تحيّة للمؤرّخ كمال الصليبي

تحيّة للمؤرّخ كمال الصليبي

منذ سنة 1986، وأنا في رفقة الدكتور كمال الصليبي. وقد حاولتُ أكثر من مرّة أن ألتقي به لكي نتحاور شفهيًّا حول الهدف الأساسيّ لأبحاثه، وهو الذي كتب على مستوى التاريخ أمورًا ولا أروع، ولكن عبثًا. والآن، وقد صار في دار الخلد، نستطيع أن نتكلّم عنه بملء الاحترام لهذه المحاولة الجديدة التي أراد القيام بها. بدأها ولكن من يستعدّ لكي يواصلها، وهو الذي جعل معلوماته التاريخيّة والجغرافيّة الواسعة، بالإضافة إلى زيارة إلى منطقة في السعوديّة ، حيث جعل التوراة تولد، أي في بلاد السراة بين الطائف ومشارف اليمن؟ قرأ العهد القديم كما قرأ الأناجيل.

عرفت ثلاثة كتب على مستوى العهد القديم: التوراة جاءت من جزيرة العرب، سنة 1985. جاءت النسخة مترجمة عن الإلمانيّة ، وكان بودّ الكاتب أن ينشر أفكاره في الفرنسيّة والإنكليزيّة والهولنديّة. ولكنّ دور النشر تمنّعت بسبب أفكار ما اعتادت عليها أوروبّا. والثاني، خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل، عاد إلى كتابه الأوّل وأعاد النظر في بعض الأمور وانطلق يدرس عن يونان وأبرام وأبو رهم عدا نوحًا ويوسف في أرض مصرائيم. والكتاب الثالث حروب داود.

ما هي طريقة الصليبي؟ يقرأ النصوص في العبريّة، ويحاول أن يجد معاني جديدة لكلمات نُقلت منذ القديم إلى اليونانيّة والسريانيّة والأرمنيّة والقبطيّة، سواء قبل المسيح أو بعده. ثمّ يأخذنا إلى الجزيرة العربيّة.

أمّا في ما يخصّ الأناجيل، فعرفتُ البحث عن يسوع: قراءة جديدة في الأناجيل. ناقشتُه في مجلّة المسرّة سنة 2000 وقلتُ رأيي فيه آنذاك. وإلى هناك أخذنا الصليبي، إلى محطّ آماله، وإلى الحجاز حيث دُوِّنت الأناجيل في الآراميّة، فعرفها يوحنّا وبولس وغيرهما. وإلى تلك المنطقة أرسل الكاتب يهوذا الذي لم يشنق نفسه بل مضى يعيش حياةً سعيدة.

ما هي نتيجة هذه الدراسات بالنسبة إلى العالم العربي؟ عرّفت الناس بأسفار التوراة وبما في الأناجيل، ولكنّها شوَّهت الأمور العديدة. فمثلاً هناك اختلاف بين مريم وأمّ يسوع. هما شخصان لا شخص واحد.

وعرّفَتْني أنا القارئ العاديّ إلى منطقة عربيّة لم أكن أعرفها. وقرأتْ النصوص في عودة إلى اللغة العربيّة. والتقارب واضح بين "ع ب ر" العالم العبريّ و "ع ب ر" العالم العربيّ. وهو أمر اكتشفناه مع الشاعر يوسف الخال - رحمات الله عليه – حين كنّا نُترجم الكتاب المقدّس منذ سنة 1980. فمثلاً بدلاً من أن نقرأ في مز 84: وادي البكاء أو وادي الدموع، أو وادي بلسان، قرأنا وادي الجفاف من "بكأت البئر"، قلّ ماؤها.

وأرادتْ هذه الدراسات العودة إلى الأركيولوجيا وعلم الآثار. ووعدَتْنا بأنّه متى تمّت الحفريّات ستتبدّل أمور كثيرة بسبب المسؤولين عن الحفريّات، الآتين من الغرب. ومن سوف يأتي إلى الجزيرة العربيّة سوى أبناء الذين أتوا إلى فلسطين. لا شكّ في أنّ تشويهات عديدة  تأتي على يد علماء يتعبّدون للصهيونيّة ولماضي إسرائيل الحضاريّ، وهم الذين لم يكونوا يعرفون أن يُحدّدوا سكينًا أو منجلاً أو فأسًا أو معولاً، على ما قالوا في سفر صموئيل الأوّل (13/20). ولكن يبقى العلماء العلماء الذين نتأكّد من صدقيّتهم. فنحن ننظر إلى الأغراض التي وجدوا ونحكم. هنا أودّ أن أذكّر أنّ اكتشاف الأماكن يستند إلى أربع ركائز: اللغة، تدرس أصول الكلام. وهنا برع الدكتور الصليبي في التلاعب على الحروف. والركيزة الثانية، الجغرافيا. فالمدينة الواقعة على شاطئ البحر لا يمكن أن تكون في الصحراء. والركيزة الثالثة، التاريخ. هل نعرف ما كانت صور بنَقْدها الذي شابه الدولار اليوم، بمقابلته مع أيّ نقد، بحيث وُجد في قلب الهيكل. صارت عند الصليبي "واحة زور". وأخيرًا لا مكان مؤكَّدًا في الأركيولوجيا بدون الحفريّات. ولنا مثال على ذلك "قانا". فلا باحث يستطيع أن يقول بكلّ تأكيد: هي الموجودة في لبنان. مع أنّ النصوص العديدة تشير إلى هذا الموقع، من أوسيب القيصريّ إلى جيروم مترجم الكتاب المقدّس إلى اللاتينيّة. أمّا صرفت صيدا، الصرفند الحاليّة، فقد تمّت فيها الحفريّات، فتبيّن وجود موقع مع معبد.فإلى صرفت هذه جاء إيليّا النبيّ.

هذه الدراسات توقّفت عند فرع من فروع العبرانيّين كانوا في الجزيرة العربيّة. فهؤلاء البدو لم يأتوا من موضع واحد. فمنهم من لم يترك فلسطين أبدًا، خصوصًا أولئك المقيمين على شاطئ البحر.ومنهم من جاء من الجنوب مع أنّ الكتاب يقول إنّ الله منعهم من السير في طريق الفلسطيّين (خر13/17). فالفكرة روحيّة قبل أن تكون تاريخيّة. المعنى: كلّهم دخلوا معًا. كلّهم عبروا نهر الأردنّ، كما سبقوا وعبروا البحر الأحمر.

والإنجيل جاء في الآراميّة.كتب أوسيب القيصريّ أنّ إنجيل متى دُوّن في الآراميّة، وهذا واضح حين نرى التقارب بين النصوص الإسلاميّة ونصوص متى. ولكن لم نعثر على هذا النصّ حتى الآن. أمّا نصوص العهد الجديد التي بين أيدينا فهي كلّها في اليونانيّة. وما وصل إلينا من فم يسوع سوى أربع أو خمس عبارات: طليتا قومي، انفتح، إلوي إلوي لما سبكتاني... قال الباحثون إنّ خلفيّة الأناجيل خلفيّة آراميّة. لا شكّ في ذلك. ولكنّنا نمتلك نصوصًا يونانيّة تعود إلى بداية القرن الثاني المسيحيّ، ساعةَ لا نملك في الآراميّة نصًّا واحدًا. أتُرى من الجزيرة العربيّة جاءت كلّ كتب الديانات التوحيديّة؟ مسألةٌ فيها نظر.

جاء الدكتور الصليبي من الأصوليّة الأميركيّة التي لا تزال إلى اليوم ترسل البعثات لتبحث عن "فلك نوح"، إلى الأصوليّة الشرقيّة التي تقرأ النصوص المقدّسة ولا تجسر أن تلمس حرفًا واحدًا. فإن وُجد مثلاً في التوراة خطأ، نتركه في النصّ ونقول: هكذا كُتب. ونضع في الحاشية: هكذا نقرأ. حرّر الدكتور الصليبي هذا الجمود الحرفيّ في مدرسة Jesus Seminar حيث يحقّ التساؤل حول كلّ خبر وكلّ عبارة وكلّ لفظ. هي طريقة هدم لقلعة مقفلة يدور المؤمنون حولها ولا يستطيعون الدخول إليها. أمّا هذه المدرسة، ففتحت ثغرات، وحطّمت البناء. ولكن ماذا كانت النتيجة؟ لا شكّ أبعدت الناس عن "عقم" في قراءة الكتب المقدّسة، ودفعتهم إلى الدخول في المعنى الأخير، المعنى الروحيّ. ولكن عمليًّا، لا هي دخلت في قلب الكتاب، ولا علّمت الناس كيف يجمعون حُطام الكتاب بعد أن بعثروه. صار الكتاب المقدّس أمامَنا أشلاء.

قرأ الصليبي الأناجيل فرآها مختلفة في التفاصيل، وأحبَبْنا نحن الشرقيّين أن يكون لنا إنجيل واحد، كما فعل تاتيان السوري في القرن الثاني، فأعطانا الإنجيل الرباعي أو الدياتسارون. ولكن ماذا كانت النتيجة؟ تشويه للأناجيل. لأنّ كلّ إنجيل يقدّم نظرة لاهوتيّة إلى يسوع.، تنطلق من جماعة معيّنة استندت إلى التقليد ودوَّنت ما دوّنت بإلهام من الروح القدس. هناك اختلافات! لا شكّ. والحمدلله أنّ هناك اختلافات، وإلاّ حسبنا الأناجيل أربع نسخات عن نصٍّ واحد. أمّا طريق الصليبي فهي تقود في النهاية إلى القول بوجود التحريف، أو أقلّه القراءة الخاطئة. وهكذا لا بدّ من قراءة جديدة تفرغ الإنجيل من ماويّته.

هنا نعود إلى التاريخ. يقول الباحثون: لا نستطيع أن نتأكّد من التاريخ الموجود في كتب التوراة قبل المقابلة مع وثائق آتية من خارج العالم العبراني. وفي أيّ حال، لا يهتمّ الكاتب الملهم بالتاريخ إلاّ بالنسبة إلى المعنى اللاهوتيّ. ونأخذ مثلاً بسيطًا: قال سفر الملوك الأوّل (14/25-26): "وفي السنة الخامسة للملك رحبعام (بن سليمان) صعد شيشق ملك مصر لمحاربة أورشليم، فنهب كلّ ما في خزائن الهيكل..." وتساءل الباحثون ما هذا الخبر؟ إنّه مختلق. إلى أن وُجدت مدوَّنة في الكرنك يذكر فيها الفرعون 150 موقعًا استولى عليها في إسرائيل ويهوذا، من الشمال في سهل يزرعيل إلى أقصى الجنوب في النقب. ما يهمّ البيبليا، أورشليم والهيكل. وآخر همّها التاريخ. فلماذا نغوص في موقع لا يهتمّ له الكاتب إطلاقًا. تخيّلوا سليمان، هذا الملك العظيم ، يقضي عهده الطويل في بناء الهيكل! وأخاب هذا الملك الذي امتلك ألفَي مركبة وعشرة آلاف جنديّ، جعله الكاتب لا يعيش بحسب شريعة الربّ، ويقاتل إيليّا النبيّ! والبحث عن الجغرافيا؟ انطلق الصليبي من "جرار" حيث كان ابراهيم. وما أدراك ما هي "جرار"؟ المهمّ في نظر الكاتب لا المكان بل الأشخاص. اهتمّ بأن يُبيّن أنّ هناك تقوى عند الذين ليسوا مع ابراهيم، لا فقط عند العبرانيّين.

بحث في التاريخ، بحث في الجغرافيا. لا بأس وهو مجهود جبّار. ثمّ إنّ الصليبي أخذ طريقًا غير التي اعتاد عليها دارسو الكتب المقدّسة. ولكن ما كان الهدف النهائيّ؟ سواء وُجدَت الأماكن المذكورة في التوراة وفي الإنجيل في فلسطين أو في الجزيرة العربيّة، فما الذي يتغيّر في المعنى النهائيّ؟ فالله في التوراة هو إله ابراهيم واسحاق ويعقوب قبل أن يكون إله موضع من المواضع. فهو من أقام في خيمة. وحين أراد داود أن يبني للربّ بيتًا، قال له الربّ بفم ناتان: "ما سكنتُ بيتًا من يوم أخرجتُ بني إسرائيل من مصر حتى الآن، بل في خيمة كنتُ أنتقل معهم" (2صم7/6).

محاولة قام بها الدكتور الصليبيّ بعد أن كتب في التاريخ الحديث وفرحنا بكتاباته ولا سيّما في ما يتعلّق بالموارنة، وإن يكنْ رأينا غير رأيه بعض المرّات. هل من هدف أبعد من لذّة البحث؟ قيل هو مدفوع من البلدان العربيّة، وتحدّث بعضهم عن المال. وقال آخرون: هو مدفوع من إسرائيل وكأنّه يعلّمها أن تضع يدها على جزء من الجزيرة العربيّة. وكان لنا أن نجادله في مقالات عديدة ظهرت في المنارة، وفي المسرّة، وفي المجلّة الكهنوتيّة، وفي مجلّة دراسات الصادرة عن الجامعة اللبنانيّة. بل في المسيرة النجوى وأماكن أخرى. موقف أخذه وحاول الغوص فيه، ونحن نحترم ما فعل، ولكنّنا لا نسير معه إلى ما وصل، لأنّه نسي البعد الروحيّ في الكتب الإلهيّة وراح يمزّق النصوص ويشلّعها، ليصل إلى فكرة مسبقة وضعها أمامه، أو أخذها من تلك المجموعة الأميركيّة. فيا ليته، وهو المؤرّخ الناجح، عرف أن يوصل القرّاء إلى مكانٍ آخر، لكان خلّص نفسه والذين يسمعونه، كما قال الرسول (1تم1/4- 16).

 

في 28 تشرين الأوّل 2011

الخوري بولس الفغالي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM