الفصل الثالث عشر: وجود الأنبياء وغيابهم في شعب الله

الفصل الثالث عشر:

وجود الأنبياء وغيابهم في شعب الله

حين نجول في الكتب المقدَّسة، نلاحظ بسهولة أنَّ الأنبياء لم يلاقوا الكثير من النجاح، وفي شكل عامّ لم يستقبلهم شعبُهم الاستقبال اللازم. فعاموس طُرد. قال له أمصيا:

وأيُّها الذي يرى رؤى،

أهرب إلى أرض يهوذا،

وهناك تنبَّأ وكُلْ خبزك.

وأمّا بيت إيل،

فلا تعُدْ تتنبَّأ فيها

لأنَّها معبد الملك وبيت ملكه (عا 7: 12-13).

أمّا إرميا فجُعل في السجن:

»فدخل إرميا سراديب السجن، وأقام هناك أيّامًا كثيرة« (37: 16). ولمّا دعاه الملك صدقيّا، قال له النبيّ: »بماذا خطئتُ إليك وإلى رجالك وإلى هذا الشعب حتّى ألقيتموني في السجن؟« (آ18). وأيُّ سجن كان لهذا النبيّ! »فأخذوا إرميا ليلقوه في جبِّ ملكيّا ابن الملك (أو: رئيس الحرس) في سجن القصر، فدلّوه بحبال، وكان في الجبِّ وحلٌ ولا ماء فيه، فغاص إرميا في الوحل« (38: 6).

فمتسلِّمو السلطة وجدوا أكثر من وسيلة لكي يفرضوا الصمت على الأنبياء. ذاك كان وضع ميخا بن يملة حين سُئل قبل الذهاب إلى الحرب: »تقدَّم صدقيّا بن كنعنة (كاهن الملك)، ولطم ميخا على فكِّه« (1مل 22: 24). أمّا ملكُ إسرائيل فقال لأحد رجاله: »خذ ميخا وسلِّمه إلى أمون حاكم المدينة وإلى الأمير يوآش، وقل هذا ما أمر به الملك: ضعوا ميخا في السجن وقدِّموا له قليلاً من الخبز والماء« (آ26-27).

أمّا الشعب فما كانوا أكثر استعدادًا من الملك لقبول كلام الأنبياء، قال عاموس:

»وأقمتُ من بينكم أنبياء،

ومن شبّانكم نذيرين...

لكنَّكم سقيتم النذيرين خمرًا

وأمرتُم الأنبياء بأن لا يتنبَّأوا« (عا 2: 11-12).

في الخطِّ عينه قال أشعيا:

يقولون للذين يرون رؤى:

لا تروا

وللأنبياء،

لا تتنبَّأوا لنا بالحقّ

بل كلِّمونا كلام النفاق

واجعلوا رؤاكم خداعًا (أش 30: 10).

وهدَّد رجال عناتوت إرميا: »لا تتنبّأ لئلاّ تموت« (إر 11: 21). وقال زكريّا:

لا تكونوا كآبائكم

الذين ناداهم الأنبياء الأوَّلون:

توبوا عن طرقكم الشرّيرة...

فما سَمِعوا ولا أصغوا« (زك 1: 4).

أمّا الطريقة الفضلى للتخلُّص من رجال الله هؤلاء، فهو قتلهم(1) على ما قال الربُّ يسوع:

يا أورشليم، يا أورشليم،

يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها.

كم مرَّة أردتُ أن أجمع بنيك

كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها (مت 23: 37).

لهذا، نحن نفهم بسهولة لماذا لم يكن الأنبياء محبوبين، فهم يُقلقون الناس ولو في قلب العيد. والمسؤولون، الدينيّون والسياسيّون، ما كانوا ليحتملوا انتقاداتهم اللاذعة، كما قال عاموس لنساء السامرة: »يا بقرات باشان، تظلمن الفقراء وتسحقن البائسين« (عا 4: 1). أمّا الشعب فما كان مستعدٌّا لكي يجعل سلوكه موافقًا لمتطلِّبات التوبة التي يعظ بها رجالُ الله هؤلاء. من كلِّ هذا نستطيع أن نستنتج أنَّ الأنبياء لم يكونوا موقَّرين في شعبهم، بحيث حاول السامعون أن يتخلَّصوا منهم قائلين: »ما أسعدنا بدون الأنبياء«. ذاك ما حصل لإيليّا. رفضه شعبه، ودعاه الملك آخاب »عدوِّي« (1 مل 21: 19). ولولا العرب، شرقيّ الأردنّ، الذين ذبحوا له الذبائح وكانوا يحملون له اللحم والخبز في الصباح والمساء، ولولا الأرملة في صرفت صيدا، لربَّما كان مات جوعًا. أمّا الملك فرأى في إيليّا مُقلقَ إسرائيل.

في مثل هذا المناخ، نحن ندهش حين نجد سلسلة من النصوص التي تنتحب لغياب الأنبياء(2). فخلال الحقبة التي سبقت أشعيا أو إرميا وحزقيال، أبرز الكتابُ المقدَّس ندرة الأنبياء، فتأثَّر الشعب بذلك:

»في ذلك الزمان، كانت كلمة الربِّ نادرة، والرؤى قليلة« (1 صم 3: 1). فالنبيّ هو الذي »يرى« الربّ ويتكلَّم باسمه. وخلال التيّار النبويّ الواسع، أعلن الأنبياء مسبقًا غياب الأنبياء. قالوا: لن يُرسل الربُّ بعدُ أنبياء إلى شعبه الخائن. عقاب غريب! مثل هذا الإنباء يُرضي الشعب، بحيث لا يُزعجهم أحد. وفي النهاية، حين صار الأنبياء نادرين أو هم غابوا، بكى شعب إسرائيل على غيابهم. قال كتاب المكابيّين: »فحلَّ بإسرائيل ويلٌ عظيم لم يعرفوا مثله منذ اليوم الذي لم يظهر فيهم نبيّ« (1 مك 9: 27). فأولئك الذين ما عادوا يريدون أنبياء، ها هم الآن يشتكون ويريدون أن يكون لهم. بل هم ينتظرون متضايقين مجيء نبيٍّ إليهم.

فبعد تطهير الهيكل على أثر تنجيسه بيد أنطيوخس الرابع إبيفانيوس سنة 167 ق.م.، ما عادوا يعرفون ماذا يفعلون بالحجارة المقدَّسة وأين يضعونها (1 مك 4: 43). »فوضعوها في موضع لائق، على تلَّة الهيكل، إلى أن يظهر نبيٌّ يُبدي رأيَه في شأنها« (آ46). ولمّا ضاع الكهنوتُ المتفرِّع من صادوق، ارتضى الشعب أن يكون سمعان المكابيّ »رئيسًا لهم وكاهنًا أعظم مدى الحياة، إلى أن يقوم نبيّ أمين يقودهم...« (1 مك 14: 41-42). أمّا ظهور الموهبة النبويَّة من جديد، فتكون إحدى الوجهات في مواعيد تعلن إعادة بناء الشعب(3). ولكن لماذا طلبُ هؤلاء المقلقين؟ قال أشعيا:

وقال الربّ:

أمّا أنا فها عهدي معك،

روحي الذي عليك،

وكلامي الذي قلته على لسانك

لا يزول من فمك،

ولا من فم نسلك،

ولا من فم نسل نسلك

من الآن وإلى الأبد (أش 59: 21).

وفي الخطِّ عينه تحدَّث النبيّ هوشع:

أنا الربُّ إلهك مذ كنتم في أرض مصر،

أسكنكم في الخيام كما في أيّام عيد المظالّ

فأكلِّم الأنبياء وأُكثر من الرؤى

وعلى ألسنة الأنبياء أمثِّل الأمثال (هو 12: 10-11).(4)

ونحن لا ننسى ما قاله النبيّ يوئيل، فردَّده بطرس في أعمال الرسل (أع 2: 16-21).

أفيض روحي على كلِّ بشر،

فيتنبَّأ بنوكم وبناتكم

ويحلم شيوخُكم أحلامًا

ويرى شبّانكم رؤى (يوء 3: 1).

بعد هذه المقدِّمة الواسعة، نودُّ أن نتفحَّص الأقوال التي تعلن زوال الأنبياء كأنَّه قصاص من لدنه تعالى. ثمَّ نقرأ التشكِّيات التي فيها يشتكي الشعب لغياب النبوءة والأنبياء. وفي النهاية، نتأمَّل في مدلول صمت الله هذا.

1- غياب الأنبياء عقاب

قدَّم عاموس، أوَّلُ الأنبياء الذين تركوا لنا كتابات، قولاً واضحًا جدٌّا(5) وقاسيًا (8: 11-12):

11    تأتي أيّام، يقول السيِّد الربّ،

أرسلُ فيها الجوع على الأرض

لا الجوع إلى الخبز

ولا العطش إلى الماء

بل إلى استماع كلمة الربّ.

12    فينزحون من بحر إلى بحر

ومن الشمال إلى المشرق يطوفون

في طلب كلام الربِّ فلا يجدون.

الربُّ نفسه يفعل: »أُرسل«. هي صيغة المزيد من فعل »ش ل ح«. لا نقرأها سوى خمس مرَّات في الكتاب المقدَّس كلِّه. وفي كلِّ حالة، الربُّ هو فاعل الفعل، والمفعول هو ضربة ينالها الشعب(6). هذا يعني أنَّ الفعل قاسٍ جدٌّا. هو الربُّ يضرب ضربة لا يُقال لنا بصراحة ضدَّ مَن، غير أنَّ السياق يشير إلى أنَّ الذي ينال الضربة هو مملكة إسرائيل بعاصمتها السامرة. تلك هي »الأرض« التي تنال الضربة. أمّا ضربة المجاعة والجوع والعطش، فتشكِّل العقوبات المعروفة التي يرسلها الربُّ لمعاقبة شعبه الذي خان العهد(7). وسبق لعاموس فتكلَّم عنها (4: 6: خواء البطون وعوز الخبز).

ولكن في النصِّ الذي نقرأ، الجوع المعلن هو من نوع آخر: »استماع كلمة الربّ«(8). وهذا الكلام يذكِّرنا بخبرة البرِّيَّة: »فأذلَّك (الربّ) وجوَّعَك ثمَّ أطعمَكم المنَّ الذي لم تعرفه أنتَ ولا عرفه آباؤك، حتّى يعلِّمك أنَّ الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكلِّ ما يخرج من فم الله يحيا الإنسان« (تث 8: 3). مثل هذا الجوع إلى غذاء الروح أشدُّ خطرًا من الجوع المادِّيّ، الذي هو أيضًا لا يُحتمَل.

في هذا الوقت من المجاعة، يتوسَّل الإنسان كلَّ الإمكانيّات ليتوصَّل إلى الحصول على بعض الطعام. وهكذا هنا أيضًا. فالإنسان يمضي، في يأسه، طالبًا كلام الله. هو يترنَّح، ينزعج، مثل العطشان (عا 4: 8، ليشربوا ماء فما ارتووا) أو مثل السكران (أش 24: 20: وتهوي كالسكران)، أو مثل الأعمى (مرا 4: 14ي). إنَّه جاهل، ضالّ (إر 14: 10). أضاع الاتِّجاه فما عاد يعرف إلى أين هو ذاهب: »من بحر إلى بحر«. أي، من البحر الميت إلى البحر المتوسِّط يطلب إسرائيلُ، ويواصل طلبه ولا يكلُّ، حتّى يبلغ ربَّما إلى أقاصي الأرض (مز 72: 8؛ زك 9: 10). يطوف تائهًا »من الشمال إلى الشرق«. فالبلدان المزدهرة والمجاورة لفلسطين، تقع إلى الشمال وإلى الشرق (دمشق، بلاد الرافدين). أمّا في الجنوب فالبرِّيَّة القاحلة. والجائع والعطشان لا يوجِّهان أنظارهما في هذا الاتِّجاه. يمضون من جهة إلى جهة وهم »طالبون«. فمن أضاع غرضًا متعلِّقًا به، يبحث عنه في كلِّ مكان، لأنَّه يريد أن يجده مهما كان الثمن. أمّا بحثُ إسرئيل فلبث بدون نتيجة: »فلا يجدون«. وعقاب الشعب لا يكون فقط في غياب الكلمة، بل أيضًا في استحالة العثور عليها.

إذا كانت آ13 (في ذلك اليوم، يُغمى على العذارى الحسان، وعلى الشبّان من العطش) تتوسَّع في الفكرة عينها، وإذا كان العطش الذي يتكلَّم عنه عاموس هو هذا العطش الروحيّ، فهذا يُفهمنا أنَّ إسرائيل تعبَ من هذا البحث، وخاب أملُه لأنَّه لم يجد. فماذا يفعل؟ هو يطلب شيئًا آخر يعوِّض به الغرض الذي أضاعه فيفبرك لنفسه آلهته الخاصَّة.

وقول عاموس هذا يبدو مهمٌّا حين نقرأه في مجمل بلاغ النبيّ. فعاموس وبَّخ الأجيال السابقة، لأنَّها منعت الأنبياء من الكلام. وهو نفسه من طرده معاصروه، لهذا فهمَ النبيُّ فهمًا أنَّ السكوت هو أفضل ما يفعل. »لذلك يسكت العاقل في ذلك الزمن، لأنَّه زمن رديء« (عا 5: 13). كلُّ هذا يدلُّ على الناس الذين ما طلبوا سوى التحرُّر من الأنبياء. فما يمكن أن يعني قول عاموس هذا؟ هو يعتبر أنَّ العقاب الكبير الذي به يعاقَب الشعب، هو أنَّ الربَّ لا يعود يتكلَّم. ولماذا فجأة، أناس رفضوا كلام الله في الماضي وما أرادوا أن يطلبوه، يهتمُّون بالبحث عنه في كلِّ مكان؟ كيفَ يبدون خائبين لأنَّهم ما وجدوه؟

لم يكن عاموس وحيدًا حين أعلن غياب النبوءة كعقاب من عند الله. فبين الذين جاؤوا بعده، كانت نبيئات(9) مشابهة. فهوشع اتَّهم الكهنة بخطاياهم، كما اتَّهم الأنبياء: »خصومتي معكم أنتم أيُّها الكهنة، تسقطون في النهار وفي الليل، ويسقط الأنبياء معكم« (هو 4: 5). وأخيرًا، يرتاح الناس من حضور الأنبياء. غير أنَّ هوشع يواصل كلامه: »لحقَ الدمارُ بشعبي لأنَّهم لا يعرفونني« (آ6). أو: هو صار صامتًا. بما أنَّ الكاهن يسقط والنبيّ معه، يُحرَم الشعبُ من المعرفة، ويسقط بدوره: »بيت أفرائيم يسقطون بإثمهم، ويسقط بيتُ يهوذا معهم« (هو 5: 5). وماذا تكون النتيجة؟ »يذهبون ومعهم غنمهم وبقرهم، يطلبون الربَّ فلا يجدونه، لأنَّه تخلَّص منهم« (آ6، أو: اعتزل عنهم. رج آ15: »أمضي راجعًا إلى موضعي).

استعاد هوشع جوهَرَ بلاغ عاموس، فراح يستعمل حتّى الأفعال عينها. ضلَّ إسرائيل فلم يَعُد له أنبياء يوجِّهونه. لهذا »طلب« الشعبُ الربَّ فما »وجده«. لا يوضح هوشع، على مثال عاموس، أنَّ موضوع هذا الطلب هو كلام الربّ. ولكنَّ النتيجة تبقى هي هي: ابتعد يهوه عنهم. ما عاد حاضرًا لديهم ولن يعود يكلِّمهم: صار صامتًا.

وميخا وبَّخ بعضَ الأنبياء لأنَّهم أضلُّوا الشعب(10)، فهدَّدهم بالعقاب الإلهيّ؛ لن يمنحهم الله بعدُ رؤى، ولا يجيب على أسئلتهم، »فيخزى الراؤون ويخجل العرّافون، ويعضُّون جميعًا على شفاههم، فلا جواب لهم من لدن الله« (مي 3: 7). شجبت النبيئةُ بشكل مباشر الأنبياء أنفسهم. نحن هنا أمام واحد من هذه النصوص الدقيقة والمعقَّدة حيث الكلام عن صراع بين الأنبياء. ولكن نكون من البساطة بمكان إذا جعلنا جميع »الرائين« في فئة الأنبياء الكذبة(11). لهذا نحتفظ من هذا النصّ أنَّ الله لا يجيب الأنبياء بعد. امتلأوا خزيًا، وفي النهاية، ما عادوا »أنبياء«. لهذا، لم يبقَ لهم شيء ينقلونه إلى الشعب الآتي إليهم (مي 3: 5). وهكذا نكون أيضًا أمام صمت الله.

ووصف إرميا كارثة قريبة بلغة المراثي:

إن خرجتُ إلى البرِّيَّة

رأيتُ القتلى بالسيف،

وإن دخلتُ إلى المدينة،

رأيتُ المرضى بالجوع

حتّى النبيّ والكاهن يطوفان في الأرض

ولا يعرفان ماذا يفعلان (إر 14: 18).

ما عاد الأنبياء يفهمون ماذا يحصل، ولا هم يُدركون معنى الأحداث. ما عادوا قادرين أن يفسِّروا علامات الزمن. بما أنَّ الله لم يعُد يكلِّمهم، فهم لا يقدرون أن يقولوا شيئًا للشعب. توقَّفوا، وما عادوا أنبياء. نلاحظ هنا أنَّ إرميا، شأنه شأن عاموس، ذكر أوَّلاً الجوع المادّيّ: يُعذَّب إسرائيل بالجوع. ولكنَّه يتعذَّب بشكل أقوى بجوع آخر: الاستماع إلى كلام الله.

وتحدَّث حزقيال عن العقاب نفسه، في وصف طويل لنهاية إسرائيل القريبة:

نكبةٌ على نكبة تأتي

وخبرٌ على خبر يرِد

فيلتمسون رؤيا من نبيّ

وما من رؤيا.

الكاهن يفقد الشريعة

والشيوخ الحكمة (حز 7: 26).

الشعب »يطلب« لدى الأنبياء رؤيا. ومع أنَّ حزقيال لا يعلِّمنا حول نتيجة هذا الطلب، يبدو أنَّه يصل إلى الفشل. وتُعلن هذه الآية أنَّ الكهنة والشيوخ عاجزون عن قيادة الشعب. ونستنتج أنَّ هذا ينطبق أيضًا على النبيّ، الذي لن يكون له رؤى، وبالتالي لن يكون بعدُ نبيٌّا. الله يصمت. واللافت أنَّ حزقيال يحدِّد موقع هذه الضربة وسط مجموعة من المحن. وإحدى الكوارث السابقة، هي المجاعة: »الذي في المدينة، يأكله الجوعُ والوباء« (7: 15). إذًا يكون هناك أوَّلاً جوع إلى الخبز، وأيضًا جوع إلى كلام الله، ذاك يكون عقاب الشعب بسبب خطاياه:

الملك ينوح

والرئيس يلفُّه الذهول

وأيدي الشعب ترتجف

على حسب سيرتهم أفعلُ بهم

وبمقتضى أحكامهم أحكم عليهم

فيعلمون أنّي أنا هو الربّ (حز 7: 27).

نستطيع أن نستنتج من هذه النصوص أنَّ عددًا كبيرًا من الأنبياء، بدءًا من أوَّل نبيّ، عاموس، حتّى أنبياء نهاية أورشليم، مثل إرميا وحزقيال، أعلنوا أنَّ الربَّ يعاقب شعبه حين يزولُ الأنبياء: فبكلِّ بساطة، لن يرسل يهوه بعدُ أنبياء. والذين دُعوا كذلك، يأخذ منهم الكلمة والرؤى والمعرفة، أي ما به يكونون أنبياء. وفي شكل أو في آخر، يكون الشعبُ بلا قيادة ويصير تائهًا. وإذا طلبوا كلام الله فلا يجدون. وهذا العقاب الذي شبَّهوه بالجوع الروحيّ، هو أقسى من الجوع المادِّيّ.

2- البكاء على غياب الأنبياء

حين صارت نبيئات (أقوال) الشقاء واقعًا، وغاب الأنبياء(12)، تألَّم شعب إسرائيل من صمت الله. وهذا اليأس يعبَّر عنه في سلسلة من المراثي.

عاش صاحب سفر المراثي في فلسطين، على ما يبدو، بعد دمار أورشليم. فصوَّر الكارثة التي رآها حوله. ولاحظ في تشكٍّ طويل (مرا 2: 9-10):

9     غاصت في الأرض أبوابُها

دمَّر وحطَّم أقفالها

ملكها ورؤساؤها في الغربة (بين الأمم)

ولا شريعة هناك (في المنفى لا يتكلَّم الله)

حتّى أنبياؤها لا يرون

رؤيا من عند الربّ.

10    شيوخ بنت صهيون

يقعدون على الأرض صامتين

ألقوا رمادًا على رؤوسهم

واتَّزروا بالمسوح.

فئات ثلاث من القوّاد الروحيّين صاروا صامتين، كما أعلن حزقيال ذلك (7: 26). لا وجود بعدُ للشريعة ولا للتعليم الآتي من عند الكهنة. فُرض الصمتُ على الأنبياء والشيوخ، وتُرك إسرائيل يقلِّع شوكه بيده. وما يؤلم الكاتبَ بشكل خاصّ هو صمت الأنبياء: »حتّى الأنبياء«. ما عاد الله يمنح »الرؤى« للأنبياء. إذًا، بقيَ أناسٌ يُدعَون أنبياء، لكنَّهم أنبياء بالاسم ولا موهبة نبويَّة حقيقيَّة عندهم. فكأنَّهم غير موجودين. وما هو أخطر من ذلك، لا »رؤى« بعد. هناك بحث، ولكنَّه بحث يصل إلى الحائط المسدود. وهكذا يُبرز الكاتب وجهةَ اليأس في هذا الوضع. ضمَّ الأنبياء في أقوالهم، الجوعَ الروحيّ إلى الجوع المادِّيّ، وكاتب المراثي، هو أيضًا يتكلَّم عن الجوع إلى الخبز (مر 2: 11-12):

11    كلَّت من الدموع عيناي،

وأحشائي امتلأت مرارة

كبدي انسكب على الأرض

لخراب بنت شعبي

الأطفال أغميَ عليهم

في ساحات المدينة

12    يقولون لأمَّهاتهم:

»أين الحنطة والخمر؟«

ويواصل الكاتب شكواه فيطرح الأسئلة:

20    أيُقتل الكاهنُ والنبيّ

في بيت مقدسك؟

وجاء المرتِّل بمرثاة شبيهة بالمراثي بمناسبة الحدث عينه:

لا نرى علامة ولا بقي نبيّ

ولا عندنا يعرف إلى متى (مز 74: 9)(13).

بدا الكاتب وكأنَّه يفهمنا أنَّه لم يعُد نبيّ، فظنَّ بعض الشرّاح أنَّ الذين يُدعَون أنبياء، غابت عنهم الموهبة النبويَّة. فالله لا يتكلَّم بعدُ في الأنبياء، ولا يعطي علامات كان يعطيها ليثبِّت بلاغهم. »لماذا؟« طرح المرتِّل السؤال مرَّتين. في آ1: »لماذا خذلتنا يا الله طويلاً؟«. وفي آ11: »لماذا تردُّ يمينك يا الله؟«. غاب الذين كان بمقدورهم أن يقرأوا الأحداث ويفسِّروا معنى المحن. وما يضيف الضياع على الضياع، هو أنَّنا نجهل كم تدوم هذه الحالة. أجل، بدون الكلمة النبويَّة، لا يعرف الإنسان كيف يتوجَّه.

في أقوال مشابهة، تطلَّع مرنِّم آخر إلى ماضي شعبه. فهو لا يستطيع أن يقبل بأن يكون الله رذل شعبه على الدوام.

أعلى الدوام انقضت رحمتُه،

وانقطعت مدى الأجيال كلمته(14) ؟ (مز 77: 9).

اشتكى الكاتب من غياب كلمة الله، وترجّى أن تعود هذه الكلمة. ونلاحظ التوازي بين »كلمة« الله و»أمانته«. فاللفظ »ح س د« يدلُّ على الصدق في الالتزام. مرّات عديدة يظهر في سياق العهد. بدا الكاتب وكأنَّه يلمِّح إلى وعد الله لإسرائيل بأن يمنحه كلمتَه على الدوام. ونستطيع أن نفكِّر في الوعد الإلهيّ الذي تمَّ عبر موسى (تث 18: 15-18).

والنصُّ الأخير هو نشيد عزريا في النار (دا 3: 26-45). عبَرَ الشعبُ في حقبة من المحن، فاعترف عزريا، في صلاته، أنَّ هذه الشقاءات هي العقاب العادل الذي يطال إسرائيل بسبب خياناته: »حكمتَ بالحقِّ في ما جلبتَ علينا من شرٍّ، علينا وعلى مدينة آبائنا المقدَّسة، أورشليم. أجل، جلبتَ علينا كلَّ هذا الحقّ والعدل بسبب خطايانا. فإنَّا خطئنا وأثمْنا حتّى ابتعدنا عنك، أذنبنا في كلِّ شيء، وما سمعنا لوصاياك، ولو عملنا بها كما أوصيَتنا لكان خيرٌ لنا« (دا 3: 28-30).

لاحظ الشاعر ذُلَّ شعبه: »صرنا يا ربّ أقلَّ الشعوب عددًا، وذُللنا اليوم في كلِّ الأرض بسبب خطايانا« (آ37). ويعطي السبب: »وفي هذا الزمان، لا رئيس ولا نبيّ ولا قائد، لا محرقة ولا ذبيحة...« (آ38). هي نهاية كلِّ هذه النظم. وسواء تحدَّث الكاتب عن سبي بابل أو عن زمن أنطيوخس إبيفانيوس، فهو يرى في غياب الأنبياء كارثة استحقَّها الشعبُ بسبب خطاياه. وهذا ما جعل الشعب أصغر من جميع الأمم، ولكنَّه ما زال يرجو: »أنقذْنا على حسب أعمالك العجيبة، وأعطِ المجد لاسمك أيُّها الربّ« (آ43).

كلُّ هذه الشكايات تتألَّم من غياب الأنبياء، وهي تعود إلى الزمن الذي فيه سقطت أورشليم، أو إلى زمن أنطيوخس إبيفانيوس. فالحرمان من كلام الله يُعتبَر عقابًا ينتظرون أن يَنجوا منه، لهذا نراهم يتوقون إلى ظهور الأنبياء من جديد، وهذا يكون في قلب مواعيد بناء الشعب.

3- غياب الله ومدلوله

في النصوص التي درسنا، بانَ لنا أنَّ غياب الأنبياء اعتُبر كارثة، ضربة قاضية. فتحسَّر الشعبُ على الأنبياء وطلب عودتَهم. فهناك حنين إلى مواهب الأنبياء. وهنا المشكلة: كيف ننسِّق مثل هذا الموقف مع رفض إسرائيل للأنبياء؟ فالناس الذين رفضوا الأنبياء وأزالوهم، هم الآن يتألَّمون من غيابهم. وحين لم يعد للأنبياء من وجود، صلّى الشعب لكي يعود إليه الأنبياء.

وهناك من يجيب: في هذه النصوص كلام عن الأنبياء »الكذبة«، عن أولئك الذين قدَّموا بلاغات سلام لإسرائيل، وسعوا فقط لإرضاء الناس. مثل هذه الإجابة لا تكفي. وقال آخرون: لا يريد إسرائيل أنبياء الحقّ بل أنبياء الكذب. مثل هذا الجواب يدلُّ على بساطة مفرطة.

هذا التعارض الظاهر يمكن حلُّه في ثلاث نقاط. نتوقَّف أوَّلاً عند غياب الأنبياء كبشر. ثمَّ عند غياب ما يمثِّلون، »كلام الله«. وأخيرًا الكلام هو حوار(15): فقد يكون »جوابًا« أو »توجيه كلام«. لا يعود الله يجيب، ولا يوجِّه بعدُ كلامًا إلى شعبه.

أ- غياب النبيّ هو غياب صديق

ما نال الأنبياء النجاح الكبير، فهُدِّدت حياتُهم ورُذلوا. وشهدوا بأنفسهم عن العزلة التي فُرضت عليهم. أحسَّ موسى أنَّه متروك، عائش وحده، فقال للربّ: »لا أستطيع وحدي أن أحمل كلَّ هذا الشعب، فهو ثقيل عليَّ« (عد 11: 14). ولهذا قال للربّ: »فإذا كان هذا ما تفعله بي، فاقتلْني إن كان لي حظوة عندك حتّى لا أرى بليَّتي« (آ15). هو تعيس، ويطلب الموت لنفسه، ويحسب أنّه إن ترك هذه الحياة، نال نعمة عظيمة.

وإيليّا بدا وحده لأنَّه لبث أمينًا للربّ. قال: »بحرارة من أجلك وقفتُ، أيُّها الربّ الإله القدير، لأنَّ بني إسرائيل نبذوا عهدك، وهدموا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف، وبقيت أنا وحدي معك، وها هم يطلبون حياتي« (1 مل 19: 10). وسوف يقول الشيء عينه في آ14، فيدلُّ على أنَّ هذه الحالة ليست أمرًا عابرًا، بل هي في عمق كيانه. فهو من جهة، يخاف من الموت، يخاف من الملكة إيزابيل (آ3)، ومن جهة ثانية يطلب الموت مثل موسى. قيل: »بلغ إلى شجرة وزَّال فقعد تحتها وتمنّى الموت وقال: كفاني الآن، يا ربّ، فخذ حياتي، فما أنا خيرٌ من آبائي« (آ4). ولكنَّ الربَّ دفعه من جديد: »ارجع في طريقك« (آ15).

وإرميا بشكل خاصّ، ثار على هذه العزلة المفروضة عليه، لا امرأة له ولا أولاد. حتّى أهله الأقربون هدَّدوه: »إن كان إخوتك وأهل بيت أبيك يغدرون بك  ويصرخون وراءك بملء أفواههم، فكيف تأتمنهم إذا كلَّموك بالخير؟« (إر 12: 6). وسوف يقول هذا النبيّ في إحدى شكواه: »ويل لي يا أمّي لأنَّك ولدتني. في خصام ونزاع أنا. لا أقرضُ ولا أستقرض، وكلُّ واحد يلعنُني« (إر 15: 10). ويوجِّه كلامه إلى الربّ: »لا أجلس في مجلس المازحين لاهيًا، بل بثقل يدك عليَّ أجلس وحيدًا يملأني الغضب. لماذا صار وجعي مستديمًا ودائي عضالاً يقاوم الشفاء؟ أتكون لي (يا ربّ) كسراب خادع، كمياه لا تدوم؟« (آ17-18).

أتُرى الله خدع نبيَّه؟ كلاّ. بل قال له: »أجعلك في وجه هذا الشعب سورًا من نحاسٍ حصينًا، فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأنّي معك أكون« (آ20).

نأخذ بعين الاعتبار أنَّ هذه الآيات التي ذكرنا، قيلت في أوقات من الإحباط، ساعة فقدَ النبيّ كلَّ عزم. ولكن حين نقرأ في العمق، نكتشف أنَّ الأنبياء كان لهم تلاميذ وأصدقاء وأناس يتعاطفون معهم.

منذ بدايات النبوءة، نلاحظ أنَّ أناسًا عديدين يحيطون بالأنبياء. كان هناك »جماعات (أو: أخويّات) الأنبياء«(16). وتتحدَّث النصوص أيضًا عن »الأنبياء الإخوة« أو بالأحرى: بني الأنبياء(17). فالنبيّ إليشع كان على علاقة وثيقة معهم، وربَّما كان »رئيسهم« وربَّما »أبوهم«. والتلاميذ هم الذين نقلوا إلينا أقواله بشكل شفهيّ قبل أن تصل إلينا كتابة. والإشارة إلى »التلاميذ« واضحة في أشعيا. قال النبيّ لهم: »وأنتم يا تلاميذي، أدُّوا الشهادة واحفظوا الشريعة« (أش 8: 16). وإرميا كان له أمين سرِّه، باروك. نقرأ في إر 36: 4: »فدعا إرميا باروك بن نيريا وأملى عليه جميع كلام الربِّ الذي كلَّمه به، فكتبه في الصحيفة«. وأرسل النبيّ باروك ليقرأ ما كتب، ولمَّا أُحرقت الصحيفة، »أخذ إرميا صحيفة أخرى وأعطاها لباروك بن نيريا الكاتب، فكتب فيها عن لسان إرميا كلَّ ما احتواه الكتاب الذي أحرقه يوياقيم (الملك) بالنار، وزيدَ عليه كلامٌ كثير« (آ32).

كلُّ هؤلاء المتعاطفين مع النبيّ اعتبروا أنَّ بلاغ معلِّمهم يجب أن يُحفَظ من أجل الخلف. وبهذه الطريقة عينها، حفظ تلاميذُ يسوع تعليمه.

وتدلُّ إشارات نقرأها في حياة الأنبياء، أنَّهم انتموا بعض المرّات إلى طبقات رفيعة في المجتمع، وهذه الطبقات استعدَّت أن تحميهم. وأفضل مثال على ذلك هو شافان، كاتب الملك، الذي ساند إصلاح يوشيّا، مع إرميا(18). ولبث شافان وأهل بيته أمينين لصداقتهم تجاه إرميا حتّى في أوقات الخطر. فخلال محاكمة النبيّ، حماه »أحيقام بن شافان لئلاّ يسلَّم إلى أيدي الشعب فيقتلوه« (إر 26: 24). وهذا البيت لم يكن وحده قريبًا من إرميا. فهناك وجهاء آخرون دافعوا أيضًا عن النبيّ. قالوا لباروك: »اذهب واختبئ أنتَ وإرميا، ولا تدَعْ أحدًا يعرف أين أنتما« (إر 36: 19). وفي زمن يسوع، نذكر مثلاً نيقوديمس الذي كان رئيس لليهود (يو 3: 1).

ولكن بالإضافة إلى كلِّ هذا، كان هناك صغار القوم، المساكين. وعاموس خاطر بنفسه حين راح يدافع عنهم. هاجم النبيُّ الأغنياء والرؤساء والقضاة والتجّار، وبمختصر الكلام هاجم كلَّ الذين يضايقون الناس الذين لا دفاع لهم (عا 2: 7-8):

7     يبيعون الصدِّيق بالفضَّة،

والبائس بنعلين

ويمرِّغون رؤوس الوضعاء في التراب

ويزيحون المساكين عن طريقهم

ويدخل الرجل وأبوه على صبيَّة واحدة

فيدنِّسان اسمي القدُّوس.

8     يستلقون على ثياب مرهونة

بجانب كلِّ مذبح

ويشربون خمر المدينين لهم

في بيت إلههم.

هؤلاء البائسون وجدوا في عاموس مدافعًا عنهم، وجدوا شخصًا يتجرَّأ فيندِّد بالجور والظلم. في النبيّ وضعوا آمالهم، وهو من كان المتكلِّم باسمهم. وفي وسط هؤلاء المساكين، قيلت مزامير عباد الله المتألِّمين(19). والبكاء على غياب الأنبياء يعبِّر عن صراخ هؤلاء الفقراء الذين لا يجدون بعد اليوم من يدافع عنهم في وجه مضايقيهم.

حين نقول إنَّ الرؤساء والشعب رذلوا الأنبياء، فهذا لا يستبعد وجود مجموعة من التلاميذ والأصدقاء والمساكين الذين أحسُّوا في العمق بغيابهم. فالنبيّ هو رجل »الكلمة«. تحدِّثنا إلى الآن »عن كلمته البشريَّة« أو »الأفقيَّة«. فالنبيّ يتكلَّم باسم المسحوقين، وحين يغيب تسكت هذه الكلمة.

غير أنَّ النبيّ يمثِّل أيضًا »كلمة الله« أو »الكلمة العموديَّة«، فتقوم مهمَّته في حمل كلام الله إلى الإنسان: »اذهب إلى حيث أرسلك« (إر 1: 7). ذاك ما قال الله لإرميا. فإن ردَّ النبيّ أنَّه لا يعرف أن يتكلَّم (آ6)، وضع الله كلامه في فم نبيِّه. قال: »جعلتُ كلامي في فمك« (آ9). وسوف يقول النبيّ فيما بعد: »سمعتُ كلامك فوعيتُه، فكان لي كلامُك سرورًا وفرحًا في قلبي، فأنا دُعيتُ باسمك أيُّها الربُّ الإله القدير« (إر 15: 16).

وكان لحزقيال الاختبار عينه، فكتب مردِّدًا كلام الله: »وأنت، يا ابن البشر، إسمعْ ما أكلِّمك به ولا تكنْ مثل هؤلاء المتمرِّدين. افتح فمك وكُلْ ما أعطيك«. »فنظرتُ (قال النبيّ) فإذا يدٌ ممدودة إليَّ وفيها ورقة من كتاب« (حز 2: 8-9). وفي حز 3: 1-3 نقرأ كلامًا مماثلاً: »فقال لي: ''يا ابن البشر كُلْ ما يُقدَّم لك. كلْ هذه الورقة واذهب كلِّم بيت إسرائيل''. ففتحتُ فمي فأطعمني هذه الورقة وقال لي: ''يا ابن البشر، أَطعمْ جوفك واملأ أحشاءك من هذه الورقة التي أعطيك إيّاها''. »فأكلتها، فصارت في فمي حلوة كالعسل«. أجل، صارت كلمة الله جزءًا من حياة النبيّ، تدخل إلى جوفه كما الهواء إلى الرئتين. مثل هذه »الكلمة الإلهيَّة« تكون جوابًا على سؤال، أو توجيه كلام.

ب- غياب النبيّ غياب كلام الله

كان الناس يمضون إلى النبيّ لينالوا بواسطته جوابًا من الله على تساؤلاتهم والضيقات في وقت الأزمات(20). فشاول سأل الربّ ماذا يفعل (1 صم 28: 6)، ومثله داود. »سأل الربّ عن السبب فأجابه الربّ« (2 صم 21: 1). وهكذا صنع سائر الملوك. »فقبل الحرب، قال الملك يوشافاط: ''دعنا أوَّلاً نستشير الربّ« (1 مل 22: 5). وهذا الملك عينه قال في مناسبة أخرى: »أيُوجَد هنا نبيّ فيستشير لنا الربّ؟« (2 مل 3: 11). فكلُّ جواب، مهما كان (1 مل 22: 8)، هو أفضل من صمت الله (1 صم 28: 6) الذي يترك الإنسان وحاله.

إنَّ النصوص التي ذكرنا تشير بشكل صريح إلى »طلب« جواب الله. وهي كلُّها تنتمي إلى فئة »نبيئات التعاسة«(21). فحين يكون الإنسان في الشقاء يُحسُّ بالحاجة إلى النور من قبل الله. والناس يمضون إلى كلِّ مكان ليجدوا جوابًا فلا يجدوا. وغيابُ جواب الله يفسَّر في شكلين اثنين.

*     إذا كان الله لا يُجيب، فهو غير موجود،  أو هو مات. فالمواجهة بين إيليّا وأنبياء البعل تحمل هذه الإشكاليَّة (1 مل 8: 20-40). من هو الإله الذي يجيب؟ قال إيليّا: يدعو أنبياء البعل باسم إلههم. وتابع: و»أنا أدعو باسم الربِّ إلهي، والذي منهما يُشعل النار يكون الإله« (آ24). فدعا الأنبياء بعل: »أيُّها البعل، استجب« (آ26). ولكنَّه صامت لا يتكلَّم. »فلا صوت ولا مجيب« (آ26ب). »وظلُّوا يصرخون بجنون« (آ29أ). ولكن »لم يكن صوت ولا مجيب ولا مصغٍ« (آ29ب). لا وجود له. فهزئ منهم إيليّا: »اصرخوا بصوت أعلى. فربَّما إلهكم غارق يتأمَّل أو هو مشغول أو في سفر، أو لعلَّه نائم فيفيق« (آ27).

وجاء دور إيليّا، فدعا الربَّ: »استجبني يا ربّ، استجبني« (آ37). هو وحده الإله الحيّ. وحده موجود. وحده يجيب. »فنزلت نار الربِّ من السماء والتهمت المحرقة والحطب والحجارة...« (آ38).

ونجد أيضًا صورة تصف الأصنام. وهذه الآلهة التي تفبركها أيدي البشر لا ترى، لا تسمع، لا تتكلَّم. قال أشعيا (40: 19-20):

19    أبتمثال يسبكه الصائغ

ويغشِّيه الصائغ بالذهب

ويزيِّنه بسلاسل من الفضَّة؟

20    أو يختاره من كان فقيرًا

من خشب لا ينخره السوس

ويطلب له صانعًا ماهرًا

يقيم تمثالاً لا يتزعزع.

ويتوسَّع أشعيا أيضًا في هذا الموضوع (44: 9-20) فيسخر من عابدي الأوثان »الذين صنعوا تماثيل كلَّها باطل« (آ9). هي تُصنَع من الأرز أو السرو أو البلّوط (آ14). »هؤلاء لا يعلمون ولا يفهمون، لأنَّ الله أغلق عيونهم لئلاّ يبصروا، وقلوبَهم لئلاّ يفهموا« (آ18). وفي الخطِّ عينه يرد كلام إرميا (10: 1-6): »إلههم شجرة، تُقطع من الغابة وتَصنعها يدُ النجّار بالقدوم، وتزيَّن بالفضَّة والذهب وتطرَّق وتسمَّر لئلاّ تتحرَّك، فتكون كالفزّاعة في المزرعة، لا تنطق ولا تمشي فتُحمَل. فلا تخافوها لأنَّها لا تضرُّ ولا تنفع«.

فالذي ما وُجد يومًا (= الصنم) أو ذاك الذي لم يعد موجودًا لأنَّه مات (الملك المؤلَّه)، لا يستطيع أن يجيب ولا أن يستجيب. وهؤلاء الناس الذين يطلبون الجواب الإلهيّ ولكنَّهم لا يجدونه لأنَّ الأنبياء زالوا، يتبلبلون على مستوى إيمانهم. ذاك ما أحسَّ به بنو إسرائيل في المنفى. فتجرَّأوا وطلبوا إلى الله بواسطة موسى: »ما هو اسمك؟« (خر 3: 13). فأجاب الله، وكشف عن نفسه أنَّه »هو الذي هو« (آ14). هو يكون دومًا مع شعبه، ولكنَّه الآن لم يعُد معهم. بما أنَّ البابليّين استطاعوا أن يدمِّروا أورشليم، أما هو برهان بأنَّ مردوك انتصر على يهوه؟ أما مردوك هو الإله الحقيقيّ؟! وجاءت مهمَّة النبيّ الأشعيائيّ بأن يقنع شعبه أنَّ يهوه وحده هو الله. وأعلن إرميا نهاية مردوك (50: 2):

أخبروا في الأمم،

ونادوا وارفعوا الراية

وأعلنوا، لا تكتموا

قولوا: أُخذت بابل

انهزم بيل، وانسحق مردوك

انهزمت أوثانها، وانسحقت أصنامها.

*     إذا كان الله لا يجيب، فهذا يعني أنَّه يرفض أن يجيب. هو يختبئ. تلك إمكانيَّة أخرى تَشرح غيابَ الجواب الإلهيّ. ما استطاع شاول أن ينال جوابًا (1 صم 28: 6ي)، وبعد ذلك قال في حضرة صموئيل:

أنا في ضيق  شديد

فالفلسطيّون يحاربونني

والله أهملني وما عاد يجيبني

لا بالأنبياء ولا بالأحلام،

فدعوتُك لتخبرني بما أفعل (آ15).

ففهم الملك أنَّ صَمْت الله يعني أنَّ الله مال بوجهه عنه. فقال له صموئيل:

16    لماذا تسألني والربُّ أهملك وصار عدوَّك؟

وهو فعل بك كما قال على لساني

18    فأنتَ ما أطعتَ الربّ...

لذلك عمل بك ما عمل.

كان الله محاورًا في الحوار، فصار عدوٌّا وخصمًا. وأشار النصُّ إلى أنَّ صمت الله هو عقاب على الخطيئة وعلامةُ رذل.

وأعلن حزقيال البلاغ عينه في فعلة رمزيَّة: »أنا أُلصق لسانَك بحنكك، فتصير أبكم ولا تقدر أن توبِّخ هذا الشعب المتمرِّد. وحين أكلِّمك أفتحُ فمك، فتنقل لهم كلامي، ومن يسمع فليسمع، ومن يمتنع فليمتنع، فهم شعب متمرِّد« (خر 3: 26-27). وسوف يقول الربُّ بلسان نبيِّه لشيوخ إسرائيل الآتين ليسألوا عن مشيئة الله (حز 3: 1): »أجئتم لتسألوني؟ حيٌّ أنا، لا  أجيب عن سؤالكم، يقول السيِّد الربّ« (حز 20:23).

نبيئات الشقاء التي درسنا تُظهر غيابَ الأنبياء على أنَّه تعاسة وشقاء. فالإنسان الذي هو كائن اجتماعي، يحتاج إلى رفيق يكلِّمه، وإلاَّ يصبح كلُّ حوار مستحيلاً وإسرائيل لا يتقبَّل بعدُ جوابًا. هو الآن مسجون في عزلته الخاصَّة، والربُّ ما عاد يهتمُّ به ولا بحاجاته، بعد أن مال عنه.

ج- غياب النبيّ غياب النداء الإلهيّ

ما انتظر الأنبياء فقط أن يأتي الناس ويسألوهم. بل كانوا يأتون دون أن يطلبهم أحد، ويقدِّمون كلام الله. فالله ينادي وعلى شعبه أن يجيب. ووجهةُ الحوار هذه هي مهمَّة أيضًا لأنَّ الله هو من يبدأ ويتكلَّم في الحوار مع الله وشعبه. فالمبادرة كلُّها هي له. واللفظ »د ب ر« لا يعني فقط »كلمة«، بل الشيء، الأمر، الغرض، الحدث. فإن لم تكن كلمة، فلا عمل أيضًا.

في البدء كانت »الكلمة«. فالله خلق بكلمته، وبكلمته بدأ كلُّ شيء. والله يفعل في التاريخ بكلمته. بكلمته يختار الرجال. »قال الله لأبرام: ''أترك أرضك...« (تك 12: 1). وما قيل عن إبراهيم يُقال عن جميع الذين دعاهم الله. وهو بكلمته اختار شعبه: »من مصر دعوتُ ابني« (هو 11: 1). كما أعطى النور لشعبه بواسطة »الكلمات العشر« (الوصايا) وبواسطة الأنبياء.

نقرأ في خر 34: 28: »فكتب (موسى) على اللوحين كلام العهد وهي الوصايا العشر«. وفي تث 4: 13: »وأخبرَكم (الله) بعهده الذي أمركم أن تعملوا به، وهو الوصايا العشر التي كتبها على لوحين من حجر« (رج تث 10: 4). فكلمة الله هي التي كوَّنت الشعبَ شعبًا مختارًا. وبيَّنت البيبليا أكثر من مرَّة أنَّ الربَّ يعمل في تاريخ جميع الأمم، كما يعمل في تاريخ مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل. قال عاموس (9: 7):

أما أنتم لي، يا أهل كوش (الحبشة)،

يا بني إسرائيل؟

ألم أخرج إسرائيلَ من مصر

والفلسطيِّين من كفتور (جزيرة كريت)

والآراميّين من قير؟ (عيلام).

كلُّ الشعوب مسؤولة أمام الله. وإن خانت الأممُ العدالةَ والمحبَّة، لحقها العقابُ والدينونة (حو 29: 1-12). غير أنَّ أملاً بالعودة يبقى حاضرًا. أمّا الاختلاف الأساسيّ بين الشعب (الإسرائيليّ) والشعوب (الوثنيَّة) فهو أنَّ هذه الشعوب لم تتسلَّم الوحي، والشعب هو وحده من يقوده الربّ. وهذا الشعب يُدان بحسب الشريعة التي أوحاها الربّ. أمّا الأمم فيتبعون ضميرهم. الاختلاف يقوم كلُّه بالكلمة. وحين تنفتح الأمم على هذه الكلمة، تصبح هي بدورها شعب الله (أش 19: 16-25).(22)

في ذلك اليوم،

يكون المصريّون كالنساء

فيرتعدون ويرتجفون

من يد الربِّ المرفوعة عليهم

وفي ذلك اليوم،

يكون في أرض مصر خمس مدن (الخمسة رقم القداسة)

تتكلَّم بلغة كنعان

وتحلف باسم الربِّ القدير

وفي ذلك اليوم،

يكون مذبح للربِّ في أرض مصر

ونصُبٌ مرفوع للربّ

علامة وشهادة للربّ القدير

في أرض مصر.

فإذا ما صرخ المصريّون إلى الربّ في ضيقهم،

أَرسل الله لهم مخلِّصًا ومحاميًا فينقذهم

وفي ذلك اليوم،

تكون طريق من مصر إلى أشور

فتجيء أشور إلى مصر،

وتعبد مصر الربَّ مع أشور

ويمنح الربُّ بركته:

مبارك شعبي مصر

وصنعة يدي أشور

وبنو إسرائيل الذين اخترت.

وصلت أشور إلى مصر وضيَّقت عليها، فصرخت إلى الربّ كما سبق للعبرانيّين أن صرخوا إلى الربِّ في ضيقهم، فأجاب الربُّ حين »أرسل مخلِّصًا ومحاميًا«.

أهمُّ نصٍّ حول غياب كلام الله قرأناه في نبوءة عاموس. وهذا النبيّ يبيِّن أنَّ مملكة إسرائيل تميَّزت عن الأمم لأنَّها عرفت الكلمة (عا 3: 2):

إيّاكم وحدكم عرفت

من بين كلِّ عشائر الأرض

فلذلك سوف أعاقبكم

على جميع آثامكم.

إذا كان الله لا ينادي بعدُ شعبه، فهذا يعني نهاية الشعب كشعب مختار. ذاك ما قاله دا 3: 37: »ها نحن أصغر من جميع الأمم«. وجميع النصوص التي تتحدَّث عن غياب الكهنة والأنبياء، تدلُّ على نهاية ما هو خاصّ بإسرائيل. فغياب الكهنة يعني غياب العنصر الثابت الذي هو الشريعة. وغياب الأنبياء يدلُّ على غياب المواهب والعنصر الكريسمي، فلا تفسير جديدًا بعد اليوم يترافق مع تبدُّلات التاريخ. وإذا غابت المعرفة عن الأنبياء (إر 14: 18: لا يعرفون)، فهم لا يستطيعون بعد الآن أن يفهموا معنى الأحداث. ممّا يعني أنَّ إسرائيل يعيش تاريخه كما سائر الأمم، ولا يعود الشعبَ الذي اختاره الربّ.

كان لشعب إسرائيل تصوُّر خاطئ للعهد، فرأى فيه امتيازًا فقط. فردَّ الأنبياء على هذا الموقف، وكرزوا بنهاية قريبة للعهد. وكان للشعب الموقفُ عينه تجاه الكلمة النبويَّة. التزم الله بأن يرسل دومًا أنبياء (تث 18: 15-18). لهذا تساءل المزموريّ: »أما ترك الله أمانته؟« (مز 77: 9). وهكذا تكلَّم الشعب (إر 18: 18).

تعالوا نكيد لإرميا مكيدة،

فالشريعة لا تُحرَم من كاهن سواه

ولا حسن المشورة من حكيم

ولا كلمة الوحي من نبيّ

تعالوا نتَّهمه

ولا نصغي إلى كلمة من كلماته.

إن غاب إرميا، فنحن نجد الكثيرين الذين يقدرون أن يحلُّوا محلَّه. فلماذا لا نزيحه من طريقنا، ونسمع »نبيٌّا« غيره؟ ولكن إذا سكت الربّ، فماذا نفعل؟

إنَّ غابت كلمة الله التي تنادي الشعب، فذاك أخطر ما يحدث له. هذا ما وعاه المؤمنون ساعة لم يعُد عندهم نبيّ. فالإنسان لا يقدِّر الغنى الذي لديه إلاّ حين يخسره. وحين يخسره يفهم فجأة ما خسر. أحبَّ بنو إسرائيل الاستماع إلى الأنبياء حين تكون أقوالهم داعية إلى السعادة. ولكن أمام نبيئات الشقاء، كان الشعبُ رافضًا لهم. ولكنْ سواء كنّا أمام السعادة أو الشقاء، فهذا يعني أنَّ الله يهتمُّ بنا. أمّا صمته فيعني أنَّه لم يعد يأبه لنا.

الصلاة الكبيرة التي تبيِّن الموقف الذي ينتظره الشعب المختار تبدأ بنداء »شماع«: »اسمع يا إسرائيل، الربُّ إلهنا هو الربُّ الواحد« (تث 6: 4). ولكن ما هو مصير إسرائيل حين لا »يسمعُ« بعدُ الله، لأنَّ الله لا يتكلَّم؟

الخاتمة

أناس عديدون لم يحبُّوا الكلمة النبويَّة ولا كانوا يهتمُّون بها. ولكن غياب هذه الكلمة كان شرٌّا فوق شرّ. والمساكين الذين تكلَّم الأنبياء باسمهم خسروا محاميًا ثمينًا يدافع عنهم. والذين أزعجهم الأنبياء عرفوا أنَّهم بدون هؤلاء لا جواب من عند الله بحيث يلبثون في الظلام. وفي النهاية، إذا كان الله لا ينادي شعبه بفم الأنبياء، فهذا يعني أنَّ الشعب لم يعد شعب الله. ما أراد بنو إسرائيل دومًا الاستماع إلى الأنبياء، ولكنَّهم عرفوا أنَّ لا غنى عن هؤلاء الذين يدخلون في سرِّ الله ويكشفونه للمؤمنين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM