الخاتمة
وهكذا رافقنا بولس الذي دعا نفسه أكثر من مرة »الرسول«. قال في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »من بولس الذي شاء الله أن يدعوه ليكون رسول المسيح يسوع« (1: 1). وفي الثانية إلى كورنتوس: »من بولس رسول المسيح يسوع بمشيئة الله« (1: 1). هذا الرسول ترك لنا بنفسه ثلاث عشرة رسالة أو أربع عشرة. دوّنها بيده، بمن ساعده، بيد تلاميذه حتى بعد موته. وبينها، كما تقول الكنيسة الانطاكية، الرسالة إلى العبرانيين. ما اكتفى بولس بأن ينشر الانجيل بفمه، بل راح يبشر بقلمه، وقال فيما قال: »الويل لي إن لم أبشّر«. فالبشارة جزء من حياته.
وهكذا قرأنا الرسائل الثلاث عشرة فقط، وربّما نعود إلى الرسالة إلى العبرانيين في إطار الكلام عن يسوع الكاهن الأعظم الذي ما استحمى أن يدعونا إخوته وأخواته، الذي قدّم نفسه ذبيحة منذ مجيئه إلى العالم.
وقرأنا أيضاً ما يتعلّق بالتقليد الذي بيّن حضور بولس خارج »الكنيسة الرسمية«. ففي »الكنيسة الخفية« التي أرادت أن يكون لها كتبها، شأنها شأن كنيسة المسيح، وصلت إلينا كتب أوردنا نصوصها فيما مضى، وها نحن نقدّم هنا دراستين منها: أعمال بولس، رؤيا بولس. وخرجنا من إطار الآثار المنحولة لندخل في العالم الغنوصي، تلك الحركة التي كان لها الأثر الكبير في مجتمعات عديدة، والتي حسبت أنها نالت »وحيًا« تستطيع أن توصله إلى الناس بعد أن قسمتهم فئتين: البسطاء والكمّال. أمّا ما وُجد في في نجع حمّادي، في صعيد مصر، فهو للكمّال، لهذا جُعل في لغة قبطيّة لئلا »يُحرق« كما أحرقت كتب عديدة اعتُبرت خطراً على المؤمنين، وحاملةً التعاليم الضالة.
وانتشرت رسائل بولس في الشرق والغرب، بعد فترة من »الرفض« لدى فئات خافت أن تتكلّم عن الثالوث، عن التجسّد والحديث عن يسوع الذي صار انساناً حقيقياً، وصُلب ومات وقام. رحنا إلى العالم اليوناني مع أوريجان بشكل خاص، ولكننا لم ننسَ الآباء الذين دافعوا عن الإيمان الجديد في وجه العالم الوثني: يوستين، ارستيد، تيوفيل الانطاكي وغيرهم. وتلخّص بالنسبة إلينا العالم اللاتيني في شخص القديس أوغسطين، الذي استند إلى قبريانوس، أسقف قرطاجة. وحين هاجم الدوناتيين الذين ارتبطوا بدوناتوس الرافض الرحمة لجاحدي الإيمان خلال الاضطهاد، والبيلاجيّين، تلاميذ بيلاج الذي شدّد على إرادة الانسان تجاه النعمة، أورد هذا المعلّم الكبير، مقاطعَ من أقوالهم وكتبهم وردّ عليها مستنداً إلى بولس الرسول. وما اكتفى بأن يأخذ أقواله، بل اقتدى بحياته، واعتبر أن اهتداءه حين قيل له »خذ واقرأ« شابه اهتداء ذاك الماضي في الطريق إلى دمشق، والسامع كلام الربّ: لماذا تضطهدني. فالذي دعا أوغسطين هو أكثر من فكرة فلسفيّة تعلّمها مع أفلاطون أو المانويين، إنه شخص حي نستطيع أن نقيم معه حواراً. وسوف يتواصل هذا الحوار حتى سنة 430، سنة وفاة معلّم افريقيا الكبير. والذي دعا بولس، ليس هو ذاك الميت الذي سرق تلاميذُه جثمانه من القبر لكي يضلوا الناس ويحدثوهم عن قيامته. إنه حي يعمل في الذين دعاهم بحيث لا يهابون الآلام والموت.
وأخيراً فتحنا باباً على العالم السرياني. منذ القرن الثاني على الأقلّ، عُرفت رسائل بولس كما عُرفت الأناجيل في ما يُسمّى »السريانيّة العتيقة«. منذ القرن الثالث والرابع، وردت النصوص البولسية كما الشروح وخصوصاً مع افرام السرياني، ومع تيودور المصيصيّ الذي نُقلت أثاره سريعاً إلى السريانيّة. وكما ألّف السريان التفاسير في لغتهم، كذلك نقلوا العديد من الآثار اليونانية مثل تفاسير كيرلس الاسكندراني ويوحنا الذهبي الفم وديودور الطرسوسي وغيرهم.
هل استنفدنا الدراسات عن بولس؟ نحن بدأنا. ولا نقول: فتحنا باباً، بل: فتحنا نافذة نتمنّى أن تكون نقطة انطلاق فنعرف الغنى الذي تركه آباء الكنيسة، ولا سيما الكنيسة السريانية، حين قرأوا بولس الرسول وغيره من الأسفار المقدسة.