الفصل الخامس: النصّ البيبلي بين الجمود والحياة

الفصل الخامس:

النصّ البيبلي بين الجمود والحياة

حين نقرأ المزمور 51 أو مزمور الرحمة، يلفت نظرَنا تعارضٌ في النصّ. من جهة يقول المرنِّم: ذبيحتي لك يا الله روح منكسرة. يعني أنتَ لا تحتاج إلى ذبائح الخراف والعجول. وبعد آيتين نقرأ: »فتسَرُّ بذبائح صادقة، بمحرقة وتقدمة تامَّة، بعجول تقرَّب على مذبحك«. أيريد الربُّ ذبائح أم لا؟ وحين نقرأ في الإنجيل خبر شفاء المخلَّع، نلاحظ أنَّ الأناجيل تروي المعجزة، ولكنَّها لا تتَّفق على التفاصيل في العبارات. تحدَّث مرقس عن السقف الذي نقبَه حاملو المخلَّع، وهذا ما لم يفعله متّى الذي كتب آية لم تجعلنا في زمن المسيح، بل في زمن الكنيسة سنة 85، فصوَّر ما كانت تفعل بالنسبة إلى الخطأة: »مجَّدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا«. فالذين هم من الخارج يعتبرون أنَّنا أمام تحريف للنصوص البيبليَّة، يكتبها كلُّ واحد كما يشاء، بحيث لم تعد النصوص كلمةَ الله الواحدة التي أُرسلت إلى العالمين. أمّا الذين في الداخل، فيرفضون أن يكون النصُّ جامدًا جمود الحجر، ننظر إليه من الخارج ولا ندخل إلى قلبه. فكلام الله حيٌّ بحياة الجماعة، بحياة الكنيسة، بحياة المؤمنين. ذاك هو موضوع كلامنا. وهو يتوزَّع في ثلاث محطّات تلتقي في النهاية: الكتاب المقدَّس مكتبة. الكتاب والإلهام. الكتاب والتأويل.

1- الكتاب المقدَّس مكتبة

اعتادت الديانات أن تمتلك كتابًا واحدًا، دُوِّن كلُّه دفعة واحدة، فكان القاعدةَ للشريعة والمنطلقَ للاتِّصال بالألوهة. أمّا اليهوديَّة والمسيحيَّة، فالكتاب عندهما مكتبة. بالنسبة إلى العالم اليهوديّ في فلسطين، تضمَّن الكتاب 39 سفرًا اتَّفق عليها المجتمعون في يمنية أو يبنة، على شاطئ البحر، سنة 80-100 ب.م. هذه كُتبت في العبريَّة، وهي إحدى اللغات الكنعانيَّة، ما عدا مقاطع قصيرة في الآراميَّة، خصوصًا في سفر دانيال. وكان تقليد آخر جاء في اليونانيّ، تركه العالم اليهوديّ في ردَّة فعل على أسفار العهد الجديد، وتبنَّته الكنيسةُ في فرعيها الكاثوليكيّ والأرثوذكسيّ، ورفضته الجماعات البروتستانتيَّة، في عودة إلى الأصول ورفْضٍ للتقليد الذي عرفته الكنيسة منذ بداياتها. وإلى هذه الأسفار الستّة والأربعين التي أخذت بها المسيحيَّة منذ بدايتها، أضافت سبعة وعشرين سفرًا في العهد الجديد. وهكذا صار الكتاب المقدَّس ثلاثة وسبعين كتابًا في الخطّين الكاثوليكيّ والأرثوذكسيّ. ودُوِّن في ثلاث لغات: العبريَّة والآراميَّة واليونانيَّة. فالله لا يتكلَّم لغة واحدة، هي العبريَّة أو غيرها من اللغات. أمّا يسوع المسيح فتكلَّم الآراميَّة الفلسطينيَّة خلال حياته العلنيَّة على الأرض، فجاء تلاميذه فكتبوا الأناجيل والرسائل وأعمال الرسل في اليونانيَّة، التي كانت لغة النشر والثقافة في القرن الأوَّل المسيحيّ. أمّا العبرانيّون، فانتقلوا أيضًا من اللغة العبريَّة إلى الآراميَّة، ولا سيَّما منذ القرن الثامن ق.م. وبما أنَّهم لم يعودوا يفهمون العبريَّة، وَجب عليهم، في الليتورجيّا، أن يقرأوا النصَّ العبريّ، النصَّ الرسميّ، ويرافق القراءة »ترجمان« يشرح النصَّ الموحى في الآراميَّة. فخرج من هذه »الشروح« ما يُدعى »الترجوم« أو: ترجمة حرَّة، موسَّعة للنصِّ الكتابيّ.

لا. لم يدوَّن الكتاب المقدَّس في لغة واحدة، ولا دوَّنه كاتبٌ واحدَ. تحدَّث التقليد عن موسى صاحب أسفار الشريعة أو الأسفار الخمسة، أي التكوين والخروج واللاويّين والعدد والتثنية. ورُبطت المزامير بداود، والأسفار الحكميَّة بسليمان، مثل أسفار الأمثال والجامعة ونشيد الأناشيد وصولاً إلى سفر الحكمة الذي دُوِّن بعد سليمان بتسعمئة سنة تقريبًا. وحاول التقليد اليهوديّ أن يربط سائر الأسفار بإحدى الشخصيّات المعروفة في الكتاب المقدَّس، مثل صموئيل والنبيّ ناتان وغيرهما.

هذا على مستوى التقليد. ولكنَّ العلم الحديث فتح أمامنا آفاقًا جديدة فأفهَمنا كيف تكوَّن العهدُ القديم، ثمَّ العهد الجديد، حيث سبق الشفهيُّ الكتابيَّ بسنوات عديدة إن لم يكن بأجيال. وهنا نتوقَّف عند ثلاثة أقسام العهد القديم التي هي التوراة في المعنى الحصريّ، ثمَّ الأنبياء في المعنى الواسع، وأخيرًا الكتب الباقية التي بدأت بالمزامير ولبثت مفتوحة على كتب عديدة كان آخرها سفر الحكمة الذي دُوِّن في اليونانيَّة، وسفرا المكابيّين اللذين وصلا إلينا في اليونانيَّة.

أ- التوراة والليتورجيّا

في أساس التوراة شخص موسى. وربَّما تعود إليه الوصايا العشر التي حُفرت على ألواح من حجر على مثال ما نقرأ في الحضارات القديمة، كما في شريعة حمورابي أو ليفيت عشتار، أو كما في كتاب الموتى، في مصر. وقد تعود إليه نصوصٌ أخرى كثيرة، لكنَّ مجمل التوراة تكوَّنت على مرِّ العصور ولم تنتهِ قبل القرن الخامس ق.م.

أمّا الإطار الذي تكوَّنت فيه فهو الليتورجيّا أو شعائر العبادة التي تمارسها الجماعة في الأعياد الكبرى أوَّلاً، ثمَّ خلال يوم من أيّام الأسبوع. سواء كان السبت في اليهوديَّة، أو الأحد في المسيحيَّة.

هنا نقرأ ما كتبه سفر الخروج عن عيد الفصح (خر 12: 1ي). نصٌّ فيه الكثير من التشعُّبات. أوَّلاً هو يعود إلى عالمين، عالم الرعاة وعالم الفلاّحين. لدى الرعاة، كان يُذبَح حملٌ في قمر الربيع، أو الرابع عشر من نيزان الذي يوافق آذار - نيسان في حساباتنا. فالجماعة تحتاج إلى القمر ضوءًا لها لكي تَقضي الليل كلَّه في العيد. هذا العيد قديم جدٌّا، وقد سبق موسى وجماعته. أخذوه عن عالم البدو وأدخلوه في طقوسهم. في الأساس، يُذبَح الحمل، يوضَع بعض دمه على الخيمة حماية للقطيع من الأرواح الشرّيرة.

وتوسَّع هذه العمل الأوَّل البسيط. فارتبط مباشرة بالله. هو الربُّ قال لموسى وهارون. وهكذا بدا العيد وكأنَّه بدأ مع شريعة موسى. بعد ذلك، جاءت التفاصيل على مرِّ العصور: يكون الحمل ابن سنة. يؤكل مشويٌّا، كما هو الأمرُ في الصحراء. يُحرَق ما تبقّى منه لأنَّه مكرَّس للربّ. في الأصل، كان يذبحه ربُّ البيت. وبعد ذلك، صار الاحتفال بالفصح يتمُّ في الهيكل حيث الكاهن وحده يذبح الحمل.

وكما لعالم الرعاة، كذلك كان عيد لعالم الفلاّحين، وقت حصاد الشعير. دُعي عيد الفطير. يُنزَع كلُّ خمير من البيت، بحيث يبدأ المؤمنون حياة جديدة. وجُمع عيدُ الرعاة وعيد الفلاّحين في إطار الخروج من مصر، وانضمَّ إليهما ما دُعيَ تقدمة البواكير.

كلُّ هذا يفهمنا أنَّ ما دُعيَ »فصح الربِّ«لم يكن عيدًا تنظَّم مرَّة واحدة فوجب على المؤمنين أن يمارسوه دون تعديل أو تبديل. كانوا أمام نصٍّ حيٍّ يحيا بحياة المؤمنين ويغتني بخبراتهم على مرِّ العصور. واعتُبر في النهاية كتابًا مقدَّسًا يستظلُّ سلطة موسى وهارون.

في ذلك العيد، كان اللاويّون، حاملو التقاليد الموسويَّة، يذكِّرون الحاضرين بمآثر الله مع الآباء: ما حصل في مصر، عبور البحر الذي كان في الأصل مرورًا في مستنقعات حلَّت محلَّها اليوم قناة السويس. والحياة في البرِّيَّة مع الله: المنّ الذي هو منَّة الله، صار طعامًا فيه تلتقي جميع الأذواق. والماء خرج من الصخرة في صحراء لا تعرف الماء إلاّ في الواحات.

وفي إطار الليتورجيّا وتجمُّعات الأعياد، توسَّعت الشريعة وتنوَّعت لكي تتجاوب مع الحاجات الجديدة، دون أن تنسى شخص موسى وخبرته الروحيَّة مع الله، عند العلَّيقة الملتهبة أوَّلاً، ثمَّ على جبل سيناء. ولمّا وصلت جماعة موسى مع يشوع إلى أرض مزروعة، كان لا بدَّ أن تتكيَّف كلمات الله مع هذا الوضع المختلف عن البرِّيَّة حيث يقيم الرعاة. مثلاً، إذا رعى أحد حقلاً (خر 22: 4). إذا أُحرقت السنابل على البيدر أو في الحقول... ومع امتلاك الأرض، وُجد العبيد فاحتاج الشعب إلى تشريع يحدِّد العلاقة بين السيِّد وعبده.

وكانت الأرض تحتفل بعيدين آخرين. واحد يرتبط بحصاد القمح، وآخر يرتبط بقطاف الزيتون والعنب، وصُنْع الزيت والخمر وسائر ما يحتاجه الإنسان في عيشه خلال فصل الشتاء. كلُّ هذا دخل في أسفار التوراة، وتنظَّم وكأنَّه آتٍ من عند الربِّ بواسطة موسى. قال الكتاب بفم الربِّ: »عيِّدوا لي ثلاث مرّات في السنة«. عيد الفطير، ثمَّ عيد حصاد البواكير، وأخيرًا عيد جمع الغلات عند نهاية السنة، في شهر أيلول (خر 22: 14-17). كم نحن بعيدون عن نصٍّ بيبليّ دُوِّن مرَّة واحدة.

ونستطيع أن نقول الشيء عينه عن الختان، وهو جرح في جسم الإنسان يُعدُّه للزواج، ففرض نفسه على المؤمنين وكأنَّ نيزك آتٍ من السماء. فيصبح الرجل »ختنًا« أو عريسًا. ذاك طقسٌ مارسته الشعوب منذ العصور القديمة، ومنها شعب الكتاب المقدَّس. غير أنَّ الطقس تطوَّر. وربطَه الكاتبُ الملهم بإبراهيم: مرَّة أولى مع إسماعيل كما هو في الأصل. قال الكتاب: »وكان... إسماعيل ابن ثلاث عشرة سنة عند اختتانه« (تك 17: 25). وفي الفصل عينه من سفر التكوين، أعطيَت الفريضةُ الجديدة: »كلُّ ذكر منكم ابن ثمانية أيّام تختنونه مدى أجيالكم« (آ12). تبدَّل معنى الختان. صار دخولاً في العهد، كما قيل أيضًا: »وأيُّ ذكر لا يُختَن يُقطَع من شعبه لأنَّه نقض عهدي«. بل هي الفريضة عادت إلى ما بعد المنفى يوم تشتَّت العبرانيّون في أماكن عديدة، فكان الختانُ الرباطَ بينهم وعلامةَ انتمائهم إلى شعب الله. كلُّ هذا جاء في إطار ليتورجيّ، حيث صلاة المؤمنين وشعائر عبادتهم كان لها التأثير على الكتاب المقدَّس في الشكل الذي وصل إلينا.

ب- الأنبياء في قلب التاريخ

حين نتحدَّث عن الأنبياء كما في التقليد العبريّ، فنحن نعني أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك، بالإضافة إلى أشعيا وإرميا وحزقيال والاثني عشر. فالنبوءة هي كلام الله الذي يوجِّهه إنسانٌ من الناس في وقت معيَّن. زنى داود وقتل أوريّا ليأخذ له امرأته بتشابع، فقال النصُّ الكتابيّ: »فأرسل الربُّ ناتان النبيّ إلى داود« (2صم 12: 1). هو الإطار الملكيّ حيث يتدخَّل النبيُّ باسم الله، ولا يخاف عظمة هذا الملك الذي اشتهر بفتوحاته. وقبْلَ ناتان، تدخَّل صموئيل مع ملك آخر، اسمه شاول. هذا فضَّل أن يسمع صوت الجيش ولا يسمع صوت الله. قال له النبيّ: »بما أنَّك رفضتَ كلام الربّ، رفضك الربُّ من المُلك« (1صم 15: 23).

حقبة الأنبياء حقبة طويلة، تنوَّعت فيها الظروف وتنوَّع المتكلِّمون باسم الله الذين تركوا تلاميذهم يكتبون أقوال الربِّ في فمهم. وكان القول النبويّ يبدأ: »هذا ما قال الربّ«. لا شكَّ في أنَّ الربَّ لا فم له كأفواهنا لكي يتكلَّم لغة البشر. بل هو يَنفح من يختاره بنور داخليّ. وهذا المختار يعبِّر بطريقة بشريَّة عن وحي وصل إليه بطريقة تتعدَّى مفهوم البشر. والربّ لا يدَ له لكي يكتب ولو قيل إنَّه كتب الوصايا العشر وأعطاها لموسى (خر 32: 15-16). الله يرسل كلمته في أفواه البشر الذين يقولونها في لغتهم وفي طريقتهم الخاصَّة، مع الحفاظ على شخصيَّتهم ومشاعرهم العميقة.

فالفرق شاسع بين أشعيا وإرميا. الأوَّل، يعيش في البلاط الملكيّ، فيدخل إلى القصر ويخرج. هو صاحب عزم وقرار. يقول الربّ: »من أُرسل؟ من يكون رسولاً لنا؟« (أش 6: 8). فيأتي الجواب حالاً: »ها أنا لك، فأرسلني«. أمّا إرميا فهو ذاك المتردِّد، الخائف، الذي يودُّ أن »يتهرَّب« لو قَبِل الربُّ بذلك. قال: »لا أعرف أن أتكلَّم فأنا ولد« (إر 1: 6). ولكنَّ الربَّ شدَّد له عزمه. »تذهب أينما أرسلك، وكلُّ ما آمرك به تقوله« (آ7).

وخلال حصار أورشليم، كان موقف أشعيا غير موقف إرميا. هذا نصح الملك حين هدَّد البابليّون أورشليم بأن يستسلم بحيث يمنع سفك الدماء والخراب والدمار. أمّا أشعيا فدعا إلى المقاومة التي يرافقها الإيمان بيد الله القديرة. قال: »إن كنتم لا تؤمنون فلن تأمنوا« (أش 7: 9). أمّا المهاجمان فهما »ذَنْبان مشتعلان مدخِّنان« (آ4). وبالتالي لا يشكِّلان خطرًا.

هو كلام الله الواحد يأخذ وجهين مختلفين بحسب الموقع التاريخيّ الذي وقف فيه. لأنَّ النبيّ أبعد ما يكون عن قسطل مياه تمرُّ فيه كلمة الله فلا يفعل ولا يتفاعل. فهو من يحمل هذه الكلمة إذا شاء، لأنَّه يستطيع أن يتهرَّب منها كما فعل يونان. وهو من يقول الكلمة بلغته ونفسيَّته. هكذا لا تكون الكلمة تسجيلاً يصل بشكل حرفيّ وكأنَّه رسالة ممهورة بختم الله. بل هي حيَّة بقائلها الذي هو من لحم ودم.

والفرق شاسع أيضًا بين عاموس وهوشع. عاموس هو ذاك الفلاّح الشديد البأس الآتي من الجنوب إلى الشمال. استند إلى نداء الربِّ فطالب العظماء بالعدالة الاجتماعيَّة: »أَضربُ البيت الشتويّ مع البيت الصيفيّ، وتبيد بيوت العاج وتضمحلُّ بيوت عظيمة، يقول الربّ« (عا 3: 15). وهوشع هو ابن المدينة الذي تزوَّج امرأة خانته أكثر من مرَّة، فجاءت حياته مثالاً عن حبِّ الربِّ لشعبه. قال الربُّ محدِّثًا شعبه كما العريسُ عروسه: »لذلك سأفتنها وأجيء بها إلى البرِّيَّة وأخاطب قلبها... فتخضع لي هناك كما في صباها، في يوم صعودها من أرض مصر« (هو 2: 16-17). صوتان بشريّان مختلفان كلَّ الاختلاف يقولان كلام الله. هما ما كتبا أقوالهما، بل التلاميذ الذين رأوا في تهديدهما علامة على حضور الله. قال هوشع: »أذنبت السامرة (عاصمة مملكة إسرائيل في الشمال)، فبالسيف يسقط شعبُها، أطفالها ينسحقون، وتنشقُّ بطونُ الحوامل« (هو 14: 1). ذاك ما حصل للسامرة سنة 722/721 ق.م. وعاموس هدَّد كاهن الملك: »تموتُ أنتَ في أرض نجسة، ويُسبى شعب إسرائيل عن أرضه« (عا 7: 17).

تهديد ووعيد ساعةَ الشعب خاطئ. ومواعيد بالخير لأنَّ الربَّ يغفر سريعًا: »أعيد شعبي من السبي، فيبنون المدن المخرَّبة ويقيمون بها، ويغرسون كرومًا ويشربون من خمرها، وجنائن يأكلون من ثمرها، وأغرسهم على أرضهم التي أعطيتُها لهم، ولا يُقتلَعون منها فيما بعد، يقول الربُّ الإله« (عا 9: 14-15).

ومولَّف أشعيا يرافق الشعب سحابة ثلاثة قرون. لم تكن أقواله مكتوبة بحيث لا تتبدَّل، هي كلمة حيَّة. ففي الحرب على أورشليم، شدَّد النبيُّ الملِكَ والشعب. ولمّا مضى المؤمنون إلى المنفى، أخذ يعزِّيهم في محنتهم: »عزُّوا، عزُّوا شعبي، يقول الربّ، طيِّبوا قلب أورشليم« (أش 40: 1). وغرس الرجاء في قلوبهم بالخلاص الآتي: »اصعدوا على جبل عالٍ يا مبشِّري صهيون! ارفعوا صوتكم مدوِّيًا، يا مبشِّري أورشليم! ارفعوه ولا تخافوا. قولوا لمدائن يهوذا: ''ها هو الربُّ إلهكم آتٍ وذراعه قاضية« (آ9). ولمّا عاد الشعب من المنفى، ووجد البيوتَ المهدَّمة والأرزاق الضائعة، دبَّ فيه اليأس. فجاءت كلمة الربِّ تشدِّد عزيمته. قالوا: »ننتظر النور فتباغتنا العتمة، والضياء فنسير في الظلام« (أش 59: 9). فأجاب الربُّ متحدِّثًا إلى أورشليم بفم نبيِّه: »قومي استنيري، فنورُك جاء، ومجد الربِّ أشرق عليك. ها هو الظلام يغطّي الأرض، والسواد الكثيف يشمل الأمم، أمَّا عليك فيُشرق الربّ« (أش 60: 1-2). وهكذا تكوَّن سفر أشعيا، منذ أيّام عزيّا، سنة 740 ق.م.، وما انتهى إلاّ في القرن الخامس ق.م. أجل، ما دُوِّن مرَّة واحدة، ولا كتبه شخصٌ واحد. فتلامذة النبيّ وتلامذة تلامذته كوَّنوا مدرسة جعلت الكلام النبويّ حاضرًا وسط المؤمنين في كلِّ ظروفهم: بالشفاه أوَّلاً ثمَّ بالكتابة. ما أحسَّ الشعبُ يومًا أنَّ هذه الكلمة مجرَّدة، بل هي متجذِّرة في الواقع الذي يعيش فيه السامعون. ولا كانت عتيقة وكأنَّها من زمن سحيق جُعلَت على رؤوسنا كسيف مُصلَت يريد أن يفترسنا. بل هي جديدة وكأنَّها تتوجَّه إلينا في هذا الآن وفي هذا المكان.

وتطوَّر الإيمانُ في اتِّصال شعب الله بسائر الشعوب، فتأسَّس لديهم التعليم حول وحدانيَّة الله. في أوَّل مسيرتهم كانوا يعبدون إلههم يهوه، ويعتبرون أنَّ لكلِّ شعب إلهه. بعد ذلك، رأوا في الربِّ، الإلهَ الأقوى الذي يسود سائر الآلهة. ولكن حين غلب مردوك، إله بابل، أورشليم، تشكَّك المؤمنون وخصوصًا حين سمعوا: »أين ألههم!« ولكن في النهاية، فهموا أنَّ الآلهة أصنام: لها عيون ولا ترى، لها آذان ولا تسمع. فهتف أشعيا بفم الربّ: »أنا الله ولا إله آخر، أنا الله ولا إله مثلي« (أش 46: 9). وقال الربّ: »أنا هو. أنا الأوَّل والآخر، ويدي أسَّست الأرض« (أش 48: 12-13). حينئذٍ هتف الكتاب المقدَّس كما في عنوان دُوِّن في القرن الخامس أو الرابع ق.م.: »في البدء خلق الله السماوات والأرض« (تك 1: 1). وهذا الإله يدين المسكونة كلَّها بواسطة الطوفان، لا منطقة صغيرة من الأرض. وشيئًا فشيئًا تعمَّق اللاهوت، فعرف الإنسان مسؤوليَّته تجاه هذا الإله »الذي علَّمه المشي، وحمله على ذراعه، وجذبه بحبال الرحمة وروابط المحبَّة« (هو 11: 3-4).

ج- المزامير، كتاب الصلاة والإيمان

حين ظهر يسوع للتلاميذ في العلِّيَّة بعد قيامته، قرأ معهم »شريعة موسى، وكتب الأنبياء، والمزامير« (لو 24: 44). منذ البداية، طرَحْنا سؤالاً في قراءتنا للمزمور 51. نحن نتلوه اليوم وندعوه واحدًا من مزامير التوبة. ولكنَّه لم يأتِ مُنزلاً من السماء. بدأ فصلاّه أحد المؤمنين مع جماعة ترافقه. بعد ذلك تبنَّته الجماعة لما فيه من تشديد على الخطيئة وطلب الغفران وتجديد القلب والروح. في وقت من الأوقات، رُبط بشخص داود الذي سفك الدم وخاف من أن يُسفَك دمه. الإطار الأوَّل هو إطار ذبائحيّ في الهيكل مع رشِّ الدم بالزوفى. ولكن حين صار الشعب في المنفى البابليّ (587-538 ق.م.)، لم يعُدْ هناك من هيكل، وبالتالي لا مجال لتقدمة الذبيحة. ما العمل؟ أضيفت آ19: »ذبيحتي لك يا الله روح منكسرة، والقلب المنسحق المنكسر لا تحتقره«. هي الآن ذبيحة روحيَّة تساوي أقلَّه ذبائح الخراف والعجول. ولكن سنة 515 ق.م. أعيد بناء الهيكل وتنظَّم الكهنة في أربع وعشرين فرقة، فاستطاع المؤمنون داخل أسوار أورشليم أن يقدِّموا الذبيحة الصادقة والمحرقة والتقادم التامّة »بعجول تقرَّب على مذبحك« (آ21).

هذا المزمور هو مثَل يُفهمنا كيف تكوَّن الكتاب وكلُّ سفر من أسفاره، بل المقاطع الكبيرة أو الصغيرة. كما نعرف مثلاً أنَّه كانت نسختان من نبوءة إرميا. الأولى قصيرة، وهي التي نقرأها اليوم في الترجمة اليونانيَّة والسبعينيَّة والتي وُجدَت مقاطع منها في قمران. والثانية طويلة وفيها بعض التوسُّعات والإسهابات. وسفر حزقيال دوِّن مرَّة أولى، ثمَّ ثانية، ثمَّ ثالثة، بحيث نحتاج اليوم إلى ما يُسمّى النهج التاريخيّ النقديّ لكي نكتشف الطبقات المتتالية. وكذا نقول مثلاً عن خبر الطوفان (تك 6-9). في الأصل كان تقليدان، فدمجهما جامع الكتاب الأخير، وما حاول أن يلغي غنى الواحد ولا غنى الآخر.

والكلام عن الملوك جاء في نسختين مختلفتين، فابتعدتا في النظرة اللاهوتيَّة كما في الزمان. أرادت النسخة الأولى (1صم + 2صم + 1 مل + 2 مل) أن تكون قريبة من »الحقيقة التاريخيَّة«، فروَت الأحداث كما وصلت إليها من التقليد وسائر الوثاثق، وما أخفت شيئًا عن القارئ. جاءت هذه النسخة بشكل اعتراف بخطايا الملوك، وهذه الخطايا قادت المملكة وأورشليم إلى الخراب، والشعب إلى الضياع. أمّا النسخة الثانية (1 أخ + 2 أخ) فأخذت من الوثائق عينها وأعطت صورة بهيجة عن »التاريخ«، فما تحدَّثت مثلاً عن خطايا داود ولا عن خطايا سليمان، كما تركت جانبًا ما يتعلَّق بإسرائيل، مملكة الشمال، التي ابتعدت شيئًا فشيئًا عن أورشليم، الموضع الذي اختاره الله لسكناه. النسخة الأولى كانت كتاب الأنبياء وصولاً إلى إيليّا وإليشاع وأشعيا وإرميا. والنسخة الثانية كانت كتاب الكهنة، فامتدَّت في سفرَي عزرا ونحميا، بانتظار أن يكون عظيم الكهنة »الحاكم الجديد«: »جعلوا العمامة الطاهرة على رأسه، وألبسوه الثياب الناصعة البياض« (زك 3: 5).

دُوِّن كتاب يشوع بن سيراخ في العبريَّة حوالي سنة 180 ق.م. ونقله حفيده إلى اليونانيَّة حوالي سنة 135 ق.م. فُقد العبريّ قرونًا عديدة، فقرأت الكنيسة النصَّ اليونانيّ الذي صار بالنسبة إلى الأرثوذكس والكاثوليك، في اللائحة القانونيَّة، شأنه شأن سفر التكوين وسفر الخروج وغيرهما. ونُقل النصُّ أيضًا إلى السريانيَّة القريبة من العبريَّة، كما نُقل إلى اللاتينيَّة. واليوم وُجد ثلثا الكتاب في العبريَّة. فهل من لغة تسيطر على لغة؟ ولماذا لا نستعين بهذه الترجمات فنكتشف غنى كلمة الله التي تنتقل بين اللغات ولا تستبعد واحدةً منها. بل كان تطوُّرٌ بين العبريَّة واليونانيَّة، بحيث إنَّ اليونانيّ أعطى معنى جديدًا للعبريّ: فحين كتب يشوع بن سيراخ »حكمته«، ما كان اليهود وصلوا بعد إلى الاعتقاد بالحياة الأخرى. فبركةُ الله محصورة في هذا العالم مع الخير الكثير والأبناء العديدين والعمر الطويل. والإنسان يُعاقَب في هذه الدنيا، وقبل موته. ولكن حين نُقل الكتاب إلى اللغة اليونانيَّة، بعد قرابة خمسين أو ستّين سنة، مرَّ المؤمنون في محنة وصلت بهم إلى الاعتقاد أنَّ »الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، بعضهم للحياة الأبديَّة، وبعضهم للعار والذعر الأبديّ« (دا 12: 2). لهذا، حين نُقل الكتاب إلى اليونانيّة، تعمَّقت العبارات واتَّخذت منحى جديدًا. واليوم، النصُّ القانونيّ هو النصُّ اليونانيّ، في امتداده نحو العهد الجديد والاعتقاد بالحياة في الآخرة.

2- الكتاب المقدَّس والإلهام

لا، لا يمكن أن يكون النصُّ البيبليّ حرفًا جامدًا. فهو عندئذٍ يَقتل. أمّا الروح فيُحيي، كما يقول بولس الرسول. ولماذا نريد أن يتكلَّم الروح فترة ويتوقَّف في الفترات الأخرى عن الكلام؟ وكلمة الربِّ في هذا المجال، تفتح الطريق أمامنا. حدَّث يسوع التلاميذ والحمدُ لله أنَّ كلامه إليهم لم يتسجَّل ولم يُحفَر على حجر كما في وضع الوصايا العشر. خاف يسوع أن ينسى التلاميذ ما قاله لهم، أن لا يفقهوا معناه، فقال لهم: »ولكنَّ المعزّي، الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي، سيعلِّمكم كلَّ شيء، ويجعلكم تتذكَّرون كلَّ ما قلته لكم« (يو 14 26). ما نستطيع قوله الآن، هو أنَّ الإلهام يرافق كلام الله، منذ اللحظة الأولى التي فيها اتَّصل الله بشخص من الأشخاص، حتّى ساعة التدوين، مرورًا بكلِّ التحوُّلات التي يمكن أن تحصل في قلب الجماعة المؤمنة. ونطرح السؤال: ما هو الإلهام؟ ونفهم كيف انطبق هذا المفهوم على الكتاب المقدَّس.

أ- الإلهام

يعود اللفظ العربيّ إلى »لهمَ« أي ابتلع. هنا نتذكَّر النبيّ حزقيال حين دعاه الله: »كُلْ هذه الورقة واذهبْ وكلِّمْ بيت إسرائيل. ففتحتُ فمي''. فأطعمني هذه الورقة. وقال لي: ''يا ابن البشر، أطعمْ جوفك واملأ أحشاءك من هذه الورقة التي أعطيك إيّاها''. فأكلتُها فصارت في فمي حلوة كالعسل« (حز 3: 1-3). وكما فعل حزقيال، كذلك فعل صاحب سفر الرؤيا (رؤ 10: 8-10) قال له الصوت: »خُذ الكتاب المفتوح بيد الملاك... خذهُ وابتلعه فتجده مرٌّا في جوفك وحلوًا كالعسل في فمك''. فأخذتُ الكتاب الصغير (أي الإنجيل) وابتلعتُه...«.

من هنا كان تحديد الإلهام: »أن يلقي الله في نفس الإنسان أمرًا يبعثه على فعل الشيء أو تركه، كأنَّه شيء أُلقي في الروح فالتهمه«، في عمق القلب وسواده بحيث يدعوه إلى المخافة. أمّا في اللغة الفرنسيَّة مثلاً inspiration تنطلق من إدخال الهواء في الرئتين. وفي المعنى الروحيّ إدخال الوحي إلى قلب الإنسان، فيؤمن، يقول، يفعل. ففي الوحي يُكشَف ما كان سرٌّا. يفعل الله في قلب الإنسان إذ يتجلّى بشكل نور سماويّ. هذا ما نكتشف مثلاً في خبرة شاول (بولس) على طريق دمشق: »سقط بغتة حوله نورٌ من السماء« (أع 9: 3). وتحدَّث بولس قال: »سقط حولي عند الظهر نورٌ باهر من السماء« (أع 22: 6). ويواصل: »والذين كانوا معي رأوا النور ولا يسمعون صوتَ من يخاطبني« (آ9). ذاك هو الوحي. ما يلقيه الله في قلب أنبيائه وحاملي كلامه.

ولكن بين النور الذي يتلقَّاه النبيّ مثلاً وتدوين البلاغ الذي يريد الله أن يوصله إلى شعبه، المسافة طويلة. بما أنَّ الله لا فمَ له كأفواهنا به يتكلَّم، فعلى النبيّ أن يعبِّر بالكلمة والصورة ما رآه في سرِّ الله. ذاك وضعُ أشعيا مثلاً. صوَّر الله ملكًا »جالسًا على عرش عالٍ رفيع وأطراف ثوبه تملأ الهيكل« (أش 6: 1). الحرس حوله هم السرافيم أي تلك الكائنات من نار، لأنَّ الله نار محرقة بحيث لا يجسر أحدٌ أن يقترب منه.

في المرحلة التالية، تأخذ الجماعة ما قاله النبيّ، تحاول أن تعيشه، تؤوِّنه في الوقت الذي تعيش فيه فتميِّز النبيّ الصادق من النبيّ الكاذب. وحين تُجمَع أقوال النبيّ، فهي تتَّخذ أبعادًا جديدة بالنسبة إلى زمان تدوين الكتاب. مثلاً، هدَّد عاموس النبيّ كاهن بيت إيل. ولمّا جُمع النصُّ بعد دمار السامرة ومعبدها، صار كلامُ النبيّ كما يلي: »تزني امرأتك في المدينة، ويسقط بنوك وبناتك بالسيف. وتُقسَم أرضك بالحبل، وتموتُ أنت في أرض نجسة، وتُسبى (مملكة) إسرائيل عن أرضها« (عا 7: 17). ذاك ما حصل سنة 722/721 حين جاء الأشوريّون واحتلُّوا البلاد، وذلك بعد موت النبيّ بسنوات.

إذًا هي مراحل أربع: النور السماويّ، التعبير عن هذا النور بلغة بشريَّة، قراءة الجماعة أو سماعها لما يُقال، ولا سيَّما في الاحتفالات الدينيَّة. وأخيرًا، تقديم الكتاب في وضعه النهائيّ. وهذا أمرٌ يمتدُّ إلى سنوات كما كان الأمر بالنسبة إلى هوشع وعاموس، أو إلى قرون من الزمن، على مثال ما حصل لنبوءة أشعيا التي بدأت سنة 740 ق.م.، وهي السنة التي مات فيها الملك عزيّا (2مل 15: 7؛ 2 أخ 26: 23) وتواصلت حتّى العودة من السبي أي بعد سنة 538 ق.نم.، لتقدِّم لنا كلامًا متواصلاً، حيٌّا، يرافق الشعب ويضيء له حياته. الخطر يحيق بأورشليم، سنة 701 ق.م.، كلام الله هنا. الشعب يمضي إلى المنفى ويعيش في العبوديَّة البابليَّة، كلام الله الأشعيائيّ يرافق هؤلاء المعذَّبين ويُنعش في قلبهم الرجاء. الشعب يعود من المنفى فيخيب أملُه: أهذا هو الهيكل الذي وعدونا به؟ أهذا هو الفردوس الذي صوَّروه لنا؟ وتواصلت »نبوءة« أشعيا.

هنا، كم نحن بعيدون عن الفكر الإسلاميّ الذي يتحدَّث عن التنزيل. كلام الله ينحدر من علوٍّ إلى أسفل. في شكل إملاء وفي لغة عربيَّة. بل الكتابُ وُجد قبل الزمن، على ما كان اليهود يقولون بالنسبة إلى التوراة، التي وُلدت قبل أن تُخلَق السماوات والأرض. والنبيّ العربيّ أوصل هذا الكلام كما أوحيَ إليه. لهذا دُعيَ الإسلام »دين الكتاب«. أمّا أهل التوراة والإنجيل فلا يُمكن أن يُدعَوا أهل الكتاب، بل أهل الكلمة الحيَّة التي يتَواصلُ التأمُّلُ فيها وكتابتها أجيالاً عديدة، والتي يترافق فيها دورُ الإنسان مع دور الله.

ففي التقليد اليهوديّ والمسيحيّ، الذين تلقّوا الوحي عديدون، والذين كتبوا نحن نجهل أسماءهم. هو كلام الله يصل إلى الجماعة مع كاتب واحد يرافق المؤمنين منذ النور الأوَّل حتّى النصِّ الأخير. اسمه الروح القدس. لهذا نستطيع أن نقول »الكتاب المقدَّس« مع أنَّنا أمام ثلاثة وسبعين كتابًا. وهذه الجماعة (والكنيسة في العهد الجديد) لم تأخذ بكلِّ الكتب التي دُوِّنت في حضنها. ذكر سفر العدد »كتاب حروب الربّ« (عد 21: 14). وسفرُ يشوع »كتاب ياشر« (يش 10: 13). ونحن لا ننسى ما دُعيَ فيما بعد الأسفار المنحولة، أي التي انتحلت صفة ليست لها. قال كاتبوها الذين كتموا أسماءهم: هي موحاة. ولكنَّهم كذبوا، لأنَّ كتبهم لا تحمل كلام الله، ولا يمكن أن تكون قاعدة الإيمان والحياة.

ما يميِّز الإلهام في المسيحيَّة هو دور الإنسان في تدوين كلام الله. فهو أكثر من وعاء جامد يحمل الكلمة كما سمعها وكأنَّها مسجّلة بحيث لا يمكن أن يكون فيها خطأ واحد. هي كاملة في أصلها. ولكن من يؤكِّد لنا كمالَ أذن السامع؟! يتحدَّث بولس عن »آنية من خزف«. فالقوَّة هي من الله، لا منّا.

لا. كلام الإنجيل مثلاً لم يأتِ على »مسجِّلة«. تكلَّم يسوع في اللغة الآراميَّة، فوصل كلامه في اللغة اليونانيَّة. ولكن من يؤكِّد لنا صحَّة هذا الكلام؟ الروح القدس الذي ينير الكاتب حين يكتب بحيث لا يكون خطأ على مستوى العقيدة والإيمان. ومن يقول لنا إنَّ هذا الكتاب موحى والآخر منحول؟ الكنيسة التي هي جسد المسيح.

لا مجال للتوسُّع في مسيرة الكنيسة لنفهم ما هو الإلهام. ولكن نقدِّم بعض المحطّات. أمّا البداية، ففي الكتاب المقدَّس بعهديه: هو يقين بأنَّ الله كشف عن نفسه وعن مخطَّطه للبشر. كلَّمنا بالأنبياء وفي النهاية بابنه يسوع المسيح (عب 1: 1-2).

حين قرأتِ الرسالةُ إلى العبرانيّين كلامَ النبيّ إرميا، اعتبرت أنَّ الروح القدس قاله وشهد لنا به (عب 10: 15). وكذلك بولس الرسول في نهاية سفر الأعمال: »صدَق الروح القدس في قوله لآبائكم بلسان النبيّ أشعيا« (أع 28: 25). وقالت الرسالة الثانية إلى تيموتاوس بعبارة أوضح موردة كلام بولس إلى تلميذه: »فأنت منذ طفولتك عرفتَ الكتب المقدَّسة القادرة على أن تزوِّدك بالحكمة التي تهدي إلى الخلاص في الإيمان بالمسيح يسوع. فالكتاب كلُّه من وحي الله، يفيد في التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب في البرّ، ليكون رجلُ الله كاملاً، مستعدٌّا لكلِّ عمل صالح« (2 تم 3: 15-17). ورسالة بطرس الثانية شدَّدت أيضًا على عمل الله، وكأنَّها نسيَتْ دور الإنسان. قالت: »لأنَّ ما من نبوءة على الإطلاق جاءت بإرادة إنسان، ولكنَّ الروح القدس دفع بعض الناس إلى أن يتكلَّموا بكلام من عند الله« (2 بط 1: 21).

في هذا الخطِّ راح آباء الكنيسة. قال أوسابيوس أسقف قيصريَّة: »الكتاب المقدَّس الذي أملاه الروح القدس« (التاريخ، 5/28: 18). وكتب القدّيس أوغسطين: »المسيح هو على رأس جميع التلاميذ الذين هم مثل أعضاء جسده، عبر الطبيعة البشريَّة التي اتَّخذها. من هذا القبيل، حين كتب هؤلاء التلاميذ ما بيَّن المسيحُ وقال، نستطيع القول إنَّ المسيح نفسه كَتب لأنَّ الأعضاء عبَّروا عمّا عرفوا بعد أن أملى الرأسُ عليهم« (اتِّفاق الأناجيل، 1: 35).

والصورة الثانية، آلة الموسيقى. حسب أثيناغور: »حرَّك روحُ الله أفواهَ الأنبياء مثل آلات موسيقيَّة... استعملهم الروح مثل مزمار ينفخ فيه الزمّار« (توسُّل من أجل المسيحيّين، 7: 9). ونقرأ مقالاً توجَّه إلى اليونانيّين (الآباء اليونان 6: 256) ونُسب إلى القدّيس يوستين: »يكفيهم أن يقدِّموا نفوسهم بصراحة لعمل الروح القدس، فتنزل ريشة العازف الإلهيّ من السماء، فتستعمل أناسًا أبرارًا كأدوات موسيقيَّة، كالناي والقيثارة، وتكشف لنا أمورًا سماويَّة، إلهيَّة«.

في العصر الوسيط، تحدَّث ألبار الكبير عن دور الله ودور الكاتب البشريّ. من جهة، »العلَّة الفاعلة الأولى«، أي الله. ومن جهة ثانية، »العلَّة الفاعلة القريبة«، أي الإنسان (النظم البيبليَّة 20). أمّا توما الأكوينيّ فدعا الروح القدس »الكاتب الرئيسيّ« والإنسان »الكاتب الأداة« في يد الروح (كوودليبت 7/14: 5). ولكنَّ القرن السابع عشر، خصوصًا مع ريشار سيمون، حرَّك هذه النظرة حول الأصل الإلهيّ للكتب المقدَّسة، على شكل إملاء شبه حرفيّ.

في الشرق، لبث الشارحون مرتبطين بتعليم الآباء، أمّا الغرب فأعمل التأويل التاريخيّ النقديّ، الذي أظهر تطوُّرَ النصِّ الكتابيّ على مدِّ العصور، وشدَّد على دور الإنسان في تدوين كلام الله. فكانت محطَّة هامَّة مع الأب لاغرانج الذي رأى في الإلهام الكتابيّ حالة خاصَّة من التشارك في العمل بين الخالق والخليقة. الله يحرِّك نشاط الكاتب الملهم، وفي الوقت عينه يجعل هذا النشاط حرٌّا. الله هو السبب الأساسيّ، والكاتب هو أداة وأداة حرَّة. الإلهام موهبةَ (كريسما) بها يلج الله النشاط البشريّ الحرّ لدى الكاتب الملهم بحيث يُدعى هذا الكاتب أداة الله. تحدَّثت رسالة البابا بيّوس الثاني عشر »بفيض من الروح القدس« عن »أداة حيَّة، عاقلة... يحرِّكها الله، فتَستعمل ملكاتها ومواهبها بحيث يستطيع الجميع أن يكتشف بسهولة شخصيَّته الخاصَّة والسمات والعلامات التي تميِّزه«.

وفي النهاية، نقرأ ما قاله المجمع الفاتيكانيّ الثاني في الوحي الإلهيّ، 11: »إذ أراد الله أن يُدوِّن هذه الأسفار المقدَّسة، اختار أناسًا لجأ إليهم في ملء استعمال مواهبهم وإمكاناتهم، وفَعَل فيهم وبهم بحيث كتبوا كمؤلِّفين حقيقيّين كلَّ ما وافق رغبته، وما كتبوا سوى ذلك«. والنتيجة: البيبليا هي من الإنسان ووحي من الله، لأنَّها نتيجة اللقاء والتشارك بين الله والإنسان، في مثال تامّ، هو يسوع المسيح الكلمة المتجسِّد. كلُّ هذا يقودنا إلى القسم الثالث من كلامنا: التأويل.

3- الكتاب المقدَّس والتأويل

اعتادت شريحة كبيرة في الشرق وما زالت، تشرح الكتاب المقدَّس بطريقة حرفيَّة. تُبرز الصعوبات، تشرح بعض الكلمات ولا تحاول أن تنزل إلى المعنى العميق، لأنَّها تخاف من الغرق إن هي غاصت في لجَّة البحر. أو أنَّنا نعود إلى الأقدمين نضمُّ ما قالوا في زمانهم ولا نجسر أن نقرأ الكتاب في زمننا الحاضر. هم كانوا قريبين من الزمن الذي فيه دُوِّن الكتاب. ولكنَّنا ننسى أنَّ كلام الله هو هو أمسِ واليوم وإلى الأبد، وهو يتوجَّه إلينا اليوم كما توجَّه في المرَّة الأولى إلى الذين سمعوه. على ما يقول المزمور: اليوم، إن سمعتم صوته. أي صوت الربِّ يكلِّمكم كما كان يكلِّم آباءكم. والأمر واضح في النصوص الكتابيَّة. أذكر على سبيل المثال الفصل الأخير من سفر يشوع: العهد في شكيم. يتوجَّه يشوع إلى الشيوخ والرؤساء في أيّامه. ويقول لهم: »عيونكم رأت ما فعلتُ (أنا الربّ) في مصر« (آ7). وهذا النصُّ دُوِّن في شكله النهائيّ بعد المنفى، أي بعد موسى بمئات السنين، واستطاع الكاتب أن يقول للسامعين: »عبرتم الأردنَّ وجئتم إلى أريحا« (آ11).

لا. لا يمكن أن يكون كلام الله من الماضي. وهو يرافق الكنيسة في مراحل مسيرتها، ويقدِّم الجواب على تساؤلاتها في هذا الآن وفي هذا المكان.

المرحلة الأولى. كتب بولس الرسول في 1 كو 10: 6: »وهذه الأمور حصلت لنا لتكون لنا أنماطًا«. يعني أن تجد كمالها عندنا. صوَّر الرسول عددًا من الأحداث حصلت للعبرانيّين في البرِّيَّة، فرأى فيها قراءة غير القراءة اليهوديَّة. صرنا على مستوى الأليغوريّا، أو المعنى الآخر، المعنى الرمزيّ، الذي يتخلّى عن المعنى الأوَّل ليغوص في العمق الروحيّ والسرّيّ. استعمل بولس لفظ »أليغوريّا« في غل 4: 24 (وفي ذلك رمز) فتحدَّث عن هاجر التي هي أورشليم الحاضرة والعائشة في العبوديَّة. أمّا سارة فهي حرَّة وتشير إلى أورشليم السماويَّة. وإن أورد بولس الماء الذي أُعطيَ للعبرانيّين في الصحراء، قال: »كانوا يشربون شرابًا روحيٌّا واحدًا من صخرة روحيَّة ترافقهم، وهذه الصخرة هي المسيح« (1 كو 10: 4). وطبَّق الكلام على قارئيه: هذا مثَل لنا »فلا نشتهي الشرَّ مثلما اشتهوه« (آ6). هذا »نذير« و»عبرة« لنا. فليحذرِ السقوط من هو قائم (آ11-12).

تركت المسيحيَّة التأويل اليهوديّ الذي انغلق على ذاته في نهج لا يخرج منه. فهذا التأويل اعتبر أنَّه يجد كلَّ شيء في كتابته، فاستعمل العبارات والألفاظ لتوضيح ما يمكن أن يجد من تناقضات وغموضات وبقي الأساس السلوك اليوميّ.

تركت المسيحيَّة العالم اليهوديّ وقدَّمت تأويلاً جديدًا للعهد القديم: فقد ظهر عاملٌ جديد في التاريخ مع شخص يسوع وعمله. ولكنَّه في الوقت عينه، لم يكن جديدًا بقدر ما نستطيع أن نكتشف أنَّه كان كلام عنه وصُوَر في أسفار العهد القديم. فالحقيقة التي عرفها المسيحيّون حول يسوع، ثبَّتتها »أنماط« توراتيَّة في إطار الخلاص. وهكذا كان للمسيحيّين مفتاحٌ تأويليّ يتيح لهم أن يكتشفوا معانيَ لم تكن متوقَّعة من قبلُ في النصوص الكتابيَّة. فتوافق النبوءات و»أنماط« العهد القديم، كانت مع الجديد الذي حمله المسيح، ينبوعَ تشجيع للمسيحيّين من أجل البناء (أع 13: 15؛ رو 15: 4).

ذاك كان الهدف الأوَّل. والهدف الثاني الدفاع عن الإيمان الجديد بوجه المعادين والمنتقدين. فالمعارضة العنيدة من قِبَل أهل المجمع، كانت عنصرًا هامٌّا في حياة الكنيسة خلال القرنين الأوَّلين في تاريخها. عندئذٍ بيَّنت الكنيسة أنَّ يسوع هو المسيح الذي انتظره الشعب اليهوديّ. إنَّه يُتمُّ العهدَ القديم ويعطيه كامل معناه. وهكذا كان التأويل الكتابيّ في قلب الجدال، ففسَّر المسيحيّون تفسيرًا كرستولوجيّا النبوءات التي اعتبرها اليهود »نبوءات مسيحانيَّة«، كما قرأوا نصوصًا توراتيَّة أخرى اتَّخذت بُعدًا جديدًا على ضوء حاش يسوع وآلامه وموته وقيامته. مثلاً، مز 22: »إلهي إلهي لماذا تركتني، وامتنعتَ عن نجدتي وسماع أنيني« (آ2). تذكَّرت الكنيسة آلام المسيح حين قرأت: »أوثقوا (قرأت اللاتينيَّة: ثقبوا) يديَّ ورجليّ ومن الهزال أعدُّ عظامي«. »يقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون« (آ17-19؛ رج مت 27: 35؛ مر 15: 24؛ لو 23: 34؛ يو 19: 24). وقرأت في المناخ عينه مز 118: 22ي: »الحجر الذي رذله البنّاؤون صار رأس الزاوية« (مت 21: 24؛ مر 12: 10-11). وخصوصًا أش 52: 13-53: 12 مع الذروة: »كنعجة تساق إلى الذبح، كخروف صامت أمام الذيـن يجزُّونـه لم يفتـح فاه«. كلُّ هذا صـار عنصـرًا أساسيٌّـا في الدفاعيَّة apologétique المسيحيَّة في وجه اليهود.

جاءت هذه الدفاعيَّة تمتدُّ في القرن الثاني وما بعد، ولا سيَّما مع رسالة برنابا أو مؤلَّفات القدّيس يوستين ابن نابلس في فلسطين العائش في القرن الثاني، واحتاجت الكنيسة أيضًا إلى دفاعيَّة ثانية في وجه الغنوصيَّة، ذاك التيّار الذي انطلق خلال القرن الثاني، في تنظيرات وتفاسير استعاريَّة للأسفار المقدَّسة، تجاوزت ما يمكن أن تقوله الكنيسة. واجهت الكنيسةُ هذا التهديد ففرضت حدودًا للأليغوريّا، وشدَّدت تارة على المعنى الحرفيّ للنصّ، وطورًا على معنى استعاريّ يختلف عمّا تقدِّمه الغنوصيَّة التي تعتبر نفسها »معرفة خاصَّة« تجاه المعرفة التي يقدِّمها التقليد المسيحيّ النابع من الكتب المقدَّسة. المثلُ الواضح في هذا المجال، شرح تك 1-3 التي رأى فيها الغنوصيّون تنظيرات كوسمولوجيَّة حول بداية الكون وتطوُّره. أمّا الكنيسة فتوقَّفت عند الخبر على أنَّه حدث وواقعة. نذكر هنا إيرينه، أسقف ليون، تيوفيل الأنطاكيّ، ترتليان القرطاجيّ...

وفي الوقت عينه، كان انشداد سيمتدُّ خلال الحقبة الآبائيَّة: من جهة، محاولة اكتشاف معانٍ كرستولوجيَّة في العهد القديم بواسطة تقنيات أنماطيَّة وأليغوريَّة. ومن جهة ثانية، محاربة الاستعمال المفرط للاستعارة لدى الهراطقة، في عودة إلى المعنى الذي يلتصق بالنصّ ولا يبتعد عنه إلاّ قليلاً.

المرحلة الثانية. في المرحلة الأولى كان التأويل المسيحيّ أداةً في خدمة غايات أخرى: الدفاع، الفقاهة والتعليم. ولكن مع تفسير يوحنّا لدى هرقليون الولنطينيّ (القرن الثاني) وتفسير دانيال لدى هيبوليت (القرن الثالث)، برز شكلٌ جديد سوف نجده في الحقبة الآبائيَّة، هو تفسير متتابع للنصِّ البيبليّ. في هذه المرحلة الثانية، لم تعد البيبليا وسيلة لتثبيت الإيمان المسيحيّ أو الدفاع عنه، بل صارت كنزًا يحمل إلى المؤمنين غنى لا يقدَّر بفضل غيرة المفسِّر الذي وُهبت له هذه النعمة. ومع ذلك لبث انشدادٌ بين التأويل الحرفيّ والتأويل اللاحرفيّ. فبالنسبة إلى العهد القديم كان من الطبيعيّ القول بمعنى عميق وراء المعنى الحرفيّ من أجل بناء المؤمنين. أمّا في العهد الجديد، فالمعنى الحرفيّ يكون في الدرجة الأولى للوقوف في وجه التفسير الأليغوريّ لدى الغنوصيّين، الذين مالوا إلى إهمال تاريخيَّة الأناجيل. ومع ذلك، قُرئت بعضُ الأمثال في إطار أليغوريّ في الإسكندريَّة، واستُغلَّت الإمكانيّات الأليغوريَّة إلى أقصى الحدود، ولا سيَّما مع كليمان (+ 215) وأوريجان (+ 252/254، في مدينة صور). وفي أنطاكية كان تأويلٌ دقيق وأكثر حرفيَّة مع ديودور الطرسوسيّ وتيودور المصيصيّ ويوحنّا الذهبيّ الفم. ولكن مهما كانت أهمِّيَّة الإطار الحرفيّ، فمعنى النصوص الكتابيَّة يكون دومًا أعمق من القراءة الحرفيَّة. فهذه النظرة إلى الكتاب المقدَّس كمجموعة أقوال الله الملهمة التي تتَّضح في تأويل دقيق، لبثت أساسيَّة طوال العصر الوسيط. وهناك توقَّف التأويل الشرقيّ الذي شدَّد على الناحية الروحيَّة والخلقيَّة، مع وصول إلى يسوع المسيح في قراءة العهد القديم.

المرحلة الثالثة. بعد أن اهتمَّ الشرّاح بالتأويل اللاحرفيّ وامتداده بأنَّ الكتاب المقدَّس يُقرأ من الداخل ولا يحتاج إلى معلومة آتية من الخارج، لأنَّه يحوي كلَّ المعلومات، تركوا التفسير الأليغوريّ الذي كان يساعدهم على فهم أيِّ نصّ، وراحوا في الدراسات اللغويَّة والتاريخيَّة والجغرافيَّة. لا، ليس النصّ الكتابيّ »قلعة مغلقة«، كاملة في ذاتها، بل هو جزء من حضارة الشرق القديم.

كانت نقطة الانطلاق نصوصًا لا نفهمها، تشكِّكنا، وتُدخلنا كما في باب مسدود. فبحثَ عصرُ النهضة الأوروبِّيَّة (القرنان 15-16) عن توازيات أو أمثلة متقابلة في آداب أخرى وحضارات. فتمَّت سلسلة من التفاسير تستند إلى الأدب اليهوديّ والوثنيّ، وذلك منذ القرن السابع عشر في إنكلترا مع Lightfoot، في هولندا مع Wettsein، في ألمانيا مع Billerbeck، في فرنسا مع Bonsirven وفي الولايات المتَّحدة مع Lachs.

معرفة الأدب القديم ساعدت على التعرُّف إلى البيبليا. وجاءت الأركيولوجيّا ولا سيَّما بالنسبة إلى العهد القديم وأسفار القدّيس بولس. ثمَّ الفيلولوجيّا (أو فقه اللغة) التي تعطي إمكانيَّة فهم للعبارات العبريَّة أو اليونانيَّة النادرة. وأخيرًا صارت الدراسات التاريخيَّة للحضارات المجاورة، جزءًا جوهريٌّا في مجال التأويل. وهكذا لم يعد التأويلُ مهمَّةً في داخل الكنيسة، تسيطر عليه وتتحقَّق ممّا يقال. لقد استعمل التأويل وسائلَ ودراسات في متناول الجامعات، فمارسه علماء يعتبرون أنَّ حرِّيَّة البحث أهمّ من طاعة الكنيسة طاعة دقيقة. لهذا كان النموُّ الأسرع عند البروتستانت، بسبب مواقف السلطة التعليميَّة في الكنيسة الكاثولكيَّة.

وتمثَّلت مدرسة تاريخ الديانات في ألمانيا مع Gunkel في استعمال المصادر اللابيبليَّة وتطبيقها مثلاً على نصوص العهد الجديد. ولكنَّ هذا الموقف نال انتقادًا كبيرًا. فانتقل الكلام إلى دراسة تأثير حضارة كنعان مثلاً على العهد القديم. كانت الأمور الغريبة تُفسَّر عن طريق الأليغوريّا. أمّا الآن، فوجود نصَّين عن الخلق في سفر التكوين، هو علامة وجود مرجعين جمعهما كاتب ثالث. هذا يعني أنَّنا لسنا أمام ينبوع واحد. واسم الله هو تارة يهوه وطورًا إلوهيم... كلُّ هذا دفع الباحثين لكي يروا موادَّ مختلفِ التقاليد وقد اندمجت في نصٍّ واحد. وحين نتميَّز هذه العناصر، نعرف مثلاً أنَّ التقليد الكهنوتيّ يشدِّد على الطقوس ويُدخل هارون، الكاهن الأوّل، في أخبار كانت في الأصل خاصَّة بموسى.

في المحطّات الأولى »لنقد النصوص«، ظنَّ الدارسون أنَّه كانت مراجع مدوَّنة. ولكن تبيَّن فيما بعد أنَّ الشرائع والأناشيد الليتورجيَّة والأخبار جاءت شفهيَّة قبل أن تدوَّن في فنون أدبيَّة معروفة. مثلاً الشرائع جاءت في شكل فتاوى في المحكمة، وفي شكل إرشاد في شعائر العبادة. مثل هذه الأنواع هي علامة أنَّها جاءت من أوساط مختلفة (المحيط الحياتيّ Sitz im Leben) تقدِّم لنا معلومات دقيقة حول التاريخ الدينيّ للشعب.

حينئذٍ جاءت دراسات الأنواع الأدبيَّة في العهد القديم أوَّلاَ ثمَّ في الأناجيل، فأفهمتنا المسيرةَ التي فيها تمرُّ قطعة من القطع الإنجيليَّة péricope لتصل إلينا. هناك أوَّلاً ما قال يسوع أو ما فعل. في مرحلة ثانية، قرأ الرسل ما تركه يسوع على ضوء القيامة. في مرحلة ثالثة، كان تأمُّل في النصوص على ضوء حياة الكنيسة وتاريخها. وفي مرحلة رابعة، جاء التدوين حيث للكاتب شخصيَّته ونظرتُه الأدبيَّة.

بالنسبة إلى المرحلة الثالثة مثلاً، نكتشف ممارسة الكنيسة انطلاقًا من معجزة أجراها يسوع. شفى يسوع المخلَّع وغفر له خطاياه. قرأ مرقس ولوقا النصَّ في إطار المعجزة وما خرجا منها. قال مرقس: »بُهت الجميع ومجَّدوا الله قائلين: إنَّنا ما رأينا مثل هذا« (مر 2: 12). وقال لوقا: »ومجَّدوا الله وامتلأوا خوفًا قائلين: إنَّنا رأينا الآن عجائب« (لو 5: 26). اكتشفنا عاطفة الحاضرين حول يسوع. أمّا متّى فأعطى خبرة الكنيسة. جاءت إليها جموع الخاطئين فنالوا الغفران و»مجَّدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا« (مت 9: 8).

لا يتحدَّث الإنجيل بشكل مباشر عن سلطان المسيح بأن يغفر الخطايا، بل عن سلطان الأساقفة والكهنة. تلك كانت ممارسة الجماعة حين دوَّن متّى إنجيله حوالي سنة 85.

وفي إنجيل يوحنّا نتعرَّف إلى بعض تاريخ الكنيسة في صعوباتها مع العالم اليهوديّ. الموضوع، شفاء الأعمى والصعوبات مع الفرّيسيّين. الإطار، جدال بين الكنيسة والمجمع اليهوديّ حول شخص يسوع. قيل: من يعترف بأنَّ يسوع هو المسيح يُخرَج من المجمع. مثل هذا القول لا يمكن أن يكون مزامنًا لحياة يسوع العلنيَّة. بل يأتي بعد مجمع يمنية في السنوات 85-100، حيث عزم اليهود بأن يطردوا من المجمع، اليهودَ الذين يعتنقون المسيحيَّة ويعترفون بيسوع أنَّه المسيح.

كلُّ هذا يعني أنَّ إنجيل يوحنّا كُتب في تلك الفترة، ولم يُؤخَذ عن فم المعلِّم. ثمَّ إنَّ إطار الخبر هو من تأليف الكاتب الإنجيليّ الذي انطلق من معجزة يسوع ليجمعها مع كلام حول يسوع الذي هو نور العالم. ونأخذ مثلاً آخر يدلُّ على دور الإنجيليّ في تدوين الأناجيل. في إنجيل مرقس هناك »السرّ المسيحانيّ«، أي إنَّ يسوع أراد أن يحفظ سرَّه بأنَّه المسيح، لئلاّ يفهمه الناس خطأ ويعتبروه رجل حرب يدحر الأعداء »ويعيد الملك إلى إسرائيل« (أع 1: 6). فحين شفى يسوع الأبرص، »انتهره وصرفه« (مر 1: 43). وحذَّره: »إيّاك أن تخبر أحدًا بشيء« (آ44). وفي الخطِّ عينه نعجب من يسوع يوصي »بشدَّة أن لا يعلم أحدٌ بما حدث« (مر 5: 43). وماذا حدث؟ صبيَّة ماتت. والناس يصيحون ويبكون. وها هي قامت وقال لهم يسوع بأن يطعموها. أتُرى يبقى الخبر مستترًا؟ أجل، بيَّن لنا القدّيس مرقس مسيرة المؤمن لكي يكتشف في مرحلة أولى أنَّ يسوع هو المسيح (8: 29). وفي مرحلة ثانية أنَّه ابن الله (15: 39).

وما قلناه عن مرقس نقوله عن لوقا الذي بنى »الصعود إلى أورشليم« في شكل أدبيّ، ابتعد، إذا شئنا، عن »تاريخيَّة« الأحداث وتواردها في الزمن. ومتّى قدَّم تعليمَ يسوع في خمس عظات على مثال موسى الذي جاءت أسفاره خمسة.

كلُّ هذا يبعدنا عن القراءة الحرفيَّة الجامدة للنصوص البيبليَّة. وأكبر مثال على ذلك الأناجيل الإزائيَّة، التي روت الخبر عينه، ولكنَّ التفاصيل جاءت مختلفة جدٌّا. كما وردت نصوص عند لوقا لم ترد مثلاً عند مرقس. إذا كان ما كتبه إنجيليٌّ هو نسخة طبق الأصل عمّا قاله يسوع وفعله، فهذا يعني أنَّ الإنجيليّ الآخر لم يكن أمينًا لكلام الربّ، وبالتالي يكون التحريف. تلك هي الأصوليَّة بعينها التي لا تصل بنا إلى الإيمان، بل إلى التعصُّب الذميم الذي يعتبر الآخر ضالاٌّ وبالتالي عدوٌّا. أما هذا الذي عاشه الشرق المسيحيّ حين دمَّر الأشخاص وأحرق الكتب وقسم الكنائس والجماعات ومنح معلِّمين كبارًا أبشع النعوت؟

الخاتمة

تلك كانت طريقنا في قراءة النصِّ البيبليّ: من جهة، القراءة الحرفيَّة الجامدة التي تقرأ النصّ ولا تحاول أن تفسِّره ولو قيل لنا إنَّ متوشالح عاش تسع مئة وتسع وستين سنة، أو أنَّ الحوت ابتلع يونان كما يمكن أن يبتلع يونان الحوت. مثل هذه القراءة تقود إلى الطريق المسدود وتجعل من الأسفار المقدَّسة أصنامًا نركع أمامها ولا نجسر أن نقترب منها. ومن جهة ثانية، القراءة التي تتمُّ بفعل الروح فيعجُّ كلام الله بالحياة. نبحث عن المعنى الروحيّ لكي نجد فيه الغذاء من أجل نفوسنا. نقرأه كما لو أنَّه كُتب اليوم. بل نعيد كتابته في أمانة لنصوصه. ذاك ما فعلته الكنيسة بالنسبة إلى الأناجيل بحيث لا نستطيع أن نكتشف ما قاله يسوع حرفيٌّا. فالكتاب المقدَّس مكتبة مؤلَّفة من ثلاثة وسبعين كتابًا. كتب عديدة في أكثر من لغة، ومن محيطات حياتيَّة متعدِّدة. تنوُّع كبير، اختلاف في البنى الأدبيَّة واللغويَّة. والذي يُعطي الكتاب وحدته وغناه على مستوى العقيدة والإيمان هو الروح القدس. والتنوُّع على مستوى الكتاب، يمنحنا نظرة جديدة إلى الإلهام حيث دور الإنسان يجاور دور الله، على مثال سرِّ التجسُّد في المسيح: هو ابن الله وهو ابن البشر. والكتاب المقدَّس هو كلام الله وكلام الإنسان، في سرٍّ نعيشه يومًا بعد يوم. انطلق الكتاب من الوحي والتقليد الشفهيّ ليصل إلى الكلمة المكتوبة. ونحن ننطلق من الكلمة التي كتبتها يدُ إنسان من البشر سار بإلهام الروح، لكي نصل إلى الوحي الأساسيّ الذي يساعدنا على اللقاء بالله. وحدها هذه القراءة تدلُّنا على يسوع المسيح الذي هو الطريق والحقّ والحياة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM