القصيدة السادسة: تكريم يوسف

القصيدة السادسة

وارتفع يوسف البارّ

في القصيدة السادسة، نعرف كيف تبدَّل وضع يوسف كلِّيًّا: كان في أسفل الدركات فرُفع إلى أسمى المراتب. فسَّر الحلم للملك، فجعله الملك سيِّدًا على مصر. ففرح المصريُّون بهذا الرجل الحكيم: الملابس الملوكيَّة، ندامة امرأة فوطيفار التي طلبت أن تكون أمةً لذلك الذي افترت عليه فزُجَّ في السجن. وبدأت سنوات الخصب، ففهم الفرعون أنَّ حلمه تحقَّق. بدأ يوسف يجمع القمح لسنوات الجوع، لكي يوزّعها على الآتين إليه. فلم يبقَ ليوسف سوى أن يشكر الربَّ على إنعاماته. اشتهر يوسف في مصر، فتذكَّر إخوتَه واستعدَّ لأن يتجاوز ما أساؤوا به إليه.

تكريم يوسف

مشورة يوسف

«يا فرعون الملك، تأكَّد أنَّ إلهي أعظم من أصنام(1) تخافها.

فأنا عبدك، غلبتُ سحر المصريّين.

دعوتُه فأتى وفسَّر لي فما تعكَّرتُ في التفسير،

وما انتهت الكلمة في فمك حتّى بدأ التفسيرُ في لساني.

5          أنت رويتَ الحلم وأنا فسَّرته كما سوف يكون.

أُعطيك مشورة إن عذبَتْ أقوالي في أذنيك.

إبحثْ لك عن رجل حكيم مملوء بالحكمة والفطنة،

يخرج على الأرض كلِّها ويجمع واحدًا من خمسة

ابنِ مدنًا حصينة، وأنشئ أهراء منيعة.

10        فالجوع القاسي يُرسَل على مصر وعلى الأرض كلِّها.

بقدرة الربِّ عبَّرتُ لك، وبمشورة وجداني أعنتُك.

ومن الآنَّ دبِّرْ سلطان مملكتك، كما تشاء».

 

لا حكيم مثلك

ما إن أتمَّ يوسف كلامه حتّى صاح فرعون مع المصريِّين:

«ما من حكيم مثلك يهتمُّ بمملكتنا.

15        ما قام في مصر رجلٌ يؤاسي مرضها مثلك.

سلام على كلمتك، أيُّها العبريُّ، ففيها وُضعَت الحياةُ للمصريّين.

أنت تكون مدبِّرَ مملكتي، ولك يسمع الرؤساء.

نقشتُ أمرًا في مصر: أن تكون مشارِكًا في سلطاني،

وعلى كلمة فمك تأخذ الأرض كلُّها ناموسًا(2).

20        وبدونك لا يرفع إنسانٌ يدَه في داخلها،

ومثل سلطانك على مصر، تتسلَّط على بيت فرعون.

يخضع لك بيتُ الملك، فبك بُعث جيشه (وقام).

ولكي تتأكَّد وتؤمن أنِّي فعلت (ذلك) بقلب صالح،

ها أنا واضعٌ في يديك خاتمَ المُلك.

25        فمن يقدر أن يعصيك، وخاتمُ الملك موضوع (في يدك)؟

ومن يستهين بأمرك حيث الملكُ رضيَ بك؟

جثَّةً كانت مصرُ كلُّها وبطلَتْ بأحلامي مثل ميت،

ففتحتَ الأحلام كما (يُفتَح) قبرٌ، وبعثتَ جثَّة مصر (من الموت).

كانت أحلامي من قبلُ قبرًا لي ولجيوشي،

30        فأُرسلتَ مثل عارف، ومنعتَ عنّا الإبادة.

هذا وهبك الله إيّاه، فليس فهمنا مثل فهمك.

يليق بحكمتك أن توقَّر على المركبة (الملكيَّة).

أَهبُ لك مركبتي فتخرج مثل ملك في مصر.

يأتي الأحرار فيسلِّمون عليك، وبنو الأحرار فيكرمونك».

 

سرور فرعون والمصريّين

35        فصاح المصريّون في فرحهم، وتكلَّموا من أجل يوسف:

«كم يحقُّ الوقار لهذا الذي نجَّى المملكة!

حسنًا وبكلِّ لياقة، عظَّمتَه يا فرعونُ الملك،

وهو الذي أخزى اليوم السحرةَ وزيفَهم.

حسنًا فعلتَ: عزُّك لم يحسده حين كرَّمته.

40        وهذا الذي رفع ذلَّنا، رُفع من قِبل سلطانك.

انذهلنا به وبلسانه، فما تبلكمَ مع صغر سنِّه.

مثل الفيضان صبَّت شفتاه مطرًا يتفجَّر بالحكمة.

أقوالُه جميلة جدًّا، وكلماته محبوبة.

الإثمُ يكون على الذين أخذوه وحبسوه في السجن.

45        فهذا الرجل منارة هو، وكان في الحبس مدَّة طويلة،

فالطوبى العظيمة للسجناء الذين كانوا معه أيّامًا!».

 

سمع فرعون ففرح كثيرًا لأنَّ المصريِّين يشكرونه،

فطلب من كلِّ إنسان أن يعظِّم الرجل الذي عظَّمه وأكرمه.

وأمرَ أن يَلبس العبريُّ لباسَ الملك البهيّ :

50        البزُّ ورفيقه الحرير، لباسٌ من الصنع الملكيّ.

وتُسرَج له المركبة، فيكرَم بها كما الملك.

ويصعد ويجلس مثل الشمس، وترى مصرُ شعاعاته.

«به استنارت مصر، بعد أن أُرسل لها مثل الشمس.

فلا تبغضوه أيُّها المصريّون لأنَّه يضرب بنيكم بالضيق.

55        لم أقدر أن أدعوه سيِّدًا، فها صنعتُه لي أبًا.

فمن يطلب أن يكرمني يصغي إلى أقواله».

ولبس يوسف اللباس الملكيَّ

لبس يوسف البزَّ المنسوج وحريرَ الصنعَ الملكيَّ،

وعلَّق القلادة في عنقه، وصعد وجلس في المركبة،

زُيِّح في شوارع مصر ورافقته جموع النبلاء.

60        قدَّامه صرخ المشاة: «ها هو أبُ مصر وسيِّدُها.

فمن له دعوى على رفيقه، يكون هو له سامعًا.

جلس فرعون وارتاح، وها يوسف الملك الثاني.

فمن ظُلم يقترب إليه، لأنَّه يصغي كثيرًا للمظلومين.

ومن جُعل في الأغلال، لا يرخي به الأيدي».

65        وتطلَّع الناس لينظروا إليه من القصور والحصون،

وتطلَّعت إليه النساء من الجدران والعرائس من الأخبية.

اشتهر خبرُ حسنه فأراد كلُّ واحد أن يراه،

والتذَّتِ الآذان لسماعه، وارتاحت العيون لمرآه.

 

وأتت زوجة فوطيفار

ومثل سائر المصريّات، تطلَّعت إليه سيِّدته (امرأة فوطيفار) فرأته:

70        خارت قواها وأمسكها الطلق حين رأت رفعةَ عبدها:

«هذا يوسف العبريُّ تجاوز حدود التأديب،

وما ثبت في الوسط فمدَّ سلطانه حتّى إلى الملك.

من وهب المركبة لهذا الذي حبسناه في السجن؟

ومن أخضع مصر لرجل غريب الجنس؟

75        هذا الذي اشتراه التجّار، شرطةُ الملك ترفعه.

هذا الذي أذلَّته العبوديَّة، ها قلادةٌ تُعلَّق في عنقه.

هذا الذي أنا أخذتُ ثيابه، ها هو يكتسي بالبزَّ المنسوج.

عريانًا هرب منِّي في الأسواق وها هي الآن مليئة من عظمته.

كثيرون قالوا لي: ها عبدكِ هو الملك الثاني.

80        فما تثبَّت وجداني. الويل لي، ربَّما يقتصُّ منِّي!».

 

«ويل لي، ربَّما يجازيني الجهالةَ التي اصطنعتُ(3)،

ويدرك فرعونُ الملك الفعلَ الذي به ظلمته.

أمضي، أطلبُ، أتوسَّلُ، أو من المفيد أن أجلس ساكنة.

فيا ليتني أعرف إن كان يقتصُّ منِّي أو ربَّما نسيَني.

85        إن هو أفلت وروى ما صنعتُ له في البيت،

قطع فرعون الملك رأسي، وصار فوطيفار أضحوكة.

ربَّما يحصل أن يلتقي بي اليوم، فأطلب أن أنهش طهارته،

ولأنَّه لم يسمع لي في هذا، ها هو يكرَّم على المركبة.

ربَّما لو أهملته لكان عبدًا عندنا إلى الأبد.

90        أنا أثمتُ وازدريت، وكان للعبد الكرامة الكبيرة.

الخطيئة التي «فلحها» ظلمي، حرَّرَتْ يوسفَ من النير.

يا للشهوة التي استعبَدَتْني وصنعت للعبد تحريرًا.

فالخطيئة تحوِّل (الأمور) فجأة فتصنع العبيد أحرارًا.

كم البرُّ صالحٌ هو، فبه يصير العبيد ملوكًا.

95        تحرَّر يوسفُ بالاستقامة، ولبسها معطفًا.

وأنا أفلح للعبوديَّة التي أخضعني الدنس لها.

بعدلٍ كان هذا لي لأنِّي وثبتُ على الطاهر وأثمتُ.

ما خرقه السهمُ الذي رميت، فانعطف زجُّه عليَّ».

 

«حين يصير(4) في جوارنا، أبيِّن له خضوعي وأسجد،

100      وأستحلفه باسم إلهه، أن لا يَثبُتَ ذنبي في قلبه.

أفكِّر في ما أقوله له، وإن حصل وطلبني قدَّامه،

أقول له: يا سيِّدي إنَّ خطيئتي ألبست عقلي الجنون،

أنا محتقَرة من يوم خدمتُ الفجور.

تعرقل لساني بأقوالي فبُهتُّ: كم أثمتُ!

105      وإن أردتَ أن تؤدِّبني، ففي تأديبك العقاب الذي أستوجب.

ما أذنب فوطيفار حين أحبَّك، فآخر أفسدَه.

لتأخذ عظمتُك اعتذاري، حتّى لا أحمرَّ من خجلي.

ولأنِّي ما خزيتُ حين عرَّيتك، فأخزني بقدر ما تحنُّ عليَّ.

يا ليتني تميَّزتُ وأكرمتك، لكثرت كرامتي في مصر.

110      لكنِّي حبستك في السجن، وها أنا أخجلُ حين أنظرُ في وجهك.

تطلَّعتُ فيك مثل عبد، فتطلَّعْ فيَّ الآن مثل أمة.

فمن يعطيني أن أكون لك مثل أمة؟

قلْ لي: أما يليق بهذه العظمة أن تأمر بتحقيري،

وأن يمتنع فمك المقدَّس أن يتكلَّم مع زانية!

115      لا تستحقُّ أمةٌ اقتنيتها أن تدخل مع سيِّدها إلى القضاء،

ولا يليق برجل عظيم أن تقف أمَتُه قدَّامه.

يا ليتها كانت امرأة عفيفة، ولكنَّها (كانت) امرأة سفيهة!

يا ليتها كانت امرأة مصونة، ولكنَّها (كانت) امرأة فاجرة!

لا ينحنِ علاك، يا يوسف، فيتكلَّم مع أمتك.

120      ولا تدنِّسْ فمك الطاهر في جدال مع زانية».

 

«مع الملوك(5) يليق بك منذ الآن أن تكون عشرتُك،

فتصغر كرامتك إن دخلتْ أمتُك قدَّامك.

إن أمرني ثاني (الملك) وطلبني، فهذا فخرٌ لي،

وأنتَ تكون ذليلاً إذا رأيتني أنا السفيهة التي أمرتْ سيِّدها.

125      فهذا هو الحكم المرُّ والعذاب الذي لا حدود له،

وهو أن أرى كم ارتفع ذاك الذي حسبتُه في السجن.

منذ وقت وأنا أتذكَّر ماذا أقول إن أمرني.

المصريّون هم أردياء، ربَّما يفترون عليَّ.

حاشا له أن يأتي ويحرِّك حفرة الحمأة هذه،

130      وحاشا للباسِ المُلك، أن يبلغ إلى فضح النتانة.

يترك سلطانَه المجيد ينزل ويتحاكم مع النساء.

فمصر كلُّها متعلِّقةُ به، فهل يهتمُّ بأمَتَه ويحكمُ عليها؟

حين كنتُ حرَّة، كره كلامي ونفرَ منِّي وهرب،

واليومَ بليتُ في خطاياي، فحاشا له أن يلبث لدى نتانتي.

135      من كتب في المجلَّدات العار الذي اقتناه وجداني،

فترتعد الوقحات حين يقرأ الكتّابُ خجلي.

هكذا يليق بالشريفات أن يسرنَ في طريق العفاف،

وهكذا يليق بالمظلومين أن يتباهوا، على الظالمين».

حين طلع الصباح، جلست في الغمِّ، ربَّما يقتصُّ منها فجأة،

140      وحين غابت الشمس، ارتاعت ربَّما يسبيها جزعُها.

فكان لها هذا العذاب أقسى من موتٍ دام ساعة،

فتستريح في يوم سريع من الضيق الطويل.

 

وأتت الغلاّت الكثيرة

ما اقتصَّ يوسف البارُّ من هذه الخاطئة المريضة،

وما فكَّر أن يؤدِّب جيفةً قتلَها الإثم.

145      لنَختُمْ خبر الخاطئة ونُنهي كلامنا على العفيف.

نُبغض خبر البغيضين، ونحبُّ حبَّ الأنقياء.

حملت الأرض على يديه (غلَّة) في سنوات الشبع السبع(6)،

وملأ الأهراء الكثيرة ونجح كما فسَّر.

«أنا واضعٌ لكم، أيُّها المصريُّون، البقيَّة من ثماركم،

150      فحين تنفد الغلاَّت، تقتاتون في (وقت) الضيق».

«اصنع يا يوسف، كما تشاء، فما عملك إلاَّ من أجلنا،

فمنذ ولدتْك أمُّك، رسمتك مخلِّصًا لمصر».

فملأ يوسف المخازن الرحبة، وأكثر الحنطة مثل الرمال،

فتعب الكيّالون من الكيل والذين يعدُّون من الحساب(7).

 

وسنوات الجوع

155      عبرت سنوات الشبع وبدأت (سنوات) الجوع تأتي،

ووردت معها رزاياها، وفي مقدِّمتها بدأ الجوع.

ففي ابتداء السنة عينها، نفدت (المخازن) من الغلاّت،

وفي نهاية السنة عينها، اغتنى حُبُّ فرعون ليوسف،

لمّا رأى أن بدأ يتحقَّق ما رُويَ كلامًا.

160      فاجتمعتْ مصرُ كلُّها، وطلبت الرحمة من فرعون(8):

«مُرْ يوسفَ الحكيم أن يفتح الأهراء ويبيعنا،

لا نمُتْ يا سيِّدي من الجوع، فها المدبِّرون حكماء.

نحن نحيا، وفي كلِّ مكان تشتهر حكمتكم،

وإن لم تشأ أن تعطي أحببتَ موتَ أرضك.

165      وإذا أغلقتَ باب الرحمة ها خرابُ مصر بلغَ.

فماذا ينفعك المُلك إن لم يكن للملك جيش،

وأيُّ مملكة سوف تدبَّر إذا رؤساؤها لا يستمرُّون؟

لا يولولُ فيها ابن آوى الذي يحبُّ خراب المساكن،

ما دمتَ أنت ملكًا على الأرض ولك يوسف من يسوس أمورك.

170      لا يقتلُنا الهمُّ ما دمتما أنتما في الحياة.

كما سمعنا من يوسف أنَّ الجوع هو في الأرض كلِّها،

أرضُنا لا تجوع لأنَّ مدبِّريها حكماء.

تحتاج البلدان هذا المكان الذي أنتما فيه،

وحين يأتون ليشتروا نأخذ الطوبى بسببكما.

175      فلمن وُهبَتْ قطُّ موهبة كما لمصر؟

منها أرسلت الحنطة إلى الجياع بحكمة رؤسائها».

 

فمضى الناس إلى يوسف

قال فرعون لشعبه: «لكم جُمعت الحنطة.

أُرسل لنا مدبِّرٌ ساعدتني مشورتُه وساعدتكم.

إمضوا إليه كما أراد وهو يسوس حاجتكم.

أنا سلَّمتُ لإرادته لأنَّ صنعَه أحكمُ من صنعي.

هو يعرف كم يعطي، لأنَّه يعرف كم جمع.

هو عرف الشبع الذي عبر، وهو يتبحَّر في الجوع الآتي.

وقبالة معرفته هذه، وَهبتُ له أن يسوس (شؤوني).

فذهن الملك أوضع من حسابات العبريِّ»(9).

185      فمضوا إلى يوسف وهم يصرخون: «تحنَّنْ علينا أيُّها الملك                                                                                                             الثاني.

ها فرعون الملك أرسلنا إليك، أيُّها الصالح والحكيم.

فكُنْ لمصر مخلِّصًا، فعظمتك كثيرة في داخلها.

ولتكن (مصر) متذكِّرة إلى الأبد أنَّ مشورتك خلَّصتْها من                                                                                                   الموت».

«لا ترهبوا الجوع فأنا مستعدٌّ لأن أواجهه،

190      كساني الله بسلاحه، فنَهَمُ الجوع ينحرف عنِّي».

 

ففتح المخازن

فتح يوسف المخازن وباع الجائعين الذين يطلبون القوت(10)،

فرحَتْ به مصرُ كلُّها لأنَّ به لاقت لها الحياة.

يُذكر حشا التي ولدتك لأنَّها وهبت لنا ثمرًا صالحًا،

تُذكَر جماعةُ التجّار الذين باعوا لمصر مخلِّصًا.

195      من يأتي بوالديه ليشاهدوا كرامتَه في بلدنا!

طوباهما إن هما قائمان (في الحياة) فيسمعان مثل هذه العظمة!

تُباركه أفواه الأطفال الذي منع عنهم الجوع،

والشيوخ الذين عتقوا يشكرونه، لأنَّهم لم يمضوا إلى الموت                                                                                                  جائعين.

تُباركه العرائسُ أيضًا، لأنَّ أيّامهنَّ به تباركت.

200      يشكره عرسان مصر، لأنَّهم لبسوا الفرح وتجلَّلوا.

يُذكر بالسلام التجّار الذين بسببهم استقبلناك.

يُذكر نسلك العذب الذي أجرى لمصر الحلاوة.

إن مات أبوك فما هو ميت، لأنَّه تركك بعد موته.

ساندتَ مصر كلَّها بسياستك الحكيمة،

205      ليسندْك قلبُ والدك حين يرى كرامتك كما يشتهي».

 

وقام يوسف للصلاة

وقف يوسف وسط المخازن وقلبه يفكِّر في الصلاة

كلَّ ساعة هو يبارك الله الذي وهب له العظمة في مصر.

«من الحرِّيَّة إلى العبوديَّة، ومن العبوديَّة إلى السجن،

ومن السجن إلى الكرامة، ومن الكرامة إلى المركبة (الملكيَّة).

210      من استند ضميرُه على الله لا يَخزى،

ومن ضميره حارب الحقَّ لا يظفَر.

لو حصل وعرفتُ الضيق بسبب المضايقة التي حلَّت بي،

لكان الألمُ أكثرَ مضايقي وما وجدتُ العظمة.

ربَّيتُ أحلامي مثل أطفال، فنالني الجزاء من الذين صاروا رجالاً.

215      عشرين سنة انتظرتُ، فحصدتُ مئة من واحد(11).

ينتظر الإنسان الحلمَ شهرًا وإن كثر شهرين وثلاثة.

من مثلي انتظر عشرين سنة ليرى (حلمه)».

تقدَّم المصريّون كلُّهم وسجدوا ليوسف البارّ.

سيِّده(12) الذي اشتراه بثمن، عاد فسجد لمن اشتراه بالفضَّة.

220      مبارك من صنع هذا التبدُّل لئلاَّ تكون البلبلة في الأحلام،

في القيود مضى يوسف معذَّبًا إلى السجن.

والرجل الذي أرسله في القيود، سجد مرتعدًا أمام من قيَّده.

المحتاجون أتوا وارتاحوا، والجائعون أتوا واقتاتوا(13).

اليتامى الذين أتوا، استندوا إلى الميناء التي تكفي الجميع.

225      أتت إليه الأرملة وكيسها فارغ، فامتلأ كنفها (أي حضنها).

الفقير أتى بمنا واحد، فحمل أحدَ عشر ومضى(14).

 

وشهد يوسف لله

في كلِّ الأسواق داخل مصر يُنادى ببركاته،

في الدور وفي المنازل، يُنشَد اسمُ هذا الرجل.

«كم هو مستقيم هذا المدبِّر، فلا يتملَّق الأغنياء.

230      اهتمَّ بشأن المساكين فكانوا أوَّل من ارتاح.

ما عاد المساكينُ مساكينَ، باهتمام العبريِّ.

في أيّامه، يتامى مصر صار لهم أبٌ، وهو اليتيم.

هُزمت البلدانُ بالجوع، ومصرُ وحدها ما هُزمت.

مُنع الضيقُ عنها بمشورةٍ من حِكمته.

235      ما اشتهرت مصر إلاَّ حين غلبت الجوع فهرب.

التجّار أتوا بالقوس لكي يقتلوا الجوع بسهامها.

العفَّة التي لبسها جسمُك، وَتَرٌ يمتدُّ على القوس.

والمشورة التي من شفتيك، عصا تطرد الضيق.

بأسعار صغيرة باعك التجّار مجّانًا لأنَّهم ما عرفوك.

240      أشار الله بهذا التدبير فوهبك لنا بواسطة التجّار.

فبأيِّ فم ولسانٍ نَصِفُ مساعدةَ يوسف.

مصر المليئة بالسحرة مُنعت الشدَّةُ عنها.

من يأتي من الصباح يُستقبَل، ومن يأتي في المساء يُعطى الراحة.

في نصف الليل لا ينام، وفي الليل لا يتوقَّف عملُه».

 

245      «بطلَتْ حكمة الحكماء، لأنَّ يوسف استخفَّ بحكمتهم،

كما على صناعة السحرة انتصر هذا الصادق.

ها مكرُهم فُضح بيد واحدٍ يخاف الله،

فلإله يوسف وله وحده يليق الانتصار.

أرسل لنا يوسفَ نبيًّا فحنَّ بحلمه على بلدنا.

250      أرسل الله عبدَه إلى بلدنا لهدفين اثنين:

ليساعدنا بتدبيره فنعترف للقدرة التي وهبته لنا.

السحرة الذين لم يساعدونا، سجدنا لهم مثل أسياد (= أرباب).

وهذا الذي اشترانا من الموت، ها هو يُحسن إلينا ربوات وربوات.

مبارك إله يوسف الذي أرسل لنا قوَّة في الجسم.

255      يلذُّ الترداد بالألسنة لأنَّها فسَّرت ونزلت إلى مصر.

إفرَحْ بإلهك، أيُّها العبريُّ، فبسببك كثُرَ مجدُه.

وها إيمانُك يجري في أرض ما دخلها يومًا.

لتفرح «عقبالك» بلدنا التي تركت الظلمة العابقة،

وها نحن نسير بلا عثرة من النور الذي من قنديلك».

 

وتذكَّر يوسف أباه وإخوته

260      خرج خبر (يوسف) في البلدان، وطارت في الأرض بشاراته.

القريبون أتوا يسلِّمون عليه، والبعيدون شاؤوا أن يكرموه.

فمصر التي كانوا يخافونها، صارت محبوبة بسببه.

فانصبَّتْ عليها البركات من الذين حسبوها ميناء الأفراح.

ومن كلِّ جهة أتوا وارتاحوا (بما أخذوه) من مصر.

265      وتعلَّموا من (يوسف) الحكيم ما عدد السنين الباقية.

ساد خبرُه في البريَّة (= الخليقة) مثل النور في البلدان،

ومثل الشمس في الأقطار الأربعة، امتدَّت شعاعاته الروحيَّة.

 

«هذا فقط أطلبُ يا ربّ: هب لي أن أرى يعقوب،

فيعبر عنه الحزن الذي لبسه لأجلي طيلة سنوات.

من يدلُّني على إخوتي الذين أحبُّوا ثمني وأبغضوني،

فأهب لهم مئة ضعف وأكثر من الفضَّة التي أخذوا،

وأفيض على رؤوسهم نعمة لا يستحقُّونها.

ولو حصل ورأوني، أتجاوز (كلَّ شيء) برؤيتهم(15).

ها كلُّ أفراحي كملت، ونقصتني فقط فرحة واحدة».

 

275      «أشتهي أن أرى أبي وأسمع أنَّ بنيامين معافى.

هب لي ربِّي أن أرى يعقوب وأصف له كلَّ ما رأيت.

وهب لي أن أستقبل بنيامين الذي خدم اليُتم وهو فتى.

أهِّلْني لأن يرى (أخي) كرامتي وترتاح نفسه بعظمتي،

فلا يمضي وهو حزين إلى راحيل التي ولدته،

280      وأن يراني أبي يعقوب حيًّا ويؤدِّي المجد لله،

فلا يمضي البارُّ ومعه (خبر) قتلي وهلاكي.

إن رآني يومين اثنين، وينتقل بلا ضيق (إذ يرى) كرامتي،

يُوزَن حزنه قبالة حبِّه، فأعرف أنَّ أحزاني سحقته.

بهذا الإكليل الذي أحبَّني، به أيضًا حمل آلام أحزاني

285      صلاته أقوى من صلاتي وهي لدى الله مسموعة.

والذي فلح معه، يهب له أجر طلبته برؤيتي.

فأنا أصلِّي لأراه، وهو يتوسَّل من أجل حياتي.

حاشا لله أن يتنكَّر لطلبته أو طلبتي.

حين يراني يخلع حزنه، وإن رأيتُه أنا أنسى آلامي،

290      وحين يراني وأقبِّله، يكثر تسبيح (الله) بيننا».

 

والله الذي حرَّر يوسف من عبوديَّة الأغلال،

هو يحرِّر من عبوديَّة الخطايا ذاك الذي تعب في (نشر) خبره.

عفَّتُه حرَّرته، هب لي أن تتحرَّر إرادتي،

والحرِّيَّةُ التي فيَّ من الذنوب. لأجل يوسف أقول:

295      «المجد لذاك الذي شابه يوسف، وليرتفع ويتعظَّم

الآبُ والابن والروح القدس إلى دهر الدهور. نعم، آمين(16).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM