(الفصل العشرون أحب الرب الهك (تث 6

الفصل العشرون

أحب الرب الهك (تث 6)

إكتشفنا أهمية سفر التثنية قي قلب الحقبة الممتدّة من إنفصال المملكتين (933) إلى المنفى (587). إنه كتاب يربط الشمال الذي خرج منه، بالجنوب الذي تقبلّه فاستلهمه إصلاح يوشيا. من جهة ثانية، تغلغل تث في فكر الأنبياء.
سنتوقّف عند ف 6 حيث نجد وصية المحبة التي استعادها يسوع المسيح.

أ- وضع تث 6
يقع ف 6 في قلب القسم الأول من تث (1- 11) المكرّس للتذكرات التاريخية وللنداءات إلى الأمانة. كانت خطبة موسى الأولى (1- 4) في معظمها تاريخية (تذكير بأحداث الخروج). أما الخطبة الثانية التي تبدأ في 4: 25 فتشرف عليها مسألة الوصايا: الوصايا العشر في ف 5 وسائر شرائع الرب بعدف 12. وبين الإثنين يُعرض بصورة مطوّلة معنى هذه الوصايا. هنا يقع الفصل الذي ندرس.
إذا نظرنا من إلخارج، لن نجد مخططاً محدداً في هاتين الخطبتين. غير أننا نلاحظ عودة الأفكار والعبارات عينها، ونلاحظ بصورة خاصة في ف 6 أنه يبدأ بهذه العبارة: "هذه هي الوصية التي تحفظها". وينتهي بالعبارة عينها: "تحفظ هذه الوصية كلها". إذن، يشكّل ف 6 مجموعة محدّدة، لأن النهاية توافق البداية. سنحاول فيما بعد أن نجد الرباطات بين أفكار وعبارات تتقابل في هذا النص.

ب- بنية تث 6
نستطيع أن نجد في ف 6 نظاماً من العلائق نكتشفه في عدد من النصوص البيبلية. والترتيب التالي يساعدنا على التعرف إليه.
أ- الوصية التي أمرك الله أن تمارسها (آ 1- 3).
ب- إسمع، الرب واحد. تحبّ الرب (آ 4- 5).
ج- كلمات الوصايا تردّدها لإبنائك وتقول لهم (آ 6- 9).
د- حين يدخلك الرب في الأرض... يعطيك مدناً وخيرات، إحذر أن تنساه (آ 10- 12).
هـ- لأن الرب الهك هو إله غيور في وسطك (آ 13- 16).
د د- تفعل ما هو مستقيم وصالح لتكون سعيداً وتمتلك الأرض (اَ 17- 19).
ج ج- حين يسألك أبناؤك: لماذا هذه الأحكام والشرائع (آ 20- 21 أ)؟
ب ب- الرب أخرجنا من مصر (آ 21 ب- 23).
أ أ- تمارس كل هذه الوصية أمام الرب كما أمرك (آ 24- 25).
نلاحظ حالاً أن في قلب البناء هناك "الله الغيور الذي في وسطك". الله الغيور هو في وسط الشعب وفي وسط النصّ. وهو أيضاً في وسط الأرض (د، دد). وتحيط الوصية (أ، أ أ) بمجمل البناء. ونرى مقابلة بين ب وب ب، لأن حبّنا لله (ب) هو جواب على حب الله لنا كما ظهر في أعمال الخروج العظيمة (ب ب). وتعالج ج وج ج نقل الوصايا إلى الأجيال الجديدة. ونلاحظ إطاراً صغيراً: وضعت ب وب ب بين ممارسة الوصايا (أ، أأ) ونقل الوصايا (ج، ج ج). وهكذا نستنتج أن الأمرين هما قضية حبّ.
يدلّ هذا البناء على حركتين. حركة تنطلق من الخارج إلى الوسط، وحركة تنطلق من الوسط إلى الخارج. أو بالأحرى: حركة تنطلق من العمل فتصل إلى الله، وحركة تنطلق من الله فتصل إلى العمل. في الفرضية الأولى، يأتي الإنسان من الخارج فيلتقي أولاً شعباً يمارس نمطاً من الحياة (الوصايا). ثم يتعرّف إلى سبب ومعنى هذا النمط من الحياة (محبة الله)، وكيف انتقل هذا النمط في الأرض حتى الآن. وفي النهاية يتعرّف إلى ذلك الذي هو حيّ وسط شعبه. أما الحركة المعاكسة فتنطلق من الله الذي هو ينبوع كل ما يظهر في حياة هذا الشعب. سنتبع هنا الحركة الأولى.

ج- المواضيع
1- ممارسة الوصايا
من حسنات الأسلوب الذي استعملناه، هو أنه يساعدنا على إدراك الرباط بين الوصايا ومجمل مشروع الله. فالثه قد رتّب الوصايا؛ وهو حين حرّر إسرائيل من العبودية جعل منه شعبه. وممارسة الوصايا هي جواب الشعب لإلهه. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لا معنى للوصايا في حدّ ذاتها. إنها من أجل سعادة الشعب على الأرض التي سيعطيها الرب له (آ 2، 3، 18، 24). فالممارسة هنا هي شرط السعادة التي أعِدّ الشعب لها. والنهاية التي تحدّد تصّرف الذين يتجّندون في هذه المسيرة هي كلمة بر (آ 25، أي سلوك مطابق لمشيئة الله).
إلى أي وصايا يشير هذا النص؟ إلى الوصايا العشر (تث 5)، وإلى وصايا "الدستور الإشتراعي" (تث 12- 26). وهدفها تحديد العلاقات مع الله ومع القريب.

2- المحبة لله
وإذ أراد النص أن يحدّثنا عن موقف الشعب تجاه اللّه، إستعمل مراراً الأفعال التالية: خاف، سمع، ما نسي، خدم وعبد... وقال مرة واحدة: أحب. ولكن لهذا الإعلان ثقلاً ووزناً: "أحب الرب الهك من كل قلبك، من كل نفسك، من كل قدرتك" (آ 5). يجنَّد الإنسانُ كله، يجنَّد الشعبُ كله من أجل هذا الحب. فالقلب هو مركز العقل والحرية البشرية. والنفس هي كل ما يجعل من شخص أو شعب كائناً حياً. والقدرة هي مجمل الإمكانيات المادية والروحية. أشارت آ 4 إلى الإذن التي تسمع. وستتحدّث الآيات اللاحقة عن اليد والعينيين (آ 8).
هذا الكلام يتوجّه إلى كل ظروف الحياة: إن كنت في البيت أو على الطريق، إن كنت نائماً أو قائماً. في الحياة العائلية وفي السياسة (آ 9: البيت، المدينة).
محبّة الرب تعني أن لا نتبع آلهة أخرى (آ 14). فإله إسرائيل هو رب واحد لأنه وحده سبب وجود شعبه. نحن هنا أمام تأكيد على التوحيد، لا بشكل نظري، بل بشكل عملي.
وتشكل آ 4 بداية الصلاة لدى اليهود: شماع، إسمع. لقد أورد يسمع آ 5 في مت 22: 37- 38 وقال: هذه هي "الوصية الكبرى".

3- تربية الإيمان
ننظر إلى محبة اللّه ووصاياه في التواصل، في تاريخ يتألف من أجيال متعاقبة وإن لم تكن متشابهة. لهذا يشدّد النص على انتقال (تقليد) خبرة إسرائيل. هذه هي سلسلة التقليد التي نكتشفها في النص ونحن متذكّرون أننا أمام "خطبة" موسى.
- قال الله لموسى...
- أعلم موسى إسرائيل...
- سمع إسرائيل لموسى...
- ردّد إسرائيل لأبنائه...
- ردّد الأبناء للأحفاد...
وهكذا نرى أن كلام اللّه يصل إلى إسرائيل عبر موسى الذي يتمتّع بمكانة فريدة. فهو مربيّ شعبه الاكبر. ويبدو أن هذه الترجمة كانت في جوهرها عائلية وتقليدية: يردّد الأب التعليم أمام ابنه وهكذا دواليك. وقد يكون هناك تلميح إلى المعلّمين الحكماء الذين يعتبرون تلامذتهم أبناءهم. نلاحظ في آ 20 أن الإبن (أو التلميذ) يطرح السؤال، لا الأب (أو المعلّم). ثم إن السؤال ينطلق من واقع حياتي. ويشير الجواب إلى معنى الوصايا التي لا تُفهم إلا بفضل تذكّر تاريخي لأحداث الخروج (آ 21- 23).
وهدف هذه التربية جَعْل كل جيل يقول: "اليوم يكلّمنا الرب". نلاحظ هذا التشديد على لفظة "اليوم" (آ 6، 24). فهذه اللفظة لا تدلّ فقط على اليوم الذي فيه توجّه موسى إلى الشعب مرة أخيرة، بل يعني وقت كل الذين يتقبّلون هذه الكلمة على مرّ العصور.
د- الأرض الطيبة
وتعود كلمة "الأرض" مراراً في هذا النص. نحن أمام أرض كنعان حيث سيصل الشعب الخارج من مصر (آ 1). إنها الأرض التي وعد بها الآباء في الماضي. هي عطية الله، ولكننا نذهب لنمتلكها. هي أرض "صالحة" (طيّبة) "تدر لبناً وعسلاً" (آ 3) أي نأكل فيها ونشبع. حين كان الشعب في مصر أجبر على بناء بيوت ومدن للآخرين. وها هو الآن ينعم بما بناه الآخرون (آ 10- 11).
وأرض الموعد هي المكان المميَّز الذي فيه يُدعى الشعب لكي يعمل مشيئة الله. وحين يقيم فيها، فليحذر من أن ينسى الرب الذي. قاده إليها (اَ 12). فسعادته في كل المجالات مرتبطة بهذا. وتتضمن آ 15 تهديداً فهمه الناس ساعة دوّن تث. وذكر مسّة في آ 16 يدل على أننا لا نستطيع أن نجرّب الله، أن نفرض عليه أن يتدخّل ونعتبر طلبنا حقاً عليه. فالذي أعطى هذه الأرض لشعبه يستطيع أن يستعيدها منه.

هـ- الإله الغيور
إن آ 15 هي قلب النص وذروته. وهي تعطي السبب العميق لكل ما قيل. إنها تدلّ على حضور الله وسط شعبه. وهذا الحضور واضح في ف 6 حيث يُذكر إسم الرب 22 مرة. غير أننا قد لا ننتبه إلى هذا الحضور، لأنه مخفي في أعماق شعبه. ففي مسّه تساءل بنو إسرائيل: "هل الرب معنا أم لا" (خر 17: 7)؟
وتؤكدّ الآية أيضاً أن الرب إله غيور. فالغيرة تتضمّن وجهة إيجابية، لأنها تدلّ على محبّة الله الجنونية، على ولع إله العهد بشعبه. وهناك وجهة سلبية. فالغيرة تتضمن تهديداً حين يخون الشعب هذا الحب. فحبّ الله لشعبه هو حبّ متطلّب، ولا يرضى أن يقاسمه إياه الأصنام والآلهة الكاذبة.
إن التاكيد الأساسي على غيرة اللّه دفع الكاتب والمؤمن إلى التساؤل عن السبب العميق لما حدث سنة 587. خان الشعب ربه، فسلّم الرب شعبه وتخلىّ عنه. وبما أنه ضعيف وصلت به الأمور إلى ما وصلت

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM