الفصل العشرون: التقليد الرسوليّ بين تقلا والأمومة

الفصل العشرون

التقليد الرسوليّ بين تقلا والأمومة

حين نقرأ الرسائل البولسيَّة نندهش حين نرى التضارب في الكلام، أقلَّه في الظاهر. من جهة يقول الرسول: »فما الرجل من المرأة، بل المرأة من الرجل. وما خلق الله الرجل من أجل المرأة، بل خلق المرأة من أجل الرجل« (1 كو 11: 8-9). وبعد آيتين يقول: »لا تكون المرأة من دون الرجل، ولا الرجل من دون المرأة، لأنَّه إذا كانت المرأة من الرجل (كما يقول التقليد اليهوديّ) فالرجل تلده المرأة، والكلُّ هو من الله« (آ11-12).

»في الربّ« هي المساواة، أمّا في المفهوم البشريّ المرتبط بالخطيئة، فالمرأة خاضعة للرجل وهي في خدمة الرجل، بعد أن حملت الخطيئة إلى البشريَّة، لأنَّ الشيطان أضلَّها وما أضلَّ آدم (1 تم 2: 14). أتُرى بولس ذاك الفكر الواسع والمنطقيّ أضاع المنطق في كلامه؟ أتُرى ذاك الذي عرف الفكر اليونانيَّ والفلسفة والشعر، نسيَ ما تعلَّمه في الجامعة لكي يرضي الناس؟ ونحن لا ننسى ما قاله عن نفسه: »لو كنتُ أطلب رضى الناس لا أكون عبدًا ليسوع المسيح« (غل 1: 1). وقال في موضع آخر: »إن عدتُ إلى بناء ما هدمته...« (غل 2: 18). ويمكن أن نقول بفمه تجاه ذلك: »إن عدتُ إلى هدم ما بنيته...«. نسارع إلى القول إنَّ بولس هو ذلك العبقريُّ الذي وضع كتابةً، أسس الإيمان المسيحيّ، وعليه ارتكز جميع الذين كتبوا من بعده. لهذا نطرح السؤال: ما كان موقفه؟ والسؤال الثاني: ما الذي حصل لموقفه؟ راح »تلاميذه في خطَّين متعارضين كلَّ التعارض. الأوَّل هو خطُّ الكنيسة المؤسِّسة، التي تأثَّرت كثيرًا بالعهد القديم وبالتقليد اليهوديِّ، في رجوع إلى الوراء بالنسبة إلى بولس: عادت المرأة إلى ما كانت عليه بعد »الخطيئة الأصليَّة«. هي سبب الشرِّ والخطيئة، »ولكنَّها تخلص بالأمومة إذا لبثت على الإيمان والمحبَّة والقداسة والرصانة« (1 تم 2: 14). والخطُّ الثاني، ترك الكنيسة وقدَّم كتبًا خاصَّة به لم تدخل في اللائحة القانونيَّة للعهد الجديد. دُعيَت الكتب المنحولة. فهذه الكتب أعطت دورًا كبيرًا للمرأة تفوَّق على دور الرجل، فصارت مريم المجدليَّة مثلاً أهمَّ من بطرس، لأنَّها نالت وحيًا باطنيٌّا لا يعرفه إلاَّ هي. أمّا بطرس فلبث خارج تلك الخبرة. كما صارت تقلا معادلة للرسل، فما اكتفت بحمل البشارة، بل مارست سرَّ العماد لا على الآخرين فقط، بل على نفسها.

أمّا المثال البولسيُّ العميق فنجده عند هذه الأسرة التي استقبلت بولس في كورنتوس. نقرأ في أع 18: 2: »وترك بولس بعد ذلك أثينة وجاء إلى كورنتوس، فوجد يهوديٌّا من أهل البنط اسمه أكيلا جاء من وقت قريب من إيطالية وامرأته برسكلَّة«. وتابع النصّ: »وأقام عندهما لأنَّه كان من أهل صناعتهما، صناعة الخيام« (آ3). ذُكر الرجل ثمَّ ذكرت المرأة. ولكنَّنا نقرأ عكس ذلك في الفصل عينه، حيث تُذكَر المرأة قبل الرجل: »ثمَّ ودَّع بولس الإخوة وسافر في البحر ومعه برسكلَّة وأكيلا« (آ18). ومَن الذي أكمل تعليم أبلُّوس الآتي من الإسكندريَّة والعارف بالكتاب المقدَّس؟ الرجل أم المرأة؟ نقرأ: »فلمّا بدأ أبلُّوس يتكلَّم بجرأة في المجمع، سمعته برسكلَّة وأكيلا، فأخذاه إلى بيتهما وشرحا له طريق الربِّ شرحًا دقيقًا« (آ26). إلى هذه الأسرة، بعث بولس بسلامه إلى رومة: »سلِّموا على برسكلَّة وأكيلا، معاونيَّ في المسيح يسوع اللذين عرَّضا أنفسهما للموت من اجلي، وما أنا وحدي أشكرهما، بل جميع كنائس المؤمنين...« (رو 16: 3-4). هي أسرة رسوليَّة: كانت في كورنتوس ووصلت إلى رومة. وها هي في أفسس حين يكتب الرسول إلى الكنيسة في كورنتوس: »يسلِّم عليكم كثيرًا في الربِّ أكيلا وبرسكلَّة والكنيسة التي تجتمع في بيتهما« (1 كو 16: 19). يبدو أنَّها كانت أسرة موسرة، لها بيت واسع صار مثل كنيسة تجتمع فيه الجماعة مهما كتر عددُ أعضائها. هو بيت أكيلا أم بيت برسكلَّة؟ هل هي الرسولة أم هو الرسول؟ من له الأفضليَّة ومن هو في المقام الأوَّل؟ أسئلة نافلة في نظر بولس الذي أعلن أكثر من مرَّة: لا رجل ولا امرأة.

*  *  *

قال الرسول هذه العبارة في الرسالة إلى غلاطية (3: 28)، وذلك في معرض حديثه عن الشريعة كما كانت تمارَس في القرن الأوَّل المسيحيِّ لدى الشعب اليهوديّ. فالمرأة أوَّلاً هي الزوجة تؤخذ إلى الرجل كما يُؤخَذ أيُّ شيء. أما هكذا وصلت رفقة إلى إسحاق؟ أرسل إبراهيم »رئيس الخدم ووكيل الأملاك« (تك 24: 2) ليأتي بزوجة إلى ابنه. وأخذ معه الذهب. فقال لابان وبتوئيل: »خذها واذهب لتكون زوجة لابن سيِّدك« (24: 51). ولا نقول شيئًا عن زواج يعقوب بليئة وبراحيل. اشتغل يعقوب سبع سنين لكي »يحصل« على كلِّ واحدة.

وما نلاحظ في سفر الأمثال أنَّ ما من امرأة تُهنَّأ لأنَّها تزوَّجت برجل، بل الرجل يُهنَّأ دائمًا: »هكذا يبارَك نسلُك وتفرح بامرأة شبابك، فتكون لك الظبية المحبوبة والوعلة الحنون الصغيرة. يرويك ودادُها كلَّ حين وبحبِّها تهيم على الدوام« (أم 5: 18-19). وتجاه مثل هذه المرأة، يقدِّم السفرُ عينه المرأة »العاهرة«، »الفاجرة« (آ20)، »امرأة السوء« (6: 24). ويدعو الرجل: 'لا تشتهِ جمالها في قلبك، ولا تُؤخَذ بسحر جفونها. فالزانية تفقرك إلى الرغيف، والمتزوِّجة تصطاد كرام النفوسب (آ25-26). فالرجل هو »الكريم« و»الرفيع«، وإن كان هناك من تجربة، فهي تأتي من المرأة، »وإن امتدحَتِ المرأة فمن أجل زوجها«. »المرأة القديرة تاج لزوجها، والمعتوهة نخرٌ في عظامه« (12: 4). فهذه المرأة القديرة »تُطمئن قلب زوجها، تحمل له الخير من دون الشرّ...« (31: 10). كلُّ عملها هو في البيت، لهذا تنال المديح من أولادها أيضًا (آ28). ويقول الكتاب أيضًا: »جمال المرأة لا خير فيه، خاتم من ذهب في أنف خنزيرة« (11: 22). ولا نفتح كثيرًا حكمة يشوع بن سيراخ. فما تقوله في المرأة مهين حقٌّا: »الخمر والنساء تدفعان العقلاء إلى المتاهة، ومن عاشر الزواني يفقد الخجل« (سي 19: 2). والذروة: »رجل يُسيء خيرٌ من امرأة تُحسن. فالمرأة تجلب الخزي والعار« (42: 14).

فعلى الرجل أن ينتبه إلى امرأته لأنَّها قاصر، وبالأحرى إلى ابنته بحيث يزوِّجها عاجلاً: »ألك بنات؟ فصنْ أجسادهنَّ، ولا تبالغ في ملاطفتهنَّ. زوِّج بنتك تحسن عملاً، ولكن أعطها رجلاً فهيمًا« (7: 24-25). أمّا الصلوات فتوازي بين المرأة والعبد والطفل. لهذا يقول الرسول إلى أهل غلاطية: »لا فرق الآن بين اليهوديِّ والوثنيّ، بين العبد والحرّ، بين الرجل والمرأة« (3: 28). لهذا يصلِّي الرجل بأنَّه لم يُولَد امرأة. فهي »وثنيَّة« لأنَّها معفاة من حفظ الوصايا والمشاركة في العيد. وهي »عبدة« يستطيع الرجل أن يعيدها إلى بيتها ساعة يشاء، ولو »حرقت له طبخته« وهي »قاصرة«، فيحدِّثنا الرسول عن الولد القاصر الذي يكون وضعه مثل وضع العبد. والمرأة خصوصًا تُحرَم من تعليم التوراة، فقال رابّي ألعازار مثلاً: »علِّم ابنتك التوراة تعلِّمها التفلُّت«.

فالأمُّ في الأساس هي الزوجة. لهذا قال تلمود بابل: »رجل بلا امرأة لا يكون رجلاً«. هذا يجعلنا في خطِّ سفر التكوين. فالرجل يحتاج عونًا بإزائه (2: 20). لا مبادرة لها، بل هي تساعد الرجل، تخدمه وتعطيه الأولاد. ذاك هو الخطُّ »المؤسَّساتيّ« الذي سار فيه بعض تلاميذ بولس. ولنا عودة إليه.

*  *  *

أمَّا بولس فرفض مثل هذا الموقف. قال: »أنتم كلُّكم أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع« (غل 3: 26). قال »كلُّكم« وما ميَّز بين فئة وفئة. كما لم يميِّز بين العبد والحرّ، كذلك لم يميِّز بين المرأة والرجل. في نظر الربِّ، لا فرق بين الاثنين، لأنَّهما كلاهما مخلوقان على صورة الله ومثاله. لا الرجل وحده، ولا المرأة وحدها. فالاثنان صورة الله، وحين يكونان معًا يصيران »خالقين« مثل الله، فيعطيان الحياة للبنين والبنات.

الرجل ابن الله والمرأة ابنة الله. كيف يصير الجميع أبناء؟ بالإيمان. فالرجل في العالم اليهوديِّ هو ابن الله لأنَّه »يُختَن«! قال الرسول: الختان لا يزيد شيئًا، وعدم الختان لا يُنقص شيئًا، بل الإيمان العامل بالمحبَّة. نتخيَّل في لائحة السلامات التي ترد في نهاية الرسالة إلى رومة، أن تُذكَر امرأة في المقام الأوَّل: »أوصيكم بأختنا فيبة خادمة كنيسة كنَّخريَّة (مرفأ لكورنتوس)« (16: 1). هي خادمة على مثال مريم العذراء »خادمة الربّ«. وهي في خطِّ يسوع الذي »جاء ليخدم«. ويتابع: »تقبَّلوها في الربِّ قبولاً يليق بالإخوة القدِّيسين، وساعدوها في كلِّ ما تحتاج إليه منكم، لأنَّها أسعفت كثيرًا من الإخوة وأسعفتني أنا أيضًا« (آ2). هي المساعِدة في العهد القديم. أمّا هنا فهي صاحبة المبادرة وتطلب من الإخوة أن يكونوا مساعدين لها. أتكون معروفة في رومة فأسعفت الذين كانوا في ضيق؟ ربَّما.

فالإيمان يجعل الرجل والمرأة متساويين أمام الله، كما كان أكيلا وبرسكلَّة. كما كان ديونيسيوس وداماريس في كنيسة أثينة (أع 17: 34). بل ستُذكر ليدية وحدها في كنيسة فيلبِّي: »ادخلوا بيتي وأقيموا فيه إذا كنتم تحسبونني مؤمنة بالربّ« (أع 16: 15).

وواصل بولس كلامه في الرسالة إلى غلاطية: »فأنتم كلُّكم واحد في المسيح يسوع« (آ28). ما من أحد يكون في الخارج، لا العبد، لا المرأة، لا الأطفال. تتخيَّلون أن يقال: »كان الآكلون خمسة آلاف ما عدا النساء والأطفال« (مت 15: 28). هم لا يُحسَبون. هم تابعون للرجال! والأطفال خصوصًا، لا يحقُّ لهم أن يكونوا مع الكبار، بل يكونون مع أمَّهاتهم. فلا مكان للنساء والأطفال في الجماعة. »أنتم للمسيح، إذًا أنتم نسل إبراهيم، ولكم الميراث بحسب الوعد« (آ29). لا ميراث للبنت في البيت مع إخوتها. أمّا في المسيحيَّة، فالميراث هو للجميع.

ذاك هو المبدأ الذي يعلنه بولس، والذي يفصِّله بشكل خاصٍّ في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: 'لكلِّ رجل امرأته، ولكلِّ امرأة زوجها. وعلى الزوج أن يوفي امرأته حقَّها، كما على المرأة أن توفي زوجها حقَّه« (7: 2-3). وحتّى على المستوى الروحيِّ: »الزوج غير المؤمن يتقدَّس بالمرأة المؤمنة. والمرأة غير المؤمنة تتقدَّس بزوجها المؤمن« (آ14). يا للتبادل العجيب الذي نادى به الرسول. وفي الجماعات، لا تُعزَل المرأة في موضع خاصٍّ بها وقت الصلاة. فالجميع حاضرون في الموضع الواحد، ويشاركون كلُّهم معًا في العبادة الواحدة. فلا شيء يُمنَع على المرأة، كما كان الأمر في العالم اليهوديِّ وفي عوالم أخرى. قال الرسول في إطار النبوءة والتكلُّم بألسنة: »أريد أن تتكلَّموا كلُّكم بلغات« (1 كو 14: 5). نلاحظ: »كلُّكم«. ويتواصل الكلام دون أن يستثني الرسول أحدًا: »لذلك يجب على المتكلِّم بلغات أن يلتمس من الله موهبة تفسيرها« (آ13). وما يقوم به الرجل تقوم به المرأة: »فماذا بعد، أيُّها الإخوة؟ عندما تجتمعون ولكلِّ واحد منكم ترنيمة أو تعليم أو وحي أو رسالة بلغات أو ترجمة، فليكن كلُّ شيء للبنيان« (آ26). لا مجال للفوضى على جميع الصعد. بل يجب أن يسود النظام: »وإذا تكلَّمتم بلغات، فليتكلَّم منكم اثنان أو ثلاثة على الأكثر، واحدٌ بعد الآخر، وليكن فيكم من يترجم. وإذا كان لا يُوجَد مترجم، فليصمت المتكلِّم بلغات في الكنيسة ويحدِّث نفسه والله« (آ27-28).

أجل، الرجل يصمت أو كلُّ واحد يصمت، سواء كان رجلاً أو امرأة، إذا لم يكن مَن يترجم. فلماذا نعجب إن صمتت المرأة في بعض الحالات؟ والخلاصة الأخيرة، بعد هذا المقطع المعترض (آ33-38)، »فارغبوا إذًا، يا إخوتي، في موهبة النبوءة، ولا تمنعوا أحدًا أن يتكلَّم بلغات« (آ39). لا مَنْعَ لأحد. الكلُّ يتكلَّمون. أمَّا الشرط فهو: »فليكن كلُّ شيء بلياقة ونظام« (آ40).

وننهي نظرة بولس حول الخضوع كما اعتدنا أن نقرأ الرسالة مبتورة من المبدأ العامِّ: »ليخضع بعضكم لبعض بمخافة المسيح« (أف 5: 21). هذا يعني أنَّ الرجل يخضع للمرأة والمرأة تخضع للرجل. ولكن أيُّ خضوع هو في الإطار المسيحيّ؟ يشبه »الخضوع للربّ« (آ22)، لا الخضوع للبشر. كما نقرأ بعد الخطيئة: »إلى زوجك يكون اشتياقك وهو يسود عليكِ« (خر 3: 16). أنت مدفوعة. أنت مرتبطة بزوجك لكي يدافع عنك. وإن تُوُفِّي زوجك تكونين لرجل آخر. هو يسود، هو السيِّد، هو »بعل«، هو مثل إلهٍ عليك، ولا يحقُّ لك أن تناقشيه بأيِّ شيء. هي الطاعة العمياء، ولهذا يكون الرجل أكبر من المرأة فيوجِّه أمورها، وهي القاصرة!

ويأتي التوازي الشعريّ: الخضوع من جهة، والمحبَّة من جهة أخرى. يربط النصُّ الخضوع بالمرأة، أما تستطيع أن تحبَّ؟ أما يجب عليها أن تحبَّ؟ هل هي فقط جارية، عبدة، جاء بها زوجها سبيَّة بين السبايا؟ فالمرأة مدعوَّة إلى المحبَّة، كما الرجل مدعوٌّ إلى الخضوع. والمحبَّة على مستوى الزواج تصل بالزوجين إلى »بذل الذات« (آ25).

تخضع المرأة لرجلها كما تخضع للربّ. ولا يمكن أن يكون هذا الخضوع إلاَّ خضوع الابن لأبيه ولأمِّه. هو خضوع المحبَّة حيث لا ضغط ولا إكراه.

*  *  *

ذاك هو فكر بولس، وتلك هي نظرته إلى الزواج حيث »يترك الرجل أباه وأمَّه ويتَّحد بامرأته فيصير الاثنان جسدًا واحدًا« (آ31). إذا لم يكونا متساويين فكيف يتَّحدان؟ هذا مستحيل حتّى في الأمور المادِّيَّة: هل يمتزج الزيت مع الماء؟ كلاّ. أمّا إذا كان الرجل نصف المرأة والمرأة نصف الرجل بحيث يكونان معًا صورة الله الكاملة، فحينئذٍ نستطيع أن نتكلَّم عن اتِّحاد حميم، بحيث لا يمكن الواحد أن ينفصل عن الآخر.

في نظر بولس، الرجل هو الرجل وله شخصيَّته. والمرأة هي المرأة ولها شخصيَّتها. ونعطي مثلاً بسيطًا لدى تلميذ بولس، لوقا البشير: من استقبل يسوع؟ أين هو الرجل؟ هو غير موجود. استقبلته امرأتان: مرتا ومريم. أجل، لا تكون المرأة »ظلَّ« الرجل، بل هي حاضرة ولاسيَّما في الجماعة كما الرجل. ولكن ماذا حصل لكتابات بولس؟ جاء بعده من أعاد المرأة إلى الشريعة اليهوديَّة، فخسرت الكثير من »الحرِّيَّة التي في المسيح« (غل 2: 4)، مع أنَّها دُعيت لتكون حرَّة، شأنها شأن الرجل. قال الرسول: »دعاكم الله لتكونوا أحرارًا« (غل 5: 13).

ونقرأ النصَّ المرتبط بالتكلُّم بألسنة. إلى ماذا ارتكز الرسول لكي يفرض الصمت على النساء؟ إلى الشريعة. قال: »فلتصمت نساؤكم في الكنائس، فلا يجوز لهنَّ التكلُّم، وعليهنَّ أن يخضعن للشريعة« (1 كو 14: 34). ومتى صارت الشريعة أساس حياة بولس الرسول؟ فهو من قال: »ولكنَّنا الآن تحرَّرنا من الشريعة، لأنَّنا مُتنا عمَا كان يقيِدنا، حتَى نعبد الله في نظام الروح الجديد، لا في نظام الحرف القديم« (رو 7: 6). نحن تحرَّرنا، فلماذا يأتي من يقيِّدنا، ويضع في يدنا الأغلال ويقودنا مثل العبيد. صرنا في »القديم« بعد أن دخلنا في »الجديد«. والبرهان الذي يقدَّم ليعيد المرأة إلى ما كانت عليه في العالم اليهوديّ، هو البرهان السلطويّ: »هل صدرت عنكم كلمة الله، أم انتهت إليكم وحدكم؟« (1 كو 14: 34). فالكلمة جاءت من أورشليم ومن فلسطين. فعودوا إلى هناك. ثمَ هناك غيركم نال هذه الكلمة وهو يتبع ما تفعله »جماعة القدِّيسين« أي الجماعة الأولى التي لبثت مرتبطة بيعقوب. والنساء »إن أردْنَ أن يتعلَّمن شيئًا، فليسألن أزواجهنَّ في البيت، لأنَّه عيب على المرأة أن تتكلَّم في الكنيسة« (آ35). ونطرح السؤال: هل نحن في كنيسة مسيحيَّة أم في مجمع يهوديّ؟ تخيَّلوا أن تصمت المرأة اليوم في كنائسنا، فهل تكون الجماعة كاملة؟ بل ناقصة وجدُّ ناقصة. أيمكن أن يصدر مثل هذا الكلام عن بولس؟ مستحيل وألف مستحيل. فمن أين أتى؟ من أولئك الذين جمعوا الرسائل البولسيَّة، فعُرفت في رسالة بطرس الثانية: »واحسبوا صبر ربِّنا فرصةً لخلاصكم، كما كتب إليكم بذلك أخونا الحبيب بولس، على قدر ما منحه الله من الحكمة، كما هي الحال في جميع رسائله...« (3: 15-16).

في هذا الخطِّ عينه جاءت الرسائل الرعائيَّة التي دُوِّنت في بداية القرن الثاني المسيحيّ، حيث الكنائس منتظمة حول الأسقف والشمّاس والشمَّاسة، كما حول الشيوخ والأرامل. كيف تكون المرأة؟ محتشمة »لا بشعر مجدول وذهب ولآلئ وثياب فاخرة« (1 تم 2: 9). هي تشبه النساء اللواتي عُرفن في سفر التكوين مثلاً، واللواتي يُذكَرن في رتبة الزواج المارونيَّة: سارة، رفقة، ليئة، راحيل.

والمرأة تكون »صامتة، خاضعة« (آ11). هي »تتعلَّم ولا يحقُّ لها أن تعلِّم«. فهي في البيت تتعلَّم، تسأل زوجها »لأنَّه يعرف«. أمّا هي »فلا تعرف«. نحن نرى هنا ردَّة الفعل على بعض ما كان في المحيط الرومانيِ - اليونانيّ: »لا أُجيز للمرأة أن تعلِّم ولا أن تتسلَّط على الرجل، بل أن تلزم الهدوء« (آ12). ونلاحظ لغة التسلُّط: »لا أجيز«. من أنت يا من تجيز وتسمح؟ وماذا تكون بقرب بولس الذي علَّم تيموتاوس كيف يتعامل مع المؤمنين باللطف« (1 تم 5: 1) والوداعة. ويكفي أن نتذكَّر كلامه إلى أهل كورنتوس: »وأمّا الآخرون فأقول لهم أنا لا الربّ...« (1 كو 7: 12). وينهي: »أمّا أنا فأظنُّ أنَّ فيَّ روح الله« (آ40).

حرام على تعليم بولس يصل إلى هذا المستوى! فلو قام من قبره لكان فعل ما فعله يسوع حين رأى الباعة في الهيكل. ولكان قال: تعبتُ باطلاً. فذاك الذي طلب من فيلمون السيِّد أن يعامل عبده أونسيمس مثل »أخ« وما خاف التشريع الرومانيّ في هذا المجال، أتُراه يتراجع؟ كلاّ. فكيف نريده أن يعيد المرأة إلى ما كانت عليه في العالم اليهوديِّ فينعتها بأنَّها هي سبب الخطيئة في العالم؟ قالت الرسالة الأولى إلى تيموتاوس: »لأنَّ آدم خلقه الله أوَّلاً ثمَّ حوَّاء« (2: 13). هذا ما قاله سفر التكوين في إطار التعاون بين الرجل والمرأة، لا في إطار أوليَّة الرجل على المرأة. وإذا أردنا قراءة »حرفيَّة« للنصوص نقول إنَّ الوصيَّة لم تصل إلى حواء، بل إلى آدم، لم تصل إلى المرأة بل إلى الرجل. فنقرأ في تك 2: 16: »وأوصى الربُّ الإله آدم قال: من جميع شجر الجنَّة تأكل، وأمّا شجرة معرفة الخير والشرِ فلا تأكل منها. فيوم تأكل منها موتًا تموتب. ونطرح السؤال: أين كانت حوّاء؟ لم تكن بعدُ خرجت من ضلع آدم. فما أدراها بالخطيئة؟ ومع ذلك تواصل الرسالة الأولى إلى تيموتاوس: »وما أغوى الشرِّير آدم، بل أغوى المرأة فوقعَتْ في المعصية« (آ14). ولكنَّ الرسول يقول في الرسالة إلى رومة: »بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت بحيث عمَّ الموت جميع الناس لأنَّهم جميعهم خطئوا« (5: 12). هو رجل تجاه رجل آخر هو يسوع المسيح، بحسب القسم المقابل: كما بإنسان واحد... كذلك »بنعمة إنسان واحد هو يسوع المسيح« (آ15). ثمَّ إنَّ الرسول يربط وضع البشريَّة بالخطيئة لأنَّ جميع البشر خطئوا، لا لأنَّ واحدًا خطئ.

تفسير عتيق لا يرتبط فقط بالعهد القديم، بل بما كان يقوله المعلِّمون اليهود في زمن بولس. وهكذا مال فكر الرسول عن خطِّه الأوَّل. »البشر كلُّهم خطئوا«. ثمَّ »البشر جميعًا ينالون الحياة« ببرِّ إنسان واحد، »البشر جميعًا يصيرون أبرارًا« بطاعة إنسان واحد هو يسوع المسيح (آ18-19).

*  *  *

كان هناك خطٌّ أوَّل مال بتعليم الرسول فضخَّم دور الرجل قبالة المرأة كما في العالم اليهوديِّ، وأصاب الرسالة الأولى إلى بطرس بنفحتها البولسيَّة: »وكذلك أنتنَّ أيَّتها النساء اخضعنَ لأزواجكنَّ...« (3: 1). والمثال: »كذلك كانت النساء القديمات المتَّكلات على الله يتزيَّنَّ فيما مضى، خاضعات لأزواجهنَّ، مثل سارة التي كانت تطيع إبراهيم وتدعوه سيِّدها« (آ5-6)، لا زوجها التي تشكِّل معه »جسدًا واحدًا«.

وهناك خطٌّ ثانٍ مال بتعليم الرسول فضخَّم دور المرأة فصارت الأولى في الكنيسة. مثل هذا الخطِّ نجده في الأسفار المنحولة. ففي أعمال بولس نجد مثلاً تقلا. هي نالت الاضطهاد قبل بولس وأُلقيَتْ أمام الوحوش قبله. ونحن نرى بجانبها النساء، لا الرجال، فهؤلاء يريدونها لهم لا للمسيح. وهي سوف تقول لبولس: »نلتُ المعموديَّة، يا بولس. فالذي عمل فيك من أجل الإنجيل عملَ فيَّ أيضًا لكي أعمَّد«. أعطيَ لها السلطان الذي أعطي للرجال، بحيث قال لها بولس: »امضي (إلى إيقونيوم) وعلِّمي كلام الله«. فأمر الربُّ الأحد عشر: »اذهبوا، تلمذوا، عمِّدوا، علِّموا«، لم يتوجَّه فقط للرجال، بل للنساء أيضًا.

ونقرأ في الإنجيل بحسب توما (القول 114): »قال لهم سمعان بطرس: 'لتخرج مريم من بيننا، لأنَّ النساء لسن أهلاً للحياة«. فقال يسوع: »ها أنا أقودها وأجعل منها ذكرًا، بحيث تصبح هي أيضًا روحًا حيَّة شبيهًا بكم، أيُّها الذكور، لأنَّ كلَّ امرأة تجعل من نفسها ذكرًا تدخل في ملكوت السماوات«. ما نكتشف هنا هو التزاحم بين التلاميذ ومريم، وهذا واضح في إنجيل فيلبُّس. كما نكتشف أنَّ الأنوثة ترمز إلى النقص. وهكذا يأتي يسوع، ويحوِّلها إلى ذكر فتصبح معادلة للرسل. ففي إنجيل فيلبُّس نعرف أنَّ مريم المجدليَّة هي رفيقة يسوع في العالم الجليّ، كما الحكمة رفيقة المخلِّص في العالم الخفيّ. وفي الإنجيل عينه نقرأ:

أمّا مريم المجدليَّة، فكان المخلِّص يحبُّها أكثر من جميع التلاميذ. فقالوا له: »لماذا تحبُّها أكثر منّا كلِّنا؟« فأجاب المخلِّص وقال لهم: »لماذا لا أحبُّكم مثلها؟

ويتكلَّم النصُّ عن القبلة كعلامة عن المشاركة والولادة الروحيَّة.

وفي حوار المخلِّص نعرف أنَّ الوحي وصل إلى متّى كما وصل إلى مريم:

قال تلاميذه: »من هو الذي يبحث ومن هو الذي يكشف؟« قال الربُّ لهم: 'الذي يبحث هو الذي يكشف أيضًا«. فسأله متّى أيضًا: »يا ربّ، حين أسمع... وحين أتكلَّم، من هو الذي يتكلَّم ومن هو الذي يسمع؟« فقال الربُّ: »ذاك الذي يتكلَّم هو أيضًا ذاك الذي يسمع، وذاك الذي يرى هو أيضًا ذاك الذي يكشف«. فقالت مريم: »يا ربُّ، ها أنا أحمل جسدًا. فلماذا أبكي ولماذا أضحك؟« فقال الربُّ: »الجسدُ يبكي بسبب أعماله والباقي، والذهن يضحك بسبب نور العقل. إن كان إنسان لا يقيم واقفًا في الظلمة، فهو لا يقدر أن يرى النور...«.

نكتفي بهذين المثلين اللذين بيَّنا فيهما مركز المرأة بجانب الرجل، بل هي تتعدَّاه حين يقدِّم لها الربُّ وحيًا سرِّيٌّا لا يعرفه الرسل أنفسهم.

*  *  *

خطّان جاءا بعد بولس الرسول. الخطُّ الأوَّل شابه ما حصل لأوغسطين بواسطة تلاميذه. ما استطاعوا أن يكتنهوا تعليمه فبسَّطوه وفي النهاية شوَّهوه وحملوه هكذا إلى القرون الوسطى. فكان ما كان من مغالطات لاهوتيَّة لا مجال لذكرها الآن. وذاك ما حصل في الرسائل البولسيَّة بدءًا بالرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس. ما هذه الحرِّيَّة للمرأة؟ ومتى كانت مساوية للرجل؟ هذا غير معقول في التقليد اليهوديّ، كما في جزء من التقليد الرومانيّ اليونانيّ، بل في حاضرنا اليوم. أحسَّ تلاميذ الرسول وجامعو كتاباته أنَّ الأرض تنزلق تحتهم، فعادوا إلى الفكر اليهوديِّ يستندون إليه بعد أن اعتبروه ثابتًا. ولكنَّهم خافوا فكر بولس وتأثَّرت الكنيسة بخياناتهم فمنعت المرأة من المشاركة في الجوقة، ومنعتها من الصعود إلى المذبح. ومنعتها من قراءة الأسفار المقدَّسة في الليتورجيّا. بل لبثت مدَّة طويلة وراء »الشعريَّة« كما فصل العالم اليهوديُّ النساء عن الرجال في صلاة المجمع.

ذاك هو حال العباقرة في التاريخ، ومنهم بولس الذين سيكون له في لوقا تلميذًا يليق به، فيتحدَّث عن التلاميذ والتلميذات، عن خدَّام الربِّ وخادماته اللواتي تبعنه إلى الصليب ثمَّ بشَّرن بقيامته. أمّا الخطُّ الثاني الذي لم نتوسَّع فيه طويلاً فأبرز دور المرأة في حياة الكنيسة: هي حاضرة بشكل خفيّ، والرسل بشكل جليّ. لهذا اختفت الكتابات المتحدِّثة عن دور المرأة فاعتُبرَتْ منحولة. فيبقى على كنيسة القرن الحادي والعشرين أن تعيد إلى المرأة كرامتها في الكنيسة فتعطيها الدور الذي أعطيَ للرجل دون أيِّ إفراط ولا مبالغة. بما أنَّ لا فرق بين الرجل والمرأة في المبدأ البولسيّ، فلماذا يكون فرقٌ في حياة الكنيسة وممارستها التعليميَّة والليتورجيَّة. في تاريخ أميركا الجنوبيَّة مُنع العبد من أن يصير كاهنًا. ثمَّ تطوَّر الوضع كما في الفكر البولسيِّ حيث لا فرق بين العبد والحرّ. فيبقى علينا أن نتجاوز الشروح التي تُبقي الكنيسةَ سجينة الشريعة والعادات اليهوديَّة، بل والنظرات الشرقيَّة التي تعتبر المرأة كائنًا »ضعيفًا« (1 بط 3: 7)، على المستوى الجسديِّ والعقليِّ والروحيّ. إذا كانت المرأة أخذت مكانتها في المجتمع المدنيّ، فلماذا تبقى الكنيسة متأخِّرة؟ أما يجب عليها أن تعيد النظر في قراءتها للرسائل البولسيَّة فتعرف علاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل »حيث يكون كلُّ شيء من الله«؟ (1 كو 11: 12).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM