الفصل السادس: آمن ابراهيم بالله

الفصل السادس

آمن ابراهيم بالله

حين أراد بولس الرسول أن يحدِّث المؤمنين الآتين من العالم اليهوديّ عن دور الأعمال في حياتهم، عاد إلى شخص إبراهيم. دعاه الله من عمق بلاد الرافدين: »اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك« (تك 12: 1-2). لأجل أي عمل دعاه؟ يقول التقليد المنحول: كان عابد أوثان شأنه شأن الجماعة التي يُقيم فيها. هل استحقَّ ذلك؟ كلاّ. بل هي دعوة مجّانيَّة وجَّهها الله إلى من دُعيَ أبا المؤمنين. أمّا إبراهيم فما له سوى الجواب. قال الكتاب: »آمن إبراهيم بالربِّ فبرَّره الله لإيمانه« (تك 15: 6). واستعاد الرسول هذا الكلام وطرح السؤال: »لو أنَّ الله برَّره لأعماله لحقَّ له أن يفتخر، ولكن لا عند الله. فالكتاب يقول: آمن إبراهيم بالله...« (رو 4: 2-3). من هنا انطلق بولس لكي يحدِّثنا عن الإيمان.

1. نؤمن بالله والله يؤمن بنا

الإيمان كما نقرأه في العهد القديم يعني الثبات والمتانة والسند والاستمراريَّة: »الربُّ هو الإله الأمين، الإله الحيّ والملك الأزلي« (إر 10: 10). وأورد لنا إشعيا ما قال الربُّ لعبده وعابده: »يراك الملوك والرؤساء، فيقومون ويسجدون لك إكرامًا للربّ الذي '' آمن'' بك، للقدّوس الذي اختارك« (إش 49: 7).

من هذا المعنى انطلق الرسول فحدَّثنا عن الله الذي يؤمن بنا، يقف، يجعل اتِّكاله علينا. ولا نسأل: من نكون نحن؟ هو أراد ذلك وهو لا يزال يؤمن بنا حتّى وإن كنّا خائنين له. إنَّه يبقى على أمانته لأنَّه لا يقدر أن يتنكَّر لنفسه. في هذا قال بولس: »فماذا إن خان بعضهم (كانوا غير أمناء)؟ أتُبطل خيانتُهم (عدم إيمانهم) إيمان (أو: أمانة) الله؟ كلا« (رو 3: 3). وإلى الكورنثيّين كتب، وهم يندفعون بسرعة ويخبون بسرعة: »الله يحفظكم ثابتين... أمين هو الله الذي دعاكم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربِّنا« (1 كو 1: 8-9). تعود هذه الصفة التي تدلُّ على صدق الله حين تنتابنا التجربة. قال الرسول: »ما أصابتكم تجربة فوق طاقة الإنسان، لأنَّ الله أمين فلا يكلِّفكم من التجارب غير ما تقدرون عليه« (1 كو 10: 13). هو لا يخون. هو لا يتخلّى عنّا، كما يُقال في بعض الأوساط الشعبيَّة. قال الربّ: »لا أتركك ولا أرخي بك الأيدي.«

ولمّا رأى الكورنثيّون أنَّ بولس عزم على أمرٍ وتراجع عنه، ظنُّوا أنَّه يتصرَّف »بخفَّة« وبحسب المفهوم البشريّ بما فيه من ضعف. تارة يقول: نعم، وطورًا يقول: لا (2 كو 1: 17). وكان جوابه: »أمين هو الله أنَّ كلامنا لكم ما كان نعم ولا« (آ18). الله صادق هو. وهو المثال في حياة الرسول الذي يطلب منه أن يؤمن، ويدلُّ على إيمانه بأمانته اليوميَّة والعمليَّة. أمّا إبراهيم فدعاه الربّ. وكان جوابه جواب الإيمان العمليّ. قال له الربّ: انطلق، فانطلق كما أمره الربّ (تك 12: 4).

في هذا المعنى نقرأ رو 1: 16-17: »وأنا لا أستحي بإنجيل المسيح، فهو قدرة الله لخلاص كلِّ من يؤمن، لليهوديّ أوَّلاً ثمَّ لليونانيّ. لأنَّ فيه أُعلن برُّ الله من إيمان إلى إيمان...«. أي من إيمان الله إلى إيمان الإنسان. لا »بالإيمان أوَّلاً وأخيرًا« كما قدَّمت بعض الترجمات لسبب لاهوتيّ منحرف. وهكذا يكون جواب الإنسان جواب الإيمان.

في الإيمان يجعل الإنسان ثقته كاملة في الله وفي الله وحده. هكذا بدت الجماعة في تسالونيكي مع أنَّ الفريق الرسوليّ لبث لديها »ثلاثة سبوت« (أع 17: 2). »لأنَّ كلام الربِّ انتشر من عندكم... بل ذاع خبر إيمانكم بالله في كلِّ مكان... فهم يخبرون كيف اهتديتم إلى الله وتركتُم الأوثان لتعبدوا الله الحيّ الحقّ« (1 تس 1: 8-9). مثل هؤلاء المؤمنين هم مثال لنا: كثيرون يضعون ثقتهم في عالم الغيب والسحر وغيره. ويستندون إلى البشر لكي يخلِّصوهم، بل يتعبَّدون لهم. أمّا أهل أفسس الذين بشَّرهم بولس، فلمّا عرفوا الحقّ جاؤوا يعترفون ويقرّون بما يمارسون من سحر. »وجمع كثير من المشعوذين كتبهم وأحرقوها أمام أنظار الناس كلِّهم« (أع 19: 18-19). تركوا الماضي كلَّه وما أرادوا العودة إليه. أمّا الناس في أيّامنا فيتقلَّبون من عبادة إلى عبادة ولا يتعلَّمون أنَّ الإيمان الحقيقيّ هو التخلّي عن الماضي وما فيه من »سند« والاستسلام التامّ بين يدي الله. »سعى الأمم إلى البرّ فتبرَّروا بالإيمان« (رو 9: 30)، وعرفوا أنَّ »من آمن بالربِّ لا يخيب« (آ 33).

ويقدِّم لنا الرسول الطريق التي يسير فيها اليهوديّ وغير اليهوديّ (أي: الأمميّ): »فإذا شهدتَ بلسانك أنَّ يسوع ربّ، وآمنتَ بقلبك أنَّ الله أقامه من بين الأموات، نلت الخلاص. فالإيمان بالقلب يقود إلى البرّ، والشهادة باللسان تقود إلى الخلاص« (رو 10: 9-10). تلك هي الطريق التي سار فيها إبراهيم: جعل ثقته بالله، بلا حدود، أعطى حياته كلَّها وما أبقى شيئًا لنفسه. قال عنه الرسول: »وكان إبراهيم في نحو مئة من العمر، فما ضعف إيمانه حين رأى أن بدنه مات وأنَّ رحم سارة امرأته مات أيضًا، وما شكَّ في وعد الله، بل قوّاه إيمانُه فمجَّد الله واثقًا بأنَّ الله قادر على أن يفي بوعده« (رو 4: 19-21). بدا الأمر مستحيلاً لدى البشر، ممّا جعل سارة »تضحك« حين قيل لها: »يكون لها ابن« (تك 18: 10). ولكنَّ الربَّ لا يصعب عليه شيء. يكفي أن نؤمن على ما قال يسوع لوالد الصبيّ المريض (لو 8: 5). وقال لمرتا: »إن آمنتِ تشاهدين مجد الله« (يو 11: 40). آمن إبراهيم فكان له إسحاق ولدًا. وآمن والد الصبيّ فشُفيَ ابنه. وآمنت مرتا فقام أخوها من الموت بعد أن كان في القبر أربعة أيّام.

2. فعل الإيمان وأبعاده

فالإيمان موهبة مجّانيَّة من لدن الآب، ونعمة من لدنه تعالى، على ما قال الرسول لأهل فيلبّي: »أنعم عليكم أن تؤمنوا به« (فل 1: 29). فالإيمان لا يمكن أن يكون نتيجة جهاد يقوم به الإنسان. عندئذٍ نقع في فخّ التيّار الغنوصيّ الذي يعتبر أنَّه يكتشف نفسه بنفسه ويعطي لنفسه الإيمان. الإيمان نداء من الله يستند إلى صوت قيامة يسوع المسيح. في هذه القيامة تتجلّى قدرة الله على الموت وأمانته لمشروعه الخلاصيّ لنا، »نحن الذين آمنّا بذلك الذي أقام من بين الأموات يسوع ربَّنا، وكان أسلمه إلى الموت للتكفير عن زلاّتنا، وأقامه من أجل تبريرنا« (رو 4: 24-25).

في هذا الإطار يأتي فعل الإيمان، كما جاء في الكتاب: »آمنتُ ولذلك تكلَّمت« (2 كو 4: 13؛ رج مز 116: 10). عندئذٍ يعرف المؤمن كيف يكون إيمانه وإلى ماذا يدعوه هذا الإيمان؟

الإيمان أوَّلاً يعني الاستماع إلى كلام الله. فهو ليس نتيجة البراهين البشريَّة ولا التوضيح التاريخيّ لحدث من الأحداث. إنَّ الإيمان يأتي من سماع إعلان قيامة الربّ التي تنشرها الكرازة الرسوليَّة في العالم كلِّه. قال الرسول: »الإيمان من السماع، والسماع هو من التبشير بالمسيح« (رو 10: 17). وطرح بولس السؤال على الغلاطيّين: »هل نلتم روح الله لأنَّكم تعملون بأحكام الشريعة، أم لأنَّكم تؤمنون بالبشارة؟« (غل 3: 2). وأعاد بولس السؤال مرَّة ثانية (آ5) وهو عارف ما يكون الجواب، على ما قال في الرسالة الأولى إلى كورنتوس في إطار الكلام عن قيامة المسيح وقيامة المسيحيّين: »وإن كان المسيح ما قام، فتبشيرنا باطل وإيمانكم باطل« (1 كو 15: 14).

وكلَّم الرسول أهل تسالونيكي: »لأنَّ كلام الربِّ انتشر من عندكم، لا إلى مكدونية وبلاد آخائية وحدهما، بل ذاع خبرُ إيمانكم بالله في كلِّ مكان...« (1 تس 1: 8). فكلام الله الذي هو كرازة أولى للآتين إلى الإيمان، هو حاملٌ المسيح، وهو يلده في القلوب. لهذا تابع الرسول كلامه إلى التسالونيكيّين: »لمّا تلقَّيتم من كلام الله ما سمعتموه منّا، قبلتموه لا على أنَّه كلام بشر، بل على أنَّه بالحقيقة كلام الله يعمل فيكم أنتم المؤمنين« (1 تس 2: 13). ففي قلب البشارة (فل 1: 27) يتدخَّل الربّ، وبالإيمان يُقدَّم عملُه مثل نار تشتعل وتواصل اشتعالها.

والإيمان ثانيًا يعني القبول بعد السماع، والتعلُّق بما تقوله الكرازة: »الكلمة قريبة منك، في لسانك وفي قلبك« (رو 10: 8). لا. ليست الكلمة في السماء بحيث يصعب الوصول إليها. ولا هي في الهاوية. فلا نستطيع النزول إليها. هذا يعني ارتباط الإيمان بالسماع ثمَّ بالطاعة لشخص يسوع المسيح، لا لحقيقة مجرَّدة، جامدة. لهذا أعلن الرسول: »لا أجرؤُ أن أتكلَّم إلاَّ بما عمله المسيح على يدي لهداية الأمم إلى طاعة الله، بالقول والفعل، وبقوَّة الآيات والمعجزات وبقدرة روح الله« (رو 15: 18-19). فالمهمّ أن يخضع كلُّ فكر »لطاعة المسيح« (2 كو 10: 5).

والقبول يعني العمل. قال بولس: »نلتُ النعمة لأكون رسولاً من أجل اسمه، فأدعو جميع الأمم إلى الإيمان والطاعة« (رو 1: 5). سمع بولس النداء فما توانى. فأوضح في الرسالة إلى كنائس غلاطية: »ولكنَّ الله بنعمته اختارني وأنا في بطن أمّي، ودعاني إلى خدمته. وعندما شاء أن يُعلن ابنه فيَّ لأبشِّر به بين الأمم، ما استشرتُ بشرًا... بل ذهبتُ على الفور« (غل 1: 15-17). فعل بولس هنا كما فعل الأنبياء قبله. قال الربّ: »من أُرسل؟ من يكونُ رسولاً لنا؟« (إش 6: 8أ). وجاء جواب إشعيا في الحال: »ها أنا لك فأرسلني.« (آ8ب).

ونعمة الخلاص هذه تقدَّم مجّانًا في شكل صليب يُوضَع على أكتافنا. قال إشعيا: نعم. وسوف يرى شعبًا يسمع ولا يفهم، ينظر ولا يبصر. سوف يرى شعبًا قاسيًا بآذان ثقيلة وعيون مغمَّضة (آ9-10). وسوف يُقال عن بولس لحنانيا الذي عمَّده: »وسأريه كم يجب أن يتحمَّل من الآلام في سبيل اسمي« (أع 9: 16).

والإيمان ثالثًا هو تواصل واستمراريَّة، وإلاَّ يكون وضعنا مثل حبَّة الحنطة التي جاءت في أرض صخريَّة، قليلة التراب. تنبت الحبَّة بسرعة وتيبس بسرعة، بحيث لا تعطي ثمرًا. فالإيمان يعني الثبات. والإيمان يتضمَّن النموّ والتطوُّر، لأنَّ التحجُّر هو موت، لا حياة. في هذا المجال هتف بولس وهو غير عارف إن كان يختار الموت لكي يكون مع المسيح، أو الحياة: »ولي ثقة بأنّي سأبقى معكم جميعًا لأجل تقدُّمكم وفرحكم في الإيمان« (فل 1: 25).

وكلام الرسول صدى لما في الجماعة من إيمان ضعيف. لهذا تمنّى أن يعود إلى تسالونيكي: »وكم نسأل الله ليلاً ونهارًا أن نرى وجهكم ونكمِّل ما نقص من إيمانكم« (1 تس 3: 10). فقال لهم: »والذين منكم يطلبون أن يتبرَّروا بالشريعة، يقطعون لهم كلَّ صلة بالمسيح ويسقطون عن النعمة« (آ4).

وتجاه الضعفاء هناك الأقوياء الذين نالوا فيض الإيمان وما يصدر عنه من أعمال. فكتب بولس إلى أهل كورنتوس يحثُّهم على العطاء من أجل إخوتهم في اليهوديَّة. »وكما أنَّكم تمتازون في كلِّ شيء: في الإيمان والفصاحة والمعرفة والحماسة والمحبَّة لنا، فليتكم تمتازون أيضًا في هذا العمل المبارك« (2 كو 8: 7). وهكذا يكون المؤمن »مثالاً للمؤمنين« (1 تس 1: 7). هنا ينبغي على الإنسان »أن لا يغالي في تقدير نفسه« (رو 12: 3). إذا هو نال نعمة من النعم، أو موهبة تمنحه بأن »يتنبَّأ وفقًا للإيمان« (آ6). لهذا يقول للمؤمنين: »اسهروا. تيقَّظوا. كونوا ثابتين في الإيمان. جاهدوا. كونوا أقوياء« (1 كو 16: 13). ويدعوهم إلى »المخافة« (رو 11: 20). إذا هم نقص إيمانُهم، ليحفظوا نفوسهم (رو 14: 22) وإلاَّ سُلب إكليلهم (رؤ 3: 11) على ما قيل لأسقف فيلدلفية.

3. الإيمان والأعمال

الإيمان نبتة تزهر. وإذا أزهرت أعطت ثمرًا. أمّا ثمرة الإيمان فهي الأعمال، على ما قيل عن المحبَّة في رسالة يوحنّا الأولى: »لا تكن محبَّتكم بالقول وباللسان، بل بالعمل والحق« (3: 18). وعمل الإيمان يتميَّز عن أعمال الشريعة. في هذا المجال حدَّث الرسول جماعة تسالونيكي: »نذكر أمام إلهنا وأبينا ما أنتم عليه بربِّنا يسوع المسيح من نشاط في الإيمان، وجهاد في المحبَّة، وثبات في الرجاء« (1 تس 1: 3). هي الفضائل الإلهيَّة الثلاث التي يعود إليها بولس في الرسالة عينها فيهنّئ المؤمنين بما هم »عليه من إيمان ومحبَّة« (1 تس 3: 6). هذا ما يتوافق مع موقف المسيحيّ الذي صار إنسانًا جديدًا. »فنحن نعتقد أنَّ الإنسان يتبرَّر بالإيمان، لا بالعمل بأحكام الشريعة« (رو 3: 28). ذاك ما قاله الرسول وسبق له فوسَّعه في الرسالة إلى غلاطية: »ولكنَّنا نعرف أنَّ الله لا يبرِّر الإنسان لأنَّه يعمل بأحكام الشريعة، بل لأنَّه يؤمن بيسوع المسيح. ولذلك آمنّا بيسوع المسيح ليبرِّرنا الإيمانُ بالمسيح، لا العمل بأحكام الشريعة. فالإنسان لا يتبرَّر لعمله بأحكام الشريعة« (غل 2: 16).

لماذا هذا التكرار؟ لأنَّ الغلاطيّين اعتبروا أنَّهم يحتاجون إلى الختان، إلى الانتباه إلى الأطعمة، مع كلام: »لا تمسّ، لا تذق، لا تجسّ« (كو 2: 21). فهناك الخطر في التوقُّف هنا. أن لا نأكل إلاَّ البقول لأنَّ اللحوم المقدَّمة قد لا تكون بحسب الشريعة. والختان يضع حاجزًا داخل جماعة المؤمنين، كما حصل في أنطاكية، فجاء كلام بولس قاسيًا: »انقاد برنابا إلى ريائهم« (غل 2: 13) حين انفصل عن الوثنيّين »خوفًا من دعاة الختان« (آ12). مثل هذه الأعمال تجعل اليهوديّ في وضع »مميَّز«، بحيث يفتخر بانتمائه إلى ديانة وإلى عادات، ويحسب أنَّه تبرَّر ولا يحتاج بعدُ إلى الخروج من ذاته ومن تقاليده ليسير وراء الربِّ يسوع. فالوعد ليس فقط »لأهل الشريعة وحدهم«، بل »لنسل إبراهيم كلِّه« (رو 4: 16)، أي لأبناء الإيمان. وانطلاقًا من إيمانهم هذا يعملون، »وبالإيمان بيسوع المسيح يتبرَّرون« (رو3: 22).

ماذا كانت نتيجة هذا الإيمان عند بولس؟ »ما كان لي ربحًا حسبته خسارة من أجل المسيح، بل أحسب كلَّ شيء خسارة من أجل الربح الأعظم، وهو معرفة المسيح يسوع ربّي. من أجله خسرت كلَّ شيء وحسبتُ كلَّ شيء نفاية لأربح المسيح، وأكون فيه، فلا أتبرَّر بالشريعة، بل بالإيمان بالمسيح، وهو التبرير الذي يمنحه الله على أساس الإيمان. فأعرف المسيح وأعرف القوَّة التي تجلَّت في قيامته وأشاركه في آلامه وأتشبَّه به في موته« (فل 3: 7-11).

من أجل المسيح والإنجيل تحمَّل الرسول ما تحمَّل: قاسى السجون، تحمَّل الضرب، تعرَّض للموت (2 كو 11: 23). ويذكر كلَّ ما عاناه »من الكدِّ والتعب والسهر الدائم والجوع...« (آ27) هو منذ اليوم لا يعيش لنفسه، بل لله  (غل 2: 19)، بمثل هذا الموقف لا يتنكَّر لنعمة الله (آ21).

الخاتمة

الإيمان عاطفة تربطنا بالإله الواحد الذي يكشف عن نفسه عبر أحداث التاريخ وصولاً إلى موت المسيح وقيامته. والإيمان موقف نتَّخذه تجاه الذي آمنّا به واتَّكل علينا من أجل بناء عالمٍ جديد يسكنُ فيه البرّ. والإيمان هو استماع إلى كلمة الله والخضوع لها. والإيمان يتجسَّد في أعمال تكون الثمرة التي تدلُّ على صدقنا واستعداداتنا. لا شكَّ في أنَّ إبراهيم نال الوعد بشكل مجّانيّ، ولكنَّه تجاوب مع هذا النداء من خلال الأعمال. دعاه الله فلبّى النداء وهو غير عارف إلى أين يتَّجه. طلب منه ابنَه الذي يحبُّه، فما توانى، بل قام في الصباح الباكر. وهكذا، فما قاله بولس عن الإيمان يجد توازنه في ما قاله القدّيس يعقوب عن الإيمان الذي لا ثمر فيه: »كما أنَّ الجسد بلا روح ميت، كذلك الإيمان بلا أعمال ميت« (يع 2: 26).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM