الربّ، ثم يحمل هذا الصوت، يحمل هذه الكلمة الى الشعب. بل الربّ كتب له الوصايا، فأخذها وحملها الى الشعب.

الربّ لا يد له لكي يكتب. هو يأخذ يدنا لكي يكتب بها. لا فمّ له لكي يتكلّم، يتكلّم بأفواهنا، بانتظار أن يأتي إبنه يسوع المسيح: هو يكلّمنا، هو يكشف لنا سر الآب، يخبرنا عن الآب.

كلّمنا اللّه، كلّم آباءنا بلسان الأنبياء. نعم إحتاج الربّ الى لسان الأنبياء لكي يتكلّم، كما يحتاج الى يد الراهبة لكي يهتم بالمرضى والمعاقين والبرص والعجّز. يأخذ الربّ عيوننا لكي ينظر شقاء البشر، يأخذ آذاننا لكي نسمع من يحتاجون الى أن نسمع لهم. اللّه أخذ لسان الأنبياء. هم خدّام الكلمة، هم لا يتكلّمون من عندهم. فلو تكلموا من عندهم كانوا أنبيا كذبة.

النبي يقول كلمة اللّه لا كلمة البشر، هذا هو النبيّ الحقيقي. والأمثلة عديدة في الكتاب المقدّس. إرميا هو في السجن، هو معذَّب، هو مضطهَد، الكلّ يقفون ضدّه. دعاه الملك: كلّمني كلمة تعزّيني، تريحني. كلا. إذا كلّمتني مثل هذه الكلمة، أُطلق سراحك، أُخرجك من السجن، من البئر الموحلة. كلا. هذا ما قال الربّ. النبي يقول كلمة اللّه لا كلمة البشر.

ويروي لنا سفر الملوك كيف أنّ الملك طلب نبياً يكلّمه باسم اللّه، بإسم الربّ. وجاء الأنبياء العديدون. وعندما يكثر الأنبياء، هذا يعني أنهم ليسوا بالأنبياء الصادقين؟ هم أنبياء الملك، إذاً يتكلّمون كما يريد الملك. أنت تمضي الى الحرب، إذاً أنت تنتصر. أنت لا تمضي. الى الحرب فالأفضل أن لا تمضي. ما قيمة هذا الكلام الذي هو امتداد لكلام الملك؟ فكأنّ الملك يكلّم نفسه. ويقول المثل القديم: من قاد نفسه بنفسه يكون كمن يقوده شخص مجنون. النبي الحقيقي هو ذاك الذي يسمع صوت اللّه. الأنبياء الذين دعاهم الملك، قالوا كلّهم كلمة واحدة كأنهم اتّفقوا، جاء تجاههم ميخا بن يملة. قال عكس ما قالوا كلّهم، وأكل صفعة على وجهه، وجُعل في السجن مع بعض الخبز والماء، لأنه لم يتكلّم كما تكلّم الأخرون. هم قالوا الكلام البشري فَرَضِيَ عنهم البشر. ولكن إذا أردنا كلام اللّه، نسمع النبي الذي إسمه رجل اللّه، كما كان بالنسبة الى ايليا. فالنبي أساساً هو الذي يدخل في سرّ اللّه، يدخل في أعماق الله، في صمت اللّه. ويسمع صوته، ولا يقول الا ما يقوله له الربّ. هكذا فعل ميخا بن يملة. قال له رسل الملك: كلّهم تكلّموا بهذه الطريقة فأنت تكلّمْ مثلهم. وكان الجواب: لا أقول الا ما يقوله لي الربّ. الربّ يكلّم الأنبياء في أعماقهم، وهم يقولون كلام الربّ ولا يقولون الا كلام الربّ.

والنبي لا يمضي من تلقاء نفسه، وكأنه هو صاحب الكلمة. ذاك كان وضع موسى، لمّا طلبوا منه مرة ثانية الماء في الصحراء. ماذا فعل. هل سأل الربّ؟ كلا، هل سمع للّه؟ كلا. قال أنا أعرف كيف أفعل. آخذُ هذه العصا، أضرب الصخرة كما فعلت في الماضي، ويكون للشعب الماء. مسكين موسى النبي. لا يمضي باسمه. وستقول لنا الرسالة: الإنسان يؤخذ من الشعب، يأخذه اللّه. والربّ يسوع قال لنا: لستم أنتم اخترتموني. أنا اخترتكم، أنا أرسلتكم. إذاً النبي لا يمضي باسم نفسه. فهو وكيل، والأصيل هو اللّه. هو سفير، واللّه يرسله في سفر. هذا ما نجده مثلاً في حياة داود. النبي خطيء داود، زنى، قتل، سرق. يقول سفر صموئيل الثاني الفصل : 12 أرسل الربّ ناثان النبي. نعم لم يمضِ ناثان باسم نفسه، كما يفعل عديدون اليوم، فيحسبون أنهم يتكلّمون باسم اللّه، فإذاً هم يتكلّمون بإسم بطنهم، بإسم فائدتهم ومنفعتهم. عندهم منفعة يمضون ويتكلّمون، ويحسبون نفوسهم على مستوى الأنبياء. هم كذبة.

يقول لنا القديس بولس: آلهتهم بطنهم، مدحهم خزيتهم، فكرهم في أمور الأرض.

النبي الحقيقي يرسله اللّه. أرسل الربّ ناثان الى داود، وهو عارف أنه مهدَّد، لأنه روى له مثلاً وأفهمه أنه هو ذلك الرجل الظالم القاتل.

قال له: أنت هو الرجل. روى ناثان المثل لداود، وكيف أن الغني أخذ مال الفقير. غضب داود وقال: هذا الرجل يستحقّ الموت. قال له النبي ناثان: أنت هو هذا الرجل. كان بالإمكان أن يقطع الملكُ رأسه، وهذا ليس بعجيب. أمَا حصل ذلك ليوحنا المعمدان، حين وبّخ هيرودس لأنه أخذ امرأة أخيه؟ جعله في السجن حتى يصمت، ولكنّه لم يصمت. وأخيراً قطع رأسه لقاء رقصة إمرأة عاهرة. هؤلاء هم الأنبياء، الأنبياء الحقيقيون، الذين يقولون كلمة اللّه ولا يتراجعون، وهم عارفون بالخطر الذي ينتظرهم.

عاموس النبي أتى من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال. أتى من تقوع جنوب بيت لحم الى بيت ابل معبد السامرة، معبد الملك. هُدّد فما تراجع. وكان يتمنى أن بتنبأ في الجنوب، في قريته، في منطقته. كلا. الربّ هو الذي يختار، الربّ هو الذي يرسل، ويعرف من يرسل، وكيف يرسل. فعلى النبي الاّ يخاف. خاف البعض الشيْ إرميا، اعتبر نفسه أنه ليس على قدر المهمة. بعدني فتى. لم أصل الى عمر الثلاثين حيث تنطلق الرسالة قال له الربّ: اجعلك سوراً من حديد، باباً من نحاس، يقسومون عليك، ولكنهم لا يقدرون عليك.

في النهاية، النبي هو الذي ينتصر. أين الملوك في مملكة اسرائيل؟ زالوا وبقي لنا إيليا أين الملوك في مملكة يهوذا؟ زالوا واحداً بعد الآخر، ولو مضوا يركعون أمام الملك الأشوري.

إشعيا ما لبث واقفاً منتصباً يوجّه الأمور كما يريد اللّه. من أرسلُ؟ من يمضي إلينا؟ قال الربّ فأجاب أشعيا: ها أنا ذا فأرسلني.

كلّم الربّ أباءنا بالأنبياء مرات كثيرة. نحن نعرف أنبياء مثل إشعيا إرميا حزقيال والإثني عشر عاموس هوشع زكريا ملاخي. ولكن حتى في الكتاب المقدّس، هناك أنبياء عديدون مثل ذلك النبي الذي أوقف القتال بين الإخوة أرادت مملكة الجنوب أن تصعد على مملكة الشمال لكي ترد أبناء الشمال الى الطاعة. أتى النبي، قال: ماذا تفعلون ليرجع كلّ واحد الى بيته. وهكذا كان، وتوقّف القتال قبل أن يبدأ.

ونبية مثل دبوره. سمعت صوت الربّ، وفي الوقت عينه سمعت بالظلم الذي يصيب أهلها. فدعت باراق. كلّمها الربّ، فكلّمت براق. قالت له: إمضِ وخلّص شعبي من الضيق ومن الشدة.

والنبية حلدة. هذه النبية عرفت في كتاب الشريعة الذي وُجد في الهيكل، عرفت أنه كتاب اللّه. ولهذا السبب شجعت الملك ومعه إرميا، فقامت مدينة أورشليم بإصلاح إمتدّ الى أرض يهوذا، بل وصل الى قسم من أرض إسرائيل من مملكة إسرائيل. عادوا الى الربّ، الى شريعة الربّ، بعد أن ضاعت وسط الكلمات العديدة والمشاريع البشرية، والذهاب تارة الى الجنوب، الى مصر وطوراً الى الشمال، الى الأشوريّين ثم الى البابليّين.

من سوف يسمع الملك؟ صوت النبي أم صوت الأمير أو الملك الفاتح؟ أحاز رفض أن يسمع صوت اللّه من خلال إشعيا. قال له النبيّ: اطلب. قال الملك: لا أطلب. هو لا يريد أن يطلب من اللّه. وماذا فعل؟ مضى الى حيث الملك الأشوري وهناك طلب منه، وكانت النتيجة أن الملك هو الذي طلب: طلب الجزية، طلب الذهب من الهيكل، طلب الفضة، وفي النهاية طلب من شعب اللّه أن يعبد اللّه، لا كما تريد الشريعة، لا كما يريد اللّه، بل كما يريد الملك الأشوري. فصنع في الهيكل مذبحًا لا كما يريد اللّه، بل كما يريد الملك الأشوري. مرات عديدة نرفض سماع كلام الأنبياء، نرفض سماع كلام اللّه، ومع ذلك الربّ يرسل الينا خداماً يفرحون في أن يحملوا هذه الكلمة وفي أن يوصلوها الينا. فالكاهن هو قبل كلّ شيء خادم الكلمة. ولكنّنا نشبه الفريسيين: أرسلت اليكم أنبياء وحكماء وكهنة، فتلتم منهم وإضطهدهتم منهم، ليأتي عليكم دمّ الأنبياء الذي سُفك منذ إنشاء العالم وحتى اليوم.

يا ربّ أنت ترسل الينا خداماً يحملون الكلمة. شكراً لك، فعلمنا أن نسمع وأن نفهم وأن نفعل آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM