الفصل الحادي والأربعون والثاني والثالث والرابع والأربعون

الفصل الحادي والأربعون

كان في ذلك البيت أصنام. وما إن دخل يوحنّا حتّى سقطت وتحطَّمت قِطَعًا مثل الغبار. وإذ رأى ناقيان هذا، تثبَّت في الإيمان وآمنت زوجته وابناه وكلُّ عبيده بالله، وامتدحوا عظائم الربِّ وعُمِّدوا بيد الرسول. ولبثنا عند ناقيان عشرة أيّام، ثمَّ خرجنا من هذه المدينة ومضينا إلى غيرها التي تبعد 13 ميلاً. فأتى إلى أمامنا يهوديٌّ اسمه فاوستوس([1]) وكان رجلاً صالحًا وديعًا واقتادنا إلى بيته. وإذ سمع كرازة يوحنّا، آمن بالربِّ يسوع هو والذين كانوا في بيته، واعتمدوا كلُّهم.

الفصل الثاني والأربعون

كان في تلك المدينة امرأة اسمها برودياني([2])، وكانت جميلة جدًّا وأرملة. كان لها ابن وحيد اسمه سوسيپاتر([3])، وعمره 24 سنة. كان جميلاً جدًّا ولكنَّه أحبَّ العفَّة فاقتدى بعفَّة يوسف. فجعلت أمُّه في قلبها شهوة جامحة، بدفْع من إبليس. وقالت له: «يا سوسيپاتر،، عندنا خيرات كثيرة جدًّا، لنأكلْ ونشربْ ونعِشْ في الابتهاج. لا أريد زوجًا سواك ولا أريد أن يكون لك امرأة سواي. أنا بعدُ صبيَّة وجميلة. أكون امرأتك وتكون زوجي. لا تسمح لرجل آخر أن يدخل إلى هنا، ولن أسمح لامرأة أخرى أن تدخل». تأثَّر سوسيپاتر بشرِّ أمِّه، فأتى إلى المكان الذي كان يوحنّا يعظ الشعب بكلمة الله. ولمّا أنهى يوحنّا خطبته، أتى إليه لأنَّه عرف بوحي إلهيّ، الفخاخ التي نصبها إبليس لهذا الشابّ، ومحاولات أمِّه ضدَّ عفَّته. فدعاه قائلاً: «يا سوسيپاتر، يا سوسيپاتر!» فقال الشابّ: «ماذا تريد منِّي، أيُّها المعلِّم الصالح؟»

حينئذٍ قال له يوحنّا: «كان في مدينة امرأة جميلة جدًّا ولها ابن وحيد. وامتلكا ثروة كبيرة. دخل الروح النجس في قلب هذه المرأة وألهمها فكرة بأن تطغي ابنها. قاوَمَ هو. أمّا أمُّه فغضبت وأرادت أن تقتله، فاتَّهمته أمام القاضي بأنَّه يريد أن يغتصبها. فحكم عليه القاضي بالإعدام عقابًا على مثل هذه الجريمة. ولكنَّ الله الذي هو ديّان المسكونة رأى أنَّ هذا القاضي الشرِّير حكم على إنسان بريء، فخلَّصه وسلَّم المذنبين إلى العقاب الذي يستحقُّون. فمن هو أهل للمديح، الأمُّ أم الابن؟»

فبدا سوسيپاتر مثل أرض عطشى تلقَّت المطر فأعطت غلَّة وافرة، فتقبَّل بحماس كلام يوحنّا وقال: «الابن هو أهل للمديح والأمُّ هي مذنبة». فقال له يوحنّا: «بالصواب أجبتَ(3). امضِ إلى بيتك، يا ابني، وانظرْ إلى أمِّك مثل أمّ، لا مثل مغوية، فيخلِّصك انتقامُ الديّان السامي». عندئذ سقط سوسيپاتر عند قدمَي يوحنّا وقال له: «يا سيِّدي رافقْ عبدك إلى بيته إذا كان أهلاً لذلك. فأُقيتُك بالخبز والماء وأخدمك مثل عبد، ويتبارك بيت خادمك بمجيئك».

فتبع يوحنّا سوسيپاتر إلى بيته. وحين رأته برودياني، تحرَّك الغضبُ فيها وقالت لابنها: «أما قلتُ لك بأن لا تأتي بأيِّ رجل بقربي، وبأن لا أترك امرأة تدخل؟ لماذا جئت بهذين الرجلين لكي يشتماني؟» فقال لها سوسيپاتر: «يا أمِّي، لا تفكِّري فيهما أيَّ شرّ. دخلا هنا بناء على طلبي فأقدِّم لهما الخبز والماء، وما إن يأكلا ويشربا حتّى يذهبا». فأجابت برودياني: «لن يكون لهما طعام هنا. سأطردهما من عندي لئلاَّ يبدِّلا قلبك وعقلك ويجعلانك تبغض أمَّك ويفرضان هكذا عليَّ أن أموت». فقال سوسيپاتر: «لن يكون الأمر هكذا، لأنَّ لا شيء في هذا العالم يحرِّك فيَّ البغض لك». حينئذٍ سمحت برودياني لسوسيپاتر أن يستقبل الغريبين كما يشاء، وهي تترجَّى أن يتعلَّق بها أكثر. حينئذٍ وضع سوسيپاتر المائدة وخدَمَنا وحده وأكل معنا. ولم تكن برودياني بعيدة لتسمع بانتباه وتلتقط الكلمات التي يوجِّهها يوحنّا إلى ابنها. وهكذا تنبِّهه إن قال شيئًا لا يرضيها. وعرف يوحنّا شرَّ هذه المرأة فصمت وما وجَّه كلمة واحدة إلى سوسيپاتر. وبعد أن أكلْنا قال له: «يا ابني، اخرج وتعالَ معنا». وللحال نهض وتبعَنا لأنَّه رغب أن يسمع كلام الله.

وإذ رأت برودياني أنَّه خرج، أسرعت إليه وقالت له: «يا ابني، عُد إلى البيت». فأجابها: «اتركيني يا أمِّي أرافق قليلاً هذين الرجلين وأعود سريعًا». فقالت له أمُّه: «امضِ ولكن عدْ سريعًا». ولمّا عاد أرادت أن تقوده إلى موضع منعزل في البيت لكي يستسلم لرغباتها، وبلبلته مرارًا. ولكنَّ الله خلَّصه من السمِّ القاتل، من مشيئة أمِّه الشرِّيرة. وإذ رأى سوسيپاتر أنَّه مسلَّم هكذا لهوى الخطيئة والبلادة، حاول بكلمات معسولة أن يُعيدها إلى نفسها. ولكنَّها ما أرادت أن تسمع له فحاول أن يمنعها. عندئذٍ هرب وما أراد بعد أن يعود إلى بيته بسببها. بعد أربعة أيّام، خرجت برودياني غاضبة تطلب ابنها. وأتت إلى المكان الذي يعظ فيه يوحنّا. طلبت سوسيپاتر فما وجدته، لأنَّه لم يكن هناك. فابتعدت مسافة قليلة من هناك، فالتقت به وأمسكته بقوَّة بثيابه(4). فقال: «اتركيني أمضي، يا أمِّي، وأكون خاضعًا لك». ولكنَّها لم تفلته.

الفصل الثالث والأربعون

في ذلك الوقت، سُمِّي والٍ جديد على الجزيرة شخصًا اسمه غريكس([4])، وهو رجل قاسٍ وبدون رحمة. وكان يبغض يسوع المسيح والمسيحيِّين. فأتى ليطردنا من المدينة. ومرَّ صدفة في الموضع الذي كانت تمسك برودياني ابنها بثيابه. وحين رأت القنصل، شرعت تطلب منه صارخةً أن يساعدها. وانتزعت المنديل الذي كان على رأسها وذرفت الكثير من الدموع. فقال لها القنصل: «من أنت؟ ماذا تريدين؟ ما هو سبب وجعك؟» فأجابت برودياني: «أنا أرملة. وها ابني الذي كان عمره أربع سنوات حين مات زوجي، والذي ربَّيته بعناية كبيرة، أُغرم بي غرامًا جنونيًا. ومنذ عشرة أيّام هو يلاحقني ويستعمل القوَّة لكي أستسلم لرغباته الشنيعة». حين سمع القنصل ذلك، أمر أن يقبضوا على سوسيپاتر وأن يخيِّطوه في جلد البقر مع الحيات والأفاعي والصلّ وسائر الحيوانات السامَّة، وحَكمَ عليه هكذا بموت الأشقياء.

كلُّ شيء أُعدَّ لعذاب سوسيپاتر، حين ركض يوحنّا هذا المقاتل الجبّار وصرخ: «أيُّها القنصل، أنت تحكم بجور على شابٍّ فاضل وبريء([5]). من هم الشهود الذين دعوتَ قبل أن تدينه؟» فأمسكت برودياني يوحنّا وقالت: «أيُّها القنصل، أعنِّي. فهذا الرجل متوافق مع ابني الذي أتى به إلى بيتي غصبًا عنِّي، ليأكل ويشرب. وبعد الطعام، خرجا معًا فعلَّما ابني ما يريد أن يفعل». ولمّا سمع القنصل هذا الكلام، أمر بالاحتفاظ بيوحنّا وحكم عليه بأن ينال العذاب الذي يناله سوسيپاتر. غير أنَّ الرسول رفع عينيه إلى السماء وقال: «أيُّها الربُّ يسوع المسيح([6])، طبيعتك لا تتبدَّل، وقدرتك لا تُغلَب. أَطلب من رحمتك اللامحدودة أن تعطي علامة من غضبك بسبب حكم القنصل الجائر». وفي الحال، كانت زلزلة فسقط جميعُ الحاضرين إلى الأرض. وإذ تجرَّأ القنصل ومدَّ يده على يوحنّا، يبست يده وذراعا برودياني، والأفاعي والحيوانات السامَّة عضَّت جميع الحاضرين ما عدا يوحنّا وسوسيپاتر وأنا. وإذ فهم القنصل أنَّ هذا كان نتيجة انتقام الله، قال بقلب تائب: «يا رسول يسوع المسيح وخادم الله، إشفِ يدي فأومن بذلك الذي تبشِّر به». أمّا يوحنّا الذي كان دومًا مملوءًا رحمة، فرفع عينيه إلى السماء وهو يتنهَّد وقال: «أيُّها الربُّ يسوع ابن الله الحيّ، يا مَن أبَنْتَ قدرتك في هذا المكان لكي يتعلَّم الحاضرون، لتُمحَ خطايا هؤلاء الرجال بكثرة رحماتك وليشفوا كلُّهم (وليعودوا) إلى الحالة التي كانوا فيها قبل الزلزلة». وحين أنهى الرسول هذه الأقوال، شُفيَ القنصلُ وبرودياني، وجميعُ الذين عضَّتهم الحيّات أو ماتوا من الخوف الذي سبَّبته الزلزلة.

الفصل الرابع والأربعون

واقتادَنا القنصلُ إلى بيته وأكلْنا عنده. وفي الغد طلب من يوحنّا أن يعطيه علامة يسوع المسيح. فعلَّمه يوحنّا كيف ينبغي أن يؤمن وعمَّده. وإذ رأت امرأةُ الوالي أنَّ زوجها اعتمد، أخذت ابنها وارتمت عند قدمَي الرسول قائلة: «يا رسول يسوع المسيح، لتكنْ لي شركة بهذا المجد أنا وابني». فامتلأ القنصل فرحًا هو وأهل بيته الذين تقبَّلوا كـلُّهم العماد من يد يوحنّا. وحين خرجنا من بيت القنصل، قال يوحنّا لسوسيپاتر: «يا ابني، لنمضِ إلى بيتك ونجد برودياني». فأجاب سوسيپاتر: «يا معلِّم، أتبعك إلى حيث تريد (لو 9: 57)، ولكنِّي لا أعودُ إلى منزلي لأنِّي تخلَّيت عن كلِّ شيء لكي أتنعَّم بأقوالك التي هي أحلى من العسل (مز 119: 103). فقال يوحنّا: «يا ابني، لا تتذكَّر بعدُ الشرور السالفة وذنوب أمِّك. فهي بنعمة الله قد غلبتْ كلَّ حيل إبليس، وهي ستهتمُّ بأن تتبع فرائض يسوع المسيح، وأن تفعل ما يليق بالله وتتوب عمّا فعلتْ من شرّ وقالت».

ودخلنا مع سوسيپاتر إلى بيته. وحين رأتنا برودياني ارتمت عند قدمَي يوحنا وهي تبكي وتطلب المسامحة عن كلِّ ما فعلت، وقالت: «يا رسول الله، خطئتُ أمامك وأمام الإله الذي تعبد. أطلبُ منك أن لا تغضب على أمتك بسبب كلِّ الشرِّ الذي اقترفتُ. أتوجَّه إليك كما إلى طبيب صالح يستطيع أن يخلِّص النفوس ويشفي جراحًا قد تكون بلا دواء. نصيحة إبليس ألهمتني هوى مذنبًا تجاه سوسيپاتر. ولكنَّه قاوم دائمًا، ودفعني ضلالي الشرِّير أن أتَّهمه أمام القنصل بجرم كان منه بريئًا. الربُّ خلَّصه بواسطتك، وأطفأ فيَّ هذا الجموح الجنونيّ ونجّاني من شرٍّ عظيم. أَطلبُ منك أن تصلِّي إلى الله من أجلي لئلاَّ يعاقبني بسبب الشرور التي أردتُ أن أصنعها، ولئلاَّ يقاصصني كما أنا أستحقّ». حينئذٍ شرع يوحنّا يهدِّئها بكلمات عذبة وعلَّمها، بحسب الكتب المقدَّسة، أن تؤمن بالآب والابن والروح القدس، وأن تتوب عن ذنوبها، وأن تعيش في العفَّة قدّام الله. وعمَّدها كما عمَّد ابنها سوسيپاتر وكلَّ أهل بيته. وحملت برودياني فضَّة كثيرة إلى يوحنّا لكي يوزِّعها على المحتاجين. وسألها يوحنّا إن كان بقي لها بعض الفضَّة أيضًا. فقالت: «نعم يا سيِّدي، لأنَّ أموالي كثيرة جدًّا جدًّا». فقال يوحنّا: «استعيدي هذه الفضَّة وأشركي فيها الذين يحتاجونها. ووزِّعيها بيديك على الفقراء فتجمعين لك كنزًا في السماء» (مر 10: 21).

فأتمَّت برودياني بعاطفة دينيَّة وصيَّةَ الرسول. وكانت توزِّع كلَّ يوم للفقراء ما يحتاجون إليه. ولبثنا أيّامًا عديدة في بيت سوسيپاتر، ورأينا فيه أسعد ثمار التوبة تنكشف بالأصوام والصلوات والصدقات التي تفتدي الذنوب السالفة.

 


[1] Fauste

[2] Prodiane

[3] Sosipater

[4] Grécus

[5] ذاك كان تصرُّف دانيال مع سوسنة. رج دا 13: 44 ي.

[6] صلّى يوحنا كما صلّت سوسنة (دا 13: 42).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM