2- كلمنا الله بالأنبياء عب 1:1

2- كلمنا الله بالأنبياء

عب 1:1

نعود الى قراءة الآية الأولى من رسالة القديس بولس الى العبرانيين، من الفصل الأول.

كلّم اللّه أباءنا من قديم الزمان بلسان الأنبياء، مرات كثيرة وبمختلف الوسائل.

كلّمنا اللّه. اللّه يتكلّم وهو يحتاج الى لساننا لكي يتكلّم. إحتاج الى الأنبياء، وها نحن نفهم أنّ الربّ لم يتكلّم بنبي واحد، بل بأنبياء عديدين. والأنبياء لم يكرّروا كلّهم الكلمة الواحدة. وسائل عديدة إستعملوها، وهم يعلّمون كاهن اليوم كيف يحمل الكلمة، لأنه قبل كلّ شيء خادم الكلمة.

قال الربّ قبل أن يصعد الى السماء، قال لتلاميذه: تكونون لي شهوداً في اليهودية والسامرة وحتى أقاصي الأرض. هذه الكلمة يحملها الكاهن في خطّ الأنبياء. أنبياء عديدون عرفهم الكتاب المقدّس. نذكر موسى الذي دُعيَ كليم اللّه. اختُرعت كلمة اختُرع لفظ من فعل كلم: كليم يعني ذاك الذي كان اللّه يكلّمه. وسوف يقول لهارون أخيه ولمريم أخته: أنتم أكلّمكم من خلال الحلم، من خلال الليل، أما موسى فوجهاً الى وجه. كلّمه اللّه صار ذاك الذي يكلّمه اللّه، وذاك الذي يتكلّم باسم اللّه. ونلاحظ مع ذلك، ومع الخبرة التي اقتناها، ومع العلوم التي تعلّمها وهو من عاش في بلاط الفرعون، أنه كان يخاف أن يتكلّم، وأنه أراد أن يتهرب. نستطيع أن نحسب هذا الخوف قضية بشرية. كل واحد منا يخاف أمام المجهول، كلّ واحد منّا يخاف أمام شخص عظيم. نتخيّل موسى ذلك الراعي الذي هرب من وجه الفرعون، يأتي ويكلّم فرعون.

هذا هو الوجه البشري للكلمة. ولكن هناك الوجه الآخر، هو الوجه الإلهي، أن نحمل كلمة اللّه: هي نار متّقدة. هكذا دعاها إرميا النبي. من يجسر أن يحمل النار بيديه. نعم نحمل النار، نحمل كلمة اللّه، ونقول نحن ضعاف، نحن ما وصلنا بعد الى عمر الشباب، الى النضوج الكامل، وكأننا نتكلّم من عندنا. كلا. اللّه هو الذي يتكلّم فينا. وموسى نفسه قال: أنا لا أعرف منذ البارحة، لم أعد أعرف أن أتكلّم. كما نقول في العربي الدارج: صار يتقتف، يتمتم، لا يعرف ماذا يقول. نعم أحسّ بثقل المسؤولية عليه. فكأني به ما أراد بعد أن يتكلّم. فكلّف الربُّ أخاه هارون بأن يحمل كلّمته. هذا يعني أننا لا نأخذ الكلمة بالتسرّع كما نقول في العامية بالاستلشاق. نحن نحمل كلمة اللّه التي هي أعظم كنز في العالم. فكيف نجسر أن نحملها وكأنها أمر بسيط لا يساوي الكثير.

الإنجيل يقول لنا بأمثال: يسوع وجد درة ثمينة، فمضى وباع كلّ شيء واقتناها. نعم كلمة اللّه هي درّة ثمينة، فكيف نتعامل مع هذه الدرّة؟ وإذا لا سمح اللّه لم نكن على مستواها، نسمع كلام الربّ القاسي: لا ترموا جواهركم عند أقدام الخنازير. نعم، نكون على مستوى الكلمة بالتأمّل بها بقراءتها، بأن نمضغها، نأكلها، كما قال الربّ لحزقيال: كُل الكلمة كلَّها، كأنك تأكل شيئاً من الأشياء. أكلها حزقيال وأحسّ بطعمها كالعسل. لا شكّ هي قاسية لأن الناس لن يقبلوا بها، وأشعيا نفسه سيفهم: يسمعون ولا يريدون أن يسمعوا، ينظرون ولا يريدون أن يروا، يسمعون ولا يفهمون لأن قلبهم غليظ.

ويتألم النبي، ويتألّم الكاهن عندما يحمل هذه الكلمة. خاف موسى من الكلمة، ونحن أيضاً نخاف. فلا نحملها إلاَّ كما يليق بها، كما يليق بشعب اللّه. نوصل اليه هذا الغذاء، وإلا نكون، كما قال كتاب المراثي: طلب الأطفال الخبز ولم يكن من يعطيهم. طلب المؤمنون الكلمة ولم يجدوا من يعطيهم. الى أين يذهبون؟ أإلى أقاصي الأرض والكاهن حولهم في رعيتهم؟ الكاهن هو هنا، ألا يحمل الكلمة؟ ألا يستعدّ لحملها؟ في سنوات الاستعداد ألا تكون رفيقته يوماً بعد يوم على ما قال إرميا النبي عن نفسه كلّ يوم؟ كان يسمع كلام اللّه كلّ يوم، كان يحمل كلام اللّه.

والويل للساننا، والويل لشفتينا. إختبر إشعيا شيئاً مهماً: رأى السرافيم، تلك الكائنات النارية التي ترمز الى حضور اللّه. رآهم حاضرين في الهيكل، أحسّ أنه خاطئ، أنه دنس الشفتين، فكيف يحمل الكلمة؟ فكيف يجسر أن يحمل الكلمة؟ ولكن الربّ نقى له الشفتين. جاء إليه ملاك حمل جمرة فجعلها على شفتيه: هذه على شفتيك، طهّرت شفتيك. صار فيك من الآن أن تحمل الكلمة. وهذه النار عينها حلّت على الرسل يوم العنصرة؟ حوّلت لسانهم الى نار فصاروا يتكلّمون كلام اللّه ولا يخافون.

الأنبياء كانوا كثيرين، تكلّموا مرات عديدة، كلّ منهم تكلّم أكثر من مرة، وفي ظروف مختلفة، وما اكتفوا بالكلام بلّ راحوا أبعد من الكلام. لهذا قال النصّ: بمختلف الوسائل. أولاً وسيلة إرميا. كيف دعاه اللّه رأى قدراً تغلي والنار آتية من الشمال. عرف بمجيء البابليين الى أورشليم، وسوف يأخذونها مرة أولى سنة 598 قبل المسي، ومرة ثانية سنة 587 قبل المسيح. أحسّ هذا النبيّ بالخطر آتياً من هناك. لماذا تقاومون؟ لماذا لا تسلّمون المدينة؟ يدخ الفات ويحافظ على السكّان. وإن أخذ بعض الذهب والفضة.

تكلّم إنطلاقاً من واقع شعبه المحاصر، الجائع، المتألّم، الضائع، المشتَّت بعد السبي الأول سنة 598. وكان سبيٌ ثانٍ 587، وسبيٌ ثالث 582: تشتّت السكان، إبتعد الأب عن أولاده، عن عائلتُه، عن بيته. النبي يكلّمهم في قلب المحنة، ويأخذ الأمثال العديدة، يكلّمهم بيديه. أتى ببعض الضيق، أتى بالناس عند الفخاري. قال لهم: هذا الفخاريّ يصنع إناءً طيباً. فإذا كان الإناء غيرَ صالح يكسره ويعمل إناءً آخر. ومرة ثانية، أخذ الجرّة وكسرها، وعلّمهم أنّ هكذا تُكسَر أروشليم، تهدَم، والشعب يُكسَر، والملك يموت والناس يمضون مهجَّرين الى أماكن بعيدة جداً وهناك يعملون كالعبيد.

وإشعيا عرف كيف يكلّم الملك: الملوكُ المجاورون يهاجمون أورشليم، ويريدون أن يدخلوا المملكة في حلف ضدّ الأشوريين الآتين من شمال العراق. أتى إشعيا، نبّه الملك باسم اللّه: لا تخف، لا ترتعد. يكفي أن تؤمن. إذا آمنت يكون لك الأمان، يكون لك السلام. ومرة ثانية، هجم الأشوريون على أورشليم. هدّأ إشعيا الشعب وحصل ما حصل، فهرب الجيش الأشوري وملكُهم معهم، لأنه كان هناك انقلاب عليه ويبدو بأنّ الوباء ضرب الجيش. من خلال هذه الظروف، تكلّم النبي وعمل بيديه ما يجب أن يعمل. قيل عنه: هذا أمر غريب لا يفعله الا اللذين يحملهم اللّه. سار في الشوارع، في شوارع أورشليم، حافياً عرياناً ليدلّ على الحال الذي يصل بها الشعب المقهور حين يعرف الذلّ يؤخَذ الى السبي. طرق عديدة تكلّم بها الأنبياء. خصوصاً عرفوا أن يقولوا كلمة اللّه في الوقت الذي تحتاج اليه. هم ينتظرون، لأن الربّ يعرف متى يجب أن يقال كلامه.

وهوشع الذي اسمه الربّ يخلّص هوشع، تزوّج إمرأة جاء بها من معابد البعل. إذاً هي زانية، إذاً هي تركت زوج صباها. تزوّج هوشع هذه المرأة، أتى بها وجعلها إمرأته، عروسه. ولما تركته، قال له الربّ عُد إليها، خذْها من جديد. ما هذه الأمور البشرية؟ الناس لا يفهمون، لأنهم لا يفهمون كلام اللّه. وحتى اليوم عندما تخون المرأة زوجها أو العكس بالعكس  يكون الطلاق، يكون الابتعاد، لا مجال للغفران وكأن الواحد يحسب نفسه فوق السقوط.

فبولس الرسول يقول لنا: من هو واقف فليخف من أن يسقط. ومع ذلك صار هوشع صورة عن اللّه. فالله أخذ شعبه الزاني والزاني في معنى الأنبياء، الزاني هو الذي يخون الربّ ويمضي الى الآلهة الكاذبة. يمضي الى الأوثان. من هناك الربّ أخذ شعبه. ويقال أن إبراهيم قبل أن يدعوه الربّ، كان يعبد الأصنام في مدينة من هناك أخذ الربّ شعبه الذي كان يعبد الأصنام حتى الذين كانوا في البرية صنعوا لنفوسهم بقيادة هارون العجل الذهبي. أخذوا يأكلون ويشربون ويرقصون حوله، ممّا دفع موسى أن يكسر لوحَي الوصايا. أخذ الربّ شعبه من أرض الزنى، وعلّمه الأمانة للإله الواحد.

هكذا فعل هوشع، فصور اللّه من بعيد. ولما غفر هوشع واستعاد امرأته التي عادت الى الزنى، صوَّر أيضاً وجهَ اللّه: الربّ يغفر وهوشع غفر، والغفران هو أعظم فضيلة في الكتاب المقدس. أن ننتقم هو أمر سهل، فالحيوان ينتقم. أمّا أن نغفر فهذا أمر الهيّ. الله هو من يعلّمنا الغفران، ويطلب منّا أن نغفر. وهوشع، قبل المسيح بثمانية قرون، غفر لإمرأته وأعادها الى بيته. وهكذا لم يعد أولاده أولاد زنى، صاروا من شعب اللّه، صاروا محبوبين من اللّه، كما هم محبوبين من الوالد.

الأنبياء كلّمونا بوسائل مختلفة: كلمة التشجيع، كلمة التهديد. نتذكر هنا حزقيال قبل أن تسقط أورشليم سنة 587 كان قاسياً على أورشليم، ولكن لما سقطت المدينة وعرف الشعبُ اليأس والقنوط، تبدّلت لهجةُ النبي. لم يعد الوقت وقت التهديد، لكن وقت الرجاء، وقت الأمل. اللّه لا يترككم تمضون الى المنفى. الربّ يكون معكم. تعيشون في الأسر والربّ مأسور معكم، في الأشغال الشاقة والربّ يشتغل معكم، وعندما تعودون يعود معكم.

وعاموس الذي كان قاسياً على أهل السامرة، فشبّه النساء ببقرات بشر سيعرف في النهاية أن اللّه هو إله الرجاء القريب والبعيد. سيقول لهم كيف أن المزروعات تعود، والحصاد يتبع الزرع، والقطاف يتبع الغرس.

لا تخافوا. الربّ في النهاية هو إله الخلاص لا إله الهلاك. وهذا ما نعرفه من إنجيل يوحنا حين قال: الربّ اللّه أرسل ابنه الوحيد، لا لكي يُهلك العالم بل ليخلِّص به العالم.

كلمة النبي هي كلمة اللّه. فيها التهديد ساعة يجب التهديد، وفيها الوعود ساعة الوعود. وإن هو ذهب "فليؤدّب لا ليحطّم". ذاك هو النبي يتكلّم باسم اللّه، يحمل كلام اللّه.

واليوم الكاهن هو نبي. يتابع رسالة الأنبياء، بل يتابع رسالة يسوع المسيح. إنجيله هو الكتاب الذي ينير حياته، ينير خطواته. الإنجيل هو النور الذي يحمله الى من يرسله اللّه اليهم. فهو خادم الرعية، خادم المؤمنين. وتبدأ خدمته بكلمة اللّه على ما قال يسوع في بداية رسالته: توبوا فقد إقترب ملكوت اللّه. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM