القصيدة السابعة:مجيءالإخوة إلى مصر

القصيدة السابعة

ونزل إخوة هذا الشريف يوسف،

الفاضل والصدِّيق ليشتروا الحنطة

في القصيدة السابعة، ننتقل إلى كنعان حيث يعقوب وأولاده. أرسلهم ليشتروا البُرَّ (أو: الحنطة): هل يمضي العبرانيّون إلى أرض تعبد الأصنام؟ ولما طلبوا أن يأخذوا بنيامين معهم، رفض يعقوب وخاف أن تتجدَّد أحزانُه. وهكذا راح الإخوة إلى يوسف، فعبس يوسف في وجههم واعتبر أنَّه لم يعرفهم وكلَّمهم بجفاء: أنتم جواسيس. ولمّا أخبروه بالواقع، سألهم كيف فقدوا أخاهم، وكان في سؤاله توبيخ، كما بيَّن لهم كذبهم حين أخبروا أباهم. حينئذٍ أخذت الدهشة من أولاد يعقوب، وبدأ ضميرهم يبكِّتهم. وفي النهاية، صرفهم يوسف وأبقى شمعون رهينة بانتظار أن يأتي بنيامين. استرحموه فرفض وأصرَّ على أن يبقى واحدٌ من الإخوة لديه. فعاد أبناء يعقوب والحزن في قلوبهم، وهم الذين لم يحزنوا حين باعوا يوسف. الشرط واضح: أحضِروا بنيامين. وهكذا عاد الإخوة إلى كنعان، فطابت نفس يعقوب حين رآهم يعودون، ولكنَّه حزن سريعًا بسبب غياب شمعون، وتضايق حين عرف كيف عاملوا أولاده. ولمّا طلبوا بنيامين، لم يعد يقدر أن يتحمَّل إن هو خسر الثالث بعد يوسف وشمعون. وتساءل: لماذا يريد بنيامين ذلك المصريُّ؟ أجل، رفض يعقوب فتدخَّل يهوذا ثمَّ رأوبين، فقبل يعقوب مرغمًا بعد أن كلَّمه يهوذا مرَّة ثانية. وبعد النصائح لبنيامين والألم الذي أحسَّ به يعقوب لفراق أولاده، رفع الشيخُ الصلاة إلى الله واتَّكل عليه.

مجيء الإخوة إلى مصر

اشتدَّ الجوع والحنطةُ في مصر

ولمّا اشتدَّ الجوع في مصر، ودخل فبلغ أرض الكنعانيّين،

بلغ الخبر إلى يعقوب البارِّ أنَّ البُرَّ (موجود) لدى المصريّين.

فها البلدان كلُّها تقتات من (أرض) مصر،

البُرُّ يُباع في مصر ولا يُمنَع عن الشارين.

5          وسُمع بنعمة بائع الحنطة وأُخبر عنه.

وهي تمتدُّ على الغرباء أفضل من أهل البيت.

فدعا يعقوب البارُّ أبناءه وروى لهم ما سمع:

«ها البرُّ كثير في مصر والكلُّ يمضي ويشتري ويأتي.

وها أنا سمعت أيضًا عن الرجل الذي هو ثاني الملك فرعون.

10        إنَّه وديع، ويطلق بسلام الجائعين الماضين ليشتروا»(1).

 

تكلَّم يعقوب الشريف وكأنَّه يتكلَّم على رجل مصريٍّ،

وما عرف أنَّ الرجل الذي يُمجَّد هو من جفنته.

سمع عن الرجل وعن الحنطة، والاثنان عزيزان جدًّا (على قلبه).

أوَّلاً بالحنطة التي ستُقبل، ثمّ بالرجل المليء بالرحمة.

15        «خذوا فضَّة وأنزلوا، واجلبوا لنا الحنطة من بيت المصريّين.

لئلاَّ يأتي الجوع القاسي فيُريني موت أبنائي.

تكفيني الأحزان الأولى التي آلمني بها يوسف وأمُّه،

فلا أرى بعدُ مصيبة حين تتحمَّلون الفاقة».

فتشاور الأب وأولاده

يوسف هو السيِّد والآمرُ في مصر كلِّها.

20        وما أدرك يعقوب العبريُّ أنَّ ابنه يسوس المصريِّين.

طلب أن يُرسل أبناءَه كما لدى رجل غريب،

والله وجَّه الإخوة لكي يلتقوا بأخيهم.

«أنا اليوم رجل شختُ في المصائب وفي الضيقات،

فلا يأتي الموت ويضايق شيخوختي التي بلغَتْ إلى القبر.

25        أنا أشكر الله لأنِّي سمعت أنَّ الحنطة موجودة،

فمصر ملأى بموهبة الرحمة لمساعدتنا».

 

ولمّا أكمل يعقوب كلامه، تكلَّم يهوذا ابنُه قدَّامه:

«يا أبانا، متى سُمع أنَّه يوجد صلاحٌ عند المصريّين؟

هي (أرض) السحرة والعرّافين، ويصعب عليهم أن يكونوا صالحين.

30        صناعتُهم لا تقدر أن تفعل أفعال رحمة،

فما الذي حصل فجأة فكُتبت مصر بين (البلدان) المحمودة؟

مصرُ مليئةٌ بالشرور، هو فمك يُشهر خبرَها

فإلهُنا لا يكرَّم داخل مصر من قبل ساكنيها.

ومن العجب أن تكون رحمة في هؤلاء الساجدين للأصنام،

35        ووحده الذي يخاف الله يلبس الرحمة ويصنع الرحمة.

ومن العجب أن يُوجَد فيها بارٌّ، وإن كان هناك، يكون غريبًا(12).

فهذا الخبر الذي خرج ها هو يتحقَّق في مصر.

في نسلك (حرفيًّا: جنسك) فقط سُمع أنَّ الأبرار زاروها                                                                                             واستحسنوها

فإن كان هناك من نسلك، يصَدُقُ الخبر الذي سمعنا.

40        وها أنت تُثني على المصريّين كما على أناس عبرانيّين».

 

«يجب أن لا نقطع الأمل، لأنَّ البشر والمسكونة هم لله،

وتستطيع قدرته أن تحوِّلهم من أشرار إلى أخيار.

وأنتم ماذا تطلبون بين المصريّين أفضل (من ذلك)؟

تجلبون البُرَّ بثمنه وتتركون الرجل بسلام.

45        إن كان المصريّون صالحين تؤدُّون المجد لله،

وإن كان الأقباط(3) أشرارًا تحملون البُرَّ وتعودون».

«بقوَّة كلمة فمك ننزل لدى المصريّين،

صلاتك ترافقُ محبِّيك فنُسْتَقْبَلُ بحسب كلماتك.

نأتي ونجد شيخوختك محفوظة من الشقاء،

50        ونُفرحك باجتماعنا الذي يُمنَع فيه الخصام.

هب لنا أخانا بنيامين فيلازمنا في الطريق(4).

أَرغمْ نفسك، وضايقْ حبَّك وأرسل الصغيرَ معنا،

فلا تُحفَظ في وجدانك قصَّةُ يوسف حبيبك».

ونزل الإخوة إلى مصر

«لا يا أبنائي، لا تطلبوا هذا لئلاَّ تُجدِّدوا مَضايقي،

55        فبه يتعزَّى قلبي وإن مضى مضى قلبي معه.

صورتان حبيبتان عليَّ وُضعتا في وجهٍ واحد:

أَدعو بنيامين فأرى فيه يوسف.

فلا تحصل مصيبة كما حصل ليوسف أخيه،

فأرغبُ أن يبقى عندي لئلاَّ أتعذَّب في التفكير به».

 

60        فتزوَّد أبناءُ يوسف وتواعدوا أن يأتوا إلى مصر،

وببركة من أبيهم حسبوا الفترة وما فزعوا.

حملوا زادًا للطريق وأخذوا الثمن للحنطة،

وتركوا أباهم بسلام واستعدُّوا (للذهاب) إلى مصر.

خرج أناس من هناك (= من مصر) فسألهم إخوة يوسف:

65        «كم من الحنطة جلبتم؟ والرجل كيف استقبلكم؟

سمعنا الأخبار الحسنة على الرجل وعلى برِّه».

ومضوا متَّكلين (على الله) ومستندين إلى خبره (= يوسف).

وَصَلوا، بلغوا إلى مصر، إلى الموضع الذي يقيم فيه يوسف.

فرحوا بالأخبار وخافوا من المصريّين.

 

70        يوسف قائمٌ في مصر يكيل البُرَّ لكلِّ إنسان،

كان لابسًا لباس المُلك وخاتمُ المَلك في يده.

المركبة مركونة لديه ومزيَّنة بزينة عظيمة(5).

يتكلَّمون عليه بين الجموع: «هو الثاني لفرعون الملك».

ولمّا وصل إخوته وبلغوا إليه خافوا أن يروه وتحيَّروا.

75        خافوا من عظمته، خافوا إن رأوا جلالته،

من بعيد بركوا وسجدوا له، وهم مرتعدون منحنون.

«من يهب لنا رحمة قدَّام ملك مصر؟

وماذا لدينا لكي نكلِّمه ونَحسن لديه؟

صغيرة الكلمات والخطب لتتحدَّث عنه كما هو،

80        هو أرفع من الأغنياء، ومركبته تشهد على كلامنا.

وهو قريب من درجة المَلك، والخاتم الذي في يده يهتف.

لا تسمحُ لنا مركبته أن نجعله فقط فوق الأغنياء،

ولا يترك لنا سلطانه أن نُحدره عن المُلك».

 

«سِمعتُك يا سيِّدي، أتت بنا، وعلى خبرك الخارج في الأرض

85        اجتمعنا نحن عبيدك، لنأتي ونسلِّم عليك.

سمعنا بخبرك في بلدنا، فاشتهينا أن نراك،

من أرضٍ بعيدةٍ جدًّا نقرِّب لك سجودنا».

رأى يوسف هؤلاء وجعل بالَه في إخوته.

تذكَّر الأحلامَ التي حلم حين رأى الحزم تسجد له(6)،

90        ففرحَ داخلَ وجدانه لأنَّه (رأى) أحلامه تتحقَّق.

قطَّب وجهه وبسط العبوس كما المصريّون (أو: الأقباط)،

فتوقَّف الكائلون عن الكيل، والذين يَعدُّون عن العدد.

سقطت الدهشة على القريبين الذين رأوا الصافي يكفهرُّ وجهُه.

فسجد كلُّ إنسان وقارًا، وأكثروا الثناء والتمجيد:

95        «من الذي أقلق وجدانه وبدَّله إلى حزن؟»

 

استقبال الجفاء

بدأ يوسف فطلب أن يسمع عن يعقوب الشيخ،

وأن يعرف إنْ كانت كرامةُ بنيامين قائمة بعد.

ما سألهم بجلاء لئلاَّ يعرفوا أنَّه عرفَهم،

واضطرَّ أن يعرف بعجل ما هو مخفيٌّ عنه.

100      سار مسيرة الدهاء وتصنَّع ليعرف الخبر.

عذَّبهم أيضًا وضايقهم، لكي يكشفوا له الأخبار.

تكلَّم معهم بقساوة وحسبهم جواسيس(7):

«طلبتم أن تعرفوا هنا أخبار أرض مصر

ورأيت فيكم فقط علامة الجواسيس البغيضة،

105      أرسلكم ملوك لتروا شغور مصر،

ووُجدت لكم مناسبة لكي تُخفوا دهاءكم.

أتيتم بسبب الجوع وتبصُّون من أجل الحرب.

فماذا يطلب اللسانُ العبريُّ وسط المصريّين؟

أُرسلتم إلى هذه البلاد للمكر، كما هو معروف،

110      فكم يعدُّ جيشكم المستعدُّ أن يأتي إلى بلادنا؟

من هو الملك عليكم؟ وما أسماء قوّاد جيشه؟

إلى أيِّ حساب يصعد عددُ قوّاته؟

وكم هم الرؤساء؟ وكم يتسلَّم كلُّ رجل؟

أنتم عشرة رجال، وربَّما الرجل الواحد أكثر من ألف.

115      فأنتم عشرة آلاف أو ربَّما عشر ربوات.

أُرسلتم واحدًا تجاه ألف، أو ربَّما واحدًا تجاه ربوة.

إن كان الواحد بقوَّة ألف وإن كان بعزم عشرة آلاف،

عرِّفوني هذه الحقيقة لكي تنجوا من التعذيب.

لا تُخفوا الحقيقة عنِّي فالخفايا جليَّة لنا».

 

فأجاب الإخوة

120      في ذلك الوقت، شرع إخوة يوسف ينظرون بعضهم بعضًا.

«حين كان جوقُنا أمينًا عرفنا ما (يحصل لنا) اليوم.

قلنا لأبينا وهو يثني على المصريّين،

نتعجَّبُ إن وُجد (رجل) صالح يقيم في مصر.

فإن كان أخونا يوسف دخل إلى مصر مع التجّار،

125      إن ثبُتَ هنا، في البلد، يكون قُتل بواسطة العذابات.

كان أنفع له أن يكون في الجبِّ وأن يموت في البرِّيَّة هناك،

من أن يأتي إلى هذه الأرض التي تُبغض العبرانيّين كثيرًا».

قام بينهم من يترجم أقوالهم

وما عرفوا أنَّ ذاك غشَّهم حين تكلَّم اللغة العبريَّة.

 

130      «ما نحن بجواسيس، يا سيِّدي، ولا بماكرين على مصر(8)،

نحن أحد عشر أخًا وُلدنا لرجل واحدٍ بارّ.

ها عشرة منّا هم هنا، وبقي الآخر لدى أبينا.

كان لنا أخٌ خرجَ ولا نعرفُ ما حصل له.

كشفنا لك الحقيقة وروينا لك كلَّ شيء،

135      لتعرفَ أنَّ جنسنا (نسلنا) بريء من الملامة التي حمَّلْتَنا.

يا سيِّدنا، من يوم باد أخونا من بيننا،

كان والدنا في حزن عظيم لأنَّه ما عرف ماذا حصل له.

لا، بحياة عظمتك، يا سيِّدي، لسنا من الجواسيس.

وما نحن عبيدُ آخرين، بل عبيد سيادتك.

140      يا سيِّدي، الجوع الذي اشتدَّ في الأرض سحقنا (فجئنا) في                                                                                        الطريق إلى مصر.

وسمع أبونا بنعمتك، فأوكل مسيرتنا إليك:

تصرفُ كلَّ إنسان بسلام، وكلُّ من يراك يمضي مرتاحًا.

وبحسب ناموسك (أو: عادتك)، أطلق بسلام عبيدك إلى أبيهم.

فنطلب منك، يا سيِّدنا، أن لا تُحزن أبانا الشيخ،

145      وأن لا يتعذَّب من الجوع أبناءُ البيت الذين ينتظروننا.

فالشيخوخة لا تستطيع أن تحمل الجوع (أيّامًا) كثيرة.

يا سيِّدي، لا تمسك بنا هنا، ففي الجوع يموت أبونا.

ولأجل برارة أبينا، اشتهرنا أنَّنا أبرار(9).

نحن خدمنا البرَّ، ومثل أبينا ما خدمَه (= البرَّ) إنسان».

 

وسأل يوسف إخوته

150      فأجاب يوسف وقال لإخوته: «ها أنا سمعت من كلامكم

أنَّ لكم أخًا صغيرًا وأخًا آخر فُقد،

فأخبروني كيف فُقد منكم أخوكم.

أخرَجْتم يومًا في طلبه وطلبتموه وتفقَّدتموه؟

أما عرف أحدٌ منكم بما حصل لأخيكم؟

155      هل سمعتم أنَّ إنسانًا قتله، أو ربَّما قُبر في مكان ما؟»

«نقول لك يا سيِّدنا من كم سنة فُقد:

ها له اثنتان وعشرون سنة انفصل عنّا وصار غريبًا.

وفي الوقت الذي فُقد منّا، كان فتًى غضَّ السنين.

كنّا نرعى يا سيِّدنا الأغنام على الجبل في موضع خرب،

160      وكان لأخينا قميص وجدناه ملقى قدَّامنا.

ملطَّخٌ بالدم كلُّه ويُشبه (قميص) قتيل.

حين رأى أبونا القميص طال حزنُه وتألَّم كثيرًا،

وطلب أن يقابل ابنه فيرى الدم على ثوبه».

*  *  *

«عنده الأبناء الكثيرون، فأنتم عشرة أبناء(10)،

165      فلماذا قسا حزنُه واشتدَّ من (موت) واحدٍ؟

أنتم عشرة أبناء، مصنوعون مثل جبابرة،

أما تكفون وأنتم عشرة، أن تملأوا مكانَ واحد.

ماذا كان أخوكم هذا لكي يتضايق أبوكم هكذا؟

هل كان مكانه عظيمًا جدًّا، فما قمتم فيه من بعده؟

170      ربَّما فقدتم إنسانًا يشبه وجدانُه وجدانكم،

أو ربَّما كان حكيمًا وعارفًا بالأمور المستورة،

أو لعلَّ أخاكم جرَّدكم من منابع الحكمة،

أو ربَّما كان شمسَ إخوته فكنتم ترون (الأمور) في ضيائه».

 

«يا سيِّدنا، لا تضع عيبًا في حبِّ أبينا المتميِّز،

175      لأنَّك ما عرفتَ السبب الذي أحبَّ أخانا الذي فُقد.

فأخونا الذي ابتعد عنّا كان حكيمًا ورأس الحكماء.

رآه جميلاً بين الجميلين وسيِّدَ القدرة بين الجبابرة.

ما رأينا لأحد قطُّ جمالاً مثل أخينا، إلاَّ جمالك.

فما في مصر نظيرك ولا نظيره بين إخوته.

180      وكما أنت جميل بين المصريِّين كان هو جميلاً في وسط جوقنا.

وكما أنت محبوب لدى فرعون كان أخونا محبوبًا لدى أبينا.

ولكن يا سيِّدنا، لا نشبِّهه بك، لأنَّه ابن حقير ولا ثروة له.

فأنت السيِّد والملك الثاني، وهو ابن المساكين (الفقراء).

بالحسن فقط يماثلك، وبالكرامة لا يماثلك.

185      فمن نظيرك في مواليد (النساء) إلاَّ فرعون الملك»؟(11)

 

كلام بعيد عن الحقيقة

«أقوالكم معروفة، وهي بعيدةٌ جدًّا عن الحقيقة.

ها تعبتم بدهاء لتخرجوني من اللياقة.

قلتم لي: فُقد، فُقد. إذًا لنتأكَّد أنَّه فُقد.

وقلتم لي: وجدنا قميصه ملطَّخًا بالدم،

190      فإن هو ضلَّ وفُقد، لا يترك قميصه.

وإذا حصل وقُتل، فلماذا رويتُم أنَّه فُقد؟

وإن فُقد جسمُه، معه يمضي أيضًا قميصُه.

فالذي فُقد، لا ينزع ثيابه بإرادته ويتركها.

وإذا حصل أن صادفه ظالم فقسى عليه وعرَّاه،

195      فمصلحةُ هؤلاء الوقحين أن يأخذوا أيضًا قميصه.

وإذا كانت يدٌ بشريَّة أخذت الثوب الذي لبسه على جسمه،

فهل أصابت (الفاعلين) رجفة عظيمة حين غمسوا الثوب في الدم؟»

 

«دهشتُ من هذا التشويش الذي روته ألسنتُكم،

وأظنُّ أنَّ الحقيقة التي أخفيتموها عنِّي تجعلكم محتقَرين.

200      عرفتُ منكم البرَّ الذي لأبيكم الشيخ،

إذ هو بعيد عرفتُ برَّه من أقوالكم.

هكذا لي قلتم، قدَّامي، إنَّكم كلَّكم أبرار،

وإنَّ لكم أبًا بارًّا ليس عنده أخذٌ للوجوه (= محاباة).

فالبرُّ لا يستطيع أن يفعل شيئًا ملتويًا،

205      فإذا تجاوز الطريق قليلاً، لن يُوجَد البرُّ (لديه).

أَخبِروني كيف كان أبوكم يحبُّكم

أنتم عشرة إخوة، وهو يطلب الذي فُقد؟

إن كان بارًّا كما قلتم، ففي برِّه يعرف أن يميِّز.

إن كان حبُّه لكم واحدًا وإن كنتم أبرارًا نظيره،

210      وإذا كنتم أنتم أبرارًا، وأحبَّه هو وحده،

يأخذ برُّكم البرَّ الذي من أبيكم(12).

فلا يليق بالناس الأبرار أن يبغضوا الأبرار رفاقهم.

إذا أنتم أبرار، فلماذا أحبَّ أبوكم واحدًا (فقط)؟

فمن أقوالكم أحكم عليكم هذا الحكم البعيد عن صاحبه.

215      فإن كنتم أبرارًا أو لا، فأنا (أريد أن) أعرف:

لأيٍّ منكم وُهب البرُّ الذي يناسبه.

ليس البرُّ في أبيكم إذا أنتم أبرار.

وإذا أبوكم بارٌّ وأنتم أبرار أيضًا،

فرأس برِّه يكون بأن يحبَّكم كلَّكم على السواء.

220      وإذا أنتم كلُّكم أبرار وهو (أبوكم) أحبَّ واحدًا وفضَّله،

فكيف تدعون بارًّا من لا يكون عادلاً في حبِّه؟

لا وحياة فرعون الملك، لا يُرى البرُّ عندكم.

ها أنا امتحنتُ أقوالكم، وعرفتكم أنَّكم دجّالون.

في هذا اليوم ظهر دجل ما قلتموه،

225      وقدَّام أرض مصر كلِّها سُمعَتْ أحاديثُكم».

 

وتذكَّر الإخوة ما عملوا

عرف يوسف أنَّه تأخَّر بعد أن أطال المحاكمة،

وتذكَّر أباه وإخوته، فحزن في نفسه وتضايق.

كان يهوذا قائمًا قدَّامه، ولا يعرف بماذا يبرِّر (نفسه).

فأجاب رأوبين وقال لكلِّ إخوته سويَّة:

230      «ها بعدلٍ كان لنا (هذا)، وها نحن نجازَى عمّا فعلنا(13).

لأنَّنا ما أشفقنا على يوسف حين قام يتوسَّل إلينا.

تضرَّع إلينا بين الجبال، وطلب منّا بين الآكام.

صعد بكاؤه إلى السماء، وها نحن نُطالَب به في مصر.

تذكَّروا كم ركع، وكم تجرجر قدَّامنا،

235      وكم انحنى قدَّامنا فما حنَّ عليه إنسان منكم!

دمُه الآن يُطلَب بيد هذا المصريِّ،

وهذا (المصري) يقتصُّ منّا اليوم عن جهالتنا تجاه أخينا.

فكيف نطلب من الله أن ينقذنا؟

فابن أبينا طلب منّا أكثر ممّا نطلب لنفوسنا.

240      فإن اقتصَّ الله ملء الاقتصاص من جريمتنا،

وإن لم يرحم مثلنا، نالنا العقابُ كلَّنا في مصر(14).

لأنَّكم ما سمعتم لكلامي وفعلتم وأنا ما علمت،

عرفت من ذلك الوقت أنَّ الانتقام حُفظ لنا».

 

يمضي الإخوة ويبقى شمعون

اغتمَّ يوسفُ البارُّ وجرت الدموعُ على خدَّيه،

245      ولمّا سمع كلام أخيه رأوبين أراد أن يصرفهم.

«يا أبنائي، منذ صباي أنا أخاف إله السماء،

فأنا لا أسحقُكم وأُكثرُ، فيكون لكم الخسران.

سأعمل (هذا) لأعرف إن كنتم صادقين.

فلا أعاقب أبرارًا لم يخدموا البرَّ أبدًا.

250      فإن أنتم صادقون هذا ما يُعرَف بعد زمان (قصير).

وإن أنا دعوتُكم جواسيس فربَّما أدعوكم صادقين(15).

واحدٌ منكم يبقى هنا وأنتم اصعدوا بسبب الجوع،

وليأتِ بنيامين أخوكم فأتأكَّدَ من أقوالكم.

آخذُ واحدًا منكم وأقيِّده أمام عيونكم،

255      وأخوكم الصغير الذي لكم، هو يأتي ويحلُّ قيودَه.

سأتأكَّدُ أنَّكم أبرار إذا كنتم لا تنسون سجينكم،

وأدعو لساني ظالمًا إن أتيتم بالصغير،

وأعلم من هذا المحبوس إذا كنتم تحبُّون بعضكم بعضًا:

فلكي أطلقكم من الشدَّة، لا تنسوا ذاك الذي في الشدَّة».

 

260      عضد يوسف رأوبين، وامتدح يهوذا جدًّا،

فالواحدُ منعَ عنه القتل، والآخر نصحَ بالبيع.

كان شمعون بعد رأوبين، فأخذه (يوسف) من جوقتهم،

لأنَّه ظهر أنَّه لم يعتنِ به في البرِّيَّة.

لأجل هذا أدخل أخاه شمعون إلى السجن،

265      لكي يتحمَّل آلامًا قاسية حتّى يعود إخوتُه إليه.

(وشمعون) كان أيضًا ابن ليئة التي ولدت خمسة رجال،

(فالآخرون) يخافون من أمِّه وإخوته، ويعجِّلون فيعودون إلى                                                                                                           مصر(16).

 

وابتهل الإخوة من أجل شمعون

اقترب هؤلاء وتوسَّلوا إليه: «يا سيِّدنا، لا تذلَّ فخرنا.

نقسم لك بالله أنَّنا نعود عاجلاً إلى مصر.

270      نحن ربوةُ رجال وأنت تُطلقنا بسلام.

فلا تبدِّل فينا ناموسك (= عادتك) لئلاَّ تكون أسوأ من كلِّ إنسان.

لو كنّا سارقين، لما كنتَ عذَّبتنا أكثر،

ولو حصل فقتلنا، لما تعذَّبنا هذا العذاب كلَّه.

خرَرْنا على التراب وتوسَّلنا وتضرَّعنا،

275      فرفعتَ سخطك على الودعاء مثل سيف (أصمّ).

فنحن ما استعملنا الجاسوسيَّة ولا عملْنا عملَ قتل(17)».

 

«ما خدمنا السرقة، وها أنت تحمِّلنا تبعتها،

وما قبضوا علينا في المملكة لأنَّنا مشينا مثل الوقحين،

وما أنزلنا (إلى مصر) أحرارًا وبعناهم للعبوديَّة.

280      إن شئتَ أن تقيتنا بحنطةٍ تبيعنا، (نشكرك)،

وإن لم تطلقنا، من هنا نمضي إلى أبينا الذي ينتظرنا،

فلا يخرجْ خبرٌ في مصر أنَّ فيها حُبس العبرانيّون.

نسلنا نسلُ الأحرار، فلا يُذَلُّ في أرضك.

وإن نحن مضينا كلُّنا، ولبث شمعون ولم يكن في جوقنا،

285      يشتدُّ حزنُ أبينا وحسراتُ شيخوخته.

نطلبُ لأبينا أن يمتلئ مكان ابنه الذي فُقد؛

البرِّيَّة سرقت حبيبه فلتُعد مصرُ مُحبَّه.

لا نريد أن نتذكَّر بلادك أسفًا بسبب شمعون،

كما تذكَّرنا البرِّيَّة آسفين بسبب يوسف.

290      به يُسَدُّ الخلل إذا كنتَ لا تثلم جوقنا،

ويُملأ مكان يوسف إذا ذهب شمعون معنا.

وإذ أنت على بعد مسافة تزيل حزن أبينا،

فيُحلُّك محلَّ ابنه وتزول ضيقاته(18)».

 

فردَّ يوسف رافضًا

«أنا خدمتُ البرَّ وعرفتُ معرفة الأبرار،

295      وأبوكم الذي هو بارٌّ، يعرف تصرُّفاتكم.

فإنْ سُمعت بركاتُ أبيكم وصلواته،

يكون ملكًا أخوكم الذي فُقد منكم إن كان بعدُ حيًّا.

ظهرت لي علامة، وأنا متأكِّد أنَّها ليست كاذبة،

فأنتم تعرفون خبر الذي وُجدَت قميصُه،

300      لكن ظهر لي أنَّكم أخفيتم الحقيقة عنِّي،

ولئلاَّ تضحكون منِّي، أردت أن أكشف وجوهكم.

واحد منكم يبقى عندي، وأنتم اصعدوا بسلام،

وجيئوا بأخيكم الصغير فيُفرِج عن شمعون».

 

«كلمات فمك آلمََتْنا لأنَّك عيَّرتنا بأبينا وبأخينا،

305      نقَّصت برَّ أبينا وجعلتنا بُغضاء لأخينا.

إن كان يوسف بعدُ حيًّا، فمن يعرف ما هي درجته؟

صلوات(19) والده ترافقُه حيث هو.

ربَّما درجةُ أخينا عظيمةٌ مثل عظمتك في مصر،

وصلاةُ أبيه قادرة أن تبعث الموتى من القبور.

310      فلا تُصغِّر بسبب سخطك، عظمةً أحبَّها الملائكة (20).

وربَّما أراد الله له أن يرى ابنه (ويكون) نظيرك.

وإن طلب ألاَّ نأتي، فالجوع يضطرُّنا أن نأتي إليك،

وإن تهنا في الأرض كلِّها، فنحن راجعون إلى يدك».

 

ومضى أبناء يعقوب

وأمر يوسف قهرمانه بأن يملأ أكياسهم حنطة،

315      وأن يضع في حمل كلِّ رجل فضَّته، ولا يتركه يعرف(21).

تقرَّر أن يبقى شمعون ويقوم هؤلاء ويمضون:

«امكثْ يا أخانا بسلام، ولا يحزنْكَ أنَّهم حبسوك هنا.

علينا وحدك، يا شمعون، وُجدَت مصر قاسية،

والرجل الصالح تبدَّل وكان شديدًا نحونا.

320      فما أمرَّ وأقسى الوقت الذي به يتركك جوقُنا.

ما أسوأ ساعة فراقك لأنَّك مزجت لنا كلِّنا فيها الغصَّة!

تعالوا نبكي بسبب شمعون أخينا، يوسفَ ابن راحيل.

خدمْنا الإثم والكفر، فتهيَّأت لنا المبغضات.

ولنخلط بالبكاء بسبب شمعون، ندْبَنا على يوسف.

325      شمعون باقٍ في القيود، ويوسف فصلته إرادةُ (الله)».

 

حملت عينا شمعون الدموع قبالة إخوته،

واختنق قلبه لأنَّه بقي في الغربة (بعيدًا) عن أحبّائه.

وهذا ما أطلب منكم: «لا تمضوا وتتخلَّوا عنِّي،

ولا تنسوا المحبَّة لشمعون كما نسيتم المحبَّة ليوسف.

330      أتّكل عليكم، يا أخوتي، أنَّكم تَرجعون وتُخرجوني.

أمّا أخي يوسف، فألمُه دائم لأنَّه لا يتأمَّل أننا سنراه.

أمسكنا عادة سيِّئة أن لا يطولَ ألمُه معنا.

والذي به أجرمنا إلى يوسف، يُشفى بشمعون أخينا.

تطلَّعوا وانظروا إلى دموع عينيَّ وتذكَّروني،

335      تطلَّعوا إلى قيودي وتأمَّلوا وتذكَّروا مَضايقي».

 

الحوار قبل الانطلاق

قال يوسف لإخوته: «لماذا تتباطأون هكذا؟

أيُّها الرجال، أتيتم معجلين، فلماذا تبكون هكذا؟

فامضوا بالسلام، وافتقدوا الجياع داخل منازلكم،

واحملوا السلام إلى أبيكم من المصريِّ الذي استقبلكم.

340      وها أنا آمركم في كلِّ ساعة، بأن يأتي بنيامين معكم،

فتتحقَّق البرارة التي تكلَّمتم عليها إلاَّ إذا كنتم كاذبين».

 

«ها نحن يا سيِّدنا نمضي إلى أبينا والغصَّة (في قلوبنا)

لأنّك أكرهتنا وأخذته (= أخانا) منّا وأبونا سحقنا كلَّنا:

ولَدَ اثني عشر ابنًا، وها الواحد بعد الواحد يمرمر حياته.

345      واحد فُقد بجانب الغنم، وآخر لبث عند المصريّين».

 

«هل تضايقتم على الذي فُقد كما حزنتُم على شمعون؟

فإن كنتم صنعتم هكذا (بيَّنتْ) إرادتُكم العظيمة كم تحبّ!

إن كان شمعون مضَّكم هكذا، فيوسف مرمرَكم أضعافَ أضعاف!

إنَّ كان هذا الموجود عذَّبكم، فبهذا الذي مات ذقتم طعم الموت».

 

350      «ما من نسل يحبُّ عشيرته مثل نسل العبرانيّين!

وحين نعود إلى شمعون تؤمنُ أنت بتوافقنا.

أمسَكْتنا مثل جواسيس، وستستقبلنا مثل (أناس) صادقين،

وكما أظهرتَ لنا قساوتك، سوف نذوق طعم عذوبتك».

 

وانطلقوا إلى كنعان

فقام إخوة يوسف وحملوا الحنطة وخرجوا من مصر،

355      وتركوا شمعون في السجن، شرط أن يعودوا عاجلاً.

وتحدَّثوا في الطريق الواحد مع الآخر، عن جَماله وحكمته:

«كيف أدرك وكشف الخفايا التي خبَّأناها

ولدت راحيل ولدَين، وهذا قد يكون الثالث.

ربَّما هذا (الرجل) استقصى عن الذي فُقد من زمن طويل،

360      استقصى عن يوسف وبحث، وبخبره أمسكَنا مدَّة.

وها هو استقصى وبادر لكي يُنزل بنيامين إليه.

خفيَتْ علينا الرواية وما أدركنا أنَّه فتَّش.

في آخر الأمر، إلهُ أبينا يعقوب يجلو لنا الحقيقة.

لو أنَّه كان أخانا وتعلّى وأخذ درجته،

365      لما كان سمح لنا أن نتكلَّم هكذا.

فإن أراد أبونا أن ينجز الأمر العظيم (الذي أعطانا)،

فلا نحزن على ذلك لأنَّ ما نالنا من سَحْقٍ هو قليل».

 

ولمّا بلغوا في اليوم الأوَّل إلى المنزل حيث يبيتون،

370      حلَّ واحدٌ منهم كيسه، فوجد الفضَّة في حمله.

حلَّ بهم الخوف والفزع، وفكَّروا أنَّ في الأمر مكرًا(22).

من طمر داخل حملنا الفضَّة التي أخذها القهرمان.

اجتهدوا أن يُلقوا علينا (التهمة) ويَجدوا سببًا علينا،

ومتى وُجدت السرقة يخرجوننا من البرّ».

وصل الإخوة إلى يعقوب

ولمّا وصلوا إلى أبيهم وسُمع أنَّ الرجال بلغوا (إلى الأرض)،

375      دخل الخبر، فطابت نفس الشيخ بالحنطة وبأحبّائه.

دخلوا كلُّهم وسجدوا قدَّامه، ولكنَّه ما رأى شمعون بينهم.

فَحزنَ وقطرت دموعه حين لم يرَ في الجوق ابنَه.

«يا أحبّائي، اتَّخذتم عادة أن تجدِّدوا لي مَضايقي:

خرجتم في جماعة، ودخلتم في نقص.

380      أين أخوكم شمعون؟ فأنا خائف منكم كثيرًا.

أكره أن أسألكم لئلاَّ تقولوا لي: فُقد.

خفتُ أن أقول: أين هو؟ ربَّما تقرِّبون لي قميصًا.

حين سألتُ عن يوسف، وهبتم لي ثوبه في الدم.

وإن أسال عن شمعون هكذا أتقبَّل ثوبه.

385      ما كفاني الحزن الأوَّل، فمن يقدر أن يحمل الثاني؟

قميصٌ واحد أحزنني، مصاب يوسف سحقني كثيرًا،

فلن آخذ بعدُ رفيقه لأنَّ هذا الألم الأوَّل قتلني».

 

وتكلَّم يهوذا

أجاب يهوذا وقال لأبيه: «يا أبانا، هدِّئ أشجانك،

وليُقم السكون في وجدانك: سأشرحُ لك فأَنصتْ إلى أقوالي.

390      لا تخشَ من أجل شمعون بأن يكون حصل له في الطريق ما حصل

ليوسف.

سوف تراه عائدًا، آتيًا، وبه يرتاح حزنُك الأوَّل.

إسمع يا أبانا الخبر الذي كان لنا بين المصريّين،

فما سُمع هكذا لبشر، لا بعدنا ولا قبلنا.

دخلنا إلى مصر واثقين، كما (دخلنا) البلدان كلَّها.

395      رجل يستقبل كلَّ إنسان يفرح ثم يصرفه بسلام.

مضَيْنا كلُّنا وانتهينا إليه: هو بهيٌّ ووجهُه نيِّر.

يسطع محيَّاهُ كالبرق، ويتلألأ حسنُه كالشمس.

وُضع في يده خاتم الملك، ورُميَتْ قلادةٌ في عنقه.

مركبةٌ قائمة لديه، فبهرَ حسنُه عيوننا.

400      فتح فمه ليتكلَّم فوقف الجميعُ ينصتون.

لسانه يفيض بأمواج الحكمة على السامعين.

فرعون الملك العزيز يتصبَّح بمشورة (هذا) الرجل.

فرعون ملك بالاسم، وهذا يسوس كلَّ شيء.

يشبه السحابة المليئة (بالماء)، فيُمطر الحياة في كلِّ الأقطار.

405      ذوقُه الفهمُ، والحكمةُ عنده مطرٌ هادئ وعذب.

ها نحن كلَّمناك عن عظمته، فاسمع الآن ما فعل لنا،

ومن كلِّ الشعب الذي كان هناك، علينا وحدنا كان قاسيًا».

 

وتحدَّث عن معاملة يوسف لهم

«ولمّا بلغ الوقت لندخل ونأخذ الحنطة،

أمر الناس المصريّين أن يحتفظوا بنا بحذر.

410      جعَلَنا ننتظر وقتًا قليلاً، ثمَّ أمرَنا لندخل ونقابله،

لنعرِّفه عن شعبنا بفمنا، وعن نسلنا بلساننا

فتح فمه الحكيم وشرع يفتري علينا (قال):

"ما عرف الجوعُ أرضنا"، واستصغرنا وسمّانا جواسيس.

فمن يرى يا أبانا هذه العظمة ولا يخاف؟

415      كلُّ إنسان أجاب بعده لأنَّه ألصق بنا اسم جواسيس.

سكَّر فمنا عن الكلام لأنَّه حسبنا قتلةً (في) أرضه.

بأقوال قالها لسانُه، رمى كمامًا على شفاهنا.

فمن يبيِّنُ لك كم أقوال المصريّين عزيزة، شديدة!

وكم هي مخيفة وجوه رؤساء الأقباط!»

 

420      «فتحنا فمنا بالبكاء وأقسمنا بصلواتك:

«ما خدَمْنا الجاسوسيَّة من يوم وَلدَنا أبونا.

نحن أبرار وأبونا بارٌّ، وقد ولد اثني عشر بارًّا.

واحدٌ من إخوتنا فُقد منّا، وآخر هو مع والده».

ما أراد الرجل أن يصدِّقنا ولا أن يثق ببرِّنا.

425      وانتهرنا بشدَّة فذابت كلانا في قلبنا(23).

شابه صوتُه الريح التي نشبَتْ، فانحنينا كلُّنا،

والجبابرة الذين ولدتَ، يا أبانا، صاروا كلا شيء قدَّامه.

شابه الأرز الباسق والسرو المنيع،

وقام منتصبًا كالنخل بحسنه الرائع كالورد:

430      "تقرَّر وتثبَّتَ الآن أنكم جواسيس".

ولكي يتثبَّت هذا، أقسم بحياة فرعون».

 

«ولمّا رأيناه أقسم بهذا القسم العظيم جدًّا،

صمتْنا وسلَّمنا نفوسَنا لحكمِه المليء غيظًا.

وقال لنا بعد مضي يوم: "أنا أخاف الله.

أصنعُ لكم نعمة بسبب جوع منازلكم:

آخذ منكم كلِّكم واحدًا، وأقيِّده أمام عيونكم.

فامضوا وجيئوا لي ببنيامين الذي قلتم إنَّه الصغير.

وإن كان بنيامين لا يأتي، يموت هذا الذي تركتموه.

ويتثبَّت لي أنَّكم ماكرون فيكثر العذاب لشمعون".

والفضَّة التي مضت معنا، رُدَّت معنا وحُفظت.

وهَبْنا الذهبَ لقهرمانه، وها نحن وجدناه في أكياسنا».

 

فأجاب يعقوب

فقال يعقوب لأبنائه: «كلامٌ مذهلٌ كثيرًا!

بعضُ كلامكم لفرحي، أمَّا كثرتُه فلمُضايقتي.

صُرُّوا الفضَّة التي أعيدَت لتكون مختومة ومحفوظة،

445      فربَّما صُنع هذا غلطًا، وبعد زمن نؤمَر بردِّها.

في الخبر الذي رويتموه لي، أَتركُ خبرَ شمعون.

دخلت كلمتُكم فمنعت عقلي من السير بعد.

من اضطرَّكم لكي تبيِّنوا أنَّ لكم أخًا صغيرًا؟

وماذا استفدتم حين قلتم إنَّ لكم أخًا مفقودًا؟

أحببتُ يوسف أخاه (= بنيامين) فأرسلته إليكم وراء الغنم.

ما عرفتُ ماذا حصل، فقلتم لي قُتل قتلاً».

 

«ما تخلَّيتُ عن حزني الأوَّل، وها أنتم تجيئون لي بآخر،

وتضيفون إلى حزني على يوسف، حزنًا على بنيامين.

ها سهم أوَّل (نفذ) في أمعائي، وقوس مشدودة (ترمي) بآخر.

455      ليخرج السهمُ الأوَّل، ثمَّ أُرشَق بالثاني.

انظروا شيخوختي وتحمَّلوا معي الأحزان التي أسمعتموني.

لا يُقرَع السيف بالسيف، والسنان يَصدم صاحبَه.

لا يحلُّ حزن ابني بنيامين محلَّ حزن يوسف.

هكذا كان لي في أبنائي بحيث اشتهيتُ لو أنَّهم ما كانوا.

460      إن طالت كربتي، ما من إنسان يتحمَّل مثل آلامي.

فالآن (مصابي) أسوأ من الاثنين الأوَّلين».

 

«طلبتُم بنيامين وتريدون أن تعدموني إيّاه(24).

وعدَني الله بأبناء فيهم تتحقَّق بركاتي،

وها هم يجرون ويمضون الواحد بعد الآخر، فمتى تتمُّ بركاتي؟

465      ما طلبَني إلهي كما سأل الله لأبي إسحاق.

جليًّا وهبتُ (له) يوسف وفرحت لأنِّي أوكلته به.

ما سأله جليًّا وها هو يسلَّّم إليه خفيًّا.

إن هو حيٌّ وإن هو محفوظ، فهو (= الله) يكون له مخلِّصًا.

ما طلبتم يوسف ولا شمعون، بل بنيامين.

470      ما أتى الأوَّلان(25) معكم، وأنا أخشى أيضًا من أجل هذا.

وإذا كان الجوع لا يقسو، فأنتم أيضًا لا تمضون.

وهكذا تبقون عندي، وأنا خائف من مصاب يصيبكم.

خرجتم أحد عشر إلى الغنم، ودخلتم من البرِّيَّة عشرة.

نزلتم عشرة إلى مصر، وصعدتم تسعة إليَّ.

475      وإن نزلتم من جديد تتركون في الطريق واحدًا كعادتكم.

كلُّ طريق تمضون فيه ينقص منكم واحد حين تعودون.

وإذا سافرتم عشر مرَّات، لن يبقى واحد منكم.

فإذا تركتم في كلِّ سفرة واحدًا، ففي السفرات العشر تنفدون.

في سفرتين (فُقد) اثنان منكم، وهذه السفرة تكون مثل رفيقتيها.

480      وكما اختطفتِ السفرتان منكما اثنين، تَخطف هذه الثالثَ أيضًا.

ولو أنَّ الله ما أراد أن ينقذكم من الألم،

لَكُنتم بقيتُم كلُّكم مثل عبيد في أرض مصر،

ولبثتم هناك كلُّكم في العبوديَّة لدى الغرباء».

 

«ماذا استفدتم حين كشفتم أمر بنيامين؟

485      ومَن دعاكم لتبيِّنوا أنَّ لكم أبًا شيخًا؟

ولو أتى على باله وقال: «جيئوا بأبيكم»،

كيف أقدر أن أمضي وأراه في ثقل شيخوختي؟

سألكم مثل حكيم: «ما خبركم، ومن أيِّ أرض أنتم؟»

وإذ سألكم عن أرضكم أعلمتموه على نسلنا.

490      فسِرْتُم بين الطرقات وما تعلَّمتم النظام

فما كان لكم أن تكشفوا له أنَّ لكم أخًا صغيرًا.

بل كان من الواجب أن تحسبوا لماذا يُكثر الأسئلة.

ولماذا طلب في استقصاءاته لكم أن يتعلَّم.

أنتم لستم من نسله، وسألكم عن العشائر.

495      هو من المصريّين، وأنتم من نسل العبرانيّين.

ما (الفائدة) أن يمضي إليه بنيامين، وهو طلبه باهتمام.

إن حبس شمعون في السجن، فهو لا يرحم بنيامين.

فهذا المصريُّ طلب أن يجيء عليكم العذاب،

وطلب في شرِّه أن يُبيد الجفنة كلَّها من أصلها.

500      فيا ليتني أسمعُ أنَّ يوسف ابني المفقود هو هناك

لا، لا يمكن أن أفصل بنيامين من كنفي وأتركه (يمضي)».

 

فألحَّ يهوذا

أجاب يهوذا وقال لأبيه من بعد هذا الكلام:

«لماذا يا أبانا، تضيِّق هكذا على قلبك في شأن أحبّائك،

وأنت لا تعرف في نفسك الآلام القاسية التي احتملنا،

505      كلَّ هذا الذي رويناه لك وإلى الآن يبقى (غضبك) حاميًا؟

ما من رجل في جوقنا عصى كلمة من فمك،

ولا نذكر أنَّنا سحقناك، ولا بكلمة ضايقناك.

شبَّهَتْنا كلمةُ فمك بأناس يُبغضون إخوتهم،

فمتى سُمع أنَّ هذا صُنع يومًا في نسلنا؟

510      من أجلك أحببنا أبناء زلفة وبلهة(26)،

وأنت تظنُّ أنَّنا أبغضنا ابن ليئة (شمعون) وابن راحيل (يوسف).

نستحلفك بالله: لا تتعب نفسك بالخداعات

احفظ نفسك منها، وإن أذنبنا فربُّك يكشف لك في نهاية الأمر».

 

«تضايقنا حين سمعنا أنَّ فمك البارَّ ازدرانا:

515      "في كلِّ سفرة تخرجون ينقص منكم واحد حين تعودون".

ماذا نصنع يا أبانا لأحداث أتت غصبًا عنّا.

وجدنا القميص، وهذا الذي وجدناه أتينا به.

إلهك وحده يعرف إن كان يوسف حيًّا أو لا،

فيبلغ إليك بيدَيْ إلهك، أن ترى ابنك حيًّا،

520      ويرفع من قلبك التفكير في شأنه.

ها سنوات (مضت) على أخينا الذي فُقد، وكلَّ يوم يتجدَّد الحزن

عليه.

التفكير به موضوعٌ في قلبك، وبه تخطأ بسببنا.

إن حصل وبلغ يوم فيه تُكفَّن شيخوختُك،

ربَّما تمضي وأنت مضايَق منّا كلِّنا من أجل يوسف.

525      ليكن البرُّ الذي فيه ربيتَ ممزوجًا بكلامك!

أنت بارٌّ منذ صباك، فلا تستصغرنا من أجل حقيقتك.

قمْ، سلِّم إلينا الصغير فنمضي ونجيء بالسجين،

وإذا نزل بنيامين، فهو وشمعون يعودان عاجلاً».

 

وتوسَّل رأوبين

فاقترب رأوبين وتوسَّل إلى أبيه: «سلِّم إليَّ أخي بنيامين

530      وأكون له أبًا بدلاً عنك، وإليك أعيده سالمًا.

ها أنا أسلِّم إليك بدله ابنيَّ الاثنين اللذين رُزقتُ.

وإن كنت لا آتيك بالصغير، يا أبي، فلا تشفق على ولديَّ».

 

«يا رأوبين، لا أسلّمك بنيامين فينزل معك.

فإن كنت لا تشفق على ثمرة بطنك، فأنت لا تحبُّ أخاك أيضًا(27).

535      تكدَّرتُ من كلامك وذقتُ به طعم المرارة.

فإن فُقد منِّي بنيامين هل أقتل الموجودين؟

فمتى ارتحلتم من عندي، أتعزَّى بأبنائكم.

فإن لم يكن لي لا أنتم ولا أولادكم، فمن لي فأتعزَّى به؟

لا تحزنونني ببنيامين، فشدائدُ الطريق كثيرة.

540      لعلَّ مصابًا يحصل له فيرافقني الشقاء إلى الشيول (أو: القبر).

ها هو إلى الآن ما اعتاد أن يخرج بدوني،

فربَّما حصل وطلبني فيموت إن لم يجدني.

حُرم وهو طفل من أمِّه، وصار وحيدًا (حين فَقد) أخاه،

وها أنتم تطلبون أن تحرموه من كنف أبيه»!

 

فتراجعَ يعقوب

545      حين تركوه بعد أن شرعت الحنطة الأولى تنفد،

دعاهم مضطرًّا (وقال لهم): «امضوا واجلبوا لنا القوت(28).

تعالوا، اذهبوا جميعًا وأقيتوا جياع منازلكم.

وإذا رجعتم وانطلقتم، آمنَ الرجل أنَّكم أبرار».

 

فأجاب يهوذا(29) وقال لأبيه: «لا نقدر أن نرى الرجل

550      إن كان بنيامين لا يمضي، فنوجَد صادقين.

شهادةً أشهدَ علينا، وقسم (بحياة) سيِّد تلك البلاد:

"لا ترون وجهي إذا لا تأتون إليَّ بالصغير".

وإذا لا يمسكنا مثل كذَبة، فهو يعذِّبنا مثل قتلة.

وإن كان بنيامين لا يمضي، فكيف يشبع من إذلالنا؟

555      فأنا يهوذا أضمنه، ومن يدي تطلبه، يا أبي.

فأنا أخاف من لعناتك وأتعب بحيث لا أكدِّرك.

وليس موضع آخر، يا أبانا، نمضي إليه ونعيش منه.

فالجوع الشديد يضطرُّنا أن ننزل لدى المصريّين.

فسلِّم لي الصغير وأنا أريحك به، يا أبانا.

560      فإن لم آتِ ببنيامين أكون مخطئًا تجاهك أيّامي كلَّها.

أكون له بمثابة أبٍ وبمثابة أمِّه وأخيه.

فيأتي ويفرح في قلبه مثل من رأى أحبّاءه.

يا أبانا، كنتَ بارًّا على الدوام، فلتثبت لديك برارتك.

ولا تُحدرِ الكثيرين من الرفعة، يا أبي، في سبيل حبٍّ واحدٍ(30)».

 

وسلَّم يعقوب بنيامين

565      أجاب يعقوب وقال لأبنائه: «ها أنا الآن أسلِّمه.

بكفالة يهوذا، أفصلُ ابني عن كنفي.

أنا اليوم آمركم، وبالله أستحلفكم:

لا تتغاضوا عنه في الطريق لأنَّ ليس له أخ في جوقكم.

يمضي بنيامين معكم، ويكون الفرج للسجين.

570      وإن كان ابن راحيل أحزنني، أستعيد (نفسي) به وبشمعون.

خذوا معكم ثلاثة أضعاف الفضَّة على هذه الفضَّة الأولى(31).

ربَّما حصل وغلا ثمنُ الحنطة بعد أن سحق (الجوعُ) البلدان.

خذوا معكم هدايا من طيِّبات أرض كنعان،

فلا يليق أن تقابلوا تلك العظمة بأيدٍ فارغة.

575      فليس في ذلك خسارة أن تقتنوا الثقة هناك.

التقدمة هنا حقيرة وبه تنجلى وجوهُكم.

خذوا لازنًا وفستقًا ولوزًا وبلسانًا ودبسًا.

ذاك ما يوجد في بلدنا، وهو محبوب لدى المصريِّين.

وخذوا معكم أخاكم بنيامين الذي طلبتموه،

580      والله إله آبائي يرافقكم بالرحمة كلَّكم.

هذا الإله الذي قدَّم لي الراحة في حاران(32)،

هو يهب لبنيامين أن يفرح به هذا المصريّ(33).

هذا الذي كان لي حافظًا في بلاد فدّان أرام(34)،

هو يكون حافظًا لبنيامين لدى المصريّين.

585      هذا الذي جعلني ألاقي على البئر بنات لابان أخي رفقة(35)،

هو يهيِّئ للصغير الفرحَ حيث يمضي.

الله الذي تجلّى لي(36) منذ صباي حتّى اليوم،

يرافقُكَ يا بنيامين في الغربة التي أنت ماضٍ إليها،

فيكون لك هذا المصريُّ بمثابة يوسف ابن أمِّك،

590      والله يحلُّ داخل وجدانه فيقبلك ويبتهج بك،

فتقول له وتخبره عن أخيك يوسف الذي فُقد.

وحين يستمع إلى كربك، يعزِّي لك قلبك،

وتقول له عن يُتمك الذي قبلته من حشا أمِّك.

وتقول له إنَّك ما رضعت الحليب من ثدي راحيل.

595      وإن أمر لك بالسوء، فحين يراك يخمد غضبه،

ويتبدَّد فكره السيِّئ وتُهيَّأ لك الخيرات.

قل له بأيِّ حسرة تخلَّيتُ عنك من داخل كنفي.

ليرَ الله تنهُّداتي ويُعبرْ مضايقي بمرآك».

 

نصائح يعقوب لبنيامين

«وإذا طلب المصريُّ أن يسيء إليك، صلاةُ أبيك تساندُك،

600      وفي اليوم الذي يراك فيه، يتأمَّل فيك كأنك أخاه.

ترتحل من هنا بسلام وتعود إليَّ بأمان،

وتكون لك مصر سهلة أفضل من أهل بيتك.

ها أنت ترتحل والغمُّ في قلبك، ولا تعرف من سوف تلتقي.

تفرح في طريق أخرى، وترتعب حين تنزل إلى مصر.

605      تأتي يا ابني وتخبرني عن حبِّ هذا المصريّ،

وبسبب هذا الحبِّ العذب تجعله لك بمثابة يوسف».

 

«كن يا ابني حذرًا بأقوال فمك، ولا تتكلَّم جهالة

لا تخف ولا تستعجل، فيميل لسانُك من مكانه.

فالرزانة هي سمةُ الحكيم في كلِّ البلدان».

 

610      «فإن شاهدتَ عظمته فلا تخف من سؤاله لك،

وإن سألك أمورًا عميقة، اذهب للقائه بدهاء.

فلو كان إخوتك حكماء، لتكلَّموا قدَّامه بإتقان،

فما كان تمسَّك بأقوالهم وأرسل فأخذك إليه.

فلا تمضِ وتتكلَّمْ فيكون في كلامك ضرر.

615      ومن أين لي بأخيك يوسف فيأتي ويُصعدك من هناك؟

وإن حصل وأمرني (أمرًا) قل قدَّامه، مثِّلْ شيخوختي.

اعتذرْ له بأنَّ شبابي وهب المكان لشيخوختي.

وحين يرى رأوبين البكر، يتعلَّم منه (طول) حياتي.

وحيث لا تراه شيخوختي، فمن رأوبين يعرف سنِّي.

620      تأتي يا ابني وتروي لي أنَّ نفسك ارتاحت هناك،

ومن فرحك تقول لي: هذا أخي يوسف بُعث (حيًّا)».

 

فتمتموا كلُّهم معًا: «نعم، آمين يا أبانا يعقوب

لترافقْنا بركاتك». واقترب يعقوب أيضًا وقبَّل بنيامين،

وضمَّه إلى صدره: «امضِ بسلام يا بنيامين،

625      وحين تأتي تعزِّيني في ضيقي لأنِّي مغتمٌّ إلى أن تعود».

خرجوا كلُّهم، فصرف يعقوب أبناء البيت والغرباء:

«لا يصلْ إليكم سوء في الغربة التي أنتم إليها ماضون.

ولتكن طريق مصر واضحة بحيث لا تعثرون بحجارة(37)

ترتحلون وأنتم تبكون ونستقبلكم ونحن فرحون»(38).

630      قالوا لأبيهم وهم يبكون: «سلام والبسِ السلام معطفًا،

فهذه البركات تقدر أن تبعث الموتى من القبور».

فبقي كلُّ إنسان من بعدهم (في الخيام) وساروا هم في الطريق                                                                                           التي قدَّامهم.

 

وصلّى يعقوب

وإذ بقي يعقوب (بعيدًا) عنهم، أضاف أيضًا على طلبته طلبًا.

بكى ورفع صوته، فبكَتْ أسسُ البيت على صوته.

635      مثل نسر طارت أولاده، طار أولاده من قلب كنفه،

فمن يدخل مثل عادته ويعزِّي وجدانه المضايَق!

«بالصغير كنت أتشجَّعُ، وها هو ماضٍ في طريق مصر.

فمن يهبُ لي ابني يوسف الآن بعد أن تركني بنيامين.

كم أكثرَ لي الغمَّ الابنان اللذان ولدتْ راحيل.

640      كيف أدخل إلى البيت ولا يستقبلني الصغير؟

كيف يقبلني المنزل بعد أن طردتُ منه وارثيه؟

هكذا كان للآباء وما طلبوا ثمارًا في الأرض.

حين تعبوا وربُّوا وكدُّوا، طار (أولادهم) وراحوا من أكنافهم.

فرغَتْ أحضاني يا إلهي، فلتمتلئْ بعجل من أولادي.

645      فلا تضايقْني يا ربّ وتضايق شيخوختي، فأفرح بعودة أحبّائي.

من لبس الجسدَ يا ربّ، لا يقدر إلاَّ أن يحزن،

ومن اتَّكل على رجائك، لا يرتخي بالنسبة إلى أحبّائه.

ألبستني جسدًا بشريًّا فاغفرْ لي ما تضايقتُ منه قليلاً،

وإن كنتُ حزنت كإنسان، فأنا أتَّكل عليك (يا إلهي) وأستند»(39).

 

(39) انتهى الميمر السابع، حين نزل إخوة يوسف لشراء الحنطة من مصر.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM