القصيدة الرابعة: يوسف وامرأة فوطيفار

القصيدة الرابعة

امرأة فوطيفار نظرت إلى يوسف وأحبَّته

القصيدة الرابعة وعنوانها يوسف وامرأة فوطيفار، تبيِّنُ روح الزنى عند هذه المرأة تجاه عفَّة يوسف. كلُّ محاولاتها باءت بالفشل. وفي النهاية أمسكت ثوبه فكان شاهدًا عليه أمام الخدم أوَّلاً ثمَّ أمام زوجها، فوُضع يوسف في السجن الخاصِّ بموظَّفي الملك. ولكنَّ يوسف لبث عائشًا في الرجاء: الربُّ أخرجني من الجبِّ وهو سوف يخرجني من السجن.

وشاهدت المرأة يوسف

بعد زمان قليل شاهدتَهْ (= يوسف) سيِّدتُه فأحبَّته (1).

وما أن انتهت عذاباته، حتّى دخلت عليه قمَّةُ التجارب.

كان الضعيفُ سالكًا بالنقاوة والشهوةُ ماتت في داخله.

اضطرم بحبِّ ربِّه فانطفأت فيه محبَّة البشر.

5        في الدار اضطرمت عفَّتُه، فلمست الأشعَّةُ سيِّدتَه.

ما فرحتْ حين رأت النور، لأنَّها طلبت راحتها في الظلام(2).

شاهدت جمال الجسد وظنَّت أنَّه مثل أحد المصريّين.

وما ميَّزَتْ أنَّه مزيَّن بالفضائل الخفيَّة والجليَّة.

احتقر يوسفُ جسده وألبس الزينةَ نفسَه.

10      وإذ اهتمَّ جدًّا بالداخل كان أيضًا في الخارج جميلاً جدًّا.

 

صقلت سيِّدته وجهها ودنَّست نفسها بالوحل.

اسودَّ لونُها الخارجيُّ وتجاوز ضميرُها الطريق.

ظنَّت أنَّها إن تزيَّنت اصطادتْ عفَّتَه.

نصبت في وجهه فخاخ التبرُّج لتنقاد عينا الزاهي.

15      أمَّا جفناه فاقتنيا أجنحة فطار في السماء إلى الباري (الخالق).

احتقر اللقطة بالفخِّ لئلاَّ تتعرقل عفَّتُه.

صامَتْ عينه من النظر لئلاَّ تأكل وتفسد(3).

منع نفسه مع أنَّه جائع، فما ذاق لئلاَّ يهلك.

 

ولمّا رأت أنَّ زينتها استُصغرت ساعدت أقوالُها تبرُّجَها.

20      خابت الزينةُ وخُذلت كلماتُها، لأنَّ الصادق ما استُعبد.

فجرَتْ كلماتُها مجاري (الدموع) لكي تنقُضَ سور العفيف.

تراجعت الأمواج وثبت السور، لأنَّ أساساته على الصخرة(4).

لبس العفيفُ العفَّة، ومثلَ ثوبٍ أخذها معطفًا.

استلَّت لسانها سيفًا لتشقَّ ثوبه بخداعها:

25      «ما عملتُ لأحفظ حرِّيَّتي فأسرعتُ وبيَّنتُ إرادتي.

ولأنَّك رأيتَني تذلَّلتُ، احتقرَني وجدانُك واستخفَّ بي.

كُتبتُ بين الصغيرات لأنِّي ما فعلتُ مثل الصالحات.

إن كنتَ تحفظ عفَّتك فأنت تبيد درجةَ حرِّيَّتي».

 

جواب يوسف

أجاب يوسفُ سيِّدتَه وقال لها حين سمع (منها) كلام الإثم(5):

30      «الآن عرفتُ إرادتك فأَكشف لك ضميري.

أنا عبدٌ وأنتِ حرَّة، والناموسُ يخضعني له ويخضعك.

لا أحطِّم نير عبوديَّتي حتَّى يُحلَّه إلهي.

طلباتُك جميلة لك، وطعمُها مرٌّ لي.

إن كنتُ ما أذنبتُ وتألَّمتُ، فإلى أين أصل إذا أخطأتُ؟(6)

35      هذا الزمن جعلني عبدًا فأطيل روحي حتّى ينقضي.

كفاني أنِّي صرتُ عبدًا، لا عبدًا يخطأ كلَّ يوم.

أكتفي بأن أمنع إرادتي وأكون متنكِّرًا لشهوتي.

مخافةُ إلهي مثلُ عمامة تكسو هجمة خطاياي.

لا تعطي جمالاً اقتنيتِ لعبدٍ ذليلٍ اقتنيتِ».

 

40      «لا توسِّخي جسدك النقيَّ بفضَّة خرجت من كيسك.

فالعبد يتعالى بهذه، وسيِّدته بهذا تنحطُّ.

امنعي جسمك عن العبد الذي لازمتِه كابن الأحرار.

لا تدنِّسي الجمال الذي اشتهاه الرؤساء (بعبدٍ) مشترى.

فالعبد يفتخر إن هو احتقر فراش سيِّده.

45      تشدَّدي وتمسَّكي بكرامتك، لئلاَّ تُواضَعي بيد عبدك.

احفظي حرِّيَّتك للأحرار، ولزوجك احفظي حبَّك.

لا يكن لك الغريبُ مكان زوجك الحقيقيِّ.

فالعبيد يُشتَرون ليسمعوا (ليطيعوا) لأسيادهم.

في عمل الخطيئة هذا لا يغضب عليَّ فقط سيِّدٌ واحد.

50      سيِّدان اثنان يتحرَّكان ضدِّي: الله وفوطيفار.

لا يكن لك تفكير أن يتساوى عندك العبد وسيِّدُه.

فسيِّدي يوقَّر كسيِّد وعبدك كما يليق به».

 

وردَّت المرأة على يوسف

قالت ليوسفَ سيِّدتُه: «عرفتُ أنَّك عفيف،

فلا تقترب منك ملامة ولا توجَد فيك مفاسد.

55      ليت ضميرك يوافقني ووجدانك لا يوبَّخ.

عليَّ التأنيب كلُّه لأنِّي حرَّضتُك على الإثم.

بما أنِّي بدأت وتوسَّلت، فإن لم تُجبني غضبتُ غضبًا.

سهلٌ عليَّ أن أقطع سلطانك وأمنع ما تسأله إرادتك.

سهلٌّ عليَّ أيضًا أن أغنيك لدى سيِّدك وأعظِّم كرامتك.

60      قلتُ له من أجلك: يستحقُّ عبدُك أن يُحرَّر.

من درجة الحرِّيَّة هذه تعلَّمتُ درجة ساقطة.

قمتُ وسألت بوقاحتي عملاً يعرِّيني.

أنتَ لستَ أعفَّ من الرجال ولا أنا أكثر نجاسة من النساء.

أنا حرَّة وأنت عبد، أنت الزاهي وأنا الزانية».

 

صراع بين المرأة ويوسف

65      لمّا رأت أنَّها احتُقرت وما اصطادت المحبوبَ بأشراكها،

طلبت المناسبة مثل ذئب لتنشب أظفارها في هذا النذير (العفيف).

انتظرت لها وقتًا فيه يدخل للعمل،

ولمّا دخل النقيُّ مثل نزيه، هجمَتْ عليه بوقاحة.

ألقت يديها وأمسكت ثيابه، فتشدَّد هو وأمسك نفسه.

70      ترك الرداء في يديها وأدار وجهه عنها(7).

«في هذا الشيء الذي تطلبينه منّي، لا تنقاد لك أذناني.

فأنا أخشى ربِّي وإلهي، لأنَّ عقابَه قاسٍ.

وإن كان لا يعاقبُ الآن، فذنبي مكتوبٌ قدَّامه(8).

فلا بلبلة ولا قساوة تأسران وجداني بطلبك.

75      والحكم يُدرك الأثيمَ حين يشاء.

فقضيتُ الآن في وجداني أن لا أشارك في خطيئتك».

 

وانتصر يوسف

قامت السيِّدة مع العبد (في حرب) مثل مقاتل في الجهاد.

ألقى لها ثيابَه على وجهها، لئلاَّ تمسك يدُها جسمَه.

وثب الذئب على الفتى لينهش جسمه من الداخل،

80      أمّا النقيُّ فترك حزامه ووهب لها ثيابه لئلاَّ يُصاب جسدُه.

ما خجل لأنَّه تعرَّى في السوق لئلاَّ يُرذَل إذا خطئ في المخدع.

عُرِّيَ من الثياب واكتسى بالعفاف.

تعجَّب الناظرون في السوق أنَّه تعرَّى وما خجل.

وتعجَّب العلويّون في السماء أنَّه انتصر في المخدع.

85      وقال كلُّ إنسان لرفيقه: «ما الذي حصل لهذا العفيف؟»

فبقدر ما كثرت عفَّتُه، تفاقمت قلَّةُ حشمته.

فلا نتخيَّل أنَّه بإرادته «شلح» ثيابه وتخلّى عنها وتركها».

ما حصل له داخل البيت بلبل نظره وقلبُه تطيَّر.

 

فشرعت سيِّدته تفكُّر كيف تحتال عليه بعد أن ظلمها.

90      ولأنَّه ضحك عليها، طمرت له فخًّا ومكرًا لدى سيِّده.

«بما أنَّه الآن احتقرني فلا يمكن أن يكون بيننا في المنزل،

لأنَّه يكون لي لائمًا كلَّ مرَّة أصادفه قدَّامي.

أَلبسُ الغضب لأنِّي سخطتُ، والغيظ القاسي لأنَّه ضحك عليَّ.

إذا الناظرون نظروا اضطرابي يزيلون عنِّي الملامة.

95      فأدعو رفاقه وأخبر نظراءه عن مساوئه.

أُخبر الأمر بانذهال فيتوجَّع السامعون.

وإن تهاملتُ يُسمَع بين المصريّين ما هوى عليَّ.

يهبون الثناء للعبد، ويضفرون لي الملامة.

أبيِّن ثيابه لتكون لرفاقه شاهدةً على ضميري.

100    خَطفتُ ثيابه، فإن افترى أشكوه بالرداء الذي أمسكت».

 

جيلة المرأة أمام العبيد

دخل العبيدُ إليها ورأوا لونها ممتقعًا متغيِّرًا:

«على من تغيَّر لون وجهك النضير؟

اكشفي لنا ما سبب الثياب الموضوعة على قلبك،

ربَّما اضطربتِ منها، فإن كشفت لنا (السبب) ترتاحين.

105    تبدَّل لون وجهك مثل امرأة ارتكبَتْ إثمًا!

منظر وجهك بغيض مثل إنسان اقترف جريمة!».

فأجابت عبيدها وقالت: «هذه الثياب التي ترون

خطفتُها اختطافًا من يوسف الذي طلبَ أن يذلَّ حرِّيَّتي.

رأيته يتواقح فتضايقتُ، ورميتُ يديَّ على لباسه.

110    تطاول عليَّ بوقاحة فأقمته عريانًا.

أخجل أن أتكلَّم قدَّامكم عن هذا الخبر.

فمن الآن أصمتُ لأنَّ روايته تُخجل وجهي.

سأكشفُ أنَّ عفَّته مزيَّفة بشكل ظاهر.

ولمّا سنحت له الفرصة تجلّى تهتُّكه وعُرف.

 

115    حين يدخل سيِّدُه من السوق، أورد له ما حصل،

فأنشبُ السهم في ضميره فيطعن بالرمح كبدَه».

وأمام زوجها

دخل (فوطيفار) ورأى العبيد مبلبلين، وكلُّ إنسان يتكلَّم إلى رفيقه:

«ويل ليوسف حين يسمع سيِّده خبر عمله!»

«قولي لي، ما هو العمل الذي سحقك يا بنت الأحرار؟

120    فإن كان سحقك هذا الذي جعلتُه رئيسًا على بيتي فأنا أعاقبه».

 

«ماذا أكشف لك، أيُّها العارف الحكيم؟ هو ضحك على                                                                                 حكمتك

فبالحبِّ الذي بيَّنتَ تجاهه تحرَّر عبدُك وسرح.

علَّيته فوق الشيوخ، وسلَّطته على الشبّان،

فخاف منه كلُّ من في دارك، لأنَّك كرَّمته وحده، وهو عبد.

125    بالكرامة التي أخذ منك، أنظر كم تطاول.

فراشك الذي ما تنجَّس قطُّ، طلب أن يدنِّسه بالفحشاء.

فرميتُ يديَّ على لباسه لآخذ شهادة على فعلته.

فإن تعلَّم أن يماحك يُخزَى بالثياب التي ترك.

تأمَّلْ في لباسه ولا تطلب شهودًا على جرمه.

130    لا تسمح له أن يتكلَّم، لأنَّه يُضلُّك بحيلته.

ولماذا تكون الأسئلة؟ امنع اللغط عن المصريّين.

ها هي المحاكمة: أتت ثيابه التي ترك، فأحاطت به واشتكت.

ولمّا خاف ممّا فعل، لم يستعد ثيابه أيضًا.

حُسب إنسانًا عفيفًا، فهرب إنسانًا فاسقًا.

135    سرقك كثيرًا منظرُه الخارجيُّ الذي غطَّى على عيوبه.

أنا قمتُ على عيوبه لكي أعرِّفكَ بوقاحته».

 

غضبَ فوطيفار

سمع سيِّدُ يوسف هذه، فاشتعل الغضب في داخله(6)،

بالخشب الذي ألهبته الزانية على تنّور الغضب:

«لا تتغاضَ عن هذا العمل الذي صنعَه عبدُك.

140    فإن تغاضيتَ وما لاحقتَ أكون غريبة عن بيتك».

«توقَّفي الآن عن خبرك، اقطعي وتَرَكِ، وأريحي سهامَك.

فيوسف لا يبقى معنا ولا يُسمَّى بعدُ عبدنا.

فاليوم يحرَّر من العبوديَّة التي عُظِّم بها.

وحرَّيَّتهُ تقوده بالذلِّ إلى الحبس والعار والآلام.

145    ولا أحسب أنَّ ثمنه ضاع، فأنا اشتريتُ عبدًا للسجن.

بما أنَّه لم يكن حريصًا على كرامته، سيأتي وقتٌ لتأديبه.

ما من إنسان يعرف الضيقات التي أستعدُّ أن أجلبَها عليه.

هو فتح الباب للفحشاء، فأرفع العصا لجلده.

اليوم شرع فارتكب ذنبًا فبدأ بنا وفعل.

150    كان ذنبه سهلاً علينا، فلا يذنبْ إلى الغريب.

وسيعرف بعد أيّام قليلة الرفعةَ التي أزيلت عنه.

وبه يتعلَّم العبيدُ الأشرار أن لا يحملوا العار لأسيادهم».

 

وزجَّ يوسف في السجن

أمر فوطيفار عبيده بأن يمضوا بيوسف إلى الحبس.

في سجن عبيد الملك مضى هناك ليتعذَّب(10).

155    «كان في بيتنا غامطًا نعمتنا، ففي بيتنا لا يبقى من الآن.

رمى سيِّدته في الضيقات فوُهب له القصاص في الحبس.

في الأسواق حيث كرِّم، يعبرُ وهو مكبَّل،

فيقول الناس الذين يشاهدونه: التأديب صالح للعبيد.

يصيحون قدَّامه في السوق، ويُسمعون أبناء مصر:

160    «هكذا يكون للعبد الذي سعى على سيِّده وتواقح».

فصنع العبيدُ ما أمرهم، وأوصلوا يوسف إلى السجن.

وقالوا له (الكلمات) القاسية وأغلظوا في أقوالهم.

«من كُرِّم مثلك في بيت سيِّده خلال أيّام قليلة؟

ومن بعد هذا الإكرام كلُّ هذه الظلامة.

165    ابقَ الآن في الجبِّ، فوقاحتك عذَّبتك.

هنا يكثر عليك ضيقك لأنَّ سيِّدك عاقب ذنبك».

«لا أبقى وحيدًا لأنَّ إلهي لا يبتعدُ عنِّي.

في البرِّيَّة، أخرجني من الجبَّ وفي السجن يقوم بجانبي»(11).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM