الفصل التاسع عشر: وجه الله في سفر الأعمال

الفصل التاسع عشر:

وجه الله في سفر الأعمال

حين يرسم الشرّاح صورة الله في أع، فهم يحلّلون مضمون الكتاب ويعدّدون السمات المرتبطة بالله: الله هو العامل الأول في تاريخ الخلاص. يسوع هو مرآة عمل الله الآب الذي يفرح لعودة الضالين، الاله الذي يكتشف بطرس شموليّته(1). الاله الذي يعتني بالبشر كما في خطبة بولس في أثينة (أع 17). وهكذا نكتشف وجه إله أمين لما وعد به. يهتمّ ببرنامج يعمّ الكون، ويتدخّل في مسيرة التاريخ.

أما نحن فنتوقّف عند الطريقة التي بها يرسم أع صورة الله. كيف يوصل إلينا ما عرفه عن الله، وبواسطة من يوصل معرفته. وسينقسم موضوعنا قسمين. الأول، اللغة التي بها نتحدّث عن الله. تداخل تاريخ الله وتاريخ البشر.

1 - اللغة التي بها نتحدّث عن الله

أ - اللغة الدينيّة

هناك مفترق مهمّ وغير متوقّع يحصل بعد مجمع أورشليم(2) بقليل. بدأ بولس ما يسمّيه الشرّاح الرحلة الرسوليّة الثانية(3). أخذ يجول مع سيلا في كيليكيّة من أعمال تركيا، ساعة حصلت ثلاثة أحداث متتالية أعادت توجيه مسيرته. في الحدث الأول، »منعهما الروح القدس أن يبشّرا بالكلمة في آسية«(4) (16:6). في الحدث الثاني، »لم يأذن لهما روح يسوع« (16:7) أن يَشخصا إلى بيتينية. والحدث الثالث هو رؤية ليليّة جعلت بولس يرى رجلاً مكدونياً يتوسّل إليه لكي يأتي ويغيثه (16:9).

إن قارئ سفر الأعمال الذي اعتاد أن يقرأ التوراة في النسخة السبعينيّة اليونانيّة، يرى أنّ كل هذه التدخّلات الثلاثة تحمل توقيع الله: فتدخّلُ الروح القدس(5) والرؤية هما جزء من الأسلوب التيوفاني، أسلوب الظهورات الالهية بحسب التقليد. ما نقرأه هنا قرأناه ساعة أرسل الله الروح فحلّ على التلاميذ يوم العنصرة(6). هي تدلّ على ضغط غير عاديّ يقوم به الله على التاريخ البشريّ.

وحالاً، بعد ذكر هذه التدخّلات الثلاثة، تبدأ أولى المتتاليات في صيغة المتكلّم الجمع (16:10 - 17)، التي تذكر العامل اللامنظور في هذه التدخّلات، وتكشف النيّة والهدف: »وللوقت، طلبنا أن نسير إلى مكدونيّة، مُوقنين أن الرب يدعونا لنبشّرهم« (16:10).

هذا التوالي الاخباريّ، يصوّر بشكل واضح أن الكلام عن الله في أع، يفرض علينا أن نلاحظ شكلين مختلفين في الكلام عن الله: من جهة، خطبة واضحة حيث يُذكر الله بشكل مباشر (16:10). ومن جهة ثانية، خطبة ضمنيّة حيث يتجلّى الله عبر وساطات تيوفانيّة يعرف القارئ أن يفهمها (16:6 - 7، 9). هاتان الخطبتان تشكّلان »تيولوجيا« أع، أي الحديث عن الله في سفر الأعمال.

إن الطريقتين اللتين يأخذ بهما لوقا لكي يتكلّم عن الله، تتوافقان واللغة الدينيّة في عصره. ففي نظر التقليد اليهوديّ كما في نظر الحضارة اليونانيّة والرومانيّة في القرن الأول المسيحيّ، يستعمل إله السماء الوساطات لكي يلامس البشر. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، عرف لوقا كيف يقدّم خطبة يُذكر فيها الله بشكل واضح ويسمّى بأسمائه: الله، الرب، الآب(7). فما هي العلاقة التي يقيمها الراوي مع هذين النمطين في الكلام عن الله (الواضح والضمنيّ)؟

ب - اللغة الضمنيّة

نبدأ فنقول إن اللغة الضمنيّة تتوافق مع ما نعرفه عن التيوفانيّات في التوراة اليونانيّة. الله ينقل بلاغاته بواسطة ملائكة يرسلهم إلى الرسل. في 1:10 - 11 يتكلّم النصّ عن »رجلين (أي ملاكين) عليهما لباس أبيض (لون الغلبة والقيامة، لون السماء) وقفا بهم (= بالرسل) وقالا لهم: »أيها الرجال الجليليون...«. وفي 5:19 - 20 نعرف أن »ملاك الرب فتح أبواب السجن ليلاً، وقال لهم (= للرسل): ''امضوا وقفوا في الهيكل''«. هذا الملاك يكلّم فيلبس (8:26)، ويخلّص بطرس من السجن (12:7 - 10)، ويضرب هيرودس »لأنه لم يؤدّ المجد لله« (12:23). هذا الملاك تراءى لكورنيليوس أكثر من مرّة (10:3 - 6، 22، 30 - 32) ولبولس (27:23 - 24: وقف بي ملاك من الله).

والله يحرّك مؤمنيه فيرون رؤية، أو ينخطفون انخطافاً. رأى اسطفانس يسوع قائماً عن يمين الله، رأى السماوات مفتوحة (7:55 - 56). ورأى بطرس السماء مفتوحة (101:0 - 16) لكي توصل إليه البلاغ السماويّ (11:5 - 10). أما بولس، فإذ كان ماضياً إلى دمشق، »أبرق حوله بغتة نور من السماء« 9(:3 - 8؛ رج 22:6 - 11؛ 26:13 - 18). قد تكون هذه الرؤى ظهورات ليسوع، كما كان الأمر بالنسبة إلى الرسل يوم الصعود (1:3 - 11)، وبالنسبة إلى اسطفانس ساعة موته (7:56)، وبالنسبة إلى بولس حين كان في كورنتوس. قال له الرب: »لا تخف، بل تكلّمْ، لا تسكتْ، فإني معك« (18:9- 10). ويتحدّث بولس نفسه عن انخطاف تمّ له. »رأيت الرب يقول لي: أسرعْ واخرج عاجلاً من أورشليم« (22:17 - 21).

وهناك أسلوب عرفه اليونان والرومان: رؤيتان تتقابلان. رؤية رآها حنانيا الذي سيعمّد يسوع. ورؤية رآها بولس (9:10 - 12). ما رآه بطرس وهو يصلّي، وما رآه كورنيليوس (10:1 - 23). فكأن الله يوجّه الاثنين.

حين أراد الرسل أن يعرفوا إرادة الله في ما يخصّ الرسول الثاني عشر، ألقوا القرعة (1:26). فهي تدلّ على الله وعمله. ولكن ما يدلّ على حضور الله بشكل عام، هو عمل الروح لدى الرسل (2:1 - 11، يوم العنصرة)، لدى فيلبس (8:29، 39: فقال الروح لفيلبس... خطف روحُ الرب فيلبس)، لدى كورنيليوس (10:44 - 46: حلّ الروح القدس على جميع الذين سمعوا الكلمة)، لدى الجماعة (13:2، قال الروح القدس)، لدى بطرس وبولس.

ونشهد أيضاً معجزات مدهشة. نقرأ في 4:31: »فلما صلّوا تزلزل الموضع الذي كانوا مجتمعين فيه«. ونرى الزلزال(8) أيضاً ساعة كان بولس وسيلا في السجن في فيلبّي (16:26). وينجو الرسل بشكل عجائبيّ من السجن (5:19-20؛ 12:6-10؛ 16:26). ويخلصون من العاصفة (27:9 - 44). وقدرة الرسل تدلّ هي أيضاً على حضور الله حين يشفون المرضى، ويُخرجون الشياطين(9)، ويقيمون الموتى(10)، ويعاقبون الكاذبين(11)، وينجون من الحيّات(12).

نلاحظ تنوّعاً كبيراً في الوسائل التي بها يتدخّل الله. ولكن أعظم تدخّل لله في التاريخ، ذاك الذي يُشرف على خبر أع والذي يجتذب في ديناميّته قوّة الرسل العجائبيّة، هو قيامة يسوع. »ذاك الذي صلبتموه قد أقامه الله من بين الأموات« (4:10؛ رج 2:24؛ 3:14 - 15؛ 13:29 - ..20.).

كل هذا التعداد لتدخّلات الله تستتبعه ثلاث ملاحظات.

الأولى: لا نجد في انجيل لوقا ما يقابل هذا التنوّع في وسائل تدخّلات الله، إلاّ في إنجيل الطفولة (لو 1 - 2) وفي الدورة الفصحيّة (ف 24). فما أن يدخل يسوع على المسرح (2:40)، حتّى يأخذ اللاهوتَ لنفسه، فتُحفظ له ظهوراتُ الملائكة والانخطافات وحلول الروح(13). هذا التركيز اللافت على الكرستولوجيا في لو، يحلّ محلّه في أع لاهوت يوازي بين القطب الكرستولوجيّ (كرازة حول القيامة، معجزات)، والقطب البنفماتولوجي (انطلاقة الرسل وعمل الروح، بنفما)، والقطب اللاهوتيّ (أو التيولوجيّ، الله هو الفاعل في تاريخ الخلاص).

الثانية: لم تتوزّع تدخّلات الله في الخبر بشكل واحد. فهناك تركيز على الظواهر الانخطافيّة وعلى المعجزات ذات الطابع الجماعيّ في القسم الأول من الكتاب (أع 1:7). وحين يقترب الخبر من نهايته، يرتبط الالهي بأشخاص محدّدين، ولا سيّما بولس (18:9 - 10؛ 20:9 - 12؛ 23:9 ...). غير أن هناك استثناء ملحوظاً في الخلاص من البحر في 27:9 - 44. هذا التطوّر يدلّ على أنه حين يقترب الخبر من زمن لوقا، يجعل الراوي ظهور العالم الالهي يتوافق مع ما يميّز حاضرَ المسيحيّة التي إليها يوجّه كلامه. إن الظهورات الخارقة التي »تشعل« الجماعة، نجدها في »العصر الذهبي«(14) (2:1 - 11؛ 4:31؛ 5:15؛ 7:55 - 56؛ 8:39).

الثالثة: يستفيد لوقا، من أجل خبره، من جميع أشكال الالهيّ التي في متناوله لكي يؤثّر على قرّائه ويقنعهم. فحدث سمعان (8:9-12، 18 - 24) وبريشوع (13:6 - 11) يدلاّن على أن لوقا يعيش في عالم يعرف جدالاً مفتوحاً بين الممارسة السحريّة والخبرة الدينيّة(15). يبقى على الكاتب أن يفسّر العلامات التيوفانيّة. وهذا ما سنجده في أع.

ج - اللغة الواضحة التي تسمّي الله

نجد بجانب اللغة الضمنيّة، لغةً واضحة تسمّي الله: الله، السيّد، الآب. »الله« هو الفاعل في 61 حالة في أع. السيّد (أو: الربّ) تسع مرات. والآب مرّة واحدة(16).

كيف يستعمل لوقا هذه الألقاب الالهيّة كفاعل؟ هناك إشارة أولى تلفت النظر حالاً: ورود هذه الألقاب في الخطب بشكل كبير جداً(17) وهكذا ترتبط اللغة الواضحة عن الله في العالم الخطابي لا في العالم السرديّ. وهكذا نكون في مرمى الخطب اللوقاويّة التي تفسّر العمل من أجل القارئ. وماذا نقول عن استعمال الألقاب الالهيّة في العالم السرديّ؟ لا يظهر الله أبداً في العالم السرديّ إلاّ في كلام يورده أحد الأشخاص. وإذا وضعنا جانباً بعض الاستثناءات النادرة، لا ينسب الراوي أبداً بشكل مباشر إلى الله عملاً في الخبر.

وبكلام آخر، لا يكون الله الفاعل إلاّ في كلام شخص من الأشخاص. فالملاك هو الذي يقول لبطرس: »ما طهّره الله، لا تعلنه أنت نجساً« (10:15). وبطرس هو الذي يقول للإخوة: »روى لهم كيف أخرجه الربّ من السجن« (12:17). وبولس هو الذي يقول لعظيم الكهنة حنانيا: »سيضربك الله« (23:3. الله هو الفاعل). وهكذا يدلّ النصّ على الله كفاعل في إطار خطبة مباشرة(18) أو خطبة غير مباشرة تبدأ بفعل من أفعال القول(19)، أو (في أقصى حدّ) ساعة يعلن الراوي عقيدة شخص من الأشخاص (16:10: طلبنا أن نسير إلى مكدونيّة موقنين أن الرب يدعونا). فإذا وضعنا جانباً بداية إيراد كتابيّ (13:47: فإن الرب هكذا أوصانا: إني جعلتك نوراً للأمم)، الشواذان الوحيدان نجدهما في إجمالتين(20) وفي ذكرين للفظة »كيريوس« (الربّ) التي تعني يسوع المسيح(21). وهكذا نلاحظ مَيْلَ لوقا في أن لا يورد الله باسمه إلاّ في كلمات داخل العالم الاخباريّ. والنتيجة هي أن تسمية الله لا تقف على مستوى اليقين. وحدها كلمة الشاهد تستطيع أن تدلّ على صاحب الأحداث التي تقود التاريخ. ونجد اللغة عينها على مستوى الحديث عن الآلام والقيامة في لو 22 - 24 الذي لا يسمّي أبداً محرّكَ الأحداث الالهي. وكذا نقول عن بطرس وبولس (في خطب أع) اللذين ينسبان إلى الله إقامة يسوع من بين الأموات(22).

ماذا نستنتج في هذا القسم الأول؟ إن تفحّص اللغة التي تتحدّث عن الله في أع تُبرز تصرّفاً لدى الراوي الذي يختار الأسلوب السرديّ حين يظهر الله عبر وساطة تخفيه، ويختار الأسلوب الخطُبيّ حين يُذكر الله بشكل مباشر كعامل في التاريخ. اللغة الضمنيّة هي لغة الراوي. واللغة الواضحة هي ميزة الخطبة التي فيها يروي الأشخاصُ أحداثَ التاريخ.

هذا التمييز بين اللغتين يرسم الاشكاليّة التي فيها تتسجّل صورةُ الله في أع. من الواضح أن لوقا يهرب من صورة إله يتحوّل (إلى انسان) ويمتزج بشكل خفيّ في أمور البشر على مثال ما نقرأ في التقليد اليهودي حيث نرى الله يجبل بيديه، يتمشّى عند المساء في الجنّة، يندم لأنه خلق الانسان(23). ولكن من خلال مراعاة قداسة الله، الذي يرفض كل انتروبومورفيّة خشنة، ما هو الدور الذي يعطيه لوقا للخطبة عن الله في إطار خبره؟ وكيف تتشارك الخطبة الواضحة التي تسمّي الله مع عقدة أع وتجعلها تتقدّم؟ هنا نصل إلى القسم الثاني من مقالنا متوقّفين عند الوظيفة التي يمارسها كل نصّ في إيراد الأقوال التي تذكر الله.

2 - تداخل تاريخ البشر وتاريخ الله

صرّح أحد الشرّاح منذ وقت قصير أن الموضوع المركزيّ في أع هو »مخطّط الله«(24). فالكلام عن الله يعني في النهاية أن نتساءل كيف يتدخّل الله لكي يقود التاريخ بحسب مخطّطه. كيف يتداخل في أع تاريخُ البشر وتاريخ الله، حريةُ البشر وإرادة الله.

إذا نظرنا إلى عقدة الخبر، ترتدي تدخّلات الله وظائف ثلاثاً تختلف الواحدة عن الأخرى. أو أن التدخّل يسبق الحدث فيرتدي وظيفة برنامجيّة(25) (رؤية، حلم، قول نبويّ). مثلاً، بولس في طريقه إلى مكدونية (16:6 - 10). أو أنه يمارس وظيفة إتماميّة(26) ساعة يتدخّل الله مخلّصاً أو معاقباً، أو موجّهاً مسيرةَ الأحداث. مثلاً، حدث طريق دمشق (19:1 - 19 أ). أو أن هذا التدخّل يمارس وظيفة تفسيريّة(27)، فيقف بعد الأحداث ليدلّ على معناها أو ليبرّرها. مثلاً، رؤية اسطفانس للمسيح (7:55 -5 6). سوف نرى كيف يمزج لوقا في الخبر هذه الوظائف الثلاث التي تُعطينا فكرة عن دخول الله في التاريخ.

أ - الوظيفة البرنامجيّة: الله يستبق التاريخ

إن القول البرنامجيّ الذي يُعلن وليَ الخبر ويستبقه، هو نهج إخباريّ عزيز على قلب لوقا. نذكر هنا وعد القائم من الموت في أع 1:8 (تكونون شهوداً في أورشليم واليهوديّة والسامرة، وحتى أقاصي الأرض. هذا هو البرنامج). والإنباء بمصير بولس في 9:15 - 16 (ليحمل اسمي أمام الأمم والملوك وبني اسرائيل. سأريه كم سيتألّم). إن هذا النمط من التعبير يقدّم بشكل ملموس توجيه الله للتاريخ(28). وقد يصل الاعلان البرنامجيّ خلال حلم. في 23:11 أعلم الرب بولس بمستقبله في رؤية ليليّة: »شهدتَ لي في أورشليم. فينبغي أن تشهد أيضاً في رومة«. وقد يصل عبر إنباء أغابوس: »إن الرجل صاحب هذه المنطقة، سيوثقه اليهود هكذا في أورشليم ويسلمونه إلى أيدي الأمم« (21:11).

في إطار الخطبة عن الله، نتوقّف عند ثلاثة أقوال برنامجيّة: 5:38 -39؛ 16:10؛ 37:23 - 25.

* 5:38 - 39

يرد القول البرنامجيّ في قلب الخبر اللوقاويّ حسب »مبدأ غملائيل«. فغملائيل هو ذاك الفرّيسي الذي صرف السنهدرين (= المجلس الأعلى لدى اليهود) عن الاساءة إلى الرسل طارحاً القاعدة التالية: »فإن كان هذا المشروع أو هذا العمل من الناس سوف يُنقض (يزول). وأمّا إن كان من الله فلا تستطيعون نقْضه«. ولكن ما هي السلطة التي تتيح لنا أن نتحقّق من أن عمل الرسل هو »من الله«؟ الخبر. فوحده خبرُ أعمالهم يتيح لنا أن نتحقّق أن عملهم لا يزول (لا يُنقض). لهذا ربط لوقا رباطاً محكماً بين مقاصد الله وحياة الشهود. وصار الخبر اللوقاوي واسطة هامة للتحقّق اللاهوتيّ المقدّم للقرّاء.

وأهمّية »مبدأ غملائيل« في موضوعنا، تظهر في جمعه التعرّف إلى إرادة الله مع مصير مجموعة تنتمي إلى يسوع. فمن أراد أن يتميّز طرق الله، فسيجد، في شكل مرآة، خبراً يعدّد ما يحصل لمجموعة المؤمنين من سعادة أو شقاء. وهكذا تصبح قراءة خبر أع، كتطبيق لمبدأ غملائيل، موضعَ اكتشاف الله. فالخبر وحده يعلم القارئ ما هو »العمل« الذي إليه يدعو الروح القدس بولس وبرنابا (13:2)، وكيف تتحقّق تحقّقاً ملموساً نبوءة أغابوس (21:11).

إن الأقوال البرنامجيّة التي تتوزّع في الخبر، تُوجّه القارئ: تبدو بشكل معالم وضعها الراوي لتعلّم القارئ كيف يفهم الخبر. هذا ما نكتشفه في 16:10.

* 16:10

إن 16:10 هو جزء من حدث أوردناه فيما قبل. تدخّل الروح مرّتين فأغلق الطريق أمام بولس وسيلا. وبعد هذين التدخّلين، كانت رؤية مكدونيٍّ يدعو الرسولين لاغاثته (16:6 - 9). كيف نفهم هذه التدخّلات الالهيّة؟ إن العبور من لغة ضمنيّة عن الله إلى لغة واضحة، هو ثمرة مجموعة ينضمّ إليها الراوي، مجموعة تروي الخبر في صيغة المتكلّم الجمع (نحن). قاده عملُه التفسيري إلى تحويل مسيرة الرسولين باتجاه مكدونية »لأننا كنا موقنين أن الله يدعونا لكي نبشّر فيها« (16:10). لا شكّ في القيمة البرنامجيّة لهذا القول: فقد فُهم نداء المكدوني إلى الاغاثة كدعوة آتية من الله تدفع الى الغرب انتشار الكلمة. وهكذا بدأ حمْلُ الانجيل في مكدونية بانتظار بلاد اليونان (أع1 7:18).

ولكن كيف نتحقّق من صحّة هذا التفسير؟ إن الراوي لا يجعل القارئ ينتظر طويلاً: فبعد بضع آيات في فيلبي، لاقت كرازةُ الرسولين استماعاً وتنبهاً لدى ليدية. »فتح الرب قلبها لتصغي إلى تعليم بولس« (16:14). وجاءت نجاة بولس وسيلاً العجائبيّة من السجن (16:25 - 26) لتؤكّد أن محاولة الرسولين هي حقاً »من الله«. وهكذا نكون أيضاً مع مبدأ غملائيل.

* 27:23 - 25

نقرأ في خبر العاصفة (أع 27) أربع مرات لفظة »تيوس« (الله، لا نجد »كيريوس« الربّ). ويتدخّل الاستعمال الرابع ساعة عشاء من النمط الافخارستي يقوم به بولس على السفينة (آ 35). وتتركّز الاستعمالات الثلاثة الأخرى في آ 23 - 25 حيث ينقل بولس لرفاق السفر ما أوصى به إليه ملاك خلال رؤية: »لا تخف يا بولس، يجب أن تَمثل أمام الامبراطور والله منحك حياة جميع رفاقك في السفر« (آ 24).

هذه المتتالية تلعب دوراً حاسماً في الخبر. فعلى أثر القرار السيئ الذي اتّخذه البحّارة، مخالفين رأي بولس (آ 9 -1 2)، وبعد هجمة العاصفة (آ 13 - 20)، بدا الرسول هنا كالبطل الحقيقيّ للخبر، وذلك عبر عمل كلامي(29). فالكلام الذي يقوله ليس كلامه، بل كلمة ترد على لسان الملاك: »وقف بي ملاك من الله، الذي أنا له وإياه أعبد، وقال لي« (آ 23). في هذه العبارة يشهد موضوعُ الرؤية والسماع على طابع الوحي الذي ترتديه معرفةُ الرسول. ونجد قراءة لاهوتيّة للحدث تدلّ على أن السفر يستند إلى »ينبغي« (داي) إلهي (يجب أن تقف أمام قيصر)، وتُنبئ بنهاية سعيدة. ويبدو هذا الإنباء بشكل حسيّ، صباح النزول إلى مالطة، يبدو من خلال عمل رمزيّ، هو العشاء، وكأنه يستبق في »شكر الله« (آ 35) نهايةَ الدراما وخاتمةَ السفر السعيدة. فالوظيفة الاخباريّة للخطبة البولسيّة في تدبير ف 27، تظهر الآن بوضوح. كان للغة الواضحة عن الله نتيجة وحي بشكل برنامج، وذلك بعد تصوير العاصفة تصويراً دراماتيكياً والاشارة إلى نتيجتها التي هي يأس المسافرين (آ 20). هناك وحي، لأن بولس يسمّي الله الفاعل الأخير (ومهما كان في فعله من مفارقة) في التاريخ. وهناك برنامج، لأن الرسول يفسّر نجاة السفينة كنعمة تسجّلت في مخطّط الله من أجل رسوله. لا يُكشف في أي مكان آخر الأصلْ الالهي لهذه النجاة. ولكن قارئ التوراة اليونانيّة يكتشف صحّتها حين يعود إلى موضوع الخالق الذي هو سيّد المياه.

إن وظيفة الاعلان المسبَق في أع بواسطة رؤية أو إنباء، هي أن تبرمج قراءة الخبر اللاهوتيّ. وحسب »مبدأ غملائيل« (5:38 - 39)، فهي تقدّم للقارئ مسيرة تاريخ يوميّ كموضع اكتشاف لطرق الله واحتفال بها.

ب - الوظيفة الاتماميّة: الله يحوّل التاريخ

إن إله أع هو إله يتدخّل في التاريخ. فيصوّره لوقا بواسطة المعجزات التي تحرّك جماعته بارسال الروح، التي تفتح أبواب السجون، التي تردّ المضطهد إلى المسيح، التي تخلّص مرسليه من كل الأخطار، التي تُعمي السحرة السارقين، التي تضرب هيرودس، التي تنجّي المسافرين من الغرق لكي يصل شاهده (بولس) إلى مرفأ أمين. فمن بداية الخبر إلى نهايته، يزيل إله أع الحواجزَ التي تعارض نجاح مخطّطه الذي هو نشر الكلمة.

غير أنه يجب أن نلاحظ أننا مع أع بعيدون كل البعد عن أعمال الرسل المنحولة حيث نجاح المرسلين يفتح هياكل الوثنيين ويحطّم الأصنام(30). أما في زمن لوقا، فليست الأمور بهذا الشكل: فالمجمع (= الشعب) اليهودي يقاوم الرسالة المسيحيّة مقاومة ناجحة. والعبادات اليونانيّة والرومانيّة تنزعج من المزاحمة المسيحيّة. وحمايةُ الله لا تُجنّب مرسَليه الفشل والذلّ والجلد والاستشهاد. ليست طريق المرسلين طريق النصر، بل طريق الصليب.

وهذه الطريق ستتحوّل أكثر من مرّة بسبب تدخّلات إله يسيّر التاريخ. هذا ما رأيناه مع حدث المكدونيّ (16:6 - 10). وها نحن نتوقّف عند ثلاثة نصوص (8:26 - 40؛ 9:1 ي؛ 10 - 11) تتيح لنا أن نتعمّق في الأسلوب اللوقاويّ: وحده كلامُ الشاهد يُفهم بعد الحدث، تدخّلَ الله ويسمّي صاحب هذا التدخّل. فخطبة (الواضحة) الشاهد تتبع دوماً لغة الراوي (الضمنيّة). ولكن لماذا أراد لوقا هذا التتابع؟

* 8:26 - 40

إن لقاء فيلبس مع وزير الحبشة قد رتّبه الله: فملاك الرب أمر فيلبس أن يذهب إلى طريق أورشليم غزّة التي هي مقفرة (آ 26. تلك كانت المبادرة الأولى). ثم قال له الروح (هي المبادرة الثانية): »اقتربْ والزمْ هذه المركبة« (آ 29). إذن، استعدّ القارئ لحوار هيّأته المعجزة، وتخضع نتيجتهْ لمخطّط الله. وفي النهاية، اختطفَ الروحُ فيلبس (التدخّل الثالث) اختطافا سرياً، فثبّت هذه الوجهة (آ 39): لقد لعب فيلبس الدور الذي عيّنه له الرب. بعد الآن ها هو يستعد لكي يختفي. لم يعد يراه الوزير. وقارئ الخبر أيضاً.

ما يلفت النظر في هذا النصّ، هو أننا نجد في طرفيه تدخّلين في البدء من قبل الله (آ 26، 29) وخطفاً في النهاية (آ 39) تحيط باللقاء. وبين البداية والنهاية، حيث نرى جوهر الخبر (تعليم الوزير الذي طلب العماد فعُمّد) لا نجد إثراً لتدخّل الله. ماذا تعني هذه البنية؟ هناك جوابان.

الأول: إن تدخّل الله يُحدث أمراً لم نسمع به ولا نتوقّعه: وزير خصيّ، إذن حُرم من المشاركة في شعائر العبادة (تث 23:2)، قد استُقبل في رغبته بأن يفهم الكتب المقدّسة، وضُمّ إلى شعب العهد بواسطة المعموديّة. وتدخّلُ الله الصريح يدلّ على أن تجاوز شريعة موسى لم يكن »وقاحة« مسيحيّة، بل عمل الله ذاته.

الثاني: حين جلس فيلبس تجاه الخصيّ، أخذ يفعل وحده. كان الروح قد دفعه (آ 29)، فأفهمه أنه يستطيع أن يشهد. ولكنه الآن يفعل وحده. لا نور ولا ملاك يعلّمانه كيف »يبشّر بيسوع« (آ 35). ولا انخطاف يُملي عليه القرار بأنّ يعمّد الخصيّ. فمبادرة الشاهد هي تامّة. وكرازته تستند (آ 35) إلى نصّ أش 53:7 - 8. فالله لا يُملي على المرسلين كرازتهم في أي موضع من أع. بقدر ما ضغْطُه على الأحداث يكون قوياً، بقدر ذلك تنبثق كلمةُ المرسلين من مسؤوليتهم الشخصيّة.

وبمختصر الكلام، إن تدخّل الله (من خلال ظهوره) يخلق إطاراً لا نتوقّعه، إطاراً تلعب فيه مسؤوليّة الشاهد الذي يفسّر الحدث ويسمّي صاحبه، دوراً كبيراً. فكأني بإله أع ينظّم اللقاء بوسائل تفوق الطبيعة، ثم يتراجع تاركاً العمل للشاهد. فالتاريخ لا يصبح تاريخ خلاص إلا ساعة يَقبل البشر بالدخول في الدور الذي يدلّهم الله عليه. مع العلم أنّ الله لا يحرمهم من مسؤولية الكلمة والعمل الشاهد.

* أع 10 - 11

إن خبر لقاء بطرس مع كورنيليوس(31) يتسجّل في هذه النظرة، وكذلك اهتداء بولس على طريق دمشق. حين ألّف لوقا خبر بطرس مع كورنيليوس (10:1؛ 11:18؛ 15:7 - 11)، وصل في الفنّ الاخباري الى القمّة. وهذا ما نكتشفه من خلال كثافة التقنيّات المستعملة: تداخل مسيرَتي بطرس وكورنيليوس بواسطة تصالب الخطب (10:1 - 33). لقاء في الرؤى يستبق مواجهة بين الاثنين (10:5 - 6، 22). وعيُ بطرس المتدرّج للحدث، وهذا ما نكتشفه خلال المرات الأربع المتعاقبة التي فيها تكلّم (10:28 - 30؛ 10:34 - 40؛ 11:5 - 17؛ 15:7 - 11)

هذا النجاح في البناء الاخباريّ يُفهم مرمى المقطوعة في عقدة الكتاب: أعلم الله بطرسَ بواسطة الرؤية التي تضمّ جميع الحيوانات، أنه يهدم الحواجز القديمة بين الطاهر والنجس (10:13 - 15). وإذ أراد لوقا أن يُبرز خيار الله الذي يفتح العهد للوثنيين، عاد إلى الوسائل الفائقة الطبيعة: رؤية (10:3). انخطاف (10:10). بلاغ من الروح (10:19). حلول الروح (10:44، 46). وكل هذا لكي يحطّم مقاومة بطرس للروح(32).

* أع 9

هذه المتتالية الاخباريّة تستحقّ أن نقرّبها من خبر اهتداء شاول (بولس) في ف 9، مع قراءة ف 22 و26. هي ذات التقنيّة الاخباريّة: تداخل (9:10 -1 7)، رؤيتان (9:10 - 12)، قراءات متعاقبة يقوم بها بولس للحدث (9:20؛ 22:6 -21؛ 26:12 - 23).

+ ولكن التقارب بين 10:11 وف 9 يفرض نفسه بشكل خاص على مستوى المواضيع

-    الله يقوم في الحالتين باختيار لم يُسمع به، باختيار يبلبل الجماعة: شاول عدوّ المسيح، كورنيليوس الذي ليس بيهوديّ.

-    تجلٍّ تيوفاني يجعل الشخص ضائعاً (9:9) أو متحيّراً.

-    مبادرة جديدة من الله بارسال أشخاص (9:17؛ 10:17 ب - 20) مكلّفين بواسطة رؤية (9:10، 12؛ 10:5 - 8). فالرب تراءى لحنانيا وقال له في رؤية. وكذا كان الأمر بالنسبة إلى بطرس الذي وجب عليه أن يذهب إلى كونيليوس.

-    مقاومة المبادرة الالهيّة من أشخاص ما كنا لننتظر منهم أن يقاوموا. من حنانيا وبطرس اللذين يمثّلان جماعة المؤمنين (9:10 - 13 -1 4؛ 10:17).

-    اندماج الشخص الذي اختاره الله (بعد أن كان على الهامش) في الجماعة.

+    وتتوجّه الخاتمتان بشكل مختلف.

-    كُشفت دعوةُ شاول لحنانيا لا لشاول (9:15 - 16) صاحبها، وهي تستمرّ عبر الخبر. أما بطرس فاستخلص النتيجة (اندماج كونيليوس) أمام جماعة أورشليم (15:7 - 11).

-    عرف شاول انقلاباً في مصيره. من مضطهد (بكسر الهاء) صار مضطهد (بفتح الهاء). أما مبادرة بطرس فتتثبّت بحلول الروح (10:44 - 48).

في الحالتين، حوّل الله التاريخ بخيار مدهش يتجاوز مقاومة الكنيسة. فتكون نتائجه هامّة على وليْ الخبر. فلوقا هو الكاتب الوحيد في العهد الجديد الذي عرض في الخبر كيف صار إله الآباء إله الكون، الاله الشامل. ولكن كيف تتمّ هذه القراءة اللاهوتيّة؟ وكيف فُسّرت هذه الأحداث المدهشة على أنها مجيء إله الجميع وإله كل واحد؟

+    هنا أيضاً، نسيرُ من الضمني إلى الواضح بواسطة خطبة الشاهد. وهذا ما نكتشفه في أع 10 - 11.

-    10:13 - 14. أمر بطرس بأن »يذبح ويأكل«، فأجاب برفض تقيّ.

- 10:15 - 17. أعلن الصوت السماوي: »ما جعله الله طاهراً لا تدْعُه أنت نجساً«. هذا الاعلان لم يُقنع بطرس، بل جعله في حيرة.

- 10:22. أعلن مرسلو كورنيليوس أن ملاكاً قديساً كشف لهم أنهم سيسمعون »أقوالاً« (ريماتا في اليونانيّة، أقوال وأحداث) من قبل بطرس.

+ ويجيء كلام بطرس فيفسّر بشكل تدريجيّ الحدث:

- 10:28. اكتشف (آ 27 ب) بطرس أناساً كثيرين، فطبّق رؤية الطعام على العلاقات البشريّة: »أفهمَني الربُّ الآن أن لا أقول عن أحد إنه نجس أو دنس«.

- 10:34. وسّع بطرس نظرة شموليّة الله إلى كل من يمارس البرّ في كل أمّة: »علمت أن الله لا يحابي الوجوه، لا يفضّل أحداً على أحد«.

- 10:47. فسّر بطرس التكلّم بلغات في بيت كورنيليوس على أنه علامة من الروح يسمح له بأن يعمّد هذا الوثنيّ وأهلَ بيته.

- 11:17. قابل بطرس عمل الروح مع »الموهبة المجانيّة التي جعلها الله لنا«.

- 15:8. وسّع بطرس موضوع تنقية القلوب بالإيمان.

+    وبمختصر الكلام:

-    انتقل بطرس من الضمني إلى الواضح، فسمّى الله. هذه الطريقة تظهر حين نقرأ اسم الله كفاعل الأفعال في خطبة بطرس(33).

-    اكتسبت كلمة بطرس بشكل تدريجيّ عُمقاً لاهوتياً.

-    وعملت الصياغة اللاهوتيّة عبر التبادل بين الأشخاص ومسؤوليّة الشاهد.

+  ونلاحظ صورة مماثلة في أع 9؛ 22؛ 26(34).

9:3 -8 . جاءت التيوفانيا (الظهور الالهي) فطرحت بولس على الأرض وأعمته.

9:9 جعلت الصدمة بولس لا يعود يتمالك نفسه.

9:17. وضع حنانيا يديه عليه ليشفيه من عماه، ويملأه من الروح القدس. ولكن لماذا؟

+ وستجيء خطبة بولس وتفسّر الحدث بشكل تدريجيّ:

9:20، 22. أعلن شاول أن يسوع هو ابن الله والمسيح. وروى برنابا كيف شاهد شاول الرب الذي كلّمه (9:27).

22:14. روى بولس أمام شعب أورشليم أن إله الآباء دعاه ليكون شاهداً أمام جميع البشر.

22:18، 21. روى بولس كيف ظهر له الرب في الهيكل ليرسله إلى الأمم.

26:16 - 18. أعلن بولس أمام أغربيا أن يسوع كشف له سبب ظهور له: أن يرسله ليردّ الوثنيين فيؤمنوا به.

+    وبمختصر الكلام:

-    انتقل بولس من الضمني إلى الواضح فسمّى يسوع. وعبّر الخبرُ عن هذه الطريقة بالدور الناشط الذي أعطيَ ليسوع في الحوار مع بولس (22:10، 17 - 21؛ 26:15 - 18).

-    تأكّدت دعوة بولس وتثبّتت عبر 9:15 - 16؛ 22:14 - 15، 18 - 21؛ 26:16 - 18.

-    إن التركيز على الحوار بين بولس ويسوع يترافق مع امّحاء تدريجيّ لدور حنانيا (9:10 - 17؛ 22:12 - 16. ويغيب كلياً من ف 26).

+    تأتي التيوفانيا وتليها الخطبة التي توضحها. هل نحن أمام أسلوب سرديّ وإخباريّ؟ بل نحن أمام بنية لاهوتيّة؟

ففي تقديم التيوفانيا وكلمة الشاهد، كان لكل عنصر وظيفة خاصة. فالتيوفانيا تبيّن أن المبادرة تجيء من الله، وطابعها غير متوقّع، كما لم يُسمع بخياراتها من قبل. تبدو بشكل لغز وتفرض على المؤمن أن يعرف كيف يقرأها. وما يلفت النظر، هو أن الراوي لا يقول: »صنع الله«. »قال الله«. بل يسلّم هذا الاعلان إلى أحد أشخاص الخبر، مبيّناً أن قراءة الحدث قد لا تصل إلى اليقين. نحن هنا أمام خفرَ الله، وهذا ما يدلّ على اللاهوت الذي يستقي منه لوقا: لاهوت الإله الخفيّ الذي يكشف عن نفسه حين يحتجب والذي ينبغي على كلمة الشاهد أن تخرق لايقينه. لسنا أمام لاهوت البشر، بل أمام لاهوت الوحي الذي يجعل لوقا قريباً من التيار الحكميّ والجليانيّ الذي نجده في المعين(35). لا يُلفظ اسم الله إلا بعد الحدث. ولا يُلفظ بشكل مباشر، بل بواسطة كلمة تدلّ عليه.

وهذا التركيز لكلمة الشهود على الله، يترافق مع ظاهرة أخرى نتناساها مراراً: التركيز على الله في خطب أع. فاللاهوت الذي يُشرف على خطب أع لا يرتكز على المسيح، وهذا ما كنا ننتظره، وعمل الكنيسة هو امتداد لعمل المسيح: فحين تذكر الخطبةُ المسيحَ، فهي توجّه أنظارنا بشكل عام إلى عمل الله(36). ففي أع 2، أنشد بطرس الله الذي أقام يسوع كما أنبأ داود بقيامته. في أع 3 تشير الكلمة إلى الله الذي يقيم بواسطة المسيح »أوقات الراحة« (آ 20). وانطلق اسطفانس (ف 7) من إله ابراهيم وموسى ويوسف فوصل إلى يسوع الذي تحمّل دوماً خيانةَ شعبه. في 10:34 - 43، أعلن بطرس أن الله لا يحابي الوجوه. وتحدّث بولس في ف 13، في انطاكية بسيديّة، عن الله الذي أتمّ مواعيده للآباء مانحاً شعبه القضاة والملوك ومخلّصاً. وفي لسترة (ف 14) هو الله الخالق يُغدق حسناته على البشر. وفي أثينة (ف 17)، هو الله أصل كل حياة، فلا نبحث عنه بين الأصنام.

إن ما ترمي إليه خطب أع، هو أن تحرّك الإيمان بالله كشف في النهاية رحمته (اودوكيا. رضاه) لاسرائيل بحسب مواعيد الكتب المقدّسة، في إرسال الابن وقيامته. فالمتكلّم في أع يدعو الناس للتوبة(37) إلى الله، لا إلى المسيح.

ولكن عمّ يجب أن نتوب؟ هناك لفظة تنطبق على اليهود (3:17؛ 13:27) وعلى الوثنيين (17:30): الجهل(38). هي لا تدلّ على الجهل بالمعنى العام، بل على سوء تفاهم حول الله. نحن أمام سوء التفاهم اللاهوتيّ الذي يجب أن تُزيله كلمةُ الشاهد. هذا »الجهل« هو مقولة سوتيريولوجية (تتحدّث عن الخلاص) عند لوقا. إنه يدلّ على خطأ اليهود بالنسبة إلى المسيح (3:17) وضلال البحث الديني في العالم الهلنستيّ (17:30). إذن، هذا الجهل ينطبق على كل انسان. يجب أن نقول عن جميع البشر إنهم لا يدرون ما يفعلون (لو 23:34)، بل يجب أن نقول أيضاً إنهم يجهلون (لا يعرفون) الله. إذن، لا يمثّل الجهل (أغنويا) اللوقاويّ ضعفاً عابراً بل نقصاً سوتيريولوجياً يجب أن تزيله خطبةُ الشاهد في تفسيره لله الذي يكشف عن عمله الاسكاتولوجيّ في شخص يسوع.

وهكذا، بعمل فيلبس في السامرة (ف 8)، باهتداء بولس (ف 9)، ولقاء بطرس وكورنيليوس (ف 10 - 11)، بيّن لوقا كيف أن الله يجعل التاريخ يتقدّم بهزّات غير منتظمة ليفتح لكل انسان كلمةَ الخلاص. سار صاحب أع في خط المؤرّخين اليهود، فصوّر الله كشخص يريد أن يُعرَف ولكنه يختبئ عبر أحداث التاريخ. »الله« لا يتكلّم، بل هو يُحمَل على مستوى اللغة بكلمة الشاهد. لهذا يتوسّع لوقا في لاهوت الكلمة، لأنها هي التي عبر خطبة الشاهد، ترفع الغطاء عن الله الخفيّ، وتجعل الانسان يعبُر من سوء التفاهم إلى المعرفة. هذا التوالي بين الخبر الذي يصوّر التاريخ، والخطبة التي تفسّر عمل الله في قلب التاريخ، يقدّم بشكل ملموس خبر تحرّك الرسالة اللوقاويّة. ويوضح أيضًا دورَ اعتراف إيمان الشاهد الذي يقدر وحده أن يوضح في فوضى التاريخ، علاماتِ عمل الله الاسكاتولوجيّ.

ج - الوظيفة التفسيريّة: الله يكشف معنى التاريخ

إن تدخّلات الله في أع تلعب وظيفة برنامجيّة أو إتماميّة. ولكن قد تقع بعد الأحداث لكي تبرّرها، أو تثبّتها أو تدلّ على مرماها. فعودة الخبر تساعد القارئ على التحقّق ممّا رُوي له.

سبق لنا ولاحظنا تدخّلات إلهيّة استعاديّة(39). فبعد عماد وزير الحبشة، خطف روحُ الرب فيلبس فاختفى (8:29). هذه الطريقة المدهشة لا ترضي فقط اهتمامنا بما هو عجيب، بل تُفهم القارئ قرار الله المدهش الذي هو ادخال خصيّ في العهد. وهناك تدخّل آخر استعاديّ: حلّ الروح القدس في بيت كونيليوس فقطع على بطرس حديثه (10:44 - 45). هذه »الضجّة« التي دلّت على موافقة الله، تدلّ في نظر محيط بطرس اليهوديّ، على أهميّة خطبة بطرس التي جعلت الوثنيين يَنعمون بغفران الخطايا (10:43). حينئذ جاء قرار العماد يؤكّد القرار الإلهي (10:47).

في أع كما في ف 10، كان للتدخّل التيوفاني بعد الحدث دورٌ شرعيّ يستعيد منطق المفارقة الذي هو منطق طرق الله. وتجاوزُ الحدود التي يشارك فيها فيلبس (مع الخصيّ) وبطرس (مع الوثنيّ)، والتي بدأت مع تدخّلات الله السابقة، هذا التجاوز جاء ما يثبّته، فأعطى القارئَ اليقينَ أن مسيرة توسيع العهد قد أرادها الله ذاته وحقّقها بواسطة الشهود.

وهناك تدخّل آخر مصدّق، رؤية اسطفانس خلال استشهاده. وهذا التدخّل هو في خدمة منطق المفارقة: »هاءنذا أرى السماوات مفتوحة وابن الانسان قائماً عن يمين الله« (7:56)(40). ولكن، لماذا انفتحت السماوات؟ هنا نتوقّف على مستويين. على مستوى التاريخ المرويّ، حرّكت رؤيةُ اسطفانس غضبةَ القتل لدى أعضاء السنهدرين الذين »أصمّوا آذانهم« فأخرجوه من المدينة ليرجموه (7:57 - 58). فانخطاف اسطفانس يعلن قيامة المصلوب. وعلى مستوى تدوين الخبر، إن استعمال »ابن الانسان« صدى لإعلان يسوع في محاكمته (لو 22:69). ولكن الرؤية لا تقدِّمُ حالاً ما يعلّلها. فسوف ننتظر بضع آيات، لنسمع قولين لاسطفانس يُسندان التوازي بين الاستشهادين: »أيها الرب يسوع تقبّل روحي« (7:59 ب؛ رج لو 23:46). »يا ربّ، لا تُقم عليهم هذه الخطيئة« (7:60 ب؛ رج لو 23:34). وهكذا نفهم المفارقة: إن تذكّر مجد يسوع عن يمين الله، لا يجعل الشاهد يُفلت من الموت، بل يقوده إلى الموت فيُثبت طرح اسطفانس حول مقاومة الروح القدس التي ما زالت حاضرة لدى اليهود (7:51).

بيد أن موت اسطفانس الذي أشعل الأزمة بين سلطات أورشليم والرسل (أع 3 - 7)، هو في الوقت عينه نموذج لوضع الشاهد ليسوع. فالقارئ يعرف بعد اليوم، أن إعلان الانجيل لا يفتح الطريق أمام مصير يختلف عن مصير المعلّم. ويؤكّد انخطاف اسطفانس على توافق بين استشهاده وآلام يسوع. لا يموت اسطفانس فقط من أجل يسوع، بل يموت مثل يسوع. وهذا التحقّق يمتدّ أيضاً إلى ولْي الخبر، لأنه يضع أمامنا المنطق الالهي للشهادة: من يعلن الانجيل، لينتظرْ أن يتألّم.

وشاول الطرسوسي الذي انتقل من دور المضطهِد إلى دور المضطهَد، سيختبر هذا الواقع حالاً (9:19 ب - 30). فرؤية الرب التي نعم بها في أورشليم (23:11)، تلعب وظيفة العودة إلى الوراء (طب نفساً! فكما شهدت لي في أورشليم) والنظرة إلى الأمام (كذلك يجب أن تشهد في رومة أيضاً). من جهة، هذا البلاغ يثبّت صحّة خطبتي بولس في أورشليم (22:1 - 21؛ 23:6) رغم الفوضى التي أثارتاها. ومن جهة ثانية، هو يستبق النداء إلى القيصر الذي سيقدّمه بولس (25:11)، والذي يتسجّل قبل الوقت في مخطّط الله.

ويُطرح سؤال: إذا كان ضغط الله بهذا الثقل، أما يُصبح البشر دُمى تحرّكها يدٌ بعيدة؟ إن برمجة الله للأحداث قد بدت حتى الآن قويّة جداً، لأنها تختتم أحداث التاريخ من كل جهة (قبل، خلال، بعد). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، تكون مسؤولية الشاهد في صياغة شهادته تامّة. فكيف يقدّم لوقا هذا الانشداد؟ فهل تكون حريّة الشاهد وهماً وسراباً؟

لا نجد تفكيراً منهجياً عند لوقا في هذا الشأن، ولكن قراءة الخبر تقدّم لنا بعض الإشارات. برّر بطرس عماد الوثنيّين عند كورنيليوس قائلاً: »فمن أكون أنا حتى أمنع الله من أن يعمل« (11:17 ب؛ رج 10:47)؟ وكان خصيّ ملك الحبشة قد استعمل الفعل عينه (8:36: ما الذي يمنع؟). فعلى مسرح التاريخ، تتوزّع الأدوار بشكل واضح: الله يبادر وعمل الانسان يتبع. وعى التلاميذ أن لهم مكانتهم في تدبير إلهيّ قرأه الوثنيون بشكل عناية (17:26 - 28)، واليهود بواسطة الكتب المقدّسة. وفي أنطاكية بسيدية برّر بولس حقّه بأن يوجّه موعد الخلاص إلى الوثنيين (اللايهود) بالاستعانة بما في أش 49:6: »أقمتُك نوراً للأمم لتحمل الخلاص إلى أقاصي الأرض« (13:47). وفي أورشليم، عرض بولس وبرنابا »الآيات والمعجزات التي أجراها الله على أيديهما لدى الوثنيين« (15:12). وهذا ما أتاح ليعقوب أن يرى في الانفتاح على اللايهود، بالاستعانة بما في عا 9:11، تعبيراً عن إرادة الله التي لا تتبدّل (15:13 - 14). لعب الكتاب هنا دور التأكيد الاستعاديّ، ولكنه تدخّل في الدرجة الثانية، كوسيلة أخرى، بعد أن تكون العلاقات التيوفانيّة قد حصلت.

إن هذا التقارب بين دور الكتاب ودور العلاقات التيوفانيّة، يتيح لنا أن نقدّر بُعد الطابع الاستعاديّ: هناك توازن بين التدخّل البرنامجيّ، وعمل الشهود. قدّم لوقا في لحظة واحدة تدخّل الله في التاريخ وقرار البشر، دون أن يجد تعارضاً بين الاثنين. وهكذا استطاع أن يتحدّث في آيتين متتاليتين عن انطلاق بولس وبرنابا كوفد جماعة أنطاكية (13:3) وكإرسال الروح القدس (13:4). فالروح لا يقطع الطريق على تدخّلات البشر، بل يستعمل الوساطات البشريّة التي تتجاوب مع دفعه في الصلاة (13:3).

وحتى مقاومة الانجيل قد دخلت في مخطّط الله. وهذا ما يدلّ عليه إيراد أش 6:9 - 10 في نهاية سفر الأعمال (28:26- 27). ومع ذلك، فمنذ ف 3، عرض الخبر كيف أن اليهود انغلقوا كلياً على نداءات بطرس واسطفانس وبولس. ونهاية أع لا تدلّ على حريّة المقاومين وكأنها وهم وسراب. بل تبيّن أن فشل بولس في رسالته لدى اليهود قد تسجّل في تقليد فشل نبويّ في قلب الشعب، وخدم مخطّط الله بأن يقدّم الخلاص إلى أبعد من اسرائيل (28:28). وهكذا ندرك لدى قراءة هذا المثل، كيف جمع لوقا قدرة الله وحريّة البشر، دون أن تقتل الواحدة الأخرى ودون أن تسحق العناية الالهيّة مسؤوليّة الأفراد. فالحريّة البشريّة باقية أقلّه حين تَرفض، حين تقول كلاّ لنداء الله.

بالنظر إلى هذا المبدأ، لا يختتم لوقا مسألة اسرائيل في نهاية مؤلّفه: نحن نرى فشل الرسالة لدى اليهود (28:28)، وضياعَ كل أمل بتوحيد الشعب حول يسوع (28:25). ولكن مستقبل شعب ابراهيم ما زال معلّقاً. ويرتسم وجهُ الكنيسة في نهاية أع بسمات بيت بولس المفتوح على كل من يدخل إليه (28:30). فيستند إلى الكتاب المقدّس ويبحث في التاريخ كيف يجتمع اعلان »ملكوت الله« مع الجديد الذي يقدّمه بولس عن »الربّ يسوع المسيح...«(41).

خاتمة

وهكذا اكتشفنا ثلاثة أمور في حديثنا عن الله في أع.

الأول: ليس الله يقيناً. هناك لغتان استعلمهما الكاتب للحديث عن الله. لغة (ضمنيّة) تحيلنا إلى الله عبر العلامات التيوفانيّة. ولغة تسمّي الله بشكل واضح صريح، ولكنها لا تَظهر في الخبر إلاّ من خلال خطبة المؤمن. في الخبر، لاهوت الله الخفيّ: إله نصل إليه عبر سوء التفاهم، وهو يطلب وساطة كلمة الوحي ليُعرف. جاء الله إلى العالم بكلمة مرسليه. إذن، ليس هناك من وسيلة لصاحب أع بأن يروي تاريخ الله سوى أن يروي تاريخ مرسليه.

الثاني: يعمل إله لوقا في التاريخ ليسجّل فيه مخطّطه الذي هو تقديم الخلاص إلى كل انسان. مبادرة توجيه التاريخ تخصّ الله دائماً. أما مسؤوليّة الشاهد فالدخول في منطق الخلاص. هذا لا يعني أن الحريّة البشريّة تُلغى، ولو كانت حريّة مقاومة تدخّلات الله. وهكذا نفهم الجدليّة المدهشة في خبر أع، حيث الالهي والبشريّ يلتقيان ويتماذجان في وساطات متنوّعة بحيث يصبح التاريخ تاريخ خلاص.

الثالث: تُكتشف »فلسفة« الله في كل صفحة من أع. فإن ظلّ البشر أحراراً في أعمالهم، فهم يجهلون نتائجها. فغملائيل الذي يرافع عن الرسل، وقوّاد أفسس الذين يسجنون بولس وسيلا، وكلوديوس الذي يقود بولس إلى قيصرية، كلهم لا يعون أنهم يشاركون في مخطّط الله. ففلسفة الله تقوم بأن تجعل حتى تصرّفات أعدائه تعمل من أجل تقدّم الكلمة »حتى أقاصي الأرض« (1:8).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM