القصيدة الثالثة: يوسف في مصر

القصيدة الثالثة

وأنزل التجّارُ يوسفَ إلى مصر

القصيدة الثالثة وعنوانها يوسف في مصر، تعطينا درسًا أخلاقيًّا تَعلَّمهَ يوسف: لن يخبر بعد اليوم بأحلامه ولا بما يحصل له. فالصمت والسكوت مفضَّلان. لكنَّ الربَّ يحوِّل الشرَّ إلى خير، ولو لم يأتِ يوسف إلى مصر عبدًا، لما صار سيِّدًا على إخوته، مع بداية في بيت فوطيفار الذي جعل كلَّ شيء في يدَي يوسف. ودَّع يوسفُ التجّار بعد أن اشتراه فوطيفار، وبدا شيخًا بحكمته مع أنَّه لا يزال فتى بعمره. هو مرجانة، درَّة، وهي تبقى على ما هي أينما وُضعت. فمع أنَّه عبدٌ فوجهُه وجهُ الأحرار. الذلُّ على وجه العبيد، وعلى وجه يوسف الوقار. وتذكَّر إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وفرح أنَّهم عُظِّموا في الغربة. فلماذا لا يكون مثلهم؟

نظرة أخلاقيَّة

تشبه البحرَ أخبارُ الناسِ الأبرارِ المستقيمين.

يقهرُ البحرُ الملاّحَ، وخبرَ الأبرار لا يستوفي.

لا يقدر إنسان أن يعبر البحر، ولا يقدر أن يمسَّ أعماقه.

أخبار الأبرار أرفع من البحار ومن أعماقها.

5          وإن عرف السبّاحُ أنَّ المياه أقسى من قوَّته،

يعرف أنَّ قدرتك (يا ربّ) تستطيع أن تنجِّيه من الغمار.

قوَّتك تسأل الغطّاس فيرخي نفسه بين الأمواج.

تأمرُ أنت قبر المياه فيحيي الحيَّ الذي نزل فيه.

الأمواج تخضع لإشارتك وهي صامتة،

10        وكما هي تتقبَّل الإنسان، هكذا تفلته وترميه (سالمًا)(1).

فمن يتعب ليكدِّس، تغنيه بغنى زمنيٍّ،

ونحن نتعب من أجل الأبرار، فأَغنِنا لكي نقتربَ إليهم.

 

أعترفُ أنِّي لستُ أهلاً فأكرز أنَّك طيِّبٌ، يا ربّ.

فأنت السيِّد وأنا العبد، لتغلبْ نعمتُك الشرَّ الذي فيَّ.

15        عظيمٌ هو العقل الذي يتأمَّل فيك، والمعرفة التي تعرفك تدرك

كلَّ شيء،

والوجدان الملازم لك يقتني الفهم الكامل،

من يتجرَّأ أن يبلغ إليك وأنت أرفع من الباحثين؟

نحن نكرِّم لأجلك الأفاضل الذين يحبُّون الحقَّ.

نضيف إلى يوسف مآثره ونتعب فنكتب جهاداته.

20        فيمتلئ السامع دهشة ويتقبَّل القائلُ أجرًا.

 

يوسف المرجانة

بيَّنَّا في القصيدة الأولى كيف ابتاعه التجّارُ،

وفي هذه نبيِّن كيف اشتراه فوطيفار(2)، ونحن نصلّي.

فالمرجانة(3) إن مضت يكون جمالها معها في كلِّ مكان،

وجمالها لا ينقص مهما كانت الأماكن التي تعبر فيها.

25        وإن كثر تجّارُها لا ينقص جمالٌ اقتنته.

هؤلاء يفرحون لأنَّهم وجدوها واقتنوا فائدة من جمالها.

وهذا هو العجب: مع أنَّها صامتة، أشعَّتها تجعلها ناطقة

تنادي بمنظرها وهي ساكنة ليكثر كلُّ الشعوب لديها.

ففي داخل الإكليل تُطمَر دُرَرٌ حقيقيَّة.

 

30        في خبر يوسف الفاضل رُتِّبت دررٌ في إكليله.

في الخبر الأوَّل كتبنا عن بَيعه لدى التجّار.

في هذا الخبر الآخر نروي بَيعه لدى فوطيفار.

فالمرجانة إن ألقيتَها في كلِّ موضع، فضلُها لا ينقص،

ولا تخاف من الناظرين فتبيِّن الحسنَ الذي عليها.

35        وإن رمَوها في الظلام فنورُها كافٍ لها،

وإن جعلوها في بيتِ الملوك، يُعجَب الناظرون بجمالها.

ما اقتنت فمًا ناطقًا، فأشعَّتُها تَصرخُ باسمها.

صامتة هي بلا بيان وتُقلق عقل الناطقين.

قوَّاتُها تصيح على جمالها فنقتبل منها قدر استطاعتنا،

40        طالبين من الذي نروي جهاداته ومضايقاته (أن يساعدنا).

 

التجّار ويوسف خلال السفر

ولمّا بلغ يوسف إلى مصر مع التجّار العربان،

حلَّوا الوثاقات عن يديه والقيود من رجليه.

دخلوا وأنزلوا عن جِمالهم ليرتاحوا من تعبهم،

ليرتاحوا من مشقّاتهم، لأنَّهم عملوا كثيرًا في الطريق.

45        وعزّى التجّارُ يوسفَ بأقوالهم لئلاَّ يتضايق.

وهبوا لابن العبرانيّين التشجيع بأقوالهم لئلاَّ يتضايق.

 

«هذه هي مصر، يا يوسف، التي اعتادت على تجارتنا،

حين خرجنا من البرِّيَّة، كانت إلى هذا المكان مسيرتُنا.

أُنظرْ جمال أشجارها وتأمَّلْ في غرساتها!

50        أُنظر إلى غرساتها المملوءة بالثمار بألف طعم وطعم!

أُنظر الأرضَ كم هي حسنة وغلاَّتها كم هي وافرة!

أُنظر الينابيع كم هي غنيَّة والعيون كم هي غزيرة!

أُنظرِ المياه وتذكَّرِ البرِّيَّة، انظرِ المياه وتذكَّرِ الجبَّ(4).

فالعبيد في هذا المكان أفضل من الأحرار الذين في مكانك.

 

55        كان أسيادك رعاة غنم وتضايقتَ حين فقدْتَهم.

وبما أنَّ العبوديَّة عبوديَّة، تُستعبَد لأسياد صالحين.

لا يقربُ الحزنُ منك ولا تساورُك الهواجس.

لا يأتِ هياجُ أسيادك فيذكِّرك العبوديَّة.

هنا الناموس (القانون) حاضر، وتاج المَلك هو هنا.

60        ولا يستطيع إنسان أن يتصرَّف كما يريد في أرض مصر(5).

رغبنا في بشاشتك معنا، وطلبنا أيضًا رفقتك،

ونحزن على فراقك، لأنَّ حديثك طاب لنا كثيرًا.

طوباه السيِّد الذي يبتاعُك ويستحقُّ أن تُسمَّى عبده!

يخرج من السوق فيشتري ابن الأحرار اللابس الصدق».

 

واشترى فوطيفار يوسف

65        قاموا وأخذوا يوسف وخرجوا ليبلغ وقت بَيعه،

وها فوطيفار(6) أتى إلى لقائهم ورأى جَماله وأعجب به:

«من هم أسياده؟ ليأتوا ويأخذوا ثمنه وبزيادة.

فأنا لا أحسب حساب الذهب لأنَّ الحرِّيَّة أعظم منه».

عند ذلك اقترب التجّار وقالوا لفوطيفار:

70        «اشترِ منّا باسم عبد واقتنِ في دارك ابن الأحرار.

نحن لا نمدحُه اليوم، فبعد الشراء تتذكَّرنا.

وبسبب شرائك لن يبطل ذكرُنا عن لسانك».

دفع فوطيفار الثمن ليأخذ العبدَ العبرانيَّ.

 

بكى الناسُ الذين باعوه، وفرح الرجل الذي اشتراه.

75        اقترب التجّارُ وأخذوا الثمن من فوطيفار وهم يبكون.

«لا تشتمنا أيُّها الكريم فنحن نحزن لفراقك».

 

وحزن يوسف أيضًا، فانكشفت أحشاؤه وفاضت دموعُه.

«امضوا بالسلام أيُّها التجّار، والله يكون رفيقًا لكم.

هذا الثمن الذي أخذتم هو من حرِّيَّة ظُلمت.

80        ليكن لكم به نفعًا لأنَّكم بعتم بسهولة».

 

«بئسَ هذه الساعة لنا من ساعة بعناك فيها.

في البرِّيَّة آلمْتنا قليلاً، وفي مصر غمَمْتَنا.

أسيادك الأوَّلون أبغضوك، وبهذا ازداد حبُّنا لك.

ليتضاعف حبُّ الذين اشتروك فتنسى به الشقاء الأوَّل.

85        ليفرحوا بك ويحبّوك وليتذكَّرونا في بيعك.

ليكن شاروك قائلين: مباركون الناس الذين باعوك.

كنْ عاملاً بإشارة سيِّدك، وتصرَّفْ بحسب مشيئته.

بيدَيْ إلهك تتوصَّل أيضًا لأن تكون سيِّد سيِّدك،

فتصدُق عليك بالفعل كلمةُ الحبِّ التي قلنا.

90        وتكون لك الغربة التي تمضي إليها أفضلَ لك من بني قومك.

عقلُك نيِّرٌ، وفي مصر يُقبَل الحكيمُ قبولاً كبيرًا.

ويربو ويتقوَّى وقارك بالحكمة التي تسيِّر قلبَك.

تكون لنا هناك سورًا وإليكَ يكون اتِّجاهنا.

تكون لنا في مصر سورًا بعظمتك على رؤسائها.

95        فيكون المصريُّون قائلين: العبد أعظم من المديانيّين.

بجلاء وجه نأتي إلى هذا المكان بسببك.

والإله الذي تسجد له، يجعل مشيئته ناجحة بيديك.

فما دام إلهك قريبًا منك ليس من شيء يزعجك.

وبهذا العفاف الذي اكتسَيْتَ تتحرَّر من العبوديَّة.

100      فالعفَّة لا تستطيع أن تبقى لدى العبيد (أو: في العبوديَّة).

والبركات التي باركناك بها ترافقك على الدوام.

الخاطئ يباركك، أمّا الصدِّيق فيطلب بركتك».

 

غربة يوسف وغربة الآباء

أطلقهم (= التجّارَ) يوسفُ فمضوا بسلام وتكلَّم معهم وهو يبكي:

«يكفي الألم الذي تحمَّلتم، فاخلعوا الحزن الذي لبستم.

105      أمّا أنا فما تضايقتُ لديكم والربُّ أجاز الحزنَ عنِّي.

أنا مسلَّمٌ لإرادة ربِّي، وأمرُه هو الذي يتدبَّرني.

إرادتُه أرادت أن أخدم كعبدٍ لدى المصريّين،

وربَّما أقتني الحرِّيَّة التي كانت لي من قبل.

سمعتُ حين كنتُ طفلاً من أخبار آبائي

110      أنَّ إبراهيم وابنه إسحاق اغتنيا في الغربة وعظُما.

وأبي يعقوب اقتنى المقتنيات الكثيرة وهو في حاران:

بعصاه نزل وحده فأصعد معه أربع فرق (من الماشية)(7).

فلله لا أرض غريبة، لأنَّ كلَّ أرض هي له.

من عادة هذه (الأرض) الغريبة أن تكون راحة للمضطهَدين.

115      وأنا أطلب (من الله) أن يصنع رغبتي كما اعتاد أن يصنع مع قبيلتي.

فالغربة (بعيدًا) عن قومي عشرة أضعاف خيرٌ لي.

رافقتني المراحمُ في البرِّيَّة حين الأسود أحاطت بي،

ومن فم عشرة ذئاب حنانُه خطفني وأنقذني»(8).

 

وتفويض أمره لله

أتمَّ كلامه مع التجّار، وسلَّم نفسه إلى ربِّه.

120      تذكَّر أباه يعقوب فتحسَّر وحزن وبكى:

«ماذا يصنع أبي يعقوب؟ هل تجشَّأتِ الأرض وولَدتْك

لترى ابنك وهو يعبر على يد الشارين؟

هبْ قلبًا صافيًا لأسيادي، ليكونوا لي كأُناسٍ من قومي،

فلا تقسى عليَّ الضيقات وأكون لديهم مسحوقًا.

125      بعد الآن إن رأيتُ حلمًا من يضطَّرُني أن أرويَه؟

سواء كان حلمًا أم لا، ليكن فمي ساكتًا، ساكنًا.

التكلُّم بأحلامي الأولى، هو الذي فصلني عن إخوتي

وربَّما كنتُ حللتُ في السلام لو حافظتُ على الصمت.

ها أنا تعلَّمتُ في الاختبار أنَّه لا يحسن الكلام.

130      وهذا الذي أحزنني بالفعل، أحفظه في داخل السكون».

 

يوسف في بيت فوطيفار

ودخل فوطيفار من السوق وأخذ العبد الذي اشترى

وفرح بذوقه وحكمته، وبالبهاء الذي يشعُّ عليه.

دخل يوسف، وبدخوله تبارك البيتُ الذي دخل.

تضاعفت مقتنياته وتكاثرت، فصار لسيِّده وقارٌ.

135      جعله رئيسًا على بيته ومدبِّرًا لمقتنياته(9).

رفعه فوق عبيده وأخضع له نظراءَه(10).

والناس الذين في بيت سيِّدهم، دخل يوسفُ فصار (سيِّدًا) عليهم.

كلُّ ما اقتنى (فوطيفار) ويقتني سلَّمه بيدَي يوسف.

عبر وأمسك الشيخوخة، وحبَّب نفسه للشباب.

140      في سلطانه تذكَّر العبوديَّة التي استُعبد لها.

رمى الأمان بين العبيد، والسلام بين أسيادهم.

في وداعته أبطل الغضب، وفي رهبته زرع الأمان.

بسرعةٍ نسيَ ما تحمَّل من إخوته وأبناء أبيه.

شكرَ إلهه وعظَّمه لأنَّه أمرَ فسكتَتْ اضطراباتُه.

 

145      «العبوديَّة التي وهبها لي إخوتي، ما صنعتْ لي شرًّا.

باعوني على مثال عبد فوُقِّرتُ مثل سيِّد.

ربَّما أراد الله أن تتمَّ مراحمُه فيَّ،

وأقتني في النهاية الكرامة التي كانت لي في البداية.

البارحة دخلتُ مثل عبد، فارتحتُ (= اليوم) مثل ابن الأحرار.

150      السيِّدُ الذي اشتراني عجَّل وجعلني سيِّدًا على بيته.

كُنْ (يا ربُّ) حافظًا لأعضائي لئلاَّ أُبلَع بعد بالحسد.

نفخت الغيرةُ فيَّ في البرِّيَّة، وألقتني عبدًا في مصر.

وإذا عرضت لي هنا أيضًا، فإلى أين تُبعدني بعدُ الآن.

أزجر أمواجه (البحر) فتسكن عن السفينة التي سُحقت كثيرًا(11).

155      كلُّ ما سُلِّم في يديَّ يتبارك بسببي في بيت سيِّدي

يكثر مجدُك حين يشعرون أنَّك لأجلي باركتهم»(12).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM