كلّم الله آباءنا عب 1: 1

كلّم الله آباءنا

عب 1: 1

هذا هو البرنامج الجديد الذي نقدمه بمناسبة السنة الكهنوتية. وأجمل ما يربط بين سنة القديس بولس والسنة الكهنوتية، هو رسالة القديس بولس الى العبرانيين. لا نقول فقط رسالة الى العبرانيين، لكن رسالة بولس الرسول الى العبرانيين، لأن كنيسة أنطاكية، ونحن منها، أعلنت منذ البداية ولا تزال أن هذه الرسالة هي بولسية، بمعنى أنها كُتبت بروح بولس الرسول.

وهذه الرسالة تتميّز في أنها تتحدّث عن يسوع المسيح الذي هو الحبر، الذي هو عظيم الكهنة. عادة لا تُستَعمل كلمة كاهن في الأناجيل، إلاّ في الكلام عن الكهنة في الشعب اليهودي. ولكن في الرسالة الى العبرانيين، نتحدّث عن يسوع الذي هو الكاهن الأول نتحدّث عن الهيكل، ويسوع هو الهيكل. نتحدث عن الذبيحة هو ويسوع الذبيحة الوحيدة ولا حاجة بعد الى ذبائح عديدة تتكرّر سنة بعد سنة. يسوع ذبيحة واحدة، ونحن نعيش فيها كلّ يوم وحتى انقضاء العالم.

يسوع من حيث أنه مات، مات مرة واحدة، ومن حيث هو حي فهو حيٌّ الى الأبد. مع الرسالة الى العبرانيين ندخل ونسمع هذه المدرسة البولسية مدرسة القديس بولس التي لم تكتب فقط في أيام حياته على الأرض، بل لبثت تكتب بعد موته. الأفكار البولسية حاضرة في الكنيسة، ومن يكتب؟ هذا لا يهمّ. فالمهمّ الكتابة.

ونبدأ اليوم بالتأمّل في بداية رسالة القديس بولس الى العبرانيين. ونفتح الرسالة. الفصل الأول يعطينا صورة عن يسوع المسيح: هو الابن، هو ابن اللّه. وبما أنه ابن اللّه، وحده يستطيع أن يكون الكاهن، لأن الكاهن يربط السماء بالأرض. هو من السماء لأنه ابن اللّه: هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيت. قيل ليسوع حين تعمد على نهر الأردن. وهو ابن الإنسان، وهو إنسان مثلنا شبيه بنا بكلّ شيء ما عدا الخطيئة. وهو ما استحى أن يدعونا إخوته وأخواته. لبِسَ جسدنا، صار بشراً مثلنا. كانوا يقولون: المادة شيء بشع، شيء قبيح، ولا يمكن أن تلتقي المادة بالإله. هكذا كان يقول الفلاسفة والمفكّرون، خصوصاً الغنوسيين منهم.

أما الربّ فما احتقر المادة، وما احتقر الجسد. كان له جسد مثل أجسادنا. كان طفلاً مثل أطفالنا، شاباً مثل شبابنا. ومات كما يموت كلّ إنسان، وجُعل في القبر ولكنه قام. بداية رسالة القديس بولس الى العبرانيين، تفتح أمامنا مدى واسعاً، تعود بنا الى الأباء ابراهيم اسحاق يعقوب، وتصل الى الأنبياء أشعيا أرميا عاموس هوشع. وفي النهاية تصل الى القمة، الى الذروة، إلى يسوع المسيح الذي ليس بنبي مثل سائر الأنبياء. فالنبي يحمل الكلمة، أما يسوع المسيح فهو الكلمة. النبي محطة في كلام اللّه، عبْرَ الشعب الأول الذي انطلق مع موسى، أما يسوع المسيح فهو النهاية. قيل عنه: هو الألف والياء، البداية والنهاية. ونقرأ أحبائي رسالة القديس بولس الى العبرانيين الفصل الأول آ 1-2: "كلَّم الله آباءنا من قديم الزمان بلسان الأنبياء...

كلّم اللّه. نعم اللّه يتكلّم، وهذا مهمّ جداً، لأن الأقدمين اعتادوا أن يعبدوا الآلهة بشكل تماثيل، في شكل أصنام، لها عيون ولا ترى، لها آذان ولا تسمع، لها أيدٍ ولا تفعل، لها أرجل ولا تتحرّك. أصنام لا تتكلّم، أصنام بكماء، اختبرناها على جبل الكرمل. اجتمع إيليا مع أنبياء البعل: 450 من الكهنة. اجتمعوا على جبل الكرمل وقالوا: الإله الذي يشعل النار في المحرقة هو الإله الحقيقي. وصرخ هؤلاء الكهنة. كانوا عدداً كبيراً، صرخوا، هشّموا أجسادهم. قال لهم ايليا: ربما هو نائم الهكم، ربما هو في سفر، ربما لا يريد أن يسمع منكم. هزئ منهم: آلهة بكماء، آلهة صمّاء، لا تفعل شيئاً.

ولا نقول شيئًا عن هؤلاء الالهة الذين هم بشر يسيرون أمامنا، ونتعبّد لهم. هم لا يصنعون خيراً ولكن خافوا منهم أن يصنعوا بنا شرّاً. بهذه الروح، كان الأقدمون يخافون من الآلهة. بل إن الشعب العبراني نفسه كان يخاف من اللّه. فحين يأتي اللّه فهو يعاقب ولا يرحم، يضرب الضربة. بعد الضربة ونحن اليوم ما زلنا في هذا الخوف. نخاف من آلهة هذا العالم، وبالتالي نخاف من الرب الإله الذي هو أب وأم في الوقت عينه.

كم عندنا أفكار وثنية حتى اليوم، وكم نحتاج أن نعرف أن هذا الإله، الذي هو أبونا، الذي هو أمنا، هو في الوقت عينه يكلّمنا، يكلّمنا كما تُكلّمُ الأم طفلها، تكلّمه بلغّته، بلكنته، بلهجته. يكفي أن يتمتم كلمات غير مفهومة حتى تعرف، حتى تفهم ماذا يقول لها. هكذا اللّه يتكلّم. نعم اللّه لا يصمت. هو حاضر. ولكن إن هو تكلم هل نعرف نحن أن نسمع له، أن نفتح قلوبنا، أن نصغي اليه أم أنّ ضجيج العالم، أم أن طلباتنا المتعدّدة، وثرثرتنا المتواصلة لا تسمح له أن يتكلّم. كم نحن مساكين، لأننا نتكلم ونثرثر، ولا نترك اللّه يكلّمنا. ولكن التاريخ يقول لنا كيف كلّم اللّه آباءنا. وفي النهاية لم يكتفِ بأن يرسل الينا كلمة من الكلمات، بل أرسل لنا ابنه، الذي هو الكلمة التي لا كلمة بعدها.

كلم اللّه آباءنا. كلّم ابراهيم: اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك وتعال الى المكان الذي أدلّك عليه. وسمع ابراهيم صوت اللّه. وانطلق من مدينة غنية في جنوب العراق اسمها أور، ووصل الى شمال العراق الحران، ومن هناك تابع عبر سوريا ولبنان وصولاً الى فلسطين. خارجياً هو راعٍ يسير مع خرافه حيث الماء. ولكن داخلياً اللّه كلّمه اللّه، دعاه، اللّه اقتلعه من أرضه وأرسله الى البعيد. الى أين؟ بالإيمان سار ابراهيم. عيناه تريان الماء، تريان العشب والخراف والجداء. أما عين الإيمان، فتريه الطريق من لا يعرفها التي لا يؤمن. وحده الذي لا يؤمن يسير، ولو لم يعرف بشرياً الى أين هو يسير.

كلّم اللّه أباءنا، كلم اسحاق الذي أراد أن يمضي الى مصر ويترك أرضه. ولكنّ مصر عرفت بالألهة الوثنية. إذا كان الوالد، ابراهيم، ترك أرضاً وثنية، غنية، في أور الكلدانيين، في جنوب العراق، هل يمضي اسحاق إلى مصر، إلى آلهة من نوع آخر، كلا. كلّمه الربّ فسمع من الربّ. الجميع جاعوا، أما إسحاق فحصد بدل الحبة مئة.

وكلّم الله يعقوب، كلمه في رؤية وهو ماضٍ الى بلاد الرافدين. كما تصارع معه. مؤكّد صراع روحي: هل يقبل الإنسان أن يسير مع اللّه؟ هل يقبل الإنسان أن لا يتمرّد على اللّه، ويحسب أنه أفهم من اللّه؟ كان صراع فهِمَ يعقوب على اثره هناءنا ان تركنا الربّ يغلبنا. وفي أي حال، هو لا يعاملنا يوماً واحداً بالقوة، بالعنف، بالقساوة، أبداً.  كيف استقبل الابن الضال؟ لم يسأله شيئاً. أخذ يقبّله. وعمل له أعظم وليمة: العجل المسمّن الذي هو للأيام الفرحة.

كلّم اللّه أباءنا من قديم الزمان. يروي لنا سفر التكوين أن اللّه كلّم آدم وآدم. هو كلّ إنسان. وأدم هو المصنوع من التراب: إنك تراب والى التراب تعود. كلّ واحد منّا هو آدم، كلّ واحدة منّا هي حواء. ولكن بعد ذلك صار آدم الرجلَ المأخوذ من التراب. من الأرض. من الأديم وحواء صارت أم الأحياء.

من قديم كلّم اللّه آباءنا. أنوش هو إبن إبن أدم. يقول عنه الكتاب: معه بدأ الدعاء للربّ. معه بدأ الإنسان يدعو الربّ. يناديه. أتراه لا يجيب؟ أتراه قابعاً في أعلى السماء، عائشاً عيشة الأنانية، لا يهمه أمر البشر، سواء تقاتلوا أو تخاصموا أو خرجوا بيوت بعضهم البعض؟ كلا. دعاه الإنسان وهو يجيب الدعاء: تدعوني فأجيب.

وفي أي حال، لسنا بحاجة الى البراهين العقلية. يكفي أن ننادي الربّ في أعماق قلوبنا، فنسمع صوته، نسمع صدى الصلوات كلّها: في برودة الماء، في الجنة. حيث يكون الربّ، هناك الجنة. ومن يتمشى معه؟ أدم حواء. هم معاً يعملون المشاريع لكي تبقى الجنة جنة، ولا تصبح صحراء ينبت فيها الشوك والقطرب. يقول الناس اليوم: كيف تتصحّر الأرض، تصبح صحراء، تُقطَع الأشجار وتحرق. والأسباب عديدة لكي تصبح الأرض صحراء لا ينبت فيها سوى الشوك والقطرب. هذا إذا لم تصبح رمالاً تتسع وتتسع  الى ما لا حدود له.

من قديم الزمان كلّم الربّ آباءنا. وكلّم نوح الذي كان رجلاً تاماً، رجلاً كاملاً. ميّزه الربّ عن الذين رفضوا أن يسمعوا، أن يأخذوا طريق الخلاص الوحيد. والطريق يُرمَز اليه بهذه السفينة. فالسفينة تحمل الخلاص في عالم يغرق. سمع نوح صوت الربّ: إصنع لك سفينة. أو كما يقال من قديم: إصنع لك فُلكاً. وفي العربية العامية ندعوها فلوكة. واجعل فيها أولادك ونساءهم مع امرأتك، بل إجعل معها بعض الحيوانات. أنت تنجو فينجو الحيوان معك، لأنك حين أخطأت أيها الإنسان، انحدرتَ وانحدر معك العالم الحيوانيّ.

كلّم اللّه آباءنا من قديم الزمان، ولا يزال يكلّمنا حتى اليوم. لكنه لا يعرف أن يرفع صوته كما نفعل نحن. أو هو لا يريد أن يرفع صوته. كان الأقدمون يحسبون أنه عندما ترعد السماء، كان اللّه يتكلّم لكي يخيفنا. كلا. الرعد نحن نعرف أنه التقاء الغيوم بعضها ببعض. خاف الناس من الرعد، ولا يزال الناس حتى اليوم يقولون: قدّوس، قدّوس، عندما ترعد السماء. الرعد، قال لهم موسى، يدلّهم على اللّه. كلا فاللّه لا يُرعد، اللّه لا يريد أن يخيفنا.

أما العبرانيون الذين رافقوا موسى، فكانوا خائفين، وقالوا له: لا يكلِّمْنا اللّه، بل كلّمْنا أنت. حرام على العبرانيين، وحرام على الكثيرين منّا اليوم: يفضلون أن يسمعوا كلام البشر بما فيه من تهدئة وطمأنينة كاذبة، كما كانوا في أيام إرميا: لا تخافوا، الأمور تسير بأحسن الطرق! كلا كلّمنا أنت بكلام بشري. ولكن كلام البشر يبقينا على مستوى البشر. ولا يرفعنا الى مستوى اللّه. كلّمنا أنت، يا ارميا، ولا يكلّمنا اللّه. خافوا من اللّه، ونحن نخاف من اللّه، كلّ مرة يكون ضميرنا متعباً، كل مرة نكون عائشين في الخطيئة، في الضياع. عندئذ نخاف من الربّ ونبتعد عنه، كما فعل الابن الضال.

يا ليتنا نأتي إليه! عاد الإبن الضال، وكان خائفاً، وكان راضياً أن يكون أجيراً بين الأجراء، لا إبناً بين الأبناء. ولكن، ما سمح له أبوه أن يكمل جملته، عبارته. أسكته قلبُه غمره حبُّه. جعل الابنَ الأصغر يعرف أن كلامه نافل، لا قيمة له، أنه يجب أن يسكت أمام مثل هذا الحبّ.

اللّه يكلّمنا من خلال الصوت الوديع، الصوت الهادئ، النسيم العليل، كما كان الأمر مع ايليا. ولهذا نحن لا نسمع الربّ بسبب الضجة والصخب. الله نسمعه في الصمت: أدخل مخدعك وأغلق بابك عليك. وصلِّ لأبيك في الخفية. صلِّ، يعني إجعل وصلة بينك وبين الربّ. صوتك هو الوصلة. أنصت الى الربّ، فالرب يسمع في الخفية. والرب لا يكلّمنا كأننا أرقام، يكلّم مئة ألف نسمة دفعة واحدة! كلا يكلّمنا واحداً واحداً كما تكلّم الأم كلَّ واحدٍ وحده وهكذا الربّ. كلّم اللّه أباءنا، وهو يكلّمنا اليوم وهنيئاً لنا، لأن هذه الكلمة صارت جسداً في شخص يسوع المسيح، وجعل الربّ الكنيسةَ حاملةً هذه الكلمة، وهي ترسل خداماً في العالم كلّه يحملون هذه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM