القصيدة الثامنة:مجيء بنيامين إلى يوسف

القصيدة الثامنة

حين نزل بنيامين إلى يوسف أخيه

ونزل بنيامين إلى أخيه يوسف مع سائر إخوته، لكي ينجُّوا شمعون من السجن، ويدلُّوا على صدقهم في ما رووه "للمصريّ". فاستقبلهم القهرمان وإعجاب بنيامين بيوسف هو لم يعرفه. ولكنَّ قلبه شدَّه إليه. خاف أبناء يعقوب وهم يعيدون الفضَّة التي وجدوها في أكياسهم، ولكنَّ القهرمان هدَّأ من روعهم. وجاءت الساعة الحاسمة حيث يقابل يوسف إخوته ومعهم بنيامين: سأل عن أبيه، حدَّث بنيامين الذي لم يزل فتى. ولكنَّه لم يستطع أن يتمالك نفسه، فدخل إلى مخدعه وبكى، قبل أن يأمر قيِّم البيت بإعداد الطعام لإخوته. ثمَّ أجلس كلَّ واحد بحسب رتبته، رأوبين ثمَّ شمعون... وأعطى لبنيامين حصَّة مضاعفة. ويبدو أنَّ يوسف كلَّم شمعون فبدا أنَّه عالم بكلِّ شيء. وبعد أن شربوا كأس القيِّم لأنَّ يوسف لم يأكل معهم، أخذوا الحنطة وعادوا إلى بلادهم. ولكن لا. فالفضَّة أعيدت إلى أكياسهم، وكأس يوسف في كيس بنيامين. عندئذٍ أمر يوسف قيِّم البيت أن يلحق بالإخوة ويهدِّد ويتوعَّد ويتَّهم. رفض يهوذا الاتِّهام. ولكن لدى التفتيش بان أنَّ الكأس في كيس بنيامين. وكانت الضربة صاعقة: يُقبض على السارق (بنيامين) ويواصل الآخرون طريقهم. ولكن هذا لا يكون. فرجع الإخوة إلى القصر مع القيِّم، وأخذوا يوبِّخون بنيامين. دافع بنيامين عن نفسه: الذي وضع الفضَّة في أكياسهم هو الذي وضع الكأس (الجام) في كيسي. فردَّ الإخوة: هم يطالبون بالكأس لا بالفضَّة. استعدَّ بنيامين أن يبقى في مصر، فيحزن الوالد بعض الوقت ثمَّ يغفر كما فعل بالنسبة إلى يوسف. أُخبر يوسف بالحوار بين بنيامين وإخوته، فأدخلهم كلَّهم ووبَّخهم على السرقة. عندئذٍ أجاب يهوذا واستعطف يوسف لكي يطلق بنيامين، كما استعطفه سائر الإخوة. أعاد يوسف خبر الإخوة منذ البداية، مع ولادة راحيل حين بيع يوسف. ثمَّ دار كلامه بينه وبين بنيامين. وعاد يهوذا يستعطف: أو العقاب الكبير أو الرحمة.

وأتوا إلى مصر مع بنيامين

نعود إذًا إلى خبر نزول أبناء يعقوب (إلى مصر)

وكيف دخلوا إلى يوسف مع بنيامين أخيهم.

أتوا وأخذوا الصغير الذي طلبه سيِّدُ مصر.

وكانوا فرحين الطريقَ كلَّها بأنَّهم لم يُوجَدوا دجّالين.

5          "نذكر بالسلام أبانا يعقوب الذي وهب لنا أخانا بنيامين.

فمنا مفتوح لكي نكلِّم الرجل مثل صادقين.

في السفرة الأولى كنّا في ضيق عظيم.

وفي هذه (السفرة) لا يقدر أن يسحقنا لأنَّ الذي طلبه نزل معنا".

 

وقام يوسف كعادته وتطلَّع إلى طريق إخوته.

10         تعلَّقت عيناه: متى يرى أخاه بنيامين آتيًا.

"متى يأتون فأراهم وأرى أخي الذي آلمتُه.

الحرمان واليتم أيضًا من أمِّه ومن أخيه".

يسأل الناس الآتين ويتفقَّد الذاهبين،

ربَّما رأوا الذين أتوا، ربَّما رأوا الذين ارتحلوا.

15         وفي اليوم الذي فيه حضروا راقبت عيناه الطريق.

ورفع عينيه وتطلَّع وها جوق إخوته طلع عليه.

نظر ورأى من بعيد وعرف أخاه ابنَ أمِّه.

لبسَ قلبُه الفرح لأنَّه رأى مُحبَّه معهم.

قام الرؤساء قدَّامه وأحاط به جوقُ النبلاء.

20         الجموع والشعوب الكثيرة تسجد له كما للملك.

فاستقبلهم قيِّمُ البيت

أمر يوسفُ قيِّمَ البيت: "اخرج للقاء هؤلاء الرجال.

ولا تتركْهم يأتون إلى هنا فيستريحون في بيت راحتي".

اضطرمت مراحم يوسف وخاف أن يبكي قدَّام المصريّين

حين يرى حبيبه فيهزأ به الناظرون.

25         وطلب أن يُدخل إلى البيت، فإن بكى لا يراه أحد.

وإذ غلبته مراحمه لا يُستهزأ به في مُخدعه.

مضى قيِّمُ البيت وبلغ إلى الرجال كما أُمر

سلَّموا كلُّهم عليه وحنوا قدَّامه رؤوسهم:

"أيُّها القهرمان، ما هذا الصنيع الكبير من سيِّدك العظيم الذي               يستقبلنا

30         فكما نراك في راحة نرى سيِّدك بسلام".

فاقترب بنيامين وقال ليهوذا عن الرجل:

"قل لي: لعلَّ هذا هو الرجل العظيم الذي طلبني.

ها لباسه رفيع ووجهه جميل ومحبوب.

وها هو أتى لمقابلتنا كأنَّه وُضع له هذا الموعد معنا".

 

35         "لا تشبِّه العبدَ بسيِّده ولا قيِّمَ البيت بربِّ البيت

فهذا عبدٌ وذاك حُرٌّ فلا تصغِّر هذه العظمة.

شرعتَ تتكلَّم، يا أخي، وها جهالتك بانت

فلا تحبَّ التكلُّم لأنَّك لا تعرف فنونه".

دهش بنيامين في وجدانه وفكَّر في قلبه:

40         "إذا كان العبدُ هكذا عظيمًا، فسيِّده من يُشبه

وإذا كان كلام العبد هكذا ضياء كبيرًا

فإذا فتح سيِّدُه فمه تقطر شفاهُه النار.

بحياتك يا أخي يهوذا، أرِني سيِّدَه من بعد

فأرى الرجل الذي مجَّدتم واندهشتم من الجمال الذي فيه".

45         "هو معروف من كلِّ إنسان بالمنظر وبالعظمة.

عُلِّقت قلادة في عنقه ولبس جسمه الحريرَ معطفًا.

انظر إلى مركبته الموقَّرة ومنها تعلَّم من هو سيِّدُها.

ومركبته وثيابه حقيرتان تجاه حسن جلالته".

 

ولكنَّهم توجَّسوا من وجودهم في بيت يوسف

رأى بنيامين العظمة، فخاف قبل أن يبلغ إليها

50         "كيف أقدر أن أقف قدَّام هذا الذي معطفه شعاعات الشمس؟

ولذلك أخطأتم إذا افتخرتم وسبَّحتم (بحمدي)

وما حسبتم أنَّه يطلبني فكلَّمتموه بمباهاة

ففكَّر إنطلاقًا من كلامكم أنَّكم تملكون أخًا جبّارًا

طلب أن يراني إن كنت أقدر أن أشاهده كما رويتم.

55         طوباها مصر وطوباه سيِّدها وما أبهى الشمس المتلألئة منها.

وطوبى للبلد التي وهبت لها موهبة الرحمة مثل هذه".

"هو يعاملنا بواحد من اثنين: مثل قويٍّ أو مثل ضعيف

أو يرفع مجدنا ويكثر أو يحطُّنا إلى الأسافل.

نخبر قيِّم البيت لئلاَّ نكون له مثل سارقين

60         ونكلِّمه في شأن الفضَّة الأولى التي عادت معنا.

"في السفرة التي قبل هذه، لمّا وافينا إلى مصر

أمر سيِّدُك العظيم أن تُملأ أكياسنا حنطة.

خرجنا من هنا في الحزن لأنَّ أخانا شمعون لبث في الحبس.

وما اهتممنا بأمر آخر لأنَّ انشغال بالنا لم يسمح لنا.

65         بلغنا في الطريق إلى المبيت لنرمي العلف لحميرنا

فتحنا أكياسنا فوجدنا فيها الفضَّة التي أعطيناك.

ففكَّرنا أن نقول لك لئلاَّ تتَّخذنا مثل سارقين.

وإن كان في ذلك ضرر تعالجه بحكمتك.

ها هي الفضَّة الأولى أتينا بها غير ناقصة

70         وأتينا بفضَّة أخرى لنأخذ القوت للجياع".

 

فطمأنهم قيِّمُ البيت

فتح قيِّم البيت فمه وبحكمة كلَّمهم:

"لا ترتهبوا من هذا، فأنا أخذتُ الفضَّةَ منكم

هو الإله الذي عبده أبوكم ذاك الصدِّيق،

هو في فم أحمالكم وضع الكنوز في أكياسكم.

75         فتعالوا، ادخلوا والبثوا هنا إلى أن يأتي موعد الظهر فيدخل

لا تكونوا قائمين مسحوقين، ابدأوا وارتاحوا من تعبكم.

بحياتكم أروني الصبيَّ الذي اسمه بنيامين.

فسيِّدي أمرني هكذا بأن أرى الصبيَّ الذي جئتم به".

فقرَّبوا إليه بنيامين فنظر إليه العبد، قيِّمُ البيت:

80         "هل عرفتَ يا ابني كم من الضيقات رأى إخوتك لأجلك؟

فأنتَ لست من الجبابرة لكنَّ منظرك أعظم من أن يُمدَح.

فما الذي في الوسط أنَّ سيِّدي أعطى الأوامر من أجلك.

لعلَّ هناك شيئًا عجيبًا، مخفيًّا في قلب من طلبك

فسيِّدي يعرف الخفايا، وربَّما أدرك فيك شيئًا من الأشياء".

 

85         وانتظروا خائفين، مرتعدين: متى يدخل

حملوا بأيديهم الهدايا التي أرسلها أبوهم

وما عرف الضعفاء كيف سوف يلتقي بهم.

فاجتهدوا في الصلاة لكي يُمنَع عنهم تأديبه.

"اليوم تتمُّ في مصر بركات أبينا يعقوب،

90         وصلاة الشيخ تنجِّينا من قساوة المصريّين".

 

ودخل يوسف

وإذ هم يفكِّرون، دخل يوسف وأتى إليهم

فسقطوا كلُّهم وسجدوا له وقدَّموا له تقادمهم.

فرفع عينيه نحو بنيامين، وتأمَّل في ابن أمِّه،

وما استطاع أن يحتمل من الأشجان التي صعدت فيه.

95         رأى الأخُ أخاه والطبعُ طلب حقوقه

تحرَّكت أعضاء الاثنين في مشاركة الطبيعة

قمعَ محبَّة الأخوَّة وفي ضيقٍ تكلَّم معهم.

اضطرَّت الأشجان قلبه فضايق هوى طبيعته.

غلب واحدًا وأخرج واحدًا وخبَّأ واحدًا وقال آخر.

100       أخَّر بكاءه ومنع ألمه وسأل عن (سلامة) أبيه:

 

"أحيٌّ هو أبوكم الشيخ فأرسلتم بكلمته؟

هل شيخوخته محفوظة بسلام؟ بحياتكم أعلموني.

هذا الأصل الذي وَلد هذه الأغصان، هل لا يزال قائمًا بسلام؟

من صوت جفنة البارّ، خرجتم من أصله".

105       فأجابوه قائلين: "عبدك أبونا لا يزال قائمًا (بسلام)

وهو يسجد لك من بعد ويصلِّي لتبقى قائمًا (في سلطانك)".

ثمَّ رفع عينيه ورأى ابن أبيه وابن أمِّه

وسأل وكأنَّه لا يعرف إن كانوا أتوا بالصغير.

"قلتم لي أنَّكم تأتون به، وكفلتم لي وأقسمتم.

110       أخذتُ شمعون رهينة لكي تأتوا ببنيامين إلى بلدنا".

 

فركضوا كلُّهم وقرَّبوا له بنيامين ذاك الذي طلبه:

"يا سيِّدنا، هذا هو بنيامين الذي سحقتنا لأجله

يا سيِّدي، كان لهذا أخ خرج وفُقد منّا.

وهذا الجمال الذي أخبرناك عنه (اتَّصف) به أخو هذا الصبيّ".

115       فحزن يوسف البارُّ حين سمع هذه (الأقوال)

وجاشت نفسه فتذكَّر راحيل حين رأى حبيبها.

"أهذا هو الذي قلتم لي: لديه ضيقان اثنان:

واحد لأنَّ أمَّه راحيل ماتت وآخر لأنَّه فقد أخاه؟"

ووضع يوسف البارُّ يده فوق رأس بنيامين،

120       وفتح فمه وباركه فأنصت إخوتُه إلى بركاته:

"الله الذي امتلك السماء هو يرحم فتوَّتك

ويجيز الآلام التي عليك ويريك أخاك في الغربة

والله الذي عبده يعقوب الشيخ أبوكم

يأمر الأقطار الأربعة لتنصبَّ عليك البركات

125       ولأنَّك متعطِّش لكي ترى أخاك ترتاح نفسُك برؤيته.

وتقول لي بعد حين: صدقت البركات التي باركتني بها.

وتعلم أنَّ الأبرار الذين في مصر هم طيِّبون مثل الأبرار في أرضك

وتتحقَّق من البارِّ الذي يباركك حين تتمُّ مباركاته".

 

ثمَّ دخل مخدعه وبكى

قال يوسف هذه (الأقوال) واتَّقد قلبه من الداخل

130       وجاشت أعضاؤه من الحزن حين قابل أخاه.

رأى أنَّ شدَّة بكائه غلبته فألقى بنفسه في مخدعه

دخل وبكى ذاك الحكيم وذرف دموع الأشجان.

دخل وبكى بكاء شجيًّا داخل مقصورته وقد أخذ منه الحياء،

لئلاَّ يرى إخوتُه بكاءه ولا المصريّون عويله.

135       تذكَّر الأحلام التي حلم فدخل إلى مقصورته وبكى

وشكر هناك إلهه لأنَّ كرامته كانت أكثر من أحلامه.

أخضع له إحدى عشرة حزمة هذه التي حلم بها في حلمه.

وها إنَّ حزمًا لا تُعدُّ تسجد له في أرض مصر.

فمن يقدر أن يحتفظ عشرين سنة بحلم (حلمه)؟

140       احتفظ يوسف فأتت أحلامه ووهبت الجزاء واحدًا بمئة.

أحلامُ يوسف تجّارٌ ووافت إليه بعد سنين.

تضاعفت تجارته وتثلَّثت فنسي بغناه هذا الذي تأخَّر.

وبعد أن بكى بكاء كثيرًا كفكف دموعه عن عينيه.

وغلب نفسه وشدَّ مراحمه ثمَّ خرج وتكلَّم

145       خرج أيضًا فرآهم خائفين ومرتعبين.

ففهم مثل إنسان حكيم أنَّ ما فعله أرهبهم.

 

وأمر بإعداد الطعام

أمرَ يوسفُ قيِّم البيت حين خرج من مخدعه:

"أعدَّ الطعام الذي أمرتك به، فهؤلاء الرجال يأكلون معي".

(قدَّم) للعبرانيّين لهم وحدهم، وللمصريّين لهم وحدهم.

150       ميَّزت الوليمةُ الواحد عن الآخر لأنَّهم لا يستطيعون أن يأكلوا معًا.

فرح إخوة يوسف كلُّهم وتعجَّبوا الواحد مع الواحد:

"لماذا ملك المصريِّين يُكرم الكنعانيّين؟

نطلب أن لا نأكل بدلاً من أن نقوم ونتعذَّب.

ربَّما بعد أكلنا يدخلنا إلى عذابات قاسية.

155       دعانا، أولم لنا، أكلْنا، ثمَّ يخرج ويجلس لمحاكمتنا.

قبْل الخبز نرغب أن يحاكمنا إن هو شاء

ماذا ستولِّد لنا المخالطة مع الرؤساء؟

وأيُّ بطن تولِّد لنا وليمتنا بين المصريّين؟

حاشا له بعد بركاته أن يكون علينا شديدًا

160       وهذا الذي باركنا كلَّ هذه (البركات) أيقدر أن يفعل بنا شرًّا؟

فالآن نحن نمالحُه لكي بملحه يأخذ عادتنا (السيِّئة)

وربَّما كان أكلنا حصنًا لتبطل عنَّا شدَّة (غضبه)

وإن كان في ضميره شرٌّ لا يقدر أن يفعل شيئًا بنا.

فما أدخلنا وأولم لنا ثمَّ قام يعذِّبنا ويحكم علينا.

165       فما أعظم حكمته والمعرفة المُفاضة فيه!

عرف إرادتنا فما أمر أن نأكل مع المصريّين

ها الخفايا خليَّة له وأقفالُ الحكمة الخفيَّة.

فنحن ما كشفنا له عن وجداننا فعرف ما هي إرادتنا".

 

فاتَّكأ إخوةُ يوسف

وإذ كانوا يفكِّرون في هذه الأمور وبأفضل منها،

170       خرج قيِّم البيت إلى سيِّده ليدخل الناس إلى الوليمة.

فدخل يوسف مثل رئيس ودخل بعده المصريّون

وبعدهم دخل العبرانيّون في الفزع والرعدة.

طلب يوسف أن يبيِّن فخَّه ليرى الذهل في زمرتهم

وإذ هو لا يعرف الرجال ميَّز الأسماء والدرجات.

175       فعرف (زمن) ولادتهم والأخ الأكبر من رفيقه.

"أبيِّن لكم فعلاً ثمَّ تصدِّقون في ضمائركم

إن كنت لا أعرف الخفايا فاكتبوني بين الدجّالين.

وإن كنت أدرك السرائر فآمنوا بأنِّي أعرف كلَّ شيء.

رأوبين هو بكر زمرتكم وبعده شمعون ابن أمِّه.

180       هذان يأخذان المقعدين الأوَّلين، ثمَّ لاوي ويهوذا".

ودخل أبناء ليئة أوَّلاً وبعدهم أبناء الأمتين (زلفة ولبلهة)

ومثل عارف بالخفايا أتكأهم على الطعام.

فرمى الدهشة في العبرانيّين لأنَّه عرفهم بأسمائهم.

"من هو هذا الرجل الذي حضرنا بين يديه؟

185       فلو أنّه تربّى معنا لما كان ميَّزنا هكذا.

ولو لم يعرفنا معرفة لما أتكأنا بهذا الترتيب".

ما أمسك أسماء الرجال بل أمسك الوجه أيضًا

يلقي فقط نظره فيميِّز من هو الأكبر.

 

وتكلَّم شمعون

قال شمعون لإخوته: "لا يُوجَد بين الناس الحكماء

190       مثل إدراك هذا الرجل الذي يعرف السرائر.

نأكل معه الخبز حالاً، وقوموا نرى كيف نمضي.

لا نتأخَّر في مصر لئلاَّ نكون فيها عبيدًا إلى الأبد.

بنيامين متَّكئ معنا وأنا أخاف ممّا يقول.

فويلنا إن هو فكَّر وأظهر جهلاً بسبب يوسف.

195       ربَّما أحسَّ من أجله واستقدم كتبة المصريّين

يُرسل فيعرف منهم أنَّنا بعنا أخانا يوسف.

ويعلم أنَّنا جعلناه عبدًا ويدرك أنَّنا أخذنا ثمنه.

إذًا نبلى هناك في السجن وإلى الأبد.

فمتى نخرج من مصر نشكره لأنَّه صرفنا من عنده.

200       فمن أرسلنا إلى هذا الذي يعرف الخفايا؟

وإن هو أراد لا تُخفى عليه الخطايا التي فعلنا.

فيُدخلنا إلى المحاكمة العظيمة حين نقوم عن المائدة.

فيا ما أقسى مأكلنا الذي أكلناه في العذاب.

كان أفضل لنا كلِّنا بكثير لو بقينا في بلادنا".

205       وإذ كان هؤلاء يفكِّرون وهم جالسون إلى المائدة

حمل عبيدُ يوسف وأتوا بالحصص لكلِّ واحد بحسبه

وأرسل إلى بنيامين أفضل من خمس حصص.

تجلَّد وأمسك دموعه وأفاض مراحمه في حصَّته (= حصَّة بنيامين).

وطلب يوسف وهو على المائدة أن يكشف لأخيه بالروح

210       وبانتظار أن يكشف له عن نفسه يتعزَّى على فراقه:

"العلامة التي رأينا، هي مملوءة أمان إن تمَّت

فإذ ارسل لنا هذه الحصص حُسبنا أحبّاء ورفاقًا".

 

سقاهم القيِّم حتّى سكروا

وأمر يوسف قيِّم بيته: "اسقِ القوم وامرهم (على الشرب)

فتطغى عقولهم بخمرة الملوك التي يشربون.

215       وكلِّمهم على عادات الذين يشربون مع الملوك:

هؤلاء المدعوُّون يشربون كما تأمر عظمته.

تخرج الخمرة الرئيسيَّة المعتَّقة التي تسبي الألباب.

ولتأتِ الكؤوس مترعة وإن لم يريدوا يُجبَرون.

ما أطلب أن أفعل أن أطفِّي عقولهم بالخمر

220       فحين تتبلبل أذهانُهم يسهل لنا العمل".

فأسرع القيِّم وأتمَّ الأمرَ كما أُمر

فسقى الناس وأجبرهم ليُتمَّ أمرَ سيِّده

فاختفى العقل في لباس السحر.

فسكَّر حياض العقل صداعُ الخمرة الكثيرة.

 

وجرفهم فشكروه

225       وأمره: "من بعد الخمر، املأ أكياسهم قمحًا.

ومتى ملأتَ الأحمال تعرَّف إلى كيس بنيامين.

وكأس الفضَّة الكبير ضعْه في كيس الصغير

واجعلْ فضَّة (كلِّ) رجل في حمله دون أن يدري.

وتخبِّئ داخلَ أكياسهم ثمن الحنطة الذي أعطوه.

230       ضعِ الفضَّة في أحمالهم وكأسي في حمل بنيامين.

تُعدْ ذلك منذ المساء حتّى يكونوا مرتحلين في الصباح.

وأنا سيِّدك وأنت قيِّم بيتي، وحدنا نعرف بالسرّ".

فاقترب إلى إخوة يوسف وقال لهم هكذا:

"أيُّها الرجال، أعطوني أكياسكم وأنا أتعب لأجلكم

235       فأهتمَّ بأن أصرفكم وأعتني بأن تذهبوا في الصباح".

فبسطوا كلُّهم أكياسهم وفرحوا بأنَّه أمرهم هذا الأمر.

"ها نحن الآن نرتحل من مصر بسلام

أعَدُّوا الأحمال من المساء لكي ينطلقوا في الصباح.

طمر الفضَّة داخل أكياسهم وفرحوا بأنَّه أمرهم هذا الأمر.

240       ولمّا أشرق الصباح وصحوا من الخمر قام الرجال وتأهَّبوا للسفر.

 

ودخلوا كلُّهم ليشكروا معًا سويَّة:

"إذا كنّا كلُّنا أفواهًا، لا نكفي لكي نشكرك

فمن يقدر أن يكافئ عظمته تجاه ما أظهر من مراحم.

فلو كنتَ يا سيِّدي أخانا لما كنت رفعتنا أكثر

245       أجلستنا إلى مائدتك وكرَّمتنا في مملكتك.

أنت هو الأب في مصر ونحن أناس شحّاذون.

تنازلَتْ رفعتُك وتكلَّمت مع مساكين (فقراء)

ونحن إن كنّا مساكين فلسنا بدجّالين.

وما قلنا في شأن بنيامين حقَّقناه حين أتينا به.

250       قام عبيدُ عليائك فخدموا عبيد عبيدك.

خفنا من قساوتك فبيَّنت لنا عذوبتك.

إله يعقوب أبينا هو كشف لك حالنا.

نمضي أيضًا وقدَّامه نروي خبرنا الطيِّب

فالبَثْ يا سيِّدنا بسلام وانظر أنَّنا تثبَّتنا من أمرك.

255       ها الأحمال موضوعة ومملوءة فنطلب السلام في طريقنا".

 

فضحك يوسف في ضميره بما فعله قيِّمُ البيت

فالكأس والفضَّة في فم الأحمال وهم سريعًا سيعودون.

"امضوا بالسلام أيُّها العبرانيُّون الذين كرِّموا لدى المصريّين

ولا تنسونا ولا تنسوا أرضنا التي تحملون من ثمارها.

260       سلِّموا على أبيكم من هذا المنزل الذي استقبلكم

وإذا نقص القوت، تعالوا إلينا ولا تخافوا.

 

وانطلق أبناء يعقوب

أحد عشر رجلاً عبريًّا أسرعوا وخرجوا من مصر

وفزعوا ربَّما تكون مؤامرة ويعيدونهم.

"وهبَ لنا الحنطة وأكثر وكرَّمنا أطيب إكرام

265       وما طلب أيضًا كعادته أن يُبقي واحدًا منّا لديه.

ورأس كلِّ أفراحنا أنَّ بنيامين أتى معنا.

فتبتهج شيخوخة (أبينا) بعودة حبيبه إليه.

وكان لنا فزع واحد أن لا يعيدنا أمرُه (إلى مصر).

فإن أبعدنا من بلاده صرنا فوق الفزع منه

270       لنعبر عاجلاً من مصر فلا نقدر أن نتَّكل عليها

فالرجل يركِّب الأسباب ليُتمَّ بنا إرادتَه".

وما إن ابتعدوا من داخل مصر حتّى دعا يوسف قيِّم البيت:

"قُمْ، الحقْ بالرجال فتدركهم في الطريق.

وكلِّمهم كلامًا قاسيًا كرجال سرقوك وهربوا.

275       ولا تبيِّن لهم وجهك الذي يحمل الأمان كعادتك.

ليكن وجهك مقطَّبًا مثل وجه المصريِّين.

وأرهم وجهًا مكفهرًّا مثل وجه الأقباط.

وحالَ تدرك زمرتهم، صِحْ فيهم وأكثر دون أن تخاف

هي لك مناسبة لتوبيخهم بأنَّك تجد الكأس في كيسهم:

280       أيُّها الأبرار، لستم بأبرار، بهذا تبدأ مضايقتكم

قدَّام سيِّدي أخزيتموني لأنَّكم سرقتم الكأس الكبير.

يا لابسي حلَّة (الفضيلة) وأنتم بعيدون عن العمل (بها)

ما أعذب أقوالكم وما أمرَّ سرقاتكم".

وحين تُخرج الكأس من فم حمل الصغير.

285       أملْ أذنك وامتلئ من الكلمات التي يقولونها كلَّ الطريق.

 

فلحق بهم القيِّم وهدَّدهم

هؤلاء كانوا يتحدَّثون في الطريق عن الرجل وعن فضله

وقيِّمُ البيت أسرع فلاحقهم ومضى في إثرهم.

"ربَّما طلب أن يعلم شيئًا. نتوقَّف ونصنع إرادته

ما وهب لنا أن يتمَّ خروجنا في الابتهاج.

290       فما أقسى مصر علينا وهي لا تشبع من تعذيبنا.

ويا للرجل الذي تكثر تقلُّباته تجاهنا في ساعة واحدة.

ويل لنا، فهو ربَّما يحسب الغدر ببنيامين.

فزوَّدنا وأطلقنا بسلام وها قيِّمُ بيته يلاحقنا.

ألعلَّ الفضَّة أعيدَتْ برفقتنا كما في المرَّة الأولى.

295       من أجل هذا لاحقنا وأتى ليأخذ فضَّة شرائنا.

إلى أن يأتي قيِّمُ البيت نكون ديّانين لنفوسنا.

وإذا أمسك واحدًا منّا لأمرٍ ما، نعترف له أنَّنا نقدر أن نعالجه

لا نعرف ماذا فعلنا من مشين بين المصريّين.

في المساء أَعطينا لقيِّم البيت فضَّة ما اشتريناه

300       وما صنع العبرانيّون أيَّة إساءة للمصريّين.

برفَّة عين هنا وهناك ينقلبون في ساعة واحدة

قيِّمُ البيت لاحقنا وأتى وغضبه مفروش على وجهه".

 

اقتنى وجهًا منقلبًا وأكثر الفزع على الرجال

كلَّمهم كلامًا قاسيًا ورمى الرعدة في زمرتهم:

305       "أيُّها العبرانيّون، لماذا أخزيتموني بعملكم

أكرمتكم كثيرًا فتواقحتم أكثر

قمتُ أنا قدَّامكم فسُحقت بمكر منكم.

حملت الأثقال قدَّامكم وما حسبتها تعبًا

وظننتُ من أقوالكم أنَّكم بالحقيقة أبرار

310       هربت البرارة منكم وانكشف الزيف فيكم.

بعتم الحقيقة واقتنيتم الكذب.

اليوم يقطع سيِّدي سلطاني وأنا رحيم مثله

صدَّقتُ أقوالاً قلتموها وسُرقت بريائكم.

وما استنكفتم وأنتم تردِّدون: "نحن أبرار وأبونا بارّ

315       ولد اثني عشر بارًّا بعيدين عن أيِّ لوم

فأبوكم ليس بارًّا إذا كنتم أنتم تشبهونه.

فلا يقدر هذا البارُّ أن يلد أحد عشر سارقًا

كم كفرتم بالنعمة لما صنعنا لكم!

وتواقحتم ورددتم على المائدة التي أشبعتكم.

320       ربَّما تكونون صنعتم إساءات كثيرة في الأماكن

وبهذه التي أمسكناكم تنالون جزاء كلِّ ما فعلتم.

أيليق أن تجازوا بالسوء الرجلَ الذي تعبَ وخدمكم؟

فكأنِّي ما تعبتُ قدَّامكم وها أنتم في الطريق توفوني تعبي.

أهبُ لرجليَّ الشكر لأنَّهما جعلتموني بريئًا

325       ولو أنَّهما تهاونتا قليلاً لكنتُ أبلى في السجن".

 

وردَّ يهوذا على القيِّم

اقترب يهوذا وقال لقيِّم بيت أخيه يوسف:

"أمسك قلبك وأرِحْ سخطك لكي نعتذر أمام طلبك.

لا نعرف أنَّنا سرقنا، ففتحتَ فمك وأهنتنا

كرَّمتنا مثل الملوك وأهنتنا مثل سارقين.

330       أنت تفكِّر أنَّنا سرقنا بيِّن بجلاء ذنوبنا

وإن ظهر جرمُنا به يكثر خجلُنا.

يا من كرَّمتنا كلَّ إكرام لا تُبدْ أجر تعبك

وإن كنتَ تهيننا ظلمًا يلبث سعيُك بلا ثمر".

قال العبد: "أخاف أن أذكر ما فعلتم

335       ولا يستطيع لساني أن يروي هذا الشرَّ الذي فعلتم.

حين خروجكم من مصر سرقتم الكأس التي تجلو الخفايا.

كأس اقتنت معرفة خفيَّة وهي تكشف كلَّ ما عمل.

ولعلَّكم عرفتم قدرتها واشتهيتم جمالها.

لكي تتاجروا بها في البلدان لأنَّها تقدر أن تعلِّم الخفايا.

340       فما عن أمل خفيٍّ وجليٍّ إلاَّ وتعرفه هذه الكأس.

وبسبب القوَّة التي فيها صار سيِّدها موقَّرًا في مصر".

 

ويتواصل الكلام

وقال يهوذا لقيِّم البيت: امنع لسانك عن إهانتنا

ولا تأتِ على حرِّيَّتنا بالسرقة المخزية.

أريناك الفضَّة الأولى وأعلمناك بما حصل

345       فلماذا تدعو سارقين أناسًا أعادوا ما ضاع؟

رفضنا الفضَّة في بلادنا، فهل نسرق الكأس في أرضك؟

لينظر عدلك في صنعنا ولا يكن بعيدًا عن اللياقة.

ها أنت اختبرتَ صدقنا وعلمتَ أمورًا حول حالنا.

أتيتَ لنا مرتابًا فتمضي ووجدانك واثق

350       نضعُ الأحمال قدَّامك فتفتِّشها كلَّها معًا.

فإن وُجدت كأسك معنا نكون عبيدًا بسببه.

فخذِ الأحمال وحلَّها وفتِّشها من الأوَّل إلى الأخير.

من حمل رأوبين الكبير إلى حمل بنيامين".

بحكمة فعل قيِّمُ البيت لكي يبلبل أفكارهم،

355       في النهاية يمضي ويطلب الكيس الذي فيه الكأس.

فأسرع رأوبين وفتح حمله، فتَّش العبد فما وجد شيئًا.

أمّا رأوبين فوجد في حمله الفضَّة التي اشترى بها.

 

شجَّعهم قيِّم البيت: "لا ترتهبوا من هذا

إن لم أجد الكأس فلن ينالكم خسران".

360       ها هو يفتِّش يدًا بعد يد ولا يعمل بسرعة.

وحزن في نصف الأحمال لأنَّه لم يجد ما فُقد.

"لم أجد الكأس وها أنا جعلتكم سارقين

وحصل اليوم أنَّكم أُهنتم ربَّما عن سوء نيَّة".

فاقترب يهوذا وقال لقيِّم البيت بوداعة:

365       "فتِّش يا سيِّدي كلَّ الأحمال وحينئذٍ تنصرف عنّا

ولا ينسحق وجدانك إذا فتَّشت وما وجدتَ شيئًا.

فما بقي واحد من الأحمال إلاَّ وأتينا به لكي تفتِّشه

فإن وجدتَه تكون حقًّا فوق كلِّ ملامة.

وإذا كأسُك لم يخرج معنا حرَّرتنا من الذنب

370       فتِّشْ حتّى حمل بنيامين الصغير

ولا نتركك تفارقنا وقلبك مرتاب في شأننا".

ووصل القيِّم إلى الحمل الصغير

ولمّا بلغ قيِّم البيت إلى الحمل الأخير وقف في انذهال

"الآن قطعتُ الأمل وما وجدتُ الكأس

كلُّ الأحمال انتهت وانتهت أيّام حياتي،

375       لأنَّ الكأس لن يعود إلى يديَّ. والآن يأتي الموتُ للقائي

فإذا فتَّشتُ هذا الحمل وما وجدتُ الكأس فيه

ذهبتُ معكم، رافقتكم لأنِّي أخاف أن أرجع إلى سيِّدي".

فأسرعوا كلُّهم بفرح وحلُّوا كيس بنيامين

"هذا الذي يكون لك هو عظيم لأنَّ بها تشتهر ظلامتنا".

380       فرمى قيِّم البيت يده في الحمل الأخير، حمل الصغير

فسكنت يده على الكأس فتغيَّر لونُ وجهه

فحمل الكأس بيمينه وجذبه وأخرجه من الكيس

ثمَّ رفع يده وبيَّن الكأس فبلبل الحزنُ العبرانيّين.

"طمرتم هذا الكأس في الحمل الأخير، حمل الصغير

385       وقلتم: ربَّما يضجر ولا يبحث في كلِّ الأحمال.

وإذ كنتُ حزينًا، ابتهجت في الأخير أكثر من كلِّ الأحمال

يا لذكر كيسك يا بنيامين، منع عنِّي اليوم الموت".

 

في الحال لبس إخوة يوسف الحزن وخزي الوجوه

وخطف الكأسُ اللون الجميل الذي كان حلَّ على وجوههم.

390       هربت كلماتهم، اختفت. خافوا وارتخت كلماتهم.

كنَّت حركاتُ حواسِّهم، بُطلَب حين ظهرت فجأة سرقاتهم.

وفي الحال صار العبرانيّون مثل الموتى من الحزن

الكأس الذي خرج من الكيس ألبسهم العار.

خارت قوَّة أعضائهم وانحلَّت خرز ظهرهم.

395       ضربتهم ريح الكأس فتهاووا هنا وهناك.

فسالت دموع عيونهم وطأطأوا إلى الأرض رؤوسهم.

ولو يقدروا أن يكشفوا وجوههم لينظروا إلى قيِّم البيت

الضباب قدَّام عيونهم والظلام أعماهم.

الهواء هناك بلبلهم وأفسد ما لهم

400       واحدٌ يبكي على رفيقه والأخ على ابن غضبه

الجوق كلُّه اضطرب لأنَّهم أُمسكوا كسارقين.

مزَّقوا ثيابهم على ما كان لهم وتجرَّدوا منها.

شقُّوا أردية يلبسونها وقاموا عراة وهم يبكون.

بكى رأوبين على شمعون وشمعون بكى على لاوي.

405       بكى لاوي الجبّار على يهوذا الحكيم.

بكى يهوذا الحكيم على بنيامين السارق.

تبلبلت الزمرة كلُّها وأعدلوا بالبكاء بصوت واحد.

حبائل الناس الأبرار، كيف افتضحت اليوم

"بأيِّ أقوال نلوذ لنطلب من أجل ذنبنا

410       هو لا يقبلنا في العبوديَّة بعد أن وُجدنا سارقين

وماذا ينفع العبيدُ رجلاً أمسك السرقة عندهم؟"

قرار القيِّم

أجاب القيِّم: "حاشا لي أن أجازيكم بما فعلتم.

فلا أقدر أن أسيء إليكم كما أنتم أسأتم إليَّ.

ولا أطلب منكم أن تبقوا وتكونوا عبيدًا في مصر.

415       فالذي سرق الكأس هو يبقى وأنتم اصعدوا وامضوا بسلام.

ها بنيامين هذا الذي أتيتم به أخجلكم.

فيذهب السارق مع سرقته وأنتم لا تكونون عبيدًا.

"كيف نتكلَّم وبماذا نعتذر على ما جرى؟

خرج منّا عقلنا بالجنحة التي خرجت من كيسنا.

420       فلا نقدر أن نسلِّمك هذا الذي أخزانا كيسُه.

كلُّنا ندخل معك (إلى مصر) ونكون عبيدًا لسيِّدك.

إن طلب أن يرفق بنا ويرحمنا مثل أناس أشرار،

فمن الآن لا يكون لنا ما به نبرِّر موقفنا".

 

ورجع الأخوة

أداروا الدواب من الطريق ودخلوا (إلى مصر) مع قيِّم البيت

425       خرجوا منها مبتهجين وها هم يدخلونها عابسين.

لماذا يا بنيامين جعلتنا عارًا قدَّام الرجل؟

لماذا أضرَّيتنا بين المصريِّين بالاسم الشرِّير؟

كيف أخفيتَ عنَّا كلِّنا وما كشفتَ لأحد منّا؟

كيف بدا قلبك حين دخل الكأسُ كيسك؟

430       ما كان أسعدنا، يا بنيامين، لو أن أبانا لم يسمع لنا

أتينا بك لنبرِّر نفوسنا فها مجيئك غرَّقنا.

وُضع الكأس في كيسك وطُمر وقمنا مثل أبرياء

ومن بعد سرقتنا أضفنا الكذب إليها.

أبناء زلفة حفظوا  الحرِّيَّة وأنت تهرب من اللياقة،

435       أبناء بلهة حفظوا ماء الوجه وابن راحيل سرق الكأس.

فكيف ندخل على الرجل بعد أن أخجلتنا اليوم قدَّامه.

وكيف نقول إنَّك أخونا وها الكأس يصيح أنَّك سارق.

 

نحن نعجب بأبيك لأنَّه أحبَّ ولدَي راحيل

رأى في والدة السارقين (سيِّدة) الجميلات، الفاضلات.

440       ومن يعرف أيَّ عذاب حمَّلنا أخوك يوسف

وكم سحقَنا لأجله أبونا يعقوب وما زال.

هو عذَّبنا عند الغنم وها أنت اليوم في مصر (تعذَّبنا).

بينك وبين أمِّك وأخيك تربِّينا في الضيقات،

واليوم دلَّ عليك الكأس الذي خرج من كيسك.

445       ها كلُّنا لأجلك ندخل (مصر) فنكون عبيدًا

فما كان أسعد أبانا يعقوب لو أنَّه ما قابل أمَّك،

فهي أيضًا بسرقاتها قدر طاقتها سحقت أباك سحقًا.

أمُّك سرقت أصنام أبيها لابان الأراميّ (تك 31: 19)

وها أنت أخذت فنَّها بعد أن تركت لابنها ميراثًا".

450       كثرت الأقوال على بنيامين وخاصموه وماحكوه.

فالكأس كمَّ شفتيه فما استطاع أن يخرج عذرًا.

ففكَّر في ضميره: السكوت أفضل لي في هذا الأمر

لأنَّ الكأس الذي خرج من الكيس لا يتركهم يصدِّقونني.

أخي يوسف ليس بينهم، وأبي يعقوب ليس قريبًا".

 

وواصل الإخوة توبيخ بنيامين

455       "فيا لك من مكثر الأمواج ورامي الضيقات في مصر

فأخرج عذرًا على جرمك لنرى ماذا أردتَ (بعملك)

قل لنا في أيَّ وقت أخذت الكأس وسرقته؟

وإلى أين أبعدتنا كلَّنا وقُمت فخدمتَ مشيئتك.

ربَّما يوم كنّا نائمين وسيطر الوسن على عيوننا.

460       وجعلنا الليل غرقى وجعلك يقظًا لتسرق الكأس.

بسرعة أتممت وصايا أبيك يعقوب

وبهذا الكأس الكبير الذي سرقت أتممتَ وصيَّة أبيك.

اليوم أخزيتَ نسلَنا كلَّه وسط المصريّين

ومحوت عشيرتنا من بين الأبرار وسجَّلتها بين السارقين.

465       لا يصنع الله بعد أن تخرج معنا في الطرقات.

وهكذا رميتَ المعاثر لأناس عاشوا في البرّ.

إذا طلبنا وصلَّينا أن تخرج من هنا، ما خرجت

وفي عملك قوَّة به نموت هنا نحن وأنت.

الله يعرفكما فسبق وأخذ أخاك

470       فالشرور التي جلب علينا كانت أقسى من هذه.

إنَّ موت يوسف السريع حمانا من عذابات كثيرة

نجونا لا ملء النجاة وها نحن نُجازى بأخيه".

 

جواب بنيامين

أجاب يهوذا وقال لإخوته: "لا ينبغي أن نروي كلَّ شيء

ولا ينبغي من أجل يوسف أن تُدخلوا خبره في الوسط.

475       ولا يليق أن تدعوا في مصر جهالته عليكم.

لئلاَّ يغضب الله ويعذِّبكم أكثر".

فقال بنيامين لإخوته: "ها أنا أموت في الضيق الشديد

لأنِّي أتيتُ عليكم جرمًا ما فعلته ولكن أُمسكتُ فيه.

أمّا أن يكون الكأس خرج من كيسي فأنا لا أقدر أن أتهرَّب.

480       سواء أردتُ أو ما أردتُ فتبعته تأتي عليَّ

أعتذر قدَّامكم عن هذا الذي عُمل.

وبما جرى لكم تعلمون ما جرى لي، ولا تخطئوا إلى الله بسببي.

فها الفضَّة التي اشترينا بها ودفعناها للعبد في المساء

عادت إلى أكياسنا وها هي معنا، ومن وضعها؟ لا نعلم.

485       ومن الذي فتح الأحمال ووضع فيها صُرَر الفضَّة؟

الأحمال موضوعة ومختومة وفيها ثمن حنطتنا

فإن أخذت الكأس إلى الخارج وبسرعة استقبلته،

فمن دخل وجاءنا بالفضَّة التي دخلت وانخلطت في الكنز.

وإن وجدتم الكأس وحرَّركم داخل كيسي

490       فأنا أخذتُ الكأس والفضَّة وعليَّ يأتي اللوم.

وإن أخذ الكأس من كيسي ووجدت الصرر في أكياسكم

فالذي وضع الفضَّة في أحمالكم وضع لي الكأس داخل كيسي.

وربَّما تقولون إنِّي سرقت الفضَّة والكأس

فكيف أملأ الأحمال ولا يراني أحد منكم

495       وكيف كنت أتعب أمامكم من أجل مساعدتكم

طمرتُ الفضَّة في أكياسكم وأنتم نائمون مرتاحون.

فإذا كانت سرقاتكم حقيقيَّة كانت سرقتي للكأس غير كاذبة

وإن أخفي ما لكم عنكم، ما حصل لي خفيٌّ عليَّ".

 

فردَّ عليه إخوته

فردَّ الإخوة بكلامهم على بنيامين وقالوا:

500       "سرقة الكأس مطالبٌ بها، وسرقة القضَّة ما طالب إنسان بها

غرَّقتنا بهذا الكأس وها أنت تتعقَّبنا على السرقة الأخرى.

وجدتَ لك في ما رُميتَ فيه أن تنتقم منّا انتقامًا

ألم نقل لأبينا على الفضَّة التي عادت معنا؟

كشفنا له وما أخفينا أنَّ الفضَّة وُجدت في أحمالنا.

505       لا ينبغي لك، يا أخانا، أن تجيء بالفضَّة في الوسط

فقيِّم البيت رآها وأغضى عنها وأنت تكشفها من أجله.

لا نقدر أن نضيِّق على أخينا يهوذا الذي كفلك لأبينا

وإلاَّ نعود كلُّنا ونتركك في مصر.

فتُستعبَد أنت بسرقتك ولا يتضايق من لم يسرقوا

510       أنت السارق بيننا كلِّنا وأخزيت وجوهنا كلَّنا.

من الذي فتح كيسك ووضع الكأس في داخله؟

كما فضَّتنا، في كيسك فضَّتك وهذا الكأس زيادة

الزيادة التي تقبَّلها حملك أكبر من فضَّتنا كلِّها.

فمن الذي أحيك هكذا فأسرع كثيرًا من أجل راحتك؟

515       مثل السارقين الذين أمسكوا يجب عليك أن تتكلَّم

لأنَّك ما لبثت في طبع الأحرار ولا بخزي السارقين

فلا يُنصَت لكلام وُجدت فيه السرقة

الكأس يصرخ أنَّ أجوبة الفنِّ كاذبة".

 

فردَّ عليهم

فتح فمه لكي يتكلَّم لكي يريح نفسه بواسطة كلماته:

520       "كيف أتكلَّم معكم بعد أن حرمتموني أخي

فلو كان أحبّائي قائمين (في الحياة) يستمعون إلى كلماتي.

لو كانت آذانكم صافية ليصغوا إلى أقوالي.

لاكتمل وعُرف أنَّ ابن راحيل مُبغَض.

لماذا أتعب في الكلام وأُكثر لأناس يبغضوني مجّانًا (مز 35: 19)؟

525       ها نحن داخلون قدَّام الرجل وهو يكون لنا قاضيًا

خير لي أن أكون عبده فأتحرَّر من زمرتكم

لا مجال لأدافع عن نفسي لأنَّ الناس أبطلوا كلَّ صنعة.

فلو كنتم أبرارًا لما كنتم تصدِّقون عليَّ هذا

ولا تكونون عبيدًا في مصر بسبب كلمتي وبسبب سرقتي.

530       ويكفيني أن أرى عبوديَّتي ولا أرى عبوديَّة إخوتي.

سأُحزن أبانا يعقوب وأيّامًا قليلة ويتعزَّى.

وإذا أفلتُّ من مصر فأنا مائت في أيديكم.

فأنفع لي أن أكون عبدًا وخيرٌ لي أن أبقى (بعيدًا) عنكم.

فتنجون من السارق الذي جلب العار لكم.

535       عيَّرتموني بأخي يوسف ووبَّختموني بابن راحيل

ويل لي كثرت مصائبي والذين يساعدونني ليسوا قريبين.

أُبعد أخي من زمن طويل وحتّى الآن أنتم تبغضونه

هو الإله الصالح الذي يُعبر التعيير عن أذنيَّ.

إن هو مات وأنتم تحتقرونه فنفسه تشعر بذلك بين الأموات

540       ويكون في القبر صامتًا إن احتقر على سرقاته.

وإن هو حيٌّ وظلمتموه تقولون فقط: أذنبنا

وهو يعبر على إثم تكلَّمَت به أفواهكم، لأنَّه بارٌّ

من زمن طويل رقدت عظام أمِّي راحيل في الشيول (مثوى                           الأموات)

فماذا تستفيدون حين تأتون بخبر الأموات في الوسط.

545       وها أنا الآن أقسم إن رضيتم أن تقنعوا

أذكر أبي الذي هو بعيد وأدعو أخي الذي فُقد.

فالذي فصلني عن أبي وحرمني من أمِّي راحيل

لا أعرف مَن مكرَ بي ودسَّ الكأس في كيسي.

ولا بالساعة التي فصلتني عن أخي يوسف الحبيب

550       أعرف بالأمر الذي نبع من داخل الحمل

هرب عنِّي أحبّائي وإذ افترقتُ عنهم أُمسكتُ

ها أنا أتذكَّر التي فيها تركوني وحيدًا.

وبهاتين المصيبتين الكبيرتين جزمتُ وأقسمتُ قدَّامكم

وها أنا داخل إلى العبوديَّة بسبب سرقة أحاطت بي اليوم".

 

وعلم يوسف الحوار

555       فأجاب بنيامينَ إخوته بكلمة وقالوا:

"انظر، إذا برَّرت نفسك قدَّام الرجل فإيّاك أن تحكم علينا

ذكرت يوسف أخاك الذي عذَّبنا قدر استطاعته

فلو كان أخوك معنا لكنّا أتينا بكأس آخر".

دخل قيِّمُ البيت إلى سيِّده وروى له الكلام الذي قيل.

560       وكم كان بنيامين حكيمًا حين أجاب بكلام له طعم

وظهر أنَّ يهوذا وحده يحبُّ هذا الصغير.

بسبب الكأس تكلَّموا كلام الاحتقار للأموات وللأحياء.

 

طلب يوسف أن يختبر إن كانوا يتخلَّون عن بنيامين

كما (فعلوا) في البرِّيَّة: أخذوا ثمنه وسلَّموه ومضوا.

565       أطلب اليوم أن أعلم إن كانت عداوتهم شاخت.

وربَّما عتق الإثم وتجدَّدوا بالتوبة.

قام إخوة يوسف في الخارج يتوسَّلون إلى قيِّم البيت:

"اصنع لنا هذا الجميل، أيُّها الحكيم، ولا تترك الحكم علينا أن              يكون قاسيًا

أعلمنا بتقلُّباته: بماذا نستنزل رحمته

570       نصنع له ما يريد فنأخذ الراحة لألمنا".

وقام بنيامين هناك يبكي بكاء مرًّا.

حين رأى الضجيج يقوى عليه ويهاجمه من كلِّ جانب:

"ما أشجى هذا الوقت فيه يفتقدني يوسف أخي.

في الشدَّة نحتاج إلى الإخوَّة، والإخوَّة للأخ

575       فإن لم يكن الأخ قريبًا فالله ليس بعيدًا عنِّي.

وهو يستطيع أن يكون لي قادرًا ومعينًا بأخ أو بلا أخ.

هو لا يحنُّ عليَّ إن أنا سرقت ولا يتركني إن أنا ظُلمت

هو وحده يبعد عنِّي أفواهًا تصرخ أنِّي سارق".

شاهده إخوته فتمرمروا وهو يشجو قدَّامهم

580       ثمَّ عيَّروه وأتوا إلى الوسط بخبر يوسف البارّ.

"أخوك هذا حلم أحلامًا، وأحلامُه وهبت له المُلك

فليأتِ أخوك الملك ولينجِّك اليوم من مصر.

هو أمر شاقٌّ جدًّا، يا بنيامين، أن تدعو الله هنا.

وأن تطلب منه أن يأتي ويرى الكأس الذي خرج من كيسك".

 

ودخل يوسف

585       وبعد أن كملت هذه الأقوال المليئة بالآلام

دخل يوسف وأتى وعليه معطف جلال المصريّين.

فأمر أن يدخل السارقون ليُسألوا على سرقاتهم.

نفخ أمرُه حُمَّى أمسكت أجسادهم

اقشعرَّ عبيده منه بعد أن أرهبهم أمرُه.

590       وعلى المجتمعين كلِّهم حلَّت الرعبة وخفق القلب.

وخرجت كلمته كالريح فانحنى أمامه الأقوياء.

شابهوا وهم يدخلون قصبًا تحرِّكه الريح

قالوا وهم يدخلون بعد أن اختنقوا من الحزن:

"هذا الدخول البغيض نبع لنا من ابن راحيل.

595       فيا ويلنا اليوم من الرجل الذي أمسكنا مثل سارقين.

فإن هو طلب من المصريّين أن يأكلوننا أحياء

يكون اليوم خاتمة أقوالنا وربَّما نهاية جواباتنا.

ومن اليوم يفترق الواحد عن الآخر إلى الأبد".

 

وفتح يوسف البارُّ فمه وشرع يقول لهم:

600       "بأيِّ وجوه دخلتم إليَّ اليوم أيُّها السارقون

فلا أنتم أبرار ولا أبناء أبرار، بل عارفون بالسرقة وبالسارقين.

ما ظهرت لكم البرارة بعد أن طلبتم أن تحيوا باسمها.

هي ترافق السارقين الذي أمسكوا بهذه العادة

إن انفضحت سرقاتكم احمرَّت وجوهكم خجلاً

605       فيكم زرع العبيد أيُّها النمّامون ومحبُّو السرقة.

من الخارج متواضعون، حزانى، ومن الداخل وقحون محرومون.

صدَّقتُ أقوالاً قلتموها أنَّكم أبناء رجل بارّ

سرقتموني وطغيتموني بفنِّ أقوالكم.

ما سرقتم كأسًا بسيطًا لأسكت ولا أطالب به.

610       بل تجاسرتم وسرقتم منِّي الكأس الذي به يتضاءل فرعون.

ولمّا أسرجتم للسفر ودخلتم لديَّ بالبركة،

وقلتم لي: ابقَ بسلام، كان الكأس داخل أحمالكم.

سمعتكم تستحلفونني بالله مالك السماء

هو إله السماء هذا الذي كلُّكم تخافون

615       علَّمكم هذا التعليم أن تضعوا الكؤوس في الأكياس.

فطوباه يوسف المفقود الذي نجا من سرقتكم.

ولو كان اليوم معكم لحلَّ به هذا الخجل.

لكنَّ الله أحبَّه وسبق ففصله عنكم.

لئلاَّ يتعذَّب معكم بسبب سرقاتكم في مصر هذه".

 

فأجاب يهوذا

620       فأجاب يهوذا وقال ليوسف باغتمام وحسرة:

"ليس لنا يا سيِّدي أن نفتح فمنا لأنَّ الجرم أسرَ لساننا

فماذا لنا أن نقول بعد السرقة التي سرقنا.

لماذا نكثر أقوال الحكمة بعد أن احتقرنا الكأس والكيس

فمن تواقح مثلنا، فهذا لم يُسمَع به يومًا.

625       فرجال الملك كرَّمونا ثمَّ وجدنا في اسم شرِّير

اشتهينا الكأس فذُلَّت كرامتنا.

عملنا بالمكر تجاهك وها قضاؤك العادل يلاحقنا.

عرفنا أنَّنا خطئنا بشفاهنا فصدر حكمنا.

نكون عبيدًا إلى الأبد بسبب هذه الجسارة.

630       نحن ما رأينا العبوديَّة ولأنَّنا خطئنا نكون عبيدًا

والرجال الذين كافأوك بالسوء يستحقُّون العبوديَّة القاسية.

لا يخرجُ خبرٌ في الأرض أنَّ العبرانيّين كانوا سارقين

لئلاَّ يعيَّر بسببنا نسلُ الأبرار الأوَّلين".

 

فأجاب يوسف وردَّ على كلام يهوذا فقال:

635       "حاشا لي أن أصنع معكم كما صنعتم أيُّها العبرانيّون

فنواميس المصريّين لا تضرب من كان مثلكم.

فالناموس هنا يحكم على السارقين مثل القاتلين

والآن أصنع هذا: أنتم اصعدوا وامضوا بسلام

أصرف العشرة منكم وهذا الذي سرق يبقى هنا.

640       فتُتمُّ مصرُ تأديبه ولا يأتي إنسان لمساعدته.

وأجعله يفهم في السجن (شرَّ) ما عمل.

حاشا له أن يخرج من مصر لئلاَّ نعذِّبكم بواسطة سرقته.

تكون له مصر ميناء، فيه يبقى وأنتم تخرجون".

 

استعطاف يهوذا

فاقترب يهوذا الكفيل وجثا قدَّام يوسف:

645       "ارحم يا سيِّدي دموعي وانظر إلى تضرُّعي قدَّامك

أو تبقينا لنكون عبيدًا، الزمرة كلُّها معًا

أو أنا ألبث هنا ويصعد بنيامين وينزل.

فأنا أرتاح أن أكون عبدًا ولا يلعنني ذاك الصدِّيق

بنيامين سرق الكأس ويهوذا يُجازَى بسرقته.

650       أو أنا أبقى يا سيِّدي أو كلُّنا نبقى عبيدًا لدى عظمتك.

فارحم من أجل أبينا وأرسل هذا السارق

فأبونا يعقوب يحبُّ هذا الصغير كثيرًا.

نفس الشيخ الصدِّيق ملتصقة بنفس هذا

أوَّلاً لأنَّ أخاه فُقد وآخرًا لأنَّ أمَّه ماتت.

655       وأيضًا من أجل هذا أنَّه خاتمة أبنائه.

 

تمَّمنا إرادتك، يا سيِّدي، واجتهدنا من أجل راحتك

وبالتعب العظيم الكثير وهبه ليأتي معنا.

قلنا لك ونحن ماضون: لا يقدر الفتى أن ينزل

لأنَّ أباه يحبُّه كثيرًا ولا يريد أن ينفصل عنه.

660       فبيِّن جوابك هذا: أنزلوا لي الصغير

وحين يسمع أبوه يفرح لأنِّي أضع عينيَّ عليه فأساعده.

وبعد أن أكثرنا فأتعبنا جدًّا أباه الشيخ بطلبنا

ولولا اشتداد الجوع لما كان سمح أن يأتي معنا.

وألبسنا ألمًا كبيرًا حين رأيناه حزينًا، مضايقًا.

665       وقال أقوالاً يهيِّج البكاء فإذا سمعته أنت أيضًا تتضايق.

كان يقول: ويل لي، أعدمتموني راحيل وولديها

ولَدَتْ لي ابنين أُخذا وطارا من كنفي.

بهذه الانتحابات كلِّها حزنّا وأقسمنا له:

إن سلَّمتنا بنيامين نتعب ونأتي به من أجل راحتك.

670       مشيتُ وقاره حملَ ألمًا كبيرًا.

ولد اثني عشر رجلاً وبقي هو وحده من دونهم كلِّهم.

أنا كفلتُ عبدك لأبينا بأنِّي أعيد إليه بنيامين

وأقسمت له أنِّي إن تركته أكون خاطئًا لأبي كلَّ أيّامي.

وساعة افترقنا عنه أبكى ببكائه أسس البيت

675       فتذكَّرنا أقواله وبكينا على المقاومات.

قال: حين خرج يوسف قلتم لي: لا نعرف ماذا عرض له

وعن شمعون قلتم أيضًا: رئيس المصريّين منعه (من العودة)

وطلبتم بنيامين وتريدون أن تحرموني منه.

وهكذا تتركونني في الطريق الواحد بعد الآخر وتتخلَّون عنّي                                     فأكون وحدي".

 

جواب يوسف

680       بعد هذه الكلمات أجاب يوسف فقال ليهوذا:

"كيف أصدِّق ما تقولون: يعقوب هو بارٌّ ومستقيم

أيَّ برارة هي في من يحبُّ السارقين؟

رويتُم لي عن حبِّه نحو هذا الذي سرق الكأس

أحبَّ اثنين منكم وأبغض العشرة الآخرين.

685       فكيف تدعونه بارًّا وهو في برارته انقسام.

فإن طلبتم أن يحبَّكم لا يمكن ذلك إلاَّ إذا سرقتم

فهو بحسب كلامكم لا يحبُّ إلاَّ السارقين فقط".

"يا سيِّدي، حاشا لأبينا البارّ أن يفرح بهؤلاء المزيَّفين

فمن بيَّن لك برَّه وحرَّرته من الملامة؟

690       فالفتوَّة سريعة، خفيفة، وتُسبى بسحر العيون

رأى الكأس فسباه جماله فانحدر إلى السرقة

فأشركْنا معه، يا سيِّدي، وحرِّر أبانا من هذا

فنحن الآن نبقى لك عبيدًا ولا تكن لأبينا يعقوب محتقرًا".

 

من بعد هذا الأقوال، أجاب يوسف إخوته وقال لهم:

695       "ما علمت أن بنيامين كان وحده سارقًا

فراحيل المحبوبة لما دعوتموها أيضًا سارقة في الطريق

فقيِّم البيت أخبرني أنَّك احتقرتموها احتقارًا.

ولمّا أحسُّ أنَّ راحيل سرقت، فبمَ جازاها على سرقتها؟

إن هو طردها فهو صدِّيق وإن كان تركها فما هو بارّ.

700       وبما أنِّي سمعتُ هذه كلَّها فمن الآن لن أسكت

لأنِّي سأعلم من الكأس كلَّ الخفايا المطمورة.

ما طلبتُ أن أعرف الأقفال الجوّانيَّة

فبكلامكم رُفع الستر وانكشفت كلُّ ما صنعتم".

وتكلَّم أبناء زلفة وبلهة

فاقترب أبناء زلفة وبلهة وقالوا ليهوذا أخيهم:

705       "حسبك تعبًا لأجل هذا السارق الذي غرَّقنا

فعلتَ لنا يا أخي يهوذا بحيث نموت هنا في مصر

هذا الكأس أن نتعلَّم منه الخفايا.

ونعرف كلَّ الأعمال التي صنعنا منذ صبانا.

كما أنَّه جلا الإثم الذي فعلناه بيوسف أخينا

710       فإذا انكشفت هذه إذًا لتبتلعنا الأرض.

لأنَّ بيعنا لأخينا يوسف أكثر قساوة من السرقة.

دافعنا عن بنيامين ودجَّلنا بالنسبة إلى يوسف

فصدَّقَنا يعقوب الشيخ حين أخفينا الحقيقة عنه.

وماذا نقول له في شأنك فنبيِّن له الحقائق؟

715       ولو كان هذا الشيء قائمًا هنا لما كان تعب مثلك".

وإذ كانت هذه الأقوال تقال: "وُضع الكأس ليروه

أمر يوسف: "أصغوا بآذانكم واسمعوا كلَّ ما عملتم

أراني الكأس أن أباكم مضى وحده إلى حاران.

وعلَّمني أيضًا عن القضبان التي وضعها أبوكم في الماء.

720       فهذا يليق كثيرًا ببرارة أبيكم هذا البارّ؟

يضع القضبان في الماء ليكثر الغنمُ في قطيعه.

يضعها للبكيريَّة (الربيعيَّة) ويهمل اللقيسيَّة (الخريفيَّة)

لتكون الأولى له والأخيرة لحميِّه لابان.

فما هذه البرارة التي تتطلَّع لكي تأخذ الأفضل،

725       وتجمع لها بالحيلة مقتنى لا يخصُّها؟

أخذ أبوكم امرأتين أختين حرَّتين،

وخدم من أجلهما أربع شرة سنة بالأجرة.

واحدة هي أمُّكم ولدت ستَّة والأخرى ولدت اثنين.

أراني الكأس على راحيل التي نالت اللوم بلا حقّ.

730       فهي ما سرقت أصنام أبيها من أجل الفائدة

بل لترفع عبادة الأوثان من بيت أبيها".

 

بين يهوذا ويوسف

فأجاب يهوذا يوسف وقال: "كأسك قال الحقيقة

وبيَّن لك كلَّ ما كان وأراك حقيقة الأمور كلِّها.

فربَّما فعل بنيامين تجاه الكأس على مثال راحيل.

735       هي سرقت أصنام أبيها، وهذا يا سيِّدي سرق كأسك.

هي لترفع العثرات من بيت أبيها

وهذا ربَّما على مثالها، شبَّه الكأس بالآلهة.

إذًا، لا تبكِّته يا سيِّدي، مثال سارق ومُفسد.

فتقبَّل إرادته الطيِّبة لأنَّه من أجلك اجتهد".

740       فقال يوسف ليهوذا: "ما انكشفت الأصنام للابان

خبّأتها راحيل في رجل الجمل وعليها صعدت وجلست

فلو كان هناك منفعة في آلهة لابان الوثنيّ

كانت أُمرت بأن تكشفها ليتمَّ القبضُ على السارقين.

إذًا كأس فرعون أرفع بالمعرفة من أصنامكم.

745       كشف لي أنَّكم سرقتموه وها هو يتَّهمكم على ما فعلتم".

"عظيم هو كأسك ومعرفته أعظم منه وما يحفظه

فمثل رجل حكيم، تمسَّكت أنت بكأس عارف".

 

وفضح يوسف أعمال إخوته

وقرع يوسف الكأس ليدهشهم بألغازه:

"أرغبُ أن أسكت والكأس يكشف كلَّ ما فعل.

750       لا أستطيع أن أنكر ما يراه لئلاَّ يخفي عنِّي الخفايا.

وإن لم يتكلَّم ولبث صامتًا فهو يعذِّبني، فهو يعرفني.

بهذا السارق الذي ولدته أمُّه راحيل في الطريق.

ودعته ابن أوجاعي وماتت بعد أن انفرجت (تك 35: 18).

ويومئ إلى رأوبين البكر الذي تواقح على فراش أبيه (تك 49: 4).

755       كان بكرًا فأضاع درجته وانحطَّ لأنَّه فلح الإثم".

حلَّت عليهم دهشة عظيمة حين رُويَت الخفايا

"لا الأبرار ولا الصالحون وهبت لهم مثل موهبتك.

اليوم سمعنا الموبقات وانعرفت المذهلات.

فما كان في حاران يتكلَّمون به بين المصريّين".

760       "تصدُّوني، أيُّها العبرانيّون، فأسرع وراء أقوالكم

اليوم هو يوم الكأس فاتركوني أسمع لواعجه.

أيَّة برارة أظهرتما يا لاوي وشمعون بعملكما؟

لأجل امرأة أبدتم مدينة في ساعة واحدة.

كنتم ستَّة إخوة أبناء أب وأبناء أمّ

765       وأربعة إخوة من أمتين اثنتين، زلفة وبلهة".

 

وكان إخوة يوسف يصلُّون لئلاَّ يكتمل الخبر

لكي لا يكشف أمر يوسف حين يأتي إليه بحسب الترتيب.

أكمل كلَّ هذا وبلغ إلى خبره وخبر إخوته.

انذهل يوسف وقتًا طويلاً وتبدَّل لون وجههم كلِّهم.

770       ارتبك يوسف مثل من لا يرتاح بهذا الذي أدركه

وكأنَّ الكأس أكرهه واضطرَّه ليتكلَّم عن زيفهم.

"ما رغبتُ أيُّها العبرانيّون أن يجلي لي الكأس هذه (الأمور)

فأنتم اقترفتم الإثم فربط الإثمُ لساني.

يا ليتكم هربتم منّا في الطريق التي خرجتم فيها ونجوتم.

775       وما عدتم لكي يتعذَّب قضاتكم باسمكم عليكم.

أشكر إلهي في مصر لأنَّكم اشتهيتم الكأس

وليس لكم عادة أن تمشوا من جديد في هذه البلاد.

عندكم عادة سيِّئة وكشف لي الكأسُ سرَّها:

أخذتم ثمن إنسان حرٍّ وسلَّمتموه إلى العبوديَّة.

780       وأنا سيِّد مصر، لو سنحت لكم الفرصة لكنتم بعتموني

ولست أحبَّ إليكم من أخيكم الذي أخذتم ثمنه في البرِّيَّة".

 

"ماذا أغفر اليوم وكلُّ شيء يدفعني للانتقام

فلا يحسن لله أن يرحم الأشرار.

أنا هو أخو يوسف وألاحق انتقامه لأنَّه ظُلم

785       والأفواه التي أكلت من ثمنه تمتلئ بكاء ببكائه.

بكى يوسف على جانب الجبِّ وما من إنسان روَّح عنه.

فسمعتْ مصرُ صوته وأمرتني أن أنتقم لعابر لحقه

وها وُضعَتْ قدَّام عيني تلك الساعة التي فيها انفصل عنكم.

استعطفكم كلَّكم بدموعه فأمسكتم المراحم عنه

790       فتعقَّب الكأس وجلا لي حتّى الثمن الذي أخذتم.

فكأس الملك يجلو لي مثل نبع ماء جارٍ.

يقدر الإنسان أن يسكِّر النبع ولا يقدر أن يسكِّر الكأس.

زخر فشله فولَّد الاضطراب وارتعبت لأنَّ جريه قويٌّ.

بعشرين من الفضَّة بيع أخيكم من أيديكم،

795       وكم يهتمُّ (الكأس) أن يتعقَّب الحقائق على ما لحق (أخاكم) من

هوان.

 

كنتُ أرغب أن أطلق (سبيلكم) ومن الان لا أقدر

بل أطلب من أيديكم ابنَ الأحرار الذي صار عبدًا.

اجتمعتم في البرِّيَّة لتجارة مملوءة بالإثم

وقلتم لأبيه إنَّه قُتل فألبستم شيخوخته الحزن

800       اقترفتم جرمًا تجاه الأخر وخطيئة كبيرة تجاه الأب

لأنَّكم بعتم الأخ وحطَّمتم أباه الشيخ.

فرَّقتم ثمَّ بعتم وأخفيتم ثمَّ كذبتم

وربَّما أخوكم هو حيٌّ فبكاه أبوه مثل ميت.

ويقوم ابن زلفة الأمة ويعاقد على ثمن ابن الأحرار

805       وما قصُرَت أيديكم عن ربط أيدي الحرّ.

فأنا أفتقد القتلى وأنا أنتقم للمظلومين

فإن كانوا أحياء يشكرون غيرتي لأنِّي عذَّبتُ معذِّبيهم".

 

حوار بين يوسف وبنيامين

كان بنيامين قائمًا هناك مُصليًا أذنه وسامعًا

كم أورد المصريُّ عن إخوته كما عن نفسه.

810       ففكَّر أيضًا أن يقترب منه ويستعلمه عن مسألة يوسف.

فيتعلَّم بواسطة التعقُّب (البحث) إن كان أخوه حيًّا بعد أم لا.

ألقى بنفسه على الأرض وسجد له وهو يرتجف

"انظر يا سيِّدي، لعلَّ هذا الكأس جلا لك كلَّ ما أراك

إن هو جلا لك وقال لك: "هل يوسف حيٌّ حتّى الآن

815       إن متُّ لا يكون موتي موتًا وإن انتقلت (من هذا العالم) فأخي                         يبحث عنِّي.

وإن سمعت أنَّه محفوظ (في الحياة) أحتمل ألمي كلَّه.

فضرباتك لا توجعني لأنِّي في أفراحي أجد المؤاساة

بان جفنة راحيل من يعقوب ما أبيدَتْ كلُّها.

فبقيَتْ بقيَّةٌ قليلة وربَّما تعقَبُها عشائر."

 

820       فردَّ يوسف على قول بنيامين وهو حزين:

"أيُّها السارق، من أجل أخيك أطيل روحي وأسمع لك

يوسف لا يزال حيًّا ولكنَّه في مكان بعيد.

وكما بيَّن لي الكأس هو يتدبَّر بأحسن ما يكون

ها مرَّ زمنٌ طويل فيه انفصل أخوك عنك

825       فهل تقدر عينك اليوم إذا رأته أن تميَّزه؟"

"كان عبدك بنيامين طفلاً حين تركني يوسف وخرج.

من عشرين سنة ضاع وتركني صبيًّا لدى أبي.

عظمتك يا سيِّدي وهي عظيمة، يسهل عليها أن تكشف أنَّه بيع

فأنا من حسبت سارقًا أقول إنَّه هلك هلاكًا.

830       ومنك عرفتُ يا سيِّدي أنَّ كأسك يبيِّن الحقيقة.

إذًا أموت بسرقتي إن وُجد يوسف حيًّا".

 

فردَّ يوسف له الكلام في أقوال تفرِّج عنه

"أخوك، يا بنيامين، ليس سارقًا مثلك

ولا يعرف أن يسرق كأسًا بدهاء مثلك.

835       فأخوك يلاحق السارقين وأنت سرقتَ كأس الفضَّة.

وعرفتَ عن أخيك أنَّه مثل ملك موقَّر في بلاده.

وفي البلاد التي يقيم فيها أخوك تُروى مآثره الطيِّبة.

والناظرون إليه يمجِّدونه لذوقه ولحكمته.

عمل أخوك وتعب ليطلب الحكمة قبل كلِّ الخيرات.

840       وأنت البعيد عن العمل تعلَّمتَ السرقة".

فتجرَّأ بنيامين وتكلَّم لأنَّه رأى الحديث مليئًا بالعون:

 

"حتّى متى تعذِّبني كلماتُ فمك هكذا؟

كيف أظهر لك الكأس أنَّ أخي الذي بيع هو حرٌّ؟

فليكشف لك أيضًا عنِّي: اتُّهمت ظلمًا أنِّي سرقت.

845       صدق الكأس الذي تعقَّب البعيدين فيبحث عنهم

بيَّن لك إثم دوتان فليكشف لك إثم مصر.

فالحقيقة التي بيَّنها تجاه يوسف لا تنقِّصه تجاه إخوته.

فإذا كان حزن لذاك الذي بيع فهو لا يخطأ تجاهي وأنا ما سرقت.

رأى قيودَ يوسف فاغتمَّ وغضب له لأنَّه بيع

850       ألا ينظر إليَّ أنا الحرُّ فأصير بالظلم عبدًا؟

كشف لك الكأس كلَّ شيء وبالحقيقة بيَّن لك كلَّ شيء

فاسأله أيضًا وهو يقول لك من الذي وضعه في الكيس.

ليعلن مناديك سرقتي كما كشف لك الخفايا.

وليقُلْ إن أنا سرقتُه وإن كان آخرون أنا لا أموت

855       كلُّ الأمور التي قالها كانت صادقة وبيَّنها لك كما هي.

وحين بلغ إلى سرقتي لا أعرف إن كان يثبِّتها".

 

"الأمور الأولى كانت صادقة، فلا يكذب في الأخيرة.

وبما أنِّي ما سرقتُه ولا احتقرتُه فحاشا لي أن أُظلم بسببه.

لا يستطيع أن يثبت الواحدة ويتراجع ولا يثبت الأخرى

860       لا يبغض إثمَ يوسف ويحبَّ عذاب بنيامين.

ما رآني إنسانٌ أنِّي سرقتُه أمّا هو فيعرف من سرقه.

وكما كشف كلَّ أمورنا فليكشف أموره الخاصَّة.

وإن عرف أنِّي ما سرقتُه فبقاء يوسف في الحياة ثابت

وإن كان كتب أنِّي سارقه فيوسف هو مائت وهالك.

865       أستحلفك بالله الذي يكشف الخفايا

لا تُنقص ولا تزيد شيئًا ممّا قاله عنِّي.

فإن هو قال إنِّي سرقته فزدْ أيضًا على عذاباتي.

وإن قال إن آخر سرقه لا أكون (موسومًا) باسم رديء".

 

"لا تطلب لي، يا سيِّدي، شهودًا ثمَّ تأتي عليَّ بالتعذيب

870       فليُختَم الآن الحكم إن وبَّخني لأنِّي سرقتُه.

فأتجاسر وأنا فتى أن أعرض قدَّامك دعواي

لكن لا تغضب وإن أكثرت الكلام

فأبي أمرني أن أتكلَّم قدَّامك بمقياس

لكنَّ سرقة الكأس ألجأتني لآتي إلى درجة الخطباء

875       فإن سرقتُ أتكلَّم وأعالج جرائمي بكلامي.

فليكن الكأس حكيمًا ويقنع سيِّده أنِّي أذنبت وسرقته".

 

أجاب يوسفُ بنيامين وردَّ على قوله ضاحكًا:

"لا يريد الكأس أن يعرف هذا الأمرَ الذي طلبتَ

ولما قرعته سخط لأنِّي استخبرته عمَّن سرقه

880       ولماذا الحاجة لأقول لك: عرفتُ من أين خرجتُ

ليكن سيِّده متحفِّظًا بالنسبة إلى الكيس الذي خرج منه.

فأنا يا ابني لا أعرف كيسك ولا إذا أنت سرقت الكأس

وأقسم لك بحياة فرعون أنَّ الكأس لا يريد أن يكشف (الأمر).

بدا كأنَّه لا يعرف وصمتَ من أجلك.

885       وعبر الكأس من هذا (الأمر) وهو يدفعني إلى آخر:

لا تتغاضَ ولا تعاقب بالنسبة إلى ابن الأحرار الذي بيع.

والآن حان الوقت أيُّها الفتى أن يدخل إخوتك إلى القضاء

بيَّن لي الكأسُ اليوم أنَّهم باعوا أخاهم الحرّ".

 

واستعطف يهوذا يوسف

ارتعد إخوة يوسف واكفهرَّت وجوههم:

890       "الكلمات في فمنا مقيَّدة والحسرات خنقت وجداننا

ولا يقدر اللسان أن يتكلَّم متى الوجدان يكون مخنوقًا.

ومتى تسكَّر الينبوع جفَّ الحوضُ أيضًا.

لا نقدر بعدُ أن نتكلَّم وإعطاء الجواب للرجل.

فإن كنّا لم نخطأ فنحن نخاف أن نتكلَّم مع عظمته.

895       واقترب يهوذا وقال له وهو يطلب منه باكيًا:

"إن شئت أن تضربنا فأسرع وأمتنا عاجلاً

وإن رغبت أن ترحمنا فارحم أناسًا قتلة

أيَّ شيء أقسى من السرقة وفيها اليوم وجدتنا.

فمن يخطأ في واحدة أو في أخرى يستحقُّ الموت.

900       وها نحن نستحقُّ شرَّ ميتة لأنَّ جمعنا اقترف الكثير (من الخطايا)

وهذا الكأس المرُّ وما هو شرٌّ منه بَيعُنا.

فالبرِّيَّة تصرخ إثمنا ومصر سرقتنا

لك فرحت البرِّيَّة فما ضلَّتك في ما حصل.

وبك ابتهجت مصر لأنَّ صناعتنا لم تخفَ عنك

905       أو استرسل واترك لنا كلَّ هذه التي فعلناها

أو يصدر حكمك شديدًا علينا.

فلو كان لكلِّ رجل منّا عشرة رؤوس

ولو قُطعَتْ كلُّها فيه تبقى قليلة تجاه جرمنا.

أو أن يقتل سيفك أعناقنا أو أفض مراحمك وأكثر.

910       إن شئتَ تبقينا في الحياة ويشترينا حنانك من الموت

وتُدعى مصرُ لنا أمًّا ثانية ولدتنا.

بالله الذي جعلك عظيمًا انظر إلى شدائدنا وروِّحْ عنّا

حُلَّنا من هذا العذاب لئلاَّ تضعف أنفسنا

وإن كنّا لا نستحقُّ فارحمنا من أجل أبيك

915       لن نحيا بعدُ زمنًا طويلاً جدًّا فلا نحيا حياة شرِّيرة(1).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM