الفصل الثاني والعشرون: أوسابيوس أسقف قيصرية في فلسطين

الفصل الثاني والعشرون:

أوسابيوس أسقف قيصرية في فلسطين

هذا الذي وُلد في فلسطين في منتصف القرن الثالث فعرف فترة الاضطهاد وعاش بداية السلام في الكنيسة مع الإمبراطور قسطنطين. هذا الذي رأى معلّمَه وصديقه بمفيل يموت شهيدًا، فهرب إلى صور ثمّ إلى بريّة طيبة، في مصر، قبل أن يُقبض عليه ويوضع في السجن. ولكن أخلي سبيله سنة 311. هذا الذي صار أسقف قيصريّة التي ارتبطت بها أورشليم وأورشليم الخامسة. هذا الذي في قلب الصعوبات والاضطهادات تنسّك في عمق مكتبة قيصريّة التي بدأ بتكوينها أوريجان الآتي من الإسكندريّة. هذا الذي ارتبط بعلاقة خاصّة مع الإمبراطور قسطنطين وبالتالي لعب دورًا في الجدال حول آريوس وعقيدته، اسمه أوسابيوس »أبو التاريخ الكنسيّ«، وآخر حلقة في سلسلة المدافعين عن الكنيسة. بالقلم، في وجه الوثنيّة التي رأت مداها يضيق والمسيحيّة تشعّ إلى أن فرضت نفسها على الإمبراطور فأعلن قرار ميلانو سنة 313 الذي أوقف اضطهادات امتدّت على ثلاثة قرون. وجاءت عنيفة جدٌّا في نهاية تلك الحقبة مع ديوكليسيان (245- 313) الذي ترك لنفسه إدارة الشرق وسلّم مكسيميان إدارة الغرب سنة 286.

عن أوسابيوس أسقف قيصريّة(1) في فلسطين نتحدّث في ثلاثة مجالات. الأوّل: السياسة. الثاني: اللاهوت. الثالث: التاريخ.

1. أوسابيوس والسياسة

أوسابيوس هو ابن فلسطين. لغةُ الكتابة عنده هي اليونانيّة. والعالم الذي يعيش فيه يعرف السيادة الرومانيّة التي أحاطت بالبحر المتوسّط شرقًا وغربًا، فدعته »بحرنا« (في اللاتينيّة  Mare Nostrum ). وأوسابيوس هو أسقف قيصريّة الواقعة على الشاطئ الفلسطينيّ. كانت العاصمة المدنيّة لسورية ولبنان وفلسطين في الحقبة البيزنطيّة. هذه بشّرها فيلبّس، أحد السبعة وأقام فيها (أع 8: 40؛ 21: 8)، كما عرفت عماد أوّل وثنيّ، سنة 43، على يد بطرس (أع 10: 1-47؛ 11: 11-17؛ 12: 11). ومرّ فيها بولس مرّتين (سنة 37 وسنة 51)، قبل أن يُسجن فيها سنتين استعدادًا لسجن رومة (أع 23-26). هذه المدينة كانت أمّ المدن المجاورة، فارتبط بها أسقف أورشليم وصور. سنة 325، في مجمع نيقية، ثبّت القانون السابع أولويّتها على مجمل فلسطين. وسنة 451، حين ضُمّت إلى بطريركيّة أورشليم، ظلّ مطرانها رئيسًا على 28 أسقفًا مساعدًا.

حين يكون شخص مثل أوسابيوس في مدينة بمثل هذه الأهميّة، لا يمكن أن نتخيّل أن لا يلعب دورًا في حياة الكنيسة، ولا سيّما تلك الحصّة التي أعطيت له. ولا نرى أن لا يدخل في سياسة رومة، قبل أن يتعامل مع أوّل إمبراطور أعطى الحريّة للكنيسة، هو قسطنطين الأوّل. ونتوقّف هنا عند حقبتين: قبل قرار ميلانو، سنة 313. وبعد قرار ميلانو.

أ- قبل قرار ميلانو

لا نعرف في تلك الحقبة ما كان وضع أوسابيوس، سوى أنّه تتلمذ على يد بمفيل، وقرأ ما تركه أوريجان (185-252) الذي طُرد من الإسكندريّة وجاء إلى قيصريّة فأسّس فيها مكتبة كبيرة سوف يعمل فيها أوسابيوس. نبدأ فنتوقّف عند المؤلّفات الدفاعيّة، الأبولوجيّة، التي فيها يرافع الإنسان ويُبعد التهمة. هنا رافع أوسابيوس، كما يفعل المحامي، فقدّم وجه الكنيسة الحقيقيّ، أمام العالم الوثنيّ.

أوّلاً: كتابات متفرّقة

استعاد ما قاله قبله مؤلّفون يونان(2) دافعوا عن الإيمان المسيحيّ. ولكن إن هو عاد إلى أفكارهم، فقد أخذ بنهج علميّ جديد يجعل أمام القارئ فيضًا من الوقائع والبراهين التي استقاها من معرفته الواسعة في الأدب والتاريخ القديم. غير أنّه لا يضيع أبدًا في التفاصيل، بل يبقى أمينًا لمخطّطٍ تصوَّره ثمّ نفّذه. من أجل هذا، رسم لوحة تاريخيّة واسعة، فوضع فيها ديانات الماضي الرئيسيّة ككلّ، واعتبرها جميعًا مهيّئة للديانة الجديدة، للمسيحيّة.

ضاع الكثير من آثاره التي كانت ستشكّل في الأصل عناصر هذا المشروع. أمّا المقدّمة(3) التي هي أقدم آثاره الأبولوجيّة (الدفاعيّة)، فقد دوّنها قبل ارتقائه إلى الأسقفيّة. ضمّت عشرة كتب (أو: أقسام). ونحن نمتلك فقط الكتب 6-9، وبعض الشذرات القليلة من الكتابين الرابع والعاشر. القسم الكامل (6-9) »مقتطفات نبويّة«(4)، تجمع النبوءات المسيحانيّة في العهد القديم، وتفسّرها على ضوء العهد الجديد وحياة المسيح والكنيسة.

وقبل أن نعود إلى التهيئة الإنجيليّة والبرهنة الإنجيليّة، نذكر بعض الكتب الدفاعيّة التي فيها اتّخذ أوسابيوس موقفًا من المجتمع الرومانيّ الذي يعيش فيه.

أوّلها الردّ على هياروكليس Hieroclés الذي كان حاكم بيتينية (في تركيّا اليوم). كان طرحٌ جعل أبولون التياني(5) تجاه المسيح، بل فوق المسيح. هو مقال صغير دوّن بين سنة 311 و313.

أمّا الردّ على بورفير فجاء في خمسة وعشرين كتابًا ضاعت كلّها. كان بورفير فيلسوف الأفلاطونيّة المحدثة قد دوّن »مناقضة المسيحيّين« في خمسة عشر كتابًا، فأطلق هجومًا خطيرًا على المسيحيّة. بقيت لنا شذرات جمعها جيروم في كتابه »الرجال المشهورون« (81. ثم رسالة 70). أظهر بورفير ما في الإنجيل من »تناقضات« ولا سيّما في ما يتعلّق بنسب يسوع والأخبار عن قيامته. نستطيع أن نكتشف بعض أجوبة أوسابيوس على ذلك الذي وُلد في صور، وأَمَّ مكتبة الإسكندريّة، ولبث على وثنيّته، في أسئلة وحلول إنجيليّة.

وتحدّث فوتيوس عن ردّ ودفاع جاء في كتابين ضاعا اليوم. فيهما ردّ أوسابيوس على اعتراضات وثنيّة على الديانة المسيحيّة. أمّا تيوفانيا أو الظهور الإلهيّ فهو آخر ما دوَّن أوسابيوس من مقالات دفاعيّة، فتحدّث عن حضور الله في تجسّد الكلمة. عرض الكاتب عقيدة التجسّد ودافع عنها ضدّ اعتراضات في خلق الكون وصيانته، وفي عقل الإنسان، وفي ضرورة الفداء، وتتمّة الفداء النهائيّ في المسيح. تطرّق الكتاب الرابع إلى كمال نبوءات العهد القديم، والخامس إلى بلاهة فرضيّة تتحدّث عن المسيح الساحر وعن تلاميذه الكاذبين. بدت الكنيسة في هذا الكتاب مزدهرة، منتصرة. هذا يعني أنّ الكتاب دوِّن حين استلم قسطنطين المملكة كلّها متغلّبًا على ليسينيوس سنة 323-324.

ضاع الكتاب، فما بقي منه في اليونانيّة سوى شذرات. ولكن وُجدت منه نسخة سريانيّة كاملة، تعود إلى شهر شباط سنة 411.(6)

ثانيًا: التهيئة الإنجيليّة والبرهنة الإنجيليّة

جاءت »المقدّمة« بشكل توطئة لمؤلّف دفاعيّ(7) كبير تضمّن قسمين: التهيئة الإنجيليّة والبرهنة الإنجيليّة.

وصلت إلينا »التهيئة« كاملة في الأصل اليونانيّ، في خمسة عشر كتابًا، وقد توخّت أن تردّ على الأصناميّة Polytéisme الوثنيّة، وأن تبيّن سموّ الديانة اليهوديّة التي هي »تهيئة للإنجيل«.

»توخّيتُ أن أعرض للذين يجهلون، حقيقةَ المسيحيّة، في هذا المؤلَّف الذي يحاول أن يضمّ البرهنة الإنجيليّة، يا تيودوت، الأسقف الإلهيّ، يا حبيب الله وكاهنه. وأنا أقدّمه لك متضرّعًا إلى السماء أن أجد عونًا لديك، لأنّ ذبائح التقوى التي تقدّمها من أجلنا هي لي عضد ثمين في شراع أردت أن أعرض فيه التعليم الإنجيليّ«(8).

إنّ الفترة التي فيها دُوِّن كتاب التهيئة، هي فترة رجاء وفرح للجماعة المسيحيّة. عاد المعترفون إلى بيوتهم. أعيد بناءُ الكنائس. واحتلّت المسيحيّة في المدن وفي الأرياف موقفًا لافتًا: خرجت إلى العلن. أقامت الأعياد. شاركت في الحياة الاجتماعيّة، وعيد تدشين بازيليك صور أكبر شاهد على الأبّهة التي تحيط بالأيام الكبرى في الجماعة.

وتابع أوسابيوس كلامه فتحدّث عن الإنجيل الذي يرتبط بالتقوى الحقيقيّة: »قبل كلّ شيء، لا بدّ من تحديد مدلول ما نسمّيه الإنجيل. فهو يمثّل الإعلان السعيد بيننا، عن حضور أسمى الخيرات وأعظمها. أنبئ بها منذ زمان، ولكنّها شعّت على البشر منذ فترة قليلة... والخبر الرئيسيّ هو التقوى. لا التقوى الكاذبة، والمكروهة، بل تلك التي تستحقّ هذا الاسم: في ارتفاع إلى ذاك الذي عُرف حقٌّا كالإله الواحد الوحيد«(9).

حاول أوسابيوس في البداية أن يقدّم تعليمًا أوّليٌّا للمهتدين الجدد من الوثنيّة. فأورد في الكتب الثلاثة الأولى الأخبار الشائنة لدى الوثنيّين. وهاجم التفسير الاستعاريّ لدى الأفلاطونيّة المحدثة. في الكتابين الرابع والخامس، عالج أقوالاً تحمل أجوبة الآلهة للمؤمنين. ماذا قال في كلّ هذا؟ النبيئات oracles والأقوال »الإلهيّة« ترتبط بالشياطين الأشرار، والباحثون عن كلّ هذه يرتبطون بهم. وأورد أوسابيوس كلام بلوتارك: »الآلهة المزعومة التي تُجعل في الأخبار الميتولوجيّة هي في الواقع شياطين. وقصائد اليونان التي تُنشِد الجبابرةَ والتنانين، تصوّر الشياطين(10). وأقوال الآلهة تخطئ دومًا. وإن هي صحّت، يكون ذلك نتيجة الصدفة، لا نتيجة معرفة حقيقيّة. أمّا العرافة فلا فائدة منها. بل هي تستعبد الإنسان للمجهول، وتقيّده نافية حريّة يتمتّع بها. كلّ هذه شرور كبيرة، وقد نجّانا منها تعليم ربّنا في الإنجيل.

»من لا يرى بوضوح أنّ السرّ العظيم للتدبير الإنجيليّ، دعا إليه جميعَ البشر من كلّ أماكن الأرض. فنجّاهم بصوت مخلّصنا من ضلال اقتُرف ابنًا عن أب. وهذا الضلال هو استبداد الشياطين. ومنه تحرَّر البشر المقيمون حتّى أقاصي الأرض، من كذب سادَ حياتهم منذ البداية. وهكذا، منذ ذلك الوقت إلى الآن، دُمِّرت مساكنُ الضلال الشامل التي شاخت، ورُميَت إلى الأرض مع هياكلها وتماثيلها القديمة. وشُيّدت معابد مقدَّسة ومدارس صلاة إكرامًا لخالق الكون الساميّ، وسط المدن والأرياف، في العالم كلّه، بفضل قوّة مخلّصنا وقدرته.(11)«

وردّ الكتاب السادس على الذين يؤمنون بالقدر. فالآلهة يقدّمون الأجوبة منطلقين من الكواكب. »صاروا منجّمين، شأنهم شأن البشر، فأين هي طبيعتهم وعملهم الساميّ؟ »وانظر كيف يُلغون الحريّة فيُخضعون لتحرّكات الكواكب، لا ما يأتي من الخارج وحسب، بل ما يمكن أن نريده(12)«. ويستند أوسابيوس إلى أقوال بعض الوثنيّين ليدلّ على عدم جدوى الصلوات للآلهة، وبطلان مثل هذه الديانة: »القدر يُرعب الآلهة النبلاء فيقرّون أنّهم لا يقدرون أن يعينوا هياكلهم التي تضربها الصاعقة. فالأمل الكبير للبشر هو حين يصلّون لينالوا عون الذين لا يقدرون أن يُعينوا نفسهم! فلمَ التقوى ولم عبادة الآلهة وخدمتهم، إذا كانوا لا يستطيعون أن يُعينوا أنفسهم« (ص 118-119).

مع الكتاب السابع يبدأ القسم الثاني الذي يبيّن أنّ المسيحيّين كانوا على حقّ حين تركوا ديانة اليونان وفلسفتهم، وأخذوا الكتب المقدّسة من الشعب العبرانيّ. ونقرأ هنا برهانًا معروضًا حول قِدَم موسى والأنبياء بالنسبة إلى الفلاسفة اليونان الذين استقوا معلوماتهم من الكتاب المقدّس.

وهكذا برزت التهيئة الإنجيليّة مع نسجها الأصيل: »الشراع الذي فكّرنا فيه، ينفَّذ بشكل أصيل«. وإذ يردّ أوسابيوس على الوثنيّين، استخرج استشهاداته من كتبهم: »لن أعطي أقوالي الخاصّة، بل أقوال أشخاص اهتمّوا اهتمامًا كبيرًا بعبادة الذين دعوهم آلهة«. هناك مقاطع تدلّ على أنّ الضيق والاضطهاد اللذين أصابا المؤمنين، قد زالا، فعاد السلام إلى الكنيسة.

دافعت التهيئة عن الديانة المسيحيّة في وجه العالم الوثنيّ. أمّا البرهنة فردّت على اتّهامات اليهود الذين لاموا المسيحيّين، لأنّهم قبلوا الديانة اليهوديّة ليضعوا يدهم على مواعيد الشعب المختار دون الأخذ بما تفرضه الشريعة. ردّ أوسابيوس على هذه الاتّهامات في عشرين كتابًا، بقي منها الكتب العشرة الأولى ومقطعًا هامًا من الكتاب الخامس عشر. قال لهم: ليس العهد القديم للشعب اليهوديّ فقط. فقيمته شاملة، وقد تمّ في الديانة المسيحيّة.

شرح الكتابان الأوّلان السبب الذي لأجله أخذ المسيحيّون الكتب اليهوديّة، ورذلوا تشريع موسى: فالكنيسة هي امتداد ديانة الآباء (إبراهيم وإسحق ويعقوب) الشاملة. أمّا شريعة موسى فجاءت موقّتة، وشكّلت انتقالاً من الآباء إلى مجيء المسيح. ثمّ برهن أوسابيوس، بشكل واسع، بواسطة الأنبياء، أنّ سقوط »الدولة اليهوديّة«، ومجيء المسيح، ودعوة الأمم الوثنيّة، سبق الكتابُ وتحدّث عنها. وحملت الكتب 3-9 براهين نبويّة تتحدّث عن ناسوت المسيح (الكتاب الثالث) وعن لاهوته (4-5) وعن تجسّد الابن وحياته على الأرض (6-9). وتوقّف الكتاب العاشر عند آلام يسوع وموته. نظنّ أنّ سائر الكتب التي ضاعت، تكلّمت عن القيامة والصعود ومهمّة الروح القدس وتأسيس الكنيسة. أمّا الكتاب الخامس عشر فيشرح الممالك الأربع التي يتحدّث عنها سفر دانيال.

هنا نشير إلى أنّ التهيئة والبرهنة جاءتا في العمق ردٌّا على بورفير في هجومه على المسيحيّين. فشابه أوسابيوس أوريجانس، دون أن يورد نصوص بورفير، كما فعل أوريجانس بالنسبة إلى قلسيوس. ما ترك بورفيرَ يجتذبه خارج البرنامج الذي وضعه أمام عينيه، ولا منعه من تفسير كتابيّ منهجيّ. إذن، ابتعد أوسابيوس عن جدال عقيم حول نقاط أهمّيتها ثانويّة. من أجل هذا كان العمل الدفاعيّ عنده أهمّ ما عرفته الكنيسة القديمة.(14)

ب- بعد قرار ميلانو

منح قرار ميلانو الحريّة الدينيّة للمسيحيّين، فتبدّلت علاقتُهم بالسلطة الحاكمة، بل نعم أوسابيوس ببعض عطف قبل هذا القرار الشهير. فذاك الذي سُجن تُرك حرٌّا. أترى اتّصل بقسطنطين؟ الأمر معقول. لا سيّما وأنّه ما إن صدر هذا القرار حتّى كان أوسابيوس مطران قيصريّة.

كان إعجاب أوسابيوس بالإمبراطور فوق كلّ حدّ: أما أعاد السلام بين الكنيسة والدولة؟ أما أوقف الاضطهادات التي أدمَت الكنائس؟ كان لأوسابيوس حظوة عند الإمبراطور. فكان له أن يلقي تقريظين السنة العشرين والسنة الثلاثين، لاعتلائه العرش. وبعد موت الإمبراطور، في 22 أيّار سنة 337، أهدى لذكراه مديحًا طويلاً. ونذكر هنا أنّ أوسابيوس وقّع أعمال مجمع نيقية، لا عن اقتناع داخليّ، بل إرضاء للإمبراطور. فجعله هذا مستشارَه اللاهوتيّ الذي سيؤثّر على قرارات قسطنطين في التعامل مع الأساقفة أصحاب الإيمان القويم.

قرّظ أوسابيوس الإمبراطور، امتدحه وهو بعد حيّ، فنسي واجبه كمؤرّخ. اهتمّ أوّل ما اهتمّ بأن يضع شخصه وقلمه في خدمة الإمبراطور، لأنّه رأى في حكمه أسمى تحقيق لما يرجوه المسيحيّ. فقسطنطين يمثّل، في نظر أوسابيوس، ذاك الرسول الذي اختاره الله ليخلّص الكنيسة من الاضطهاد.

نذكر أوّلاً حياة قسطنطين(15). جاءت في أربعة كتب، وتوخّت أن تقدّم الجهات الحلوة في سيرة الإمبراطور. أما هذا الذي فعله كتاب الأخبار (في الكتاب المقدّس) حين تحدّث عن داود وسليمان؟ من أجل هذا، بدأ أوسابيوس كتابه، فقال: »رسمتُ هذه الأعمال الملكيّة والنبيلة التي أرضت الله، سيّد الكون. أما يُؤسَف له أن يكون ذكرُ نيرون ومستبدّين آخرين أشرار ولا دينيّين، وقد وجد كتّابًا مجدّين جمّلوا بلغتهم خبر مساوئهم... فهل نسكت نحن الذين جعلَنا الله أمام ملك لم يعرف التاريخ مثله... وإن كان ذلك واجب أحد، فهو بلا شكّ واجبي، واجبي بأن أعلن مآثره على جميع الذين يحرّكهم الاقتداء بمآثره لحبّ الله« (1: 10-11).

رسم أوسابيوس صورة حيّة عن رجل تفرّد بين الذين أمسكوا السلطة الرومانيّة فكان خليلَ الله، وسيّد الكون، وقدّم للبشريّة كلّها حياة مثاليّة بحسب الله (1: 3). رأى فيه الله »نيّرًا قويٌّا ومناديٌّا إلى التقوى الحقّة بصوت واضح جدٌّا« (1: 4). شابه »موسى الجديد« فخلّص النسل الجديد في الشعب المختار، من مضايقة المستبدّين وعبوديّة الأعداء«. وروى أوسابيوس رؤية الصليب التي نَعم بها قسطنطين فاعتبرها أساس انتصاره على ليسينيوس.

ونذكر كتابًا آخر: إلى جماعة القدّيسين. فقد روى أوسابيوس في »حياة قسطنطين« (4: 29) أنّ الإمبراطور كان يكتب خطبًا يردّ فيها على ضلال الشرك ويبيّن كذب الوثنيّين في عباداتهم وما فيها من خرافات. وجاء في ملحق »خطبة الإمبراطور قسطنطين التي وجّهها إلى جماعة القدّيسين«، اعتُبرت الكتاب الخامس في حياة قسطنطين، فبدت مرافعة عن الديانة المسيحيّة. تحدّث عن الله أبي المسيح. ثمّ عن الفداء الذي أتمّه يسوعُ المصلوب. وفي النهاية، نسب الإمبراطور انتصاراته إلى المسيح.

وأخيرًا، كتاب مديح قسطنطين. في ف 1-10، نقرأ التقريظ الذي تفوّه به أوسابيوس في 25 تمّوز سنة 335، في الذكرى الثلاثين لاعتلاء الإمبراطور العرش: لا يقف الإمبراطور مع سائر الناس. فهو كامل في الحكمة والصلاح والعدل والشجاعة والتقوى والتعبّد لله. هو فيلسوف لأنّه يعرف نفسه، ويعي أنّه نال فيضَ بركات نزلت عليه من السماء. قسطنطين هو شمس، ونوره يصل إلى آخر المناطق في الإمبراطوريّة. وفي ف 11-18 نقرأ مقالاً بالنسبة إلى تدشين كنيسة القبر المقدّس (سنة 335) التي هي رمز مهمّة الإمبراطور الإلهيّة. قال: »أودّ أن أجعل نفسي ترجمانًا لمقاصدك، أن أعرض أحكام نفسٍ تكرّست لحبّ الله«.

2. أوسابيوس واللاهوت

نتوقّف هنا أوّلاً عند التفسير البيبليّ، وثانيًا عند العقيدة.

أ- التفسير البيبليّ

ارتبط اسم أوسابيوس بأعمال حول الكتاب المقدّس، فبدا باحثًا متبحّرًا أو فيلسوفًا، قبل أن يكون مفسّرًا حقيقيٌّا.

أوّلاً: الباحث المتبحّر

شارك أوسابيوس بمفيل في تثبيت نصّ العهدين، القديم والجديد، كما نشطَ في أعمال ذات طابع خاصّ.

استعاد ما فعله أوريجان، فقدّم العمود الخامس في الهكسبلة (أو ستّة عواميد) مع ملاحظات في الهامش واختلافات سائر الترجمات. وهكذا ارتبط تاريخ النقد الخصوصيّ في العهدين القديم والجديد، في مخطوطات عديدة، باسمه وباسم صديقه. ووجّه إليه قسطنطين رسالة يطلب فيها خمسين نسخة من الكتب المقدّسة، من أجل كنائس القسطنطينيّة. كتب: »في المدينة التي تحمل اسمنا، وبعناية ومعونة الله المخلّص، انضمّ عددٌ كبيرٌ من الناس إلى الكنيسة المقدّسة. وبما أنّ كلّ شيء ينمو واسعًا، بدا من الضروريّ أن تشيّد كنائس كثيرة... رأينا من المفيد أن تُعلم فطنتكم بأن تأمروا بنسخ خمسين كتابًا على الرقّ المعدّ... لينتهِ هذا العمل في أسرع وقت«.

وكان تجديد هامّ في القوانين الإنجيليّة. كتب أوسابيوس رسالة عرض فيها نهجًا فيه يقسم نصوص الأناجيل. سنة 220، نشر أمونيوس الإسكندرانيّ تنسيق الأناجيل مرتكزًا على متّى. ولكن هذا الأسلوب أتاح قراءة الأنجيل لأوّل قرّاءة متواصلة، وقطع التواصل في الأناجيل الثلاثة الباقية. أمّا أوسابيوس، فقسم الأناجيل أقسامًا مرقّمة وجعل لائحة من عشرة قوانين تدلّ على المقاطع المتوازية: مقاطع مشتركة بين الأنــاجـيل الأربعة. مشتركة بين متّى ومرقس ولوقا. مشتركة بين متّى ولوقا ويوحنّا... هذا النهـــج انتقل إلى المخطوطات السريانيّة واللاتينيّة(16). وأخذ به جيروم وشرحه للبابا داماز في رسالة بعث بها إليه.(17)

والكتاب الثالث في مجال البحث هو أونومستيكون أي لائحة بأسماء المواقع التي نجدها في الكتاب المقدّس، مع إشارة جغرافيّة وتاريخيّة، واسم كلّ موقع في أيّام أوسابيوس. عُرف باكرًا في الغرب من خلال ترجمة لاتينيّة قام بها جيروم مع إضافات وتصحيحات. يشكّل النصّان اليونانيّ واللاتينيّ مرجعًا هامٌّا لدراسة المواقع في الأرض المقدّسة.(18)

الأونومستيكون جزء رابع لعمل هامّ حول الجغرافيا البيبليّة، ألّفها أوسابيوس بناء على طلب بولين، أسقف صور الذي توفّي سنة 331. ضاعت الأقسام الثلاثة الأولى: أسماء الشعوب في اللغة العبريّة كتابة، مع ترجمة هذه الألفاظ إلى اليونانيّة. ثمّ، وصف يهودا القديمة حسب معطيات الكتاب المقدّس مع ذكر مناطق القبائل الاثنتي عشرة. وأخيرًا، مخطّط أورشليم والهيكل، مع إشارة إلى مختلف المواقع المذكورة.

ثانيًا: مفسّر النصوص

لاحظنا كيف أنّ أوسابيوس تابع خطّ أوريجان، في مجال البحث، فاعتُبر أكبرَ كاتب بين آباء الكنيسة اليونانيّة بسعة أبحاثه وعمق تنقيبه. كان شخصًا لا يتعب، ولقد ظلّ يكتب حتّى سنّ متقدّمة، وما سبقه في هذا المضمار سوى أوريجان.

أوّل ما ترك لنا أوسابيوس في مجال التفسير مسائل وحلول إنجيليّة. وجاء الملفّ في جزئين. الأوّل توجّه إلى اسطفان فجادل في كتابين الاختلافات التي نقرأها في أخبار الطفولة. هنا نجد ما ضاع من جواب دفاعيّ على بورفير. وتوجّه الثاني إلى مارينوس في كتاب واحد، وتطرّق إلى الاختلافات في أخبار القيامة. ضاع الجزئان، ولكن بقيت مقاطع كبيرة في اليونانيّة وفي السريانيّة(19). كما حُفظ ملخَّص واسع نُشر في الباترولوجيا اليونانيّة (22: 879-1006)، فأعطانا معلومات ثمينة حول الأصل ومضمونه. وهكذا مثّل »مسائلُ وحلول« عملاً هامٌّا على مستوى النقد البيبليّ.

هنا، وكما في تفسيره العاديّ، لبث أوسابيوس أمينًا لمدرسة الإسكندريّة. سار في خطى أوريجان، فألّف التفاسير الواسعة في العهد القديم. ولكن لا شيء يشير إلى أنّه شرح العهد الجديد.

إنّ تفسيره حول المزامير نعِمَ بشهرة واسعة بسبب عمق أبحاثه وحكمه النقديّ. نُقل مرّتين إلى اللاتينيّة كما يقول جيروم في الرجال المشهورين (81؛ رسالة 61: 2؛ 112: 20). ضاع القسم الكبير، ولكن ما وُجد في اللاتينيّة واليونانيّة يكفينا لكي نكوّن فكرة عن أسلوب أوسابيوس. ونعرف الحجم الهائل الذي شكّله هذا التفسير الذي أُلّف على ما يبدو حوالي سنة 330.

وتحدّث جيروم عن تفسير حول أشعيا. مرّة في الرجال المشهورين (81) ومرّة في مقدّمة تفسيره لأشعيا. وفي قلب كتابه (18: 2) أضاف أنّ أوسابيوس وعدنا بتفسير تاريخيّ. ولكنّه نسي مرارًا وعده فانتهى في الأسلوب الاستعاريّ الذي أخذه عن أوريجان. نشير هنا إلى التأثير الكبير الذي تركه مفسِّر الإسكندريّة، أوريجان، على عدد كبير من الناس، ولا سيّما من أجل الخروج من القراءة الحرفيّة، اليهوديّة، التي لا تصل بالنصّ إلى المسيح والكنيسة. فالعهد القديم يجب أن يقود إلى العهد الجديد. وجيروم أوّل مهاجمي أوريجان والأوريجانيّة، كان أوّل من استفاد من هذا التيّار. ونشير أيضًا إلى أنّ جيروم (347-419) أقام مدّة طويلة في بيت لحم، في مغارة ما زالت تذكر اسمه تحت باسيليك الميلاد، وأنّ الصعوبات رافقته مع أسقف أورشليم في ما يخصّ الأوريجانيّة.

ردّ أوسابيوس على الذين تحدّثوا عن تعدّد الزوجات عند آباء الشعب العبرانيّ. كما كان له كلام عن الفصح أهداه إلى قسطنطين: المدلول الصوفيّ للفصح اليهوديّ، وتتمّته في عيد الفصح المسيحيّ. ويبدو من رسالة الشكر التي بعث بها الإمبراطور، أنّ أوسابيوس دخل في الجدال حول الوقت الذي فيه يعيّد المسيحيّون الفصح. كتب الإمبراطور »إنّها لمحاولة كبيرة تتجاوز كلّ إمكانيّة التعبير، أصل هذا الجدال وخاتمته المفيدة والمتعبة معًا، لأنّ لا قِبَل للإنسان أن يتكلّم عن الإلهيّات. وأنا معجبٌ بحبّك للعلم وبغيرتك. ما قرأتُ أنا وحدي مقالك بسرور، بل أمرتُ بأن يصل إلى عدد كبير من الأشخاص المهتمّين اهتمامًا صادقًا بخدمة الله« الآباء اليونان 20: 1181أ.

ب- التعليم والعقيدة

أخذ التفسير الكتابيّ الوقت الكبير في حياة أوسابيوس، فما كتب بشكل مباشر عن العقيدة، بل جاء ما دوّنه دفاعيٌّا. ولكن نبدأ فنذكر موقفه من مجمع نيقية (325) الذي حَرم آريوس وشدّد على لاهوت الابن، وتلا »النؤمن« الذي ما زلنا نتلوه اليوم في احتفالاتنا. حين صار أسقفًا، دخل في الجدال الأريوسيّ، وظنّ أنّه يسوّي الأمور، فنصح الفرقاء المتخالفين بتنازلات متبادلة. هنا نكتشف دورًا سياسيٌّا لا عقائديٌّا. ونستشفّ دفعًا من إمبراطور أراد وحدة مملكته مؤسّسةً على وحدة العقيدة. أجل، ما أدرك أوسابيوس أهميّة هذه العقيدة، فكتب عددًا من الرسائل يدافع فيها عن آريوس. وكان له وزنه في سينودس قيصريّة الذي أعلن استقامة إعلان آريوس الإيمانيّ، وطلب منه أن يخضع لأسقفه. بعد ذلك الوقت، عُقد سينودس في أنطاكية، قبْل مجمع نيقية بقليل، فحُرم أسقف قيصريّة لأنّه رفض تعبيرًا يردّ على تعليم آريوس. وواصل أوسابيوس مجهود التقارب في مجمع نيقية، كممثّل لحزب الوسط الذي نصح بالإقرار بلاهوت المسيح الحقيقيّ في لغة بيبليّة، والذي رفض تعليم أثناز، أسقف الإسكندريّة الذي اعتُبر من حزب ساباتيوس(20)، حول اللفظ اليونانيّ المرتبط بالفلسفة: هومو أوسيوس: من جوهر واحد.

وإن وقّع أوسابيوس على أعمال مجمع نيقية، فإرضاء للإمبراطور. ولكن وقف وقفة صريحة بجانب أوسابيوس أسقف نيكوميديا، ولعب دورًا هامٌّا في سينودس أنطاكية (سنة 330) الذي حطّ أوستات الأسقف المحلّي، وفي سينودس صور(سنة 335) الذي حرم أثناز. وكتب أوسابيوس مقالين ضدّ مرسال أسقف أنقيرة (أنقرة الحاليّة) فعُزل في السنة التالية. اتّخذ مرسال الموقف المتصلِّب ضدّ آريوس، فجاء موقف أوسابيوس قاسيًا.

بدأ أوسابيوس فكتب مقالين ليدافع عن موقف آريوس، وذلك بعد أن عُزل مرسال في سينودس القسطنطينيّة سنة 336. في المقال الأوّل، ردّ هجمات أسقف أنقيرة على رئيس الحزب الأريوسيّ. وفي الثاني، بيّن أن كتابات مرسال تنتمي إلى السيبيليانيّة (إله واحد يتجلّى في ثلاثة مظاهر). ثمّ ألّف أوسابيوس »اللاهوت الكنسيّ«، سنة 337، وأهداه إلى الأسقف الأريوسيّ فلاقِلّوس الإنطاكيّ (334- 342). في هذا المولَّف، ردّ أوسابيوس ردٌّا مفصّلاً على مرسال. وبيّن أنّ الابن ليس من جوهر الآب، بل نتاج إرادته الحرّة. وأنّ الروح القدس هو ثمرة الابن. فالاعتراف بلاهوت الابن يعني نفي الوحدة الإلهيّة.

3. أوسابيوس والتاريخ

اشتهر أوسابيوس أكثر ما اشتهر حين كتب التاريخ. نذكر آثارًا أولى، قبل أن نعود إلى »الكرونيكة« أو الزمنيّات التي تجمع وقائع حصلت في زمن متسلسل، وإلى التاريخ الكنسيّ الذي هو قمّة ما تركه أوسابيوس من مؤلّفات.

أ- الآثار الأولى

أوَّلاً حياة بمفيل. في ثلاثة كتب. لمّح أوسابيوس إلى هذا المؤلَّف في التاريخ الكنسي(21) (6/32: 3) فقال عن نفسه: »سجّلنا في ما قلناه عن سيرة بمفيلوس، الأسقف الشهيد في زماننا«. وفي معرض الكلام عن رؤساء الكنيسة الذين دلّوا على صدق إيمانهم، قال: »ويجب أن نذكر أيضًا بينهم المجد العظيم لكنيسة قيصريّة، الكاهن بمفيل، أروع معاصرينا، الذي سوف نكتب في الوقت المناسب ما استحقّته مآثره« (التاريخ 8/13: 6). توفّي بمفيل سنة 309، وكانت النشرة الأولى للتاريخ الكنسيّ سنة 311. هذا يعني أنّ »حياة بمفيل« كتبت بين هذين التاريخين.

ثانيًا: شهداء فلسطين. جاء هذا الكتاب في نسختين(22). نسخة قصيرة جعلت بعد الكتاب الثامن من »التاريخ«، أو كملحق بعد الكتاب العاشر. دُوّنت بعد سقوط مكسيميان دايا سنة 313. وتوسّعت النسخة الطويلة في هذه النسخة الأولى. في الأصل، أراد أوسابيوس أن يتحدّث عن شهداء قيصريّة الذين عاين جهادَهم. ثمّ توسّع المؤلّف، فرتّب لائحة بحسب السنة التي فيها استشهد هذا أو ذاك، من سنة 303 إلى سنة 311. بفضل هذا المؤلّف، عرفنا تاريخ الاضطهاد في فلسطين، وعدد الذين ماتوا بيد ديوكليسيان وبيد مكسيميان. حكم ديوكليسيان على القارئ بروكوب ومجموعة مؤلّفة من اثني عشر مسيحيٌّا، بأن يُساقوا إلى الموت. ولكن عنُف الاضطهاد في عهد خلفه مكسيميان: أعطى أمرًا عامًا لجميع المواطنين بأن يقدّموا الذبائح ويأكلوا من لحم الذبائح. وعدد الذين ماتوا (مع الكاهن بمفيل) بين سنة 303 وسنة 311 كان 83. أمّا المعترفون فكانوا أكثر عددًا: »ما عاد بالإمكان أن نقول عدد الذين قُلعت عينهم اليمنى بخنجر ثمّ أُحرقت في النار. أو تجمّدت رجلُ الشمال عندهم مع كيِّ ركبهم. بعد ذلك، كانوا يحكمون عليهم بالعمل في مناجم النحّاس« (التاريخ 8/12: 10). وتجاه هؤلاء، ضعُف عدد من المسيحيّين فجحدوا إيمانهم.

نورد هنا ما في الفصل الأوّل:

»أوّل الشهداء في فلسطين كان بروكوب. قبل أن يختبر السجن، وحالاً منذ وصوله، اقتيد إلى منبر الحاكم وأُمِر بأن يَذبح لمن يدعوهم آلهة. فقال إنّه لا يعرف إلاّ الله الواحد، الذي يليق بنا أن نضحّي له، حسب مشيئته. ولمّا أُمِر بأن يسكب سكائب الخمر للأباطرة الأربعة، تفوّه بكلام لم يُسرّهم. فقطعوا رأسه... بعد هذا، وفي المدينة عينها، جاهد بشجاعة عددٌ كبير من رؤساء الكنائس المجاورة، في عذابات قاسية فقدّموا للمشاهدين رؤية الجهاد العظيم، ساعة خاف آخرون فضعُفوا أمام الصدمة الأولى« (ص 122-123).

ثالثًا - مجموعة الشهداء القدماء. ضاع الكتاب. ولكن وُجد النصّ في التاريخ الكنسيّ (4/15). هم شهداء إزمير (تركيّا) وليون (فرنسا) في أيّام مرقس أوريليوس. يبدو أنّ السنكسار السريانيّ عرف هذه المجموعة، كما قال هرناك، العالِم الألمانيّ.

ب- الكرونيكة أو الزمنيّات

العنوان الأساسيّ: »قوانين (أو: لوائح) الأزمنة، مع ملخّص لأحداث وقعت لدى اليونان والبربر (التاريخ 1/1: 6). ألّفت الكرونيكة حوالي سنة 303، فجاءت في جزئين. الجزء الأوّل تحدّث عن الكلدانيّين مستندًا إلى الإسكندر بوليهستور وأبيدانوس ويوسيفس. وعن الأشوريّين والمصريّين والرومان. كلّ ذلك كان مقدّمة للجزء الثاني الذي ضمّ اللوحات المتقابلة على مستوى الزمن. فأورد أهمّ أحداث التاريخ الزمنيّ والدينيّ. وكانت نقطة الانطلاق ولادة إبراهيم سنة 2016-2015 ق.م. ثمّ جاءت مراحل خمس: من إبراهيم إلى سقوط طروادة، من سقوط طروادة إلى الدورة الأولمبيّة الأولى، من الدورة الأولمبيّة الأولى إلى السنة الثانية لحكم داريوس. من السنة الثانية لحكم داريوس إلى موت المسيح. ومن موت المسيح إلى سنة 303.

توخّى أوسابيوس أن يبيّن أنّ الديانة اليهوديّة (وجاءت بعدها الديانة المسيحيّة) هي أقدم الديانات في الزمن. هذا ما قاله الآباء المدافعون منذ القرن الثاني. ويوليوس الأفريقيّ أسّس على المبدأ عينه كرونيكاته التي شكّلت أوّل تاريخ متقابل للعالم. وقد يكون أوسابيوس استلهمه وأخذ جزءًا كبيرًا من مواده، وإن لم يُشر إلى ذلك. غير أنّ مؤلّفه تجاوز مؤلّف يوليوس بسبب الكتّاب الذين ذكر، والروح النقديّة التي اتّسم بها. رفض موقف يوليوس الذي انطلق من آدم، لأنّ لا أحد يعرف الوقت الذي قضاه في الفردوس. ثمّ إنّ الأرقام الموجودة في الكتاب المقدّس ليست أكيدة إلاّ بعد إبراهيم.

ضاع الأصل اليونانيّ لهذا الكتاب. ولكن بقيت نسخة أرمنيّة تعود إلى القرن السادس. ووُجد الجزء الثاني في ترجمة لاتينيّة قام بها جيروم، سنة 380، في القسطنطينيّة. نشير إلى أنّ الأرمنيّة واللاتينيّة لم تستندا إلى الأصل، بل إلى نسخة مصحّحة وصلت إلى نهاية حياة قسطنطين (337). وما اكتفى جيروم أن ينقل عمل أوسابيوس، بل أضاف عددًا من الحواشي حول التاريخ العامّ، ولا سيّما ما يتعلّق برومة، وأوصل الزمن إلى سنة 378 وموت فالانس. في هذا الشكل، وصلت الكرونيكة إلى الغرب، فكانت الأساس لكلّ بحث حول ماضي البشريّة. ووُجدت ترجمة سريانيّة نُسبت إلى ديونيسيوس التلمحريّ بطريرك أنطاكية (818-845) الذي وصل بتاريخه إلى سنة 774-775. انطلاقًا من هذه الترجمات الثلاث، واستعانة بالذين أخذوا نصّ أوسابيوس مثل جورج سنقالوس في »الكرونيكة الفصحيّة« أونيقيفور وغيرهما، نستطيع أن نعيد تكوين هذا المؤلَّف الهام الذي فتح الطريق لعدد من الذين تبعوه في العالم السريانيّ واليونانيّ واللاتينيّ ولا سيّما ميخائيل السريانيّ الكبير وغريغوريوس ابن العبريّ.

ت- التاريخ الكنسيّ

جاء في عشرة كتب، فأمّن شهرة واسعة لأوسابيوس، لأنّ هذا المؤلَّف كان الأساسَ والنموذج لكلّ تاريخ كنسيّ جاء بعده. حُفظ في مخطوطات عديدة(25) وانتقل في ترجمة سريانيّة تعود إلى سنة 400 تقريبًا. وفضّل العلماء الترجمة السريانيّة على اللاتينيّة (حرفيّة مع بعض الأخطاء) التي قام بها روفين سنة 402. وأضاف كتابين وصلا بنا إلى موت تيودوز الأوّل سنة 395.

لم يكن همّ أوسابيوس أن يرسم تطوّر الكنيسة منذ البداية إلى أيّامه، بل أن يجمع مواد تعطي صورة عن مصير الجماعة المسيحيّة. أمّا لفظ »هستوريا« (تاريخ) الذي ورد في التهيئة (1/6: 7) فيدلّ على إضمامة وثائق جُمعت من أجل هدف دفاعيّ. أمّا »التاريخ« فرأى في انتصار الكنيسة هدف مسيرة المسكونة.

في المقدّمة، أوجز الكاتب تصميم مؤلَّفه ومضمونه. فوجدْنا في ترتيب كرونولوجيّ (تسلسل الأزمنة) تسلسلَ الأساقفة منذ الرسل، في الجماعات الهامّة، وعرْضَ الهرطقات والصراعات والمحن التي عرفتها الكنيسة.

عشرة كتب امتدّت من بداية الكنيسة حتّى سقوط ليسينيوس سنة 324، وسيادة قسطنطين وحده دون منازع. أمّا ترتيب هذه المعطيات، فنكتشفه في المقدّمة: »توالي الرسل القدّيسين منذ زمن مخلّصنا إلى أيّامنا. كلّ الأمور التي حصلت في التاريخ الكنسيّ. كلّ أشخاص هذا التاريخ الذين ترأّسوا الأبرشيّات الكبيرة، جميع الذين نادوا في كلّ جيل بالكلمة أو بالكتابة، فكانوا سفراء كلمة الله« (التاريخ 1/1).

نورد هنا لائحة أساقفة أنطاكية: أواديوس ثمّ اغناطيوس (3/22). ثمّ تيوفيل (الأسقف السادس). وبعده مكسيم (4/14) وسرابيون (5/19: 1). وتتواصل اللائحة. ثمّ كانت لائحة الإسكندريّة مع أنيان، أوّل أسقف على الإسكندريّة... ونصل إلى ديمتريوس وهيراكلاس (6/29: 4). بانت لائحة أورشليم ضعيفة. ولائحة الإسكندريّة ثانويّة بالنسبة إلى رومة.

وذكر أوسابيوس الهرطقات والاضطهادات. وهنا مسألة اهتمّ لها أوسابيوس: قانون (أو: لائحة) الأسفار المقدّسة. فهو اختصاصيّ في الكتاب، في خطّ أوريجان. ثمّ إنّ الكتب المقدّسة أساسيّة لحياة الكنيسة. لهذا ذكّر أنّ هذه الكتب الموروثة من المجمع، قد نقلها المسيحيّون على مرّ العصور. أورد في 3/10: 1-5 لائحة يوسيفس: »ليس عندنا آلاف الكتب التي تتضارب بعضها مع بعض، بل فقط اثنان وعشرون كتابًا تتضمّن وصف الزمن الماضي وتُعتبَر بحقّ إلهيّة. ومن هذه الكتب، خمسة لموسى تتضمّن الشرائع وتقليد خلق الإنسان حتّى موت الكاتب«. وأشار أوسابيوس إلى لائحة مليتون السرديسيّ (4/26: 13-14) وكليمان الإسكندرانيّ (6/ 12: 6) وأوريجان (6/25: 1-2).

نذكر في هذا الإطار خبر الرسول يوحنّا: »في ذلك الزمان، كان بعدُ حيٌّا في أفسس ذاك الذي أحبّه يسوع، يوحنّا، الرسول والإنجيليّ، الذي ساس كنائس هذه البلاد بعد أن عاد، على أثر موت ديوكليسيان، من الجزيرة إلتى نُفي إليها«. هل يكون لبثَ على قيد الحياة في ذلك الوقت؟ يكفي أن نثبت الأمر بواسطة شاهدين، يمكن أن نثق بهما: إيرينه وكليمان الإسكندرانيّ. قال إيرينه: »أمّا كنيسة أفسس التي أسّسها بولس حيث أقام يوحنّا حتّى أيّام ترايان وكان الشاهد الحقيقيّ لتقليد الرسل« (3/23: 1-4).

خاتمة

هكذا برزت أمامنا شخصيّة أوسابيوس أسقف قيصريّة، في فلسطين. كان في العالم، فدافع عن المسيحيّة في وجه العالم الوثنيّ، وحاول أن يستفيد من صداقته مع قسطنطين لخير كنيسته، مع ما في هذه الصداقة من خطر وتزلّف وبحْث عن المكاسب الزمنيّة. وفي إطار نيقية والأزمة الأريوسيّة، حاول أن يلعب »السياسة« فجمع بين فريقين متباعدين. أراد أن يلتصق بالكتاب المقدّس دون اللجوء إلى الفلسفة اليونانيّة. ولكن تجاوزَه الآباء فأجبر على التوقيع، على مضض، ولكن لم يقتنع كلَّ الاقتناع بما حدّده الآباء 318. في الواقع، لم يكن أوسابيوس ذاك اللاهوتيّ المعروف، فكتب يدافع عن المسيحيّة، لا ليقدّم عرضًا شاملاً. ولكنّه كان المؤرّخ اللامع الذي سيطر كتابه التاريخ الكنسيّ على ما كُتب بعده. وقرأ الأحداث في العالم الوثنيّ كما في العالم اليهوديّ، على ضوء كلام الله. فسقوط طروادة مثلاً، هو عقاب من الله. أما هذا الذي قاله الأنبياء عن سقوط آشور ونينوى وبابل؟ وتبعه المؤرّخون السريان في هذا المضمار، فأسقطوا النظرة التاريخيّة التي نجدها في الكتاب المقدّس، على أحداث الماضي والحاضر.

كان أوسابيوس مطران قيصريّة، وبه ارتبطت أورشليم، كما ارتبطت به أسقفيّات عديدة. لعب دورًا كبيرًا في أيّامه، على مستوى السياسة، ولكن ما خلّده هو تاريخٌ نظر فيه إلى الأحداث بعين ناقدة، فجمع الماضي في إضمامة واحدة، ليفتح الكنيسة على مستقبل لا بدّ أن يكون زاخرًا. وانتصار قسطنطين على ليسينيوس الذي يُروى في الكتاب العاشر من التاريخ الكنسيّ، هو صورة عن انتصار الكنيسة بعد أن تغلّبت على الوثنيّة وعرفت الراحة. كلّ هذا ينتهي بمجدلة نقرأها في خاتمة الكتاب العاشر من التاريخ: »لله القدير وملك الكون، نؤدّي الشكر على كلّ شيء. ونؤدّي الشكر الوافر لمخلّص نفوسنا وفاديها، يسوع المسيح، الذي به نصلّي على الدوام لكي يكون لنا السلام، سلام الروح«.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM