مــن لاودكيَّـة إلـــى أفسس للمـرَّة الثـانيـة

مــن لاودكيَّـة إلـــى أفسس للمـرَّة الثـانيـة()

58 ومضى وقت طويل بعض الشيء. فما حزن أبدًا أحدٌ من الإخوة بسبب يوحنّا. ولكنَّ الحزن امتلكهم حين قال لهم: «أيُّها الإخوة، حان الوقت الآن لكي أذهب إلى أفسس. فهذا ما التزمتُ به مع الذين يقيمون هناك، لئلاَّ يَسقطوا في التراخي إن لبثوا طويلاً محرومين من الرجل الذي يثبِّتهم(). وحان الوقت لكم كلِّكم أن توجِّهوا فكركم إلى الله لأنَّه لا يترككم». فحين سمعه الإخوة يقول هذا، اكتأبوا لأنَّه سينفصل عنهم. حينئذٍ قال لهم يوحنّا: «حتّى وإن انفصلتُ عنكم، فالمسيح يسوع هو معكم إلى الأبد(). فإن أحببتموه بنقاوة، تمتلكون الاتِّحاد به اتِّحادًا دائمًا. فحين يكون محبوبًا، يستبق في الحبِّ أولئك الذين يحبُّونه».
59 ولمّا قال هذا، استأذنهم وترك فضَّة كثيرة لتوزَّع على الإخوة(). اكتأبوا جميعًا وبكوا حين مضى إلى أفسس. وكان معه أولئك الذين سبق فرافقوه حين انطلق من أفسس: أندرونيك ودروسياني، وليكوميد وكليوبيّوس وأهل البطانة. وتبعَتْهم أيضًا أرسطوبولة التي علمَتْ أنَّ زوجها ترتلُّوس مات في الطريق()، واريستيب وأكسنيوفون والبغيّ التي صارت عفيفة()، وكثيرون آخرون(يوحنّا)  سبق فحرَّضهم في كلِّ وقت على التوجُّه إلى الربِّ يسوع المسيح، بحيث ما أرادوا أن ينفصلوا عنه.
60 في اليوم الأوَّل، توقَّفْنا في فندق منعزل واحتجنا إلى سرير لراحة الطوباويّ يوحنّا، فشهدنا إحدى أخباره الطريفة. كان هناك سرير بدون شرشف وُضع في موضع ما. فبسطنا الأردية التي كانت معنا، ودعوناه إلى أن ينام عليها ويرتاح ساعةَ ينامُ جميع الآخرين على الأرض. ولكن ما إن رقد، حتّى أزعجه كثير من البقّ(). وإذ كانت تزعجه دومًا وتزيد، وبعد أن مضى نصفُ الليل، توجَّه إليها (بكلام) سمعناه كلُّنا: «أقول لكن أيَّتها البقّات، أظهرن لطفكن(). اتركن هذا المسكن، في هذه اللحظة، كلُّكنَّ معًا. وابقين هادئات في موضع واحد والبثن بعيدات عن خدَّام الله». وقام يوحنّا (من النوم) وسط ضحكنا وأحاديثنا التي تضاعفت. حينئذٍ أخذنا نتكلَّم بهدوء لئلاَّ نزعجه.
61 وحين طلع النهار، كنت أوَّل من نهض، وفي الوقت عينه نهض معي فاروس وأندرونيك، فرأينا عند باب الغرفة مجموعة البقّ. أدركتْنا الدهشة حين رأينا عددها الكبير. وإذ أفاق جميع الإخوة بسببها، كان يوحنّا يواصل نومه. ولمّا استيقظ أخبرناه بما رأينا. حينئذٍ انتصب على سريره فرأى أنَّها... فقال لها: «بما أنَّك كنت لطيفة واحترمت تنبيهي()، فعودي إلى مكانك». وما إن قال هذه الكلمات ونهض من سريره، حتّى أسرعت البقّات من الباب إلى السرير، وتسلَّقت الأرجل ودخلت في المفاصل. وقال يوحنّا أيضًا: «حين سمعتْ هذه الحيوانات صوت إنسان، ظلَّت هادئة حيث هي وما تجاوزت الأمر. أمّا نحن، فحين نسمع صوت الله، نعصي وصاياه ونستسلم إلى التراخي. فإلى متّى»؟()
62 بعد ذلك وصلنا إلى أفسس. فحين علم الإخوة في هذه المدينة بعودة يوحنّا بعد غياب طويل، أخذوا يتراكضون إلى أندرونيك حيث نزل (يوحنّا): كانوا يلمسون قدميه()، ويقبِّلون أيضًا يديه اللذين يجعلهما على وجوههم. بل كانوا يقبِّلون أيديهم التي يمدّونها ليلمسوه، لأنَّ بها كانوا لمسوا ثيابه على الأقلّ.()

عمل الشيطان ونتائجه

63 وإذ كان يسود وسط الإخوة حبٌّ عظيم وفرحٌ لا يضاهيه فرح()، رأت دروسياني رجلاً() أرسله الشيطان، فأُغرم بها مع أنَّه عرف أنَّها زوجة أندرونيك. قال له كثيرٌ من الناس: «لا يمكنُك أن تحصل على هذه المرأة التي، باسم التقوى، ابتعدَتْ عن زوجها منذ زمن طويل. هل أنت وحدك من يجهل أنَّ أندرونيك الذي لم يكن في الماضي رجل التقوى كما هو الآن، أغلق عليها في قبر قائلاً: "إمّا أنجح فأمتلكك كامرأة كما امتلكتُك من قبل، وإمّا تموتين"؟ ففضَّلت أن تموت متخلِّية عن التنعُّم معه بغنى كبير. فضَّلت أن تحتمل الموت ولا تقوم بهذا الرجس(). فإذا كانت رفضت الاتِّحاد الجنسيّ مع بعلها وسيِّدها، بل أقنعَتْه بأن يقاسمها معتقداتها، فكيف تعطيك موافقتها أنت الذي تريد أن تصير عشيقها؟ تخلَّ عن جنون لا يعرف راحة فيك! تخلَّ عن محاولة لا تستطيع أن تقودها إلى غايتها! أيُّ خير في أن تُشعل رغبة فتظنّ أنَّك على قدر هذا التجرُّؤ غير اللائق»؟
64 كلَّمَه أصحابُه الحميمون هكذا، فما استطاعوا أن يُقنعوه، بل بلغت به الوقاحة بأن أرسل إليها رسلاً. وإذ خاف أن يحتمل إهانات متكرِّرة، يئس من امتلاكها وعاش في حالة من القنوط(). ولكن بعد يومين، لازمت دروسياني الفراش بعد أن أصابتها حمّى على أثر الوهن، فقالت: «يا ليتني لم أرجع إلى وطني، وهكذا أصير مناسبة عثار لرجل لم يتدرَّج في التقوى! فلو كان إنسانًا تؤثِّر فيه الكلمة لما وصل() إلى هذا الحدّ من التراخي. ولكن، يا ربّ، بما أنِّي مسؤولة عن الضربة التي تصيب نفسه الجاهلة()، فنجِّني من هذه القيود واجعلني أعبر سريعًا إليك»! وفي حضرة يوحنّا الذي جهل كلَّ شيء من القضيَّة، فارقت دروسياني الحياة بدون فرح، مليئة بالحزن لأنَّ نفس هذا الرجل تحطَّمت.()
65 وتعذَّب أندرونيك بحزن خفيّ، واكتأب في نفسه، وحصل له أن يبكي علنًا، بحيث فرض عليه يوحنّا الصمت مرارًا، وقال له: «مضت دروسياني إلى رجاء أفضل، فتركَتْ هذه الحياة الجائرة». فأجابه أندرونيك: «أنا مقتنع بذلك، يا أبي يوحنّا، وأعرفه دون أن أنكر إيماني بإلهي. بل يقيني ثابت بأنَّها ماتت في النقاوة».

موت دروسياني ودفنها

66 وبعد أن دُفنت، أخذ يوحنّا أندرونيك على حدة. ولمّا علم سبب (موتها)() اكتأب أكثر من أندرونيك. حينئذٍ غرق في الحيرة بسبب حيَل الخصم، وظلَّ جالسًا وقتًا قصيرًا ولبث صامتًا. وبعد ذلك، اجتمع كلُّ الإخوة لدى يوحنّا ليسمعوا الكلمات التي سيتفوَّه بها حول المرأة (المتوفّاة)، فشرع يتكلَّم:
67 «بعد رمي المرساة في مرفأ أمين ومحميّ من العواصف، يُعلن الربّان الذي كان في البحر أنَّه هو ورجاله والمركب، سالمون معافون. وبعد وضع الحَبّ الذي تكاثر أكثر من مرَّة في الأهراء، يلتذُّ الفلاّح بالراحة بعد التعب وهو الذي سلَّم البذورات إلى الأرض وتعب كثيرًا لكي يعتني بها ويَحميها. وبعد الفوز بالجائزة، يفرح ذاك الذي ركض مع الآخرين في الحلبة. وبعد نيل الأكاليل، يفتخر المقاتل الذي تسجَّل من أجل الملاكمة. وكذا على التوالي من أجل جميع المباريات والمهن: يجب أن نفتخر حين نصل إلى الهدف ولن تكون يدانا فارغتين، بل نكون على قدر التزاماتنا.()
68 «وأظنُّ أنَّ الأمر هو كذلك (حين نتحدَّث) عن الإيمان الذي يمارسه كلُّ واحد منّا: فحين يظلُّ على ذاك المستوى حتَّى نهاية الحياة، نعرف إن كان صادق حقًّا(). فهناك عوائق عديدة تجيء فجأة وترمي البلبلة في عقل البشر: الهموم، الأولاد، الوالدان، المجد، الفقر، التملّق، ملء العافية، الجمال، التبجُّح، الرغبة، الغنى، الغضب، الكبرياء، التراخي، الحسد، الغيرة، التهامل، العنف، شهوة الحبّ، الاحتيال، المال، التخفِّي، وسائر العوائق من هذا النوع(). وهناك أيضًا عوائق للربّان الذي يمخر البحر في مسيرة هادئة: هبَّة الرياح المعاكسة، العاصفة العنيفة، الموج القويّ الذي يتدفَّق من بحر هادئ. وكذا الأمر بالنسبة إلى الفلاّح: المطر المبكر، اليرقان، الدود الذي يخرج من الأرض. وبالنسبة إلى المقاتلين: لولا قليل. وبالنسبة إلى الذين يتعلَّمون مهنة: لا بدَّ من قليل من هذا.
69 «قبل كلِّ شيء، يجب على الإنسان المؤمن أن ينظر مسبقًا إلى خروجه من هذا العالم، وأن يفكِّر بالشكل الذي فيه يَتمّ هذا الخروج: هل يكون... بسيطًا وبدون أيِّ إعاقة؟ أو يكون مبلبلاً ومنشغلاً في تملُّق أمور هذه الدنيا ومقيَّدًا بالرغبات؟ هكذا نمتدح جمال جسم حين يكون كلُّه عاريًا، وعظمة قائد حين يحقِّق كلَّ الهدف المعلن للحرب، وامتياز طبيب حين ينجح في كلِّ علاج. ونمتدح النفس على أنَّها مملوءة إيمانًا وهي جديرة بالله() حين تظهر على مستوى وعدها. مقابل هذا، لا تُمدَح النفسُ التي تتراخى، بعد بداية حسنة، في كلِّ أمور هذه الدنيا وتفشل. وتلك التي تتجمَّد في مجهودها لتتعلَّق بالخير، ثمَّ تترك ما هو عابر يجتذبها. وتلك التي ترغب في الزمنيّ لا في الأبديّ. وتلك التي تبادل ما يبقى بما لا يبقى. وتلك التي تكرِّم ما يستحقّ الاحتقار، وتكرِّم الأعمال التي تستحقّ اللوم. والتي تنال عربونًا من إبليس(). التي تستقبل الحيَّة في جسمها(). التي تهزأ ممّا لا يُهزأ به. التي تُشتَم لأجل الله ثمَّ تستحي. التي تقول نعم بالفم ولا تُظهره في العمل. بل تُمتدَح النفسُ التي تبقى ثابتة فلا تتراخى بتأثير من اللذَّة النجسة، ولا تسقط في التكاسل، ولا يستهويها حبُّ المال، ولا تقع في الخيانة بالغضب وقوَّة الجسد».()
70 وإذا كان يوحنّا يتكلَّم بعد ويطيل، ليعلِّم الإخوة احتقار الأشياء العابرة()، اشتعل الرجل الذي كان مغرمًا بدروسياني، برغبة شنيعة، وبعمل الشيطان ذي الأشكال الكثيرة: رشا بكمِّيَّة كبيرة من المال وكيل أندرونيك الذي كان يحبُّ الفضَّة. وإذ فتح له قبر() دروسياني، كاد يتيحُ له أن يفعل في الجثَّة عملاً محرَّمًا. فبما أنَّه لم يستطع أن يمتلكها وهي عيشة، لبث متعلِّقًا بعنادٍ بجسدها بعد الموت. قال: «حاولتِ عبثًا أن ترفضي الاتِّحاد بي وأنتِ حيَّة، فأنا أغتصبُكِ الآن وأنت ميتة»! إذن، جعل هذه الفكرة في رأسه واستعدَّ لأن يقترف الإثم() الذي صار ممكنًا بواسطة وكيل بغيض، فأسرع معه إلى داخل المدفن(). ولمّا فتحا الباب() بدأا كلاهما يعرِّيان الجثَّة من ثياب الموت. وكانا يقولان: «يا دروسياني التعيسة، ماذا نفعَك كلُّ هذا؟ أما كان في وسعك وأنت عيشة أن تُتمِّي هذا العمل الذي ما كان أحزنك بلا شكّ لو فعلتِه بملء إرادتك»؟
71 وإذ لم يبق حول عريها سوى قميص بهدبين()، خرجَتْ أفعى من مكان مجهول فضربت الوكيل عضَّة واحدة فقتلته. أمّا الشابُّ فلم تعضَّه، بل التفَّت حول رجليه وهي تصفر صفيرًا مرعبًا. فسقط الشابُّ على الأرض، فصعدت الأفعى وأقامت عليه.()
تدخّل شاب جميل (يسوع)

72 في الغداة، مضى يوحنّا إلى المدفن سحرًا يرافقه أندرونيك وبعض الإخوة. كان ذاك اليوم الثالث() لموت دروسياني، (وكنّا مضينا) لكسر الخبز() هناك. ساعَة الذهاب طلبوا المفاتيح فما وجدوها(). حينئذٍ قال يوحنَّا لأندرونيك: «في الحقيقة ضاعت، لأنَّ دروسياني ليست في المدفن(). ومع ذلك لنذهب لئلاَّ نستسلم إلى التراخي. فالأبواب ستُفتح من ذاتها على مثال كثير من النعم منحَنا الربّ إياها».
73 ولمّا وصلنا إلى هناك، انفتحت الأبواب بأمر يوحنّا. ورأوا قرب قبر دروسياني، شابًّا جميلاً يبتسم(). حين رآه يوحنّا صاح: «وهنا أيضًا تسبقنا، أيُّها الجميل! لماذا؟ فسمع صوتًا يجيبه: «بسبب دروسياني التي سأقيمها الآن. تقبَّلتُها لي بعض الوقت() فقط من أجل الرجل الذي فارق الحياة عند قبرها». وحين قال الجميل هذا ليوحنّا، صعد إلى السماء وكنّا شهودًا لذلك. حينئذٍ التفت يوحنّا إلى الجهة الأخرى من القبر، فرأى شابًّا اسمه كلِّيماك، أحد وجهاء أفسس، ترقد عليه أفعى كبيرة جدًّا. و(رأى) فورتوناتوس، وكيلَ أندرونيك، الذي كان ميتًا. حين رآهما كليهما، ظلَّ متحيِّرًا وقال للإخوة: «ما معنى هذا المشهد؟ لماذا لم يكشف لي الربُّ ما حصل هنا، وهو الذي ما أبعدني (عن شيء) أبدًا»؟
74 أمّا أندرونيك الذي رأى هذين الميتين، فاندفع إلى قبر دروسياني. ولمّا رآها لا ترتدي سوى قميصها ذات الهدبين، قال ليوحنّا: «فهمتُ ما حصل، يا يوحنّا، يا خادم الله الطوباويّ. إنَّ كلِّيماك هذا كان مغرمًا بأختي(). ولكنَّه لم يستطع أن يمتلكها رغم المحاولات العديدة. فرشا بمال كثير وكيلي الملعون الذي تراه. وكما يمكن أن نلاحظ الآن، خطَّط الشابّ لينفِّذ بفضله مؤامرةَ مشروعِه الماكر. فإنّ كلِّيماك أقرَّ أمام أشخاص عديدين: «مهما حاولَتْ في حياتها أن ترفض لي موافقتها، فالآن وبعد أن ماتت فهي ستُغتصَب»(). يا يوحنّا، لا شكَّ في أنَّ الجميل قرَّر أن لا تُغتصب الجثَّة. لهذا مات هذان الرجلان اللذان كانت لهما هذه الجرأة غير اللائقة. بالإضافة إلى ذلك، هذا الصوت الذي قال لك: "أقم دروسياني التي تقبَّلتُها لي فقط بعضٍ الوقت"، كشف لك هذا مسبقًا. يجب أن تقوم، لأنَّها تركت الحياة في الحزن حين ظنَّت أنَّها صارت مناسبة عثار. وأنا أثق أيضًا بذلك الذي تكلَّم: الإنسان الذي تراه هو قسم من الضالِّين، وأنتَ أمرتَ أن تقيمه هو أيضًا. أمّا الآخر فأعرف أنَّه لا يستحقُّ الخلاص. إذن، أَطلبُ منك هذا الشيء الوحيد: أقم أوَّلاً كلِّيماك ليقرَّ لنا بنفسه ما حصل».
75 وثبَّت يوحنّا عينيه على الجثَّة وقال للزاحفة السامَّة: «ابتعدي عن ذلك الذي سيصير خادم يسوع المسيح». ثمَّ وقف وتلا هذه الصلاة: «يا الله الذي نمجِّد اسمه كما يليق به! يا الله الذي يُخضع كلَّ قوَّة شرّ! يا الله الذي تَتمُّ مشيئته! فأنت يا من تستجيب لنا دائمًا(). والآن أيضًا، لتتمَّ نعمتُك في هذا الشابِّ. وإن كان عبْرَه بدأ يتمُّ عملٌ خلاصيّ()، فاكشفْه لنا حين يقوم». وحالاً نهض الشابُّ وظلَّ صامتًا مدَّة طويلة.
76 ولمّا استعاد رشدَه، سأله يوحنّا لماذا دخل إلى المدفن. فعرف يوحنّا من فم الشابِّ ما سبق وقال له أندرونيك، أي حبَّه لدروسياني. وسأله أيضًا: «هل تحقَّق مشروع هذا العمل الرجس، اغتصاب جثَّة عفيفة جدًّا»؟ فأجابه الشابّ: «كيف كان باستطاعتي أن أقوم بهذا العمل، ساعة هذا الحيوان الرهيب قتل أمام عينيَّ فورتوناتوس وبعضَّة واحدة. وهذا كان عدلاً، لأنَّه شجَّع فيَّ هذا الجنون الكبير الذي كنت بدأت أتخلَّى عنه؟ أمَّا أنا فجمَّدني رعبًا وجعلني في الحالة التي رأيتموني فيها قبل أن أقوم. ولكنِّي أورد لك واقعًا أكثر عجبًا أعدمني أكثر من أيِّ شيء وأماتني. كنت فريسة الجنون الذي أقام في نفسي، والمرض الذي يعذِّبني ولا يقاوَم. إذن، نزعتُ ثيابَ الموت التي كانت ترتديها، ثمَّ ابتعدتُ عن المدفن لأضعها جانبًا في زاوية، كما ترى، وعدت إلى عملي الشنيع حين رأيت شابًّا جميلاً يغطِّيها بردائه. وتفجَّرت أشعَّة النور من عينيه على عينيها، وتوجَّه إليَّ فأسمعني صوتًا: "يا كلِّيماك، مت لكي تحيا".

«فمن كان؟ هذا ما أجهله، أيُّها الرجل، يا خادم الله()، ولكن منذ ظهرتَ هنا، عرفتُ فيه ملاكَ الله. وهكذا علمتُ علم اليقين أنَّ الإله الذي تبشِّر به هو الإله الحقيقيّ. هذا ما اقتنعتُ به كلّ الاقتناع. ومع ذلك لي طلب أوجِّهه إليك: لا تتأخَّر في أن تخلِّصني من هذه النكبة ومن هذه الجرأة التي لا تصوَّر، وقرِّب إلى إلهك إنسانًا ترك السراب المعيب والنجس يُضلُّه. لو تستطيعُ أن تمزِّق قلبي فتُظهر أفكاري. فما يحتلُّ نفسي الآن هو ألم عظيم، لأنِّي غذَّيتُ في الماضي أفكارًا ما كان لي أن أجعلها فيَّ. واستسلمتُ إلى تجربة استعداد شرِّير فاجتذبتُ إلى نفسي حزنًا كبيرًا. فأنا أطلب العون الذي منك، أُمسك قدميك لكي أصير صالحًا مثلك وإلاَّ استحال عليَّ أن أكون خاصَّة الله. وما من شيء يشغل روحي أكثر من هذه الفكرة: أن اقتربَ بثقة من إلهك كابن حقيقيّ وشرعيّ. أرجوك، أريد أن أكون أحد هؤلاء الرجال الذين يرجون المسيح()، لكي يكون صادقًا الصوتُ الذي قال لي في هذا الموضع بالذات: "مُت لكي تحيا"! وبرهنَ هذا الصوتُ عن فاعليَّته، لأنَّ هذا الرجل اللامؤمن، المنحلّ الأخلاق والكافر الذي كنتُه، قد مات، وها أنا قمتُ بك. أنا الذي أريد أن أصير مؤمنًا، مليئًا بالتقوى، أنا الذي أريد أن أعرف الحقيقة التي أتوسَّل إليك أن تكشفها لي».
77 حينئذٍ أحسَّ يوحنّا بفرح عظيم. ولمّا نظر إلى كلِّ هذا المشهد، مشهد ضلال الإنسان، شرع يقول: «كم أنت قدير، أيُّها الربُّ يسوع المسيح! لا أستطيع أن أعرف، ولا أعلم ماذا أقول تجاه رأفتك العظيمة وصبرك اللامحدود! يا للعظمة الكبرى التي نزلَتْ إلى حالة العبد! يا لحرِّيَّة لا يعبَّر عنها صارت بنا عبوديَّة! يا لنبل لا يوصف سقط في الأسر! يا مجدًا لا يُفهَم صار أيضًا لنا حماية! أنت أيُّها الملك الفريد صرتَ مع ذلك لنا خاضعًا(). أنت هنا أيضًا حفظتَ من العار هذا الجسد() الذي لا حياة فيه. أنت أخزيت عند هذا الشابّ استحالة السيطرة على النفس وما سمحتَ أن يقودها إلى آخر حدّ. أنت قيَّدتَ شيطان الجنون الذي كان فيه()، وأشفقت على إنسان أصيب بالجنون. أنت في الوقت عينه محرِّر الإنسان الذي تنجَّس بالدم، ومصلح ذاك الذي دُفن. ما رذلتَ ذاك الذي بدَّد ثروته، وما ملت بوجهك عنه حين تاب. أنت أيُّها الأب الرحيم() الذي تحنَّن على الإنسان الذي أظهر تهامله تجاه نفسه، نمجِّدك، نسبِّحك، نباركك، نشكرك لأجل عظمة صلاحك وصبرك، يا يسوع القدُّوس، لأنَّك الإله الواحد ولا إله سواك. لك القدرة التي تُحبط كلَّ مؤامرة الآن وفي دهر الدهور. آمين».()
78 ولمّا قال يوحنّا هذا الكلام، رحَّب بكلِّيماك وقبَّله قائلاً: «يا ابني، المجد لإلهنا يسوع المسيح الذي رحمك، الذي عدَّني أهلاً لأمِّجد قدرته، الذي بمسيرة من عنده اعتبرك أهلاً، أنت أيضًا، أن تخرج من جنونك ومن سكرك، والذي دعاك إلى راحته وتجديد الحياة».
79 وحين رأى أندرونيك أنَّ كلِّيماك قام من بين الأموات وآمن، ترجَّى يوحنّا مع الإخوة، أن يقيم أيضًا دروسياني: «أجل، لتقم دروسياني()، يا يوحنّا، ولتُنهِ في السعادة الوقتَ القصير الذي أخذته معها في الموت حين امتلأت حزنًا بسبب كلِّيماك بعد أن ظنَّت أنَّها صارت مناسبة عثار. والربُّ يقبلها لديه ساعة يريد». فاقترب يوحنّا حالاً من القبر، وأمسك بيد دروسياني وقال: «أنت وحدَك الله. أنا أدعوك. أنت العظيم العظيم، الأبديّ الذي لا يُوصَف. لك تَخضعُ جميعُ قوى الرؤساء. أمامك تنحني جميع السلطات. أمامك تذلُّ كلُّ كبرياء وتبقى ساكنة. أمامك يركع كلُّ متغطرس ويبقى صامتًا. أمامك ترتجف الشياطين حين تسمعك. أمامك تتمالك الخليقة نفسها حين تعرفك. أنت الذي لا يعرفه اللحم ويجهله الدم()، ليمجَّد اسمُك بنا. أقم دروسياني لكي يتثبَّت بك كلِّيماك بشكل أقوى، أنت الذي منحت خلاصًا وقيامة لا يمكن أن تتحقَّق للبشر، ولكنَّها صارت ممكنة لك وحدك(). وهكذا تكون دروسياني منذ الآن في راحة، لأنَّها تتخلَّص باهتداء الشابّ، من كلِّ عائق في استعدادها للذهاب إليك».
80 ولمّا تلفَّظ يوحنّا بهذه الكلمات، قال: «يا دروسياني، قومي»! فقامت في الحال وخرجت من القبر. ولمّا رأت أن ليس عليها سوى القميص ذي الهدبين، لم تعرف كيف تفكِّر في الوضع. حينئذٍ عرفت من أندرونيك تفصيل كلِّ ما حدث. في ذلك الوقت، كان يوحنّا ممدَّدًا ووجهه إلى الأرض، وكلِّيماك يمجِّد الله بصوت عالٍ وبدموع غزيرة. أمّا هي فامتلأت بدورها فرحًا ورفعت المجد.

81 بعد أن لبست ثيابها، التفتت فرأت فورتوناتوس ممدَّدًا. فقالت ليوحنّا: «أيُّها الأب، ليقم هذا الرجل أيضًا، ولو حاول أن يقترف تجاهي أشنع الخيانات»! ولكن صاح كلِّيماك حين سمعها تتكلَّم هكذا: «لا، يا دروسياني، أرجوك! فالصوتُ الذي سمعته() لم يهتمَّ به، بل عناك أنت وحدك حين بشَّرني. ولأنِّي كنت شاهدًا له آمنت(). فلو كان هذا الرجل صالحًا لأشفق الله عليه، هو أيضًا، بلا شكّ، ولأقَامَه بواسطة الطوباويّ يوحنّا. إذن، أعلمَنا أنَّ الرجل سقط في ميتة رديئة». فأجابه يوحنّا: «يا ابني، ما تعلَّمنا أن نردَّ على الشرِّ بالشرّ. فحين اقترفنا تجاه الله عددًا كثيرًا من الأعمال السيِّئة، لا الصالحة، لم يقدِّم لنا في المقابل الأجرَ الذي نستحقّ، بل التوبة. وحين رفضْنا أن نعرف اسمه، لم يتخلَّ عنّا، بل أشفق علينا، وحين جدَّفنا لم يمارس الانتقام، بل الرأفة. وحين برهنَّا عن عدم إيماننا، لم يحقد علينا. وحين اضطهدْنا إخوتنا، لم يجازِنا بالمثل. وحين تجرَّأنا وقُمنا بعدد من الأعمال الرجسة والهائلة، لم يرذلْنا. بل حثَّنا على التوبة ورَفْض الشرَّ، ودعانا إليه كما فعل معك، يا كلِّيماك ابني. هو لم يحقد على سلوكك السابق، بل جعل منك خادمه في خدمة رحمته. فإذا كنت لا تسمح لي بأن أقيم فورتوناتوس، فيجب على دروسياني أن تفعل».
82 وحالاً في بهجة الروح وفرح النفس، اقتربت من جثَّة فورتوناتوس وقالت: «يا يسوع المسيح، يا إله الدهور! يا إله الحقّ! أنت منحتَني أن أرى المعجزات والعجائب! أنت أنعمتَ عليَّ أن أشارك في اسمك! أنت كشفتَ لي عن نفسك في وجهك المتعدِّد الإشكال، وأشفقتَ عليَّ بألف صورة وصورة. أنت حميتني بصلاحك العظيم حين كنت خاضعة لإكراه أندرونيك زوجي السابق. أنت أعطيتني أخًا في أندرونيك خادمك. أنت حفظتني حتّى اليوم، أنا أمتك، وأنت استقبلتني لديك يوم متُّ من الحزن، منذ بعض الوقت. وأنت قلتَ لي حين انفصلتُ عن جسدي: "أنتِ لي لوقت قصير فقط، يا دروسياني". أنت أعطيت يوحنّا النعمة بأن يقيمني، لكي أنهي حياتي القصيرة جدًّا(). أنت بعد قيامتي أظهرتَني محرَّرة من الرجل الذي سقط في العثار. أنت أعطيتني جسدًا كاملاً فيك ونجَّيتني من هذا الجنون الخفيّ. أنت يا من أُعزَّ وأحبّ(). أرجوك، يا يسوع المسيح، لا ترفض دروسياني التي هي لك والتي تطلب قيامة فورتوناتوس، ولو حاول أن يقترف تجاهي أشنع خيانة».
83 وأمسكت بيد الميت وقالت: «يا فورتوناتوس، قُمْ باسم يسوع المسيح ربِّنا، مع أنَّك كنت أكبر عدوٍّ لخادمة الله». فقام فورتوناتوس. ولمّا رأى أنَّ يوحنّا وأندرونيك هما في المدفن، وأنَّ دروسياني قامت من بين الأموات، وكلِّيماك اعتنق الإيمان()، وسائر الإخوة يمجِّدون الله، صاح: «إلى أين وصلَتْ سلطات هؤلاء الناس الرهيبين! كم وددتُ لو لم أقُم. كما وددتُ بالأحرى أن أكون ميتًا لئلاَّ أراهم بعيني»! ولمّا قال هذا الكلام، خرج من القبر وفرَّ هاربًا.
84 فلمّا رأى يوحنّا أنَّ نفس فورتوناتوس لم تبدِّل موقفَها تجاه الخير، صاح: «يا للطبيعة غير الجديرة في طبعها بالأفضل! يا ينبوع كلِّ نفس تقيم في النجاسة! يا جوهر الفساد المليء بالظلمة. يا موتًا يرقص بين أخصَّائه()! يا شجرة بدون ثمر امتلأت نارًا! يا جذعًا عقله الشيطان! يا خشبًا يُنتج الفحمَ ثمرة! يا رغبة تسكن مع إفراط الجنون وتُجاورُ اللاإيمان()! لقد برهنتَ من أنت. والبراهين ما زالت تُفحمك، أنت وأولادك(). أنت لا تعرف الملكة التي بها تمجِّد الله. فأنت لا تملكها. إذن، ذاك هو سلوكك، وذاك هو أصلك وطبيعتك. ابقَ جانبًا. ابتعد عن الذين يرجون الربّ، عن أفكارهم وروحهم ونفسهم، وعن جسدهم وأعمالهم وحياتهم، وسلوكهم وتصرُّفاتهم وانشغالاتهم ومشوراتهم، وقيامتهم لدى الله()، ورائحتهم الطيِّبة التي يجب أن لا() تشارك فيها، وأصوامهم وصلواتهم، عن عمادهم المقدَّس وعن إفخارستيَّتهم، عن طعامهم الجسديّ وشرابهم ولباسهم، عن وليمتهم الأخويَّة() وطقوسهم الجنائزيَّة، وسيادتهم على نفوسهم وبرّهم (أع 24: 25). عن كلِّ هذا يجعلك بعيدًا يسوعُ المسيح ربُّنا، أنت إبليس، الكافر الكافر وعدوّ الله، مع الذين يشبهونك ويتصرَّفون على مثالك».
85 ولمّا قال يوحنّا هذا، تلا صلاة وأخذ خبزًا وحمله إلى القبر ليكسره وقال: «نمجِّدُ اسمَك أنت يا من تميل بنا عن الضلال وعن السراب القاسي. نمجِّدك أنت يا من جعلتنا نرى بعيوننا ما رأينا لنشهد لصلاحك الذي تجلَّى بمختلف الطرق. نمدح اسمك الرفيع، أيُّها الربّ، أنت يا من أظهرت ضلال أولئك الذين أظهرت ضلالهم. نشكرك أيُّها الربُّ يسوع المسيح، لأنَّنا نثق()... الذي لا يتبدَّل. نشكرك، يا من رغبت في الطبيعة المخلَّصة(). نشكرك يا من أعطيتنا عقيدة لا تُردّ()، بأنَّك وحدك الله، الآن وإلى الأبد. نحن خدَّامك، بحقِّ اجتمعنا وشبعنا، نشكرك أيُّها القدُّوس»().
86 وحين صلّى هكذا ورفع المجد، وزَّع على جميع الإخوة إفخارستيَّة الربّ() وخرج من المدفن، ثمَّ مضى إلى أندرونيك وقال للإخوة: «أيُّها الإخوة، روح في داخلي ينبئني() بأنَّه كان على فورتوناتوس أن يموت بسبب اللطخة السوداء المتأتِّية من عضَّة الأفعى. فليُسرع واحد منكم ويذهب فيرى إن كان الأمر هكذا». فمضى أحد اللشبّان مسرعًا فوجده تورَّم: امتدَّت اللطخة السوداء ووصلت إلى قلبه. فعاد يخبر يوحنّا أنَّه سيموت بعد ثلاث ساعات. حينئذٍ قال يوحنّا: «تقبَّل ابنك، يا إبليس».()

انتقال() يوحنّا الأخير مع الإخوة

106 إذن، لبث الطوباويّ يوحنّا مع الإخوة وهو فرحٌ في الربّ(). في الغداة، وكان اليوم يوم الأحد حيث اجتمع كلُّ الإخوة، أخذ يكلِّمهم: «أيُّها الإخوة، يا رفاقَ الخدمة والوراثين معي لملكوت الربّ والمشاركين فيه()، أنتم تعرفون الله: كم من المعجزات منحَكم بواسطتي! كلُّ هذه العجائب، كلُّ هذه الآيات، كلُّ هذه الأشفية، كلُّ هذه النعم، كلُّ هذه التعاليم، والمعلومات والاستراحات والخدم والأمجاد وتجلِّيات الإيمان والمناولات والنعم والمواهب. أشياء عديدة رأيتموها، لأنَّ الربَّ جعلها أمام عيونكم وهي التي لم يكن للعيون أن تراها ولا للآذان أن تسمعها. فاثبتوا فيه واذكروه في كلٍّ من أعمالكم، لأنَّكم تعرفون لماذا أتمَّ الربُّ سرَّ التدبير الخلاصيّ من أجل البشر. أيُّها الإخوة، الربُّ ذاته هو الذي بواسطتي يتوجَّه إليكم بطلبة وصلاة: أن تبقوا بعيدين عن الغمّ والمهانة والعداء والعقاب. هو يعرف أيضًا المهانة التي تأتي منكم، ويعرف أيضًا العار. ويعرف أيضًا العداء. ويعرف أيضًا العقاب، حين تعصون وصاياه المقدَّسة.()

107 «فلا يحزن إلهكم الذي هو الصالح، وهو الشفوق والرحيم والقدُّوس والنقيّ الذي لا عيب فيه ولا مادَّة، الوحيد، الواحد اللامتبدِّل، الحقيقيّ الذي لا حيلة فيه ولا غضب(). إله يسوع المسيح الذي هو فوق جميع التسميات التي يمكن أن نعلنها أو نتصوَّرها، بل أبعد منها. ليفرحْ معكم، لأنَّ سلوككم صالح. ليبتهج، لأنَّكم تعيشون في الطهارة. ليرتح، لأنَّكم تسلكون حياة لائقة. ليكن بلا قلق، لأنَّكم تعيشون في العفَّة. ليشعر باللذة بسبب اتِّحادكم. ليكن ضاحكًا بسبب اعتدالكم. ليتلذَّذ بسبب حبِّكم له. أقول لكم الآن هذا الكلام، أيُّها الإخوة، لأنِّي أُسرعُ إلى العمل الذي حُدِّد لي والذي سيُوصله الربُّ الآن إلى نهايته. ماذا أستطيع أن أقول لكم بعد؟ أنتم تمتلكون عربون إلهكم. تمتلكون ضمان صلاحه. تمتلكون حضوره الذي لا يُعترَض عليه. فإذا ما عدتم تقترفون الخطايا، يَغفر لكم ما عملتموه في الجهل. ولكن إن تركتم العنان لنفوسكم كما من قبل مع أنَّكم عرفتموه ونلتم رحمته، تُحاسَبون حتّى على الخطايا الأولى ولا تنالون حصَّة ولا رحمة فيه».
108 وبعد أن وجَّه إليهم يوحنّا هذا الكلام، تلا هذه الصلاة: «يا يسوع، أنت نسجتَ هذا الإكليل ليكون إكليلك، أنت رتَّبت هذه الزهور العديدة على زهرتك التي لا تذبل، زرعت هذه الكلمات التي هي خاصَّتك، أنت وحدك حافظُ عبيدك والطبيبُ الوحيد الذي يشفي مجّانًا، والمحسن الوحيد والذي لا تكبُّر فيه()، والرحيم الوحيد والجوّاد، والمخلِّص الوحيد والبارّ. أنت الذي هو من الأزل، الذي هو في كلِّ شيء، الذي هو حاضر في كلِّ مكان، الذي يتضمَّن كلَّ شيء ويملأ كلَّ شيء. أيُّها الإله يسوع المسيح، الربّ. إحفظْ بعطاياك ورحمتك، جميعَ الذين يرجونك. أنت تعرف كمال المعرفة كلَّ المؤامرات والدسائس التي يحوكها خصمُنا ضدَّنا في كلِّ مكان. أنت وحدك، يا ربّ، تعال إلى معونة عبيدك في اهتمامك».()
109 ثمَّ طلب خبزًا وشكر بهذه الكلمات: «أيُّ مديح()، أيُّ كلام تقدمة، أيُّ فعل شكر نستطيع أن نتلفَّظ به حين نكسر هذا الخبز سوى أن نسمِّيك أنت وحدك يا يسوع؟ نمجِّد اسم الآب الذي قيل لك. نمجِّد اسم الابن الذي قيل بك. نمجِّدك() أيُّها الباب الذي يؤمِّن الدخول. نمجِّدك قيامةً (يو 11: 25) أوحيتها لنا. نمجِّدك طريقًا (يو 14: 6). نمجِّدك زرعًا وكلمة ونعمة() وإيمانًا وملحًا() ولؤلؤة() لا يُفصح عنها، كنزًا (مت 13: 44) وسكَّة() وشبكة (مت 13: 47) وعظمة وتاجًا. نمجِّدك لذلك الذي لأجلنا سُمِّي ابن الإنسان، كالحقّ() والراحة والمعرفة والقدرة والوصيَّة() والثقة، والحرِّيَّة والملجأ الذي وُجد فيك. فأنت يا ربّ، أصل الخلود (حك 15: 3) وينبوع عدم الفساد وأساس الدهور(). أنت تتقبَّلُ كلَّ هذه الأسماء بسببنا، حتّى إذا استعملناها لندعوك، نعرف عظمتك() التي لا نراها في الزمن الحاضر، ولكنَّها فقط منظورة للأطهار الذين يتكوَّنون في إنسانك الفريد».()
110 ولمّا كسر الخبز وزَّعه علينا وصلَّى صلاة من أجل كلِّ أخ لكي يؤهَّل كلّ واحد لنعمة الربّ وإفخارستيَّته المقدَّسة. وأكلّ منه هو أيضًا وأعلن: «يجب أن أتقبَّل أنا أيضًا حصَّتي والسلام، أيُّها الأحبّاء». بعد ذلك دعا بيروس(): «خذ معك أخوين يحملان القفف والمعاول، وتعال معي». فنفَّذ بيروس حالاً الأمر الذي أعطاه إيّاه يوحنّا، خادم الله.

111 بعد() أن خرج الطوباويّ يوحنّا من البيت، ذهب إلى خارج أبواب المدينة، وطلب من أكبر عدد ممكن أن يظلُّوا بعيدًا عنه. وبلغ إلى قبر أحد إخوتنا. فقال للشبّان: «احفروا يا أبنائي الصغار». فبدأوا يحفرون. وكان هو يشجِّعهم ويقوِّيهم: «لتكن هذه الحفرة أعمق». وإذ كانوا يحفرون، كان يعظهم بالكلمة. وحثَّ أيضًا أولئك الذين خرجوا معه من البيت: كان يبنيهم ويثبِّتهم في عظمة الله، ويصلِّي من أجل كلِّ واحد منهم. ولمّا انتهى الشبّان من الحفرة وأعطوها الشكل الذي يريده هو، وما كنّا نعرف لماذا، خلع الثياب التي كان يلبسها ووضعها في عمق الحفرة كما لو كان يهيِّئ فراشًا. ثمَّ وقف وهو يرتدي فقط قميصه ذا الهدبين، وبسط يديه وتلا هذه الصلاة:
112 «أنت اخترتَنا رسلاً إلى الأمم. أنت يا الله بعثتَ بنا إلى العالم. أنت تجلَّيت بواسطة رسلك. أنت ما توقَّفت يومًا عن العمل، بل خلَّصت دومًا أولئك الذين يمكن خلاصهم. أنت عرَّفت بنفسك عبر الطبيعة المخلوقة. أنت اعتلنت حتّى بين الحيوانات. أنت جعلت من نفس الوحش القاسية نفسًا وديعة وهادئة. أنت أعطيت ذاتك لتلك التي تعطَّشت إلى خلاصك. أنت ظهرت بسرعة لتلك التي كانت ميتة. أنت كشفت عن ذاتك شريعة لمن غرق في الفوضى. أنت تجلَّيت للتي سبق وغلبها إبليس. أنت قهرت خصم تلك التي لجأت إليك. أنت مددت يدك وأقمتها من سلطان الجحيم. أنت ما سمحت لها بأن تحيا بحسب الجسد. أنت أريتها عدوَّها. أنت فعلت لكي تكون معرفتُها لك طاهرة يا الله والربّ يسوع. أنت أبو الكائنات التي فوق السماء. وإله الكائنات السماويَّة وناموس كائنات الأثير ومسيرة الكائنات الهوائيَّة وحافظ الكائنات الأرضيَّة ورعب الكائنات التي تحت الأرض، تقبَّلْ أيضًا نفس يوحنّاك لأنَّك بلا شكّ اعتبرتَه أهلاً لذلك.

113 «أنت حفظتَني لك إلى هذه الساعة، طاهرًا وبتولاً من دون أيِّ اتِّحاد مع امرأة. أنت ظهرتَ لي في شبابي، ساعةَ أردت أن أتزوَّج وقلت لي: "أنا بحاجة إليك، يا يوحنّا". أنت ساعة أردت أن أتزوَّج، منحتَني مرض الجسد. أنت منعتني من الزواج ساعة كنت أريدُه للمرَّة الثانية. وبما أنِّي ما أطعتك قلتَ لي فيما بعد، في الساعة الثالثة من النهار، على البحر: "يا يوحنّا، لو لم تكن لي لتركتُك تتزوَّج". أنت الذي حرمتَني من النظر سنتين كاملتين فأهديت لي المناسبة لكي أبكي وأصلِّي. أنت في السنة الثالثة، فتحتَ عينَيْ روحي ورددت لي عينيَّ الخارجيَّتين. أنت حين استعدتُ النظر واضحًا، صوَّرتَ لي، كأمرٍ لا يُطاق، أن أحدِّق في امرأة. أنت نجَّيتني من المشهد العابر وقُدتني إلى المشهد الذي يبقى إلى الأبد. أنت أبعدتني عن جنون النجاسة الحاضر في يديَّ. أنت انتزعتني من الموت المرّ وثبَّتَني عليك وحدك(). أنت كممتَ المرض المخفيّ في نفسي وقطعت أعماله المنظورة. أنت لاحقتَ التمرُّد الذي كان فيَّ وأبعدته. أنت ردَّدت حبِّي لك إلى نقائه. أنت هيَّأت طريقي إليك لئلاّ تكون في وجهي العوائق. أنت أعطيتني إيمانًا بك لا ارتياب فيه. أنت رسمت فيَّ معرفتك التي هي طاهرة. أنت أدَّيت لكلِّ واحد الأجر العادل عن أعماله(). أنت وضعت في نفسي متطلِّبةً بأن لا أمتلك شيئًا أثمن منك. والآن، أتممتُ المهمَّة التي أوكلتَني بها، أيُّها الربُّ يسوع، فتنازل واجعلني أهلاً لراحتك، وامنحني التحامًا فيك أي الخلاص الذي لا يُوصَف ولا يعبَّر عنه.
114 «وخلال السفر الذي يقودني إليك، لتبتعد النار، ولتُقهر الظلمة، ولتخسر الهوَّةُ قوَّتها، وليَنفد الأتون، ولتنطفئ جهنَّم، وليَخزَ الملائكة، وليرتعب الشياطين، وليُسحق الرؤساء، ولتَسقط القوَّات، ولتبقَ ثابتة أماكنُ اليمين، ولا تدم أماكن الشمال، وليُكَمَّ الشيطان، وليصبح إبليس موضوع هزء ولينفد غضبه وليهدأ سخطه وينقلب انتقامه عارًا، ولتتألَّم حرارته وليتوجَّع أولاده ويُنفَى كلُّ نسله. هب لي أن أسير حتّى نهاية الطريق إليك في مأمن من المهانة والشتيمة، لأتقبَّل ما وعدتَ به أولئك الذي عاشوا في الطهارة وما أحبُّوا إلاَّك».
115 وإذ كان واقفًا جعل على نفسه علامة كاملة وقال: «كن معي، أيُّها الربُّ يسوع المسيح». ورقد في الحفرة حيث بسط ثيابه. وبعد أن قال لنا: «السلام معكم()، يا إخوتي»، أسلم الروح في الفرح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM