تقديم

دراسات بيبليَّة -42 -

بولس عبدالمسيح وسفيره

********

الخوارسقف بولس فغالي

دكتور في الفَلسَفَة واللاهُوت

دبلوم في الكتاب المقدَّس واللِّغات الشَّرقيَّة

********

منشورات الرابطة الكتابيَّة

تقديم

بولس. فسَّر القدِّيس أوغسطين هذا الاسم في اللاتينيَّة: الصغير paulus، هو قال عن نفسه: »أنا أصغر الرسل« (1 كو 15: 9). وأضاف: »لا أستحقُّ أن أكون رسولاً«. ولادته لم تكن ولادة طبيعيَّة بمعنى أنَّه رافق يسوع على طرقات الجليل واليهوديَّة، ودعاه كما دعا سمعان وأخاه أندراوس، يعقوب وأخاه يوحنّا. لهذا دعا نفسه »السقط«، كما نقول عن ثمرة »سقطت« دون أن تنمو مثل سائر الثمار.

إنسان متواضع. ولكنَّ الربَّ يرفع المتواضعين. قال: »بنعمة الله أنا ما أنا عليه الآن، ونعمته عليَّ ما كانت باطلة، بل إنِّي جاهدت أكثر من سائر الرسل كلِّهم، وما أنا الذي جاهدتُ، بل نعمة الله التي هي معي« (آ10). أجل، هذا »الصغير« هو كبير جدٌّا، وسيكون له أن يفتخر تجاه الذين يحسبون نفوسهم رسلاً وما هم برسل. وينهي كلامه: »من يفتخر فليفتخر بالربّ«.

بولس هو »عبد« المسيح. العبد والعابد أمرٌ واحد. هو الذي يحبُّ »عابده« حتّى الجنون. هو الذي يلتصق بمن »عبدَه«، أي صَنَعه. كان لا شيء، صار ذاك العظيم. وهكذا ربط بولس حياته بحياة الربّ، فما عاد يفتخر إلاَّ بصليب المسيح. حيث غاب الكثيرون عن صليب يسوع، هناك أراد بولس أن يكون »مصلوبًا مع المسيح« محلَّ أحد اللصين اللذين كانا قرب يسوع. وفرح لأنَّه يحمل »في جسده سمات يسوع« (غل 6: 17).

هذا الشرف الكبير الذي ناله بولس، لأنَّه قبِلَ يومًا أن يقول للربِّ: »ماذا تريد أن أفعل؟« فأرسله إلى الكنيسة. إلى حنانيا الذي عمَّده، إلى بلاد العرب، حوران، شرقيِّ الأردنّ، إلى هذه الجماعات المسيحيَّة الأولى حيث عرف يسوع: ما عمله، ما علَّمه، ما عاشه وكيف انتهت حياته. دخل يسوع في هذا الرسول فاستطاع أن يقول: لستُ أنا الحيَّ بل المسيح هو الحيُّ فيَّ. لم تعُد حياته له. صارت للمسيح. بل صارت حياته حياة المسيح. فاستطاع أن يقول أكثر من مرَّة: اقتدوا بي، اقتدوا بي. فأنا أقتدي بالمسيح. وصوَّره لنا القدِّيس لوقا في أعمال الرسل صاعدًا إلى أورشليم على مثال معلِّمه، ولكنَّه لن يموت في أورشليم، لأنَّ الربَّ طلب منه أن يشهد له في الأمم، في قلب العالم الوثنيّ، في رومة: »لا بدَّ لك أن تحضر لدى القيصر« (أع 27: 24). ولن يموت على الصليب وهو الذي قال: صرت مصلوبًا للعالم، بل بقطع الرأس على طريق أوستيا، قرب روما.

كان بالإمكان أن يكون بولس فرِّيسيٌّا بين مئات بل آلاف الفرِّيسيّين. ولكنَّه ترك كلَّ شيء وراءه وانطلق ملبِّيًا الدعوة العلويَّة. كان بإمكانه أن يبقى لدى أبيه وأمِّه، وهو من لا يُذكَر له أخٌ ولا أخت. لماذا التعب؟ لماذا الانطلاق من مدينة إلى مدينة؟ لماذا التعرُّض للأخطار؟ إلى غير بولس يُقال هذا الكلام. أدركني المسيح فأردتُ أن أدركه، »فأشاركه في آلامه وأتشبَّه به في موته على رجاء قيامتي من بين الأموات« (فل 3: 10-11).

هذا الذي أحبّ الرب حتى العبادة، صار سفيره إلى الأصقاع البعيدة، من أورشليم إلى الليريكون، على حدود إيطاليا. ولكنه لن يصل إلى رومة كما أراد، بل مقيَّدًا من أجل المسيح. فالسفير هو سفير الرب في القيود، ومع أنه سجين السلطة الرومانية، فهو حرّ في حمل الكلمة، وهو لا يخاف من الموت. فالسفير يمثّل بلده، وبولس يمثّل يسوع. أتراه يريد أن يختلف عن سيّده وهو من افتخر بأن يكون عبده؟

فبولس هو رسول. الربُّ أرسله. وما انتظر أن يُرسَل من لدن البشر. قال إلى أهل غلاطية وإلى الذين: »أنا رسول، لا من الناس، ولا بدعوة من إنسان، بل بدعوة من يسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من بين الأموات« (1: 1). وتذكَّر بولس ما رووا أمامه من كلام الربّ: »كما أرسلني الآب. كذلك أنا أرسلكم« (يو 20: 21). هو مُرسَل كما يسوع مرسل. يا للفخر، يا للشرف، يا للعظمة! وفي الوقت عينه، يا للمسؤوليَّة! وسوف يقول لأهل كورنتوس: »نحن سفراء المسيح«. السفير هو من ترسله بلاده لكي يمثِّلها، لكي يدافعه عن مصالحها. يسوع هو سفير الآب. وبولس هو سفير يسوع المسيح. يسوع أخبرنا عن الآب، وبولس يخبرنا عن الابن، يحمل الإنجيل بفمه، بقلبه، بكلِّ حياته.

ولكنَّ هذا الرسول يعرف ضعفه، وأنَّه يحمل الكنز الذي سُلِّم إليه في إناء من خزف، من فخّار. يمكن أن ينكسر هذا الإناء. ولكنَّ بولس لا يخاف. فالقوَّة هي من الله، لا منّا. المهمُّ يقول بولس أنَّنا »وكلاء أسرار الله«. هو الوكيل، لا الأصيل. الأصيل هو يسوع المسيح. أمّا الرسول فهو »الوكيل«، وما يُطلَب من الوكيل هو أن يكون »أمينًا«. فالأمانة هي صفة الرسول الأساسيَّة، لأنَّه لا يعظ بنفسه، بل يعظ »بيسوع المسيح ربٌّا« (2 كو 4: 5). ويواصل، »نحن خدَمٌ لكم من أجل المسيح«.

هذه بعض ملامح بولس الذي دعوناه عبد المسيح ورسوله. لو لم يكن كذلك، لكان ضاع اسمه بين الأسماء العديدة في العالم، ولكان غاب شخصه. أمّا حين قبل أن يكون كما دعاه الربّ، فهو حيٌّ اليوم مع المسيح الحيّ، وهو مبشِّر الآن مع المسيح المبشِّر. صار مسيحًا آخر. لهذا نفرح إن نسمع له لأنَّ صوته صوت المسيح وكلامه كلام المسيح. فيا ليتنا نأخذ معه ما أخذ من المسيح، ونتعلَّم معه ما تعلَّم من المسيح!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM