الفصل الخامس: أنا أفتخر بصليب ربّنا.

الفصل الخامس

أنا أفتخر بصليب ربّنا.

حين كان بولس على طريق دمشق، ماضيًا لكي يلقي القبض على المسيحيّين هناك ويقودهم إلى السجن، حين كان العنف في قلبه يصارع ذاك الذي هو حيّ، مع أنَّ الفرّيسيّين والكتبة قالوا له إنَّه مات باسم الشريعة، حين أراد أن يدرك المسيح من خلال المسيحيّين بحيث لا يعود أحدٌ يذكر هذا الاسم، في ذلك الحين لحقَه يسوع، أدركه، أمسكه، أوقعه أرضًا. وسأله: »شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟« (أع 9: 4). نور الربِّ أشرق على هذا »القائد« المندفع منذ مقتل إسطفانس، فوقع إلى الأرض ساجدًا واستعدَّ أن يسمع الصوت الإلهيّ على مثال صموئيل في المعبد. »لماذا تضطهدني؟« أوَّل لقاء لشاول (أو: بولس) بالمسيح، يدور حول الاضطهاد الذي بدأ بيسوع حين مات على الصليب، ويتواصل في الرسل والتلاميذ، على ما سبق الربُّ وقال: »اضطهدوني. إذًا يضطهدونكم« (يو 15: 20). تلك هي الخبرة الأولى التي عاشها بولس حين التقى بالربّ، فكان له أن يتحدَّث عن الصليب الذي رافقه طوال حياته على ما قال في الرسالة الثانية إلى كورنتوس: في دخول السجن، في ضرب تحمَّله بالعصي، في جلد بالسياط (2كو 11: 23ي). أجل، صليب المسيح هو الأساس بحيث قال أحدهم: »أصالة يسوع شخصه، وشخصه على الصليب«. عن الصليب نتكلَّم فنرافق القدّيس بولس: لغة الصليب هي في قلب الإيمان. الصليب علامة جهالة من عند الله، وذلك تجاه حكمة اليونان. والصليب شكّ يحمل العثار لليهود الذين يطلبون الآيات. ويسوع هو، في شخصه، آية الآيات. لهذا صار الصليب عقبة (1كو 1:23) على ما قال بولس موردًا نصَّ النبيّ: »ها أنا أضع في صهيون حجر عثرة في طريق الشعب، وصخرة سقوط، فمن آمن به لا يخيب« (رو 9: 33). ففي النهاية، نداء الصليب نداء إلى الإيمان ومن حمل الصليبَ حمله.

1- لغة الصليب

الكرازة بالصليب هي الإنجيل كلُّه. هكذا بدأ بولس حين أتى إلى كورنتوس. ترك كلَّ ما تعلَّمه في العالم اليهوديّ، ونسيَ الشعراء والفلاسفة في العالم اليونانيّ. ولماذا يكون من أهل العالم فيتوقَّف كلامه على مستوى العالم ولا يرفع السامعين إلى ملكوت الله؟ حدَّث أهل أثينة بلغة الفلاسفة، فاستمعوا إليه. ولكن حين وصل إلى ذاك الذي صُلب »وأقامه الله من بين الأموات« (أع 17: 31)، استهزأوا به، تركوه: »سوف نسمع لك فيما بعد«. أي لا حاجة إلى سماع مثل هذا الكلام. أجل، نلبث على مستوى العالم وما يقوله الناس، أمرٌ حسن. نسمع ونسمع لأنَّ لا التزام أمامنا. تتدغدغ آذانُنا بالأقوال الحلوة، وحين تأتي ساعة الجدّ، نفعل ما فعله الجمع بيسوع بعد تكثير الأرغفة. »تخلّى عنه كثير من تلاميذه وانقطعوا عن مصاحبته« (يو 6: 66). أما هكذا عامل الغلاطيّون رسولهم، حين جاءهم مبشِّرون يقدِّمون لهم »إنجيلاً خاصٌّا«، لا مكان فيه لصليب المسيح؟ الختان يكفي لتكون من »شعب الله« على مثال إبراهيم. ثمَّ تنتبه إلى بعض الأطعمة، وكأنَّ طعامًا حسنًا خلقه الله، وطعامًا سيّئًا لم يخلقه الله. ثمَّ إنَّ اليهود لهم مكانتهم في المجتمع الرومانيّ بسبب الامتيازات التي نالوها منذ ساعدوا يوليوس قيصر (في القرن الأوَّل ق.م.) على خصمه بومبيوس.

فماذا يختار المؤمن؟ بعض الأعمال الخارجيَّة، بعض التقويّات التي لا تفرض عليه شيئًا، بحيث يهرب أمام أوَّل خطر؟ الالتحاق بالجماعة المسيطرة فلا يفترق عنها بشيء، وهكذا ينجو من الصعوبات ولا يزعجه أحد؟ المؤمن المؤمن هو الذي يسير عكس التيّار. لهذا قال الرسول: »وأنا، أيُّها الإخوة، لو كنتُ أدعو إلى الختان، فلماذا أعاني الاضطهاد إلى اليوم؟« (غل 5: 11). عندئذٍ يزول »العائق الذي في الصليب«. وتصبح الأمور سهلة، بسيطة.

هم افتخروا بالختان وبأمور أخرى. ونحن اليوم نفتخر ونفتخر. أمّا بولس فقال: »أمّا أنا فلا أفتخر إلاّ بصليب ربِّنا يسوع المسيح. به صار العالم مصلوبًا بالنسبة إليَّ، وصرتُ أنا مصلوبًا بالنسبة إلى العالم« (غل 6: 14). وحده الصليب يجعل من كلِّ واحد »الخليقة الجديدة« (آ15). فإن خُتنّا لا نستفيد. وإن لم نُختَن لا نخسر. فكلُّ ما هو من الخارج يبقى في الخارج، سواء على مستوى الكلام أو على مستوى العمل. وإلاّ جاء علينا كلام النبيّ أشعيا قاطعًا: »هذا الشعب يكرمني بشفتيه، أمّا قلبه فبعيد عنّي« (أش 29: 13؛ مت 15: 8). من أجل هذا، كان كلام بولس منذ البداية واضحًا، لا مواربة فيه: »وأنا عندما جئتكم، أيُّها الإخوة، ما جئت ببليغ الكلام أو الحكمة لأبشِّركم بسرِّ الله. وإنَّما شئت أن لا أعرف شيئًا، وأنا بينكم، غير يسوع المسيح، بل يسوع المسيح المصلوب« (1كو 2: 1-2).

هذا الرسول فهم كلام الربّ يحدِّث طالبي الكرامات والأماكن الأولى. »من لا يحمل صليبه ويتبعني، فلا يستحقُّني« (مت 10: 38). وفي إطار إنباء يسوع بآلامه، أورد لوقا كلام الربِّ الذي يفهمنا أنَّ حمل الصليب لا يكون مرَّة في الحياة وتنتهي الأمور. فحملُ الصليب يكون كلَّ يوم، وخسارة الحياة من أجل المسيح هي الربح الأعظم: »من أراد أن يتبعني، فلينكر نفسه ويحمل صليبه كلَّ يوم ويتبعني. من أراد أن يخلِّص حياته يخسرها، ومن خسر حياته في سبيلي يخلِّصها« (لو 9: 23-24). ونطرح السؤال: إلى من توجَّه هذا الكلام؟ والجواب: إلى »الجموع كلِّهم«. هذا الكلام يعنينا جميعًا، بحيث لا يستطيع أحد أن يتهرَّب من لغة الصليب. في اللغة الثانية، نربح العالم (آ25). وفي لغة الصليب نربح نفسنا، نربح حياتنا. تلك هي الطريق التي تحدَّث عنها بولس في رسائله إلى كورنتوس، إلى غلاطية، إلى فيلبّي.... فالطريق هم اسم الانجيل في أعمال الرسل (9: 2؛ 16: 17).

2- الصليب جهالة وجنون

جاء بولس إلى كورنتوس، ولبث هناك سنة ونصف السنة. كلَّم اليهود أوَّلاً شاهدًا لهم »أنَّ يسوع هو المسيح« (أع 18: 5). ثمَّ كلَّم اليونانيّين. أطلَّت الصعوبات، فسمع صوتُ الربِّ يقول له ليلاً، في رؤية: »لا تخف! بل تكلَّم ولا تسكت. فأنا معك« (آ9). ولكن ما كان أسلوبه في الكلام إلى اليونانيين؟

في الدرجة الأولى ترك بلاغة الكلام (1كو 2: 1). فهذه الموهبة أعطيَت لأبلُّوس الذي قيل فيه: »فصيح اللسان، قدير في شرح الكتاب المقدَّس« (أع 18: 24). وترك الحكمة. أو إذا شئنا، الفلسفة. ففي الماضي، كانت الفلسفة إكليلَ جميع العلوم، في أثينة وكورنتوس وغيرهما. ما إن وصل بولس إلى أثينة، حتّى التقى بالإبّيقوريّين والرواقيّين، وهما مذهبان متعارضان على المستوى العمليّ: الرواقيَّة تبحث عن حكمة صارمة، متقشِّفة، لا تؤخذ بالظواهر. والإبّيقوريَّة تبحث عن اللذَّة الطبيعيَّة الضروريَّة مع وضع حدٍّ لها حين تصبح ألمًا.

قال فيهم صاحبُ سفر الأعمال: »وكان الأثينيِّون جميعًا والمقيمون بينهم من الأجانب، يصرفون أوقات فراغهم كلِّها في أن يقولوا أو يسمعوا شيئًا جديدًا« (أع 17: 21). العبيد عندهم كثيرون، والصنّاع يقدِّمون لهم ما يحتاجون في حياتهم اليوميَّة، فما بقي »للطبقة المثقَّفة« حينذاك واليوم، سوى الكلام أو قضاء الحياة في الراحة التي قد تصل بهم إلى الفلتان والتحرُّر من كلِّ القيود. أنريد لبولس أن يدخل في هذا المناخ، وهو الذي نبَّه تلميذه تيموتاوس من »هوس المناقشات والمماحكات« (1تم 6: 4)، ومن »المجادلات العقيمة، لأنَّها لا تصلح إلاّ لخراب الذين يسمعونها« (2تم 2: 14)؟

لهذا أعلن: »وكان كلامي وتبشيري لا يعتمدان على أساليب الحكمة البشريَّة في الإقناع، بل على ما يُظهره الله وقوَّتُه، حتّى يستند إيمانكم إلى قدرة الله، لا إلى حكمة البشر« (1كو 2: 4-5).

الأساليب البشريَّة! لا يستطيع الرسول أن يأخذ بها. غيره استعملها فنجح بعض النجاح لدى المؤمنين في كورنتوس أو في غلاطية. بل إنَّ بعض »المرسلين« في فيلبّي حاولوا بكلامهم أن يحطِّموا سمعة الرسول ولو نال الرسالةَ كلُّ ضرر. أمّا بولس فلا ينظر في كلِّ هذا سوى إلى الصليب. قال عنهم: »وأقول الآن، والدموع في عينيّ، إنَّ هناك جماعة كثيرة تسلك في حياتها سلوك أعداء صليب المسيح« (فل 3: 18).

السند الوحيد لبولس، وهو الذي اعتاد أن يفتخر بضعفه (2كو 11: 30)، »قدرة الله«. وهذه القدرة تظهر في الصليب. وهو صليب يفتح الطريق أمام القيامة. لهذا هتف بولس: »أعرف المسيح وأعرف القوَّة التي تجلَّت في قيامته، وأشاركه في آلامه، وأتشبَّه به في موته، على رجاء قيامتي من بين الأموات« (فل 3: 10-11).

من أجل هذا، قدَّم لنا الرسول مسيرة يسوع المسيح. في البداية، هي القدرة. فهذا الذي رأيناه بعيوننا وسمعناه بآذاننا، ولمسته أيدينا (1يو 1: 1)، كان في صورة الله. بل هو وحده صورة الله، بحيث إنَّ من رآه رأى الآب (يو 14: 9). فهل صارت هذه القدرة ضعفًا؟ هذا في الظاهر، وفي شكل عابر. قال عنه بولس في الرسالة إلى فيلبّي (2: 7-8):

7     بل أخلى ذاته واتَّخذ صورة العبد

صار شبيهًا بالبشر وظهر في صورة الإنسان

8     تواضع، أطاع حتّى الموت، الموت على الصليب.

ذروة الضعف هي ذروة القوَّة. وقمَّة الجهالة هي قمَّة الحكمة. فما هي الحكمة بأن ينزل يسوع عن الصليب؟ قال فيه الإنجيل: »وكان رؤساء الكهنة ومعلِّمو الشريعة يستهزئون به أيضًا، فيقول بعضهم لبعض: ''خلَّص غيره ولا يقدر أن يخلِّص نفسه! فلينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب، حتّى نرى ونؤمن« (مر 5: 31-32). بل تحدُّوه: »خلِّصْ نفسك وانزل عن الصليب!« (آ30). ما هذا الجاهل، وكيف سلَّم نفسه مع أنَّه كان باستطاعته أن يهرب أو أن يقاوم، وهو الذي في خدمته »اثنا عشر جيشًا من الملائكة« (مت 26: 53)؟

ما هي هذه الحكمة التي تتوقَّف عند الظواهر وتنتهي قبل أن تننتهي حياة الإنسان؟ لو نزل المسيح عن الصليب لكانوا صفَّقوا له وانتهى الأمر. أما كانت تلك تجربة إبليس: »تُلقي بنفسك إلى الأسفل!« (مت 4: 6). يرى الناس الآية التي تبهر العيون ولا تصل إلى القلوب. وفي أيِّ حال، قدَّم الربُّ آية تكثير الأرغفة، فطلبوا منه آية شبيهة بما فعله موسى للآباء. هذه الحكمة جعلت الناس يضيِّعون الحكمة الحقيقيَّة. »ولو عرفوها لما صلبوا ربَّ المجد« (1كو 2: 8). أرادوا ليسوع حياة عاديَّة بحيث لا تفترق في شيء عن نزواتنا. جعلوه ينزل عن الصليب، كما قيل في السينما وبعض الروايات: يعيش »الحياة الزوجيَّة« ثمَّ يعود إلى الصليب. مساكين! أطفال! لا في القلب، بل في النظرة إلى الأمور. اعتبروا أنَّ يسوع كان ضعيفًا لمّا مات على الصليب. فجاء كلام الرسول يواصل النشيد الذي ورد في الرسالة إلى فيلبّي (2: 9-11):

9     ولكنَّ الله رفعه جدٌّا وأعطاه اسمًا فوق كلِّ اسم

10    لتنحني لاسم يسوع كلُّ ركبة في السماء وفي الأرض وتحت الأرض

11    ويشهد كلُّ لسان أنَّ يسوع المسيح هو الربّ تمجيدًا لله الآب.

إلى هنا وصلت »جهالة« الصليب. فـ »جنون الله«. قال: »هكذا أحبَّ الله العالم فأرسل ابنه الوحيد« (يو 3: 16). وقال الابن: »لكي تعلموا أنّي أحبُّ الآب« (14: 31). وقال أيضًا بالنسبة إلينا: »ما من حبٍّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه« (يو 15: 13). لا، بل الحبُّ هو منتهى الحكمة. أمّا »حكمة العالم فهي حماقة« (1كو 1: 20). »والبشارة بالصليب حماقة عند الذين يسلكون طريق الهلاك« (آ18). نجّانا الله من هذا السلوك!

3- الصليب ضعف تجاه قوَّة الأقوياء

ما استطاع العالم اليهوديّ أن يتقبَّل فكرة الصليب. مسيح متألِّم؟ غير معقول. هذا المسيح استقبلوه بسعف النخل والزيتون وساروا أمامه وهم يهتفون: »مبارك الآتي باسم الربّ! مبارك ملك إسرائيل!« (يو 12: 13). ولكن أن يقبلوا به حاملاً صليبه مثل الناس المجرمين، مثل »سفالة« البشر، فهذا غير معقول. بل إنَّ بطرس نفسه لم يستطيع احتمال الكلام عن هذا الموضوع. قال القدّيس مرقس: »بدأ (يسوع) يعلِّمهم أنَّ ابن الإنسان يجب أن يتألَّم كثيرًا« (8: 31). فكانت ردَّة الفعل سريعة: »انفرد به بطرس وأخذ يعاتبه« (آ32). فجاء الجواب قاسيًا: »ابتعدْ عنّي، يا شيطان، لأنَّ أفكارك هذه أفكار البشر، لا أفكار الله« (آ33).

كان ذاك الموقف اليهوديّ. وموقف بولس؟ هو عانق الصليب منذ بداية حياته فقال في نهاية الرسالة إلى غلاطية، مفتخرًا: »فلا يزعجني أحد بعد الآن، لأنّي أحمل في جسدي سمات يسوع«  (غل 6: 17). آثار الجراح والجلد والصلب. ما في يدَي يسوع ورجليه، كان في يدي بولس ورجليه. فإن كان المسيح يتماهى مع مرسليه فيحمل معهم صليبهم، فلا عجب أن يكون أراد لبولس أن ينعم بهذه السمات. ومثل بولس كان القدّيس فرنسيس الأسّيزيّ وقدّيسون عديدون أرادوا أن يكمِّلوا في جسدهم »ما نقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة« (كو 1: 28).

منذ البداية، كان في قلب بولس صراع بين الشريعة والصليب، بين الفرّيسيّين ويسوع. من كان على حقّ؟ حين جاء شاول (بولس) إلى أورشليم، سمع اليهود يقولون إنَّ يسوع مات باسم الشريعة. قال رؤساء الكهنة لبلاطس: »لنا شريعة، وهذه الشريعة تقضي عليه بالموت، لأنَّه زعم أنَّه ابن الله« (يو 19: 7). ولكنَّه سمع من الرسل: »وحين أسلم إليكم (يسوع)... صلبتموه وقتلتموه بأيدي الكافرين، ولكنَّ الله أقامه« (أع 2: 23). ذاك ما قاله بولس يوم العنصرة. ومثله شهد بولس في مجمع أنطاكية بسيدية: »وبعدما تمَّموا كلَّ ما كتبه الأنبياء في شأنه، أنزلوه عن الصليب ووضعوه في القبر ولكنَّ الله أقامه من بين الأموات« (أع 13: 29-30).

هذا الصراع في قلب الرسول كان من العنف، بحيث صار هذا العنف محاولة »لقتل« يسوع مرَّة ثانية. لهذا، بدا قاسيًا في ملاحقة المؤمنين، فما جاراه أحد، فقال: »في الغيرة، أنا مضطهد الكنيسة« (فل 3: 6). وقال في غل 1: 13-14:

13    سمعتم بسيرتي الماضية في ديانة اليهود،

وكيف كنتُ أضطهد كنيسة الله بلا رحمة وأحاول تدميرها

14    وأفوق أكثر أبناء جيلي من بني قومي في ديانة اليهود،

وفي الغيرة الشديدة على تقاليد آبائي.

إن أصمتَ شاول المسيحيّين، يكون وكأنَّ المسيح صمت، فما عاد يقلقه. ولكنَّ المسيح حيٌّ، فلاحق »ذاك الذي اختاره وهو في بطن أمِّه، ودعاه إلى خدمته« (آ15).

والشريعة؟ »من اتَّكل على العمل بأحكام الشريعة، صار ملعونًا« (غل 3: 10). الشريعة كشفت الخطيئة. صارت لي ضررًا خصوصًا أنَّها تريدني أن أبقى في حكم المؤدِّب، أن أبقى طفلاً يقوده »العبد« إلى المدرسة. فمن يخلِّصني من هذه العبوديَّة؟ نعمة ربِّنا يسوع المسيح. من يزيل اللعنة؟ ذاك الذي أخذ اللعنة على عاتقه فانطبق عليه كلام الكتاب: »ملعون كلُّ من مات معلَّقًا على خشبة« (تث 21: 23). في هذا قال الرسول: »المسيح حرَّرنا من لعنة الشريعة بأن صار لعنة من أجلنا« (غل 3: 13). ومتى ذلك؟ حين عُلِّق على الصليب فبان ضعيفًا تجاه العداوة اليهوديَّة التي تسلَّحت بالشريعة، وكأنَّها تتسلَّح بالله على الله، وتجاه العداوة الوثنيَّة التي تسلَّحت بالقوَّة الغاشمة، التي تفرض النظام ولو على جثث الأبرياء. ولكن أين قوَّة الشريعة اليوم؟ وأين الإمبراطوريَّة الرومانيَّة؟ لم يبقَ حاضرًا سوى الصليب »عقبة لليهود وحماقة في نظر الوثنيّين« (1كو 1: 23). والنتيجة: »اختار الله ما يعتبره حماقة (جهالة) ليخزي الحكماء، وما يعتبره ضعفًا ليخزي الأقوياء« (آ27).

الخاتمة

منذ البداية، جعل الرسول الصليب أمام المؤمنين. فقال: »ارتسم المسيح أمام عيونكم مصلوبًا« (غل 3: 1). رفضوا تلك الرسمة فبانوا أفهم من الأغبياء، لأنَّهم بحثوا عن الخلاص في عمل »بأحكام الشريعة« (آ2). وأراد بولس أن يبرِّئ ساحة الغلاطيّين، فقال: »من الذي سحر عقولكم« (آ1)، وتعجَّب من أمرهم (غل 1: 6). ولو جاء اليوم، أما يندهش من الذين تبعوا المسيح منذ ألفَي سنة، ومع ذلك لبثوا يمجِّدون القوَّة تجاه الضعف، ويعتبرون أنفسهم في خطِّ الصليب. ويمجِّدون الحكمة البشريَّة تجاه حكمة الله، ويُحلُّون محلَّ وصايا الله »تقاليدَ القدماء« (مت 15: 3). الصليب حاضر في كنائسنا، في بيوتنا، بل نجعله زينة على صدورنا. وبعد ذلك، أين مكانته في قلوبنا؟ هل يدعونا إلى العمل الذي لا تراخيَ فيه؟ يا ليتنا نتطلَّع بالذين سبقونا وبالجهاد الذي قاموا به لكي يحافظوا على الإيمان. بل تقول لنا الرسالة إلى العبرانيّين: »لم تقوموا بعد حتّى بذل الدم في مصارعة الخطيئة« (عب 12: 4). إلى هذا الصليب يدعونا الرسول، إلى هذا المصلوب يدعونا لكي نقتدي به كما اقتدى هو بالمسيح (1كو 11: 1). فما يكون جوابنا؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM