الفصل السادس عشر
أوريجان(1) معلِّم الإسكندريَّة
وبولس الرسول
منذ رسالة بطرس الثانية والكلام في الكنيسة يَذكر الرسائل البولسيَّة: »واحسبوا أناة ربِّنا خلاصًا، كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس أيضًا بحسب الحكمة المعطاة له، كما في الرسائل كلِّها أيضًا، متكلِّمًا عن هذه الأمور...« (3: 15-16أ). وهذه الأمور هي مجيء الربّ. ولكنَّ الكاتب أضاف حالاً عن هذه الرسائل: »فيها أشياء عسيرة الفهم يحرِّفها غير العلماء وغير الثابتين أيضًا، كباقي الكتب أيضًا لهلاك نفوسهم« (آ16ب). أجل، رسائل صعبة فتهرَّب منها المؤمنون. كما أنَّ التيّار اليهومسيحيَّ هاجمها وهو الذي رفض التكلُّم عن الثالوث الأقدس وعن تجسُّد الكلمة الإلهيّ. ولكنَّ الآباء الدفاعيِّين عادوا إلى بولس وأوَّلهم القدِّيس إيرينه(2). أمّا أوَّل من كرَّس اهتمامه لشرح الرسائل البولسيَّة فكان أوريجان حوالى سنة 243، يوم كان في قيصريَّة فلسطين (على البحر)(3). ولكن من المؤسف أنَّه لم يُحفَظ لنا من هذه التفاسير، سوى مقاطع، بسبب معاداة الكثيرين لهذا المعلِّم الكبير الذي لم يكن ليجاريه أحد في دراسة الكتب المقدَّسة، في تاريخ الكنيسة. ومع ذلك، وصل إلينا تفسير الرسالة إلى الرومانيِّين في ترجمة لاتينيَّة بيد روفين. ومع أنَّ هذا المترجم أعلن أنَّه أوجز الأصل اليونانيّ، إلاَّ أنَّ هذا المؤلَّف يُقدِّم لنا أوَّل تفسير لرسالة كانت في قلب المجادلات العقائديَّة في الغرب المسيحيّ. من بيلاج إلى كارل بارت، مرورًا بأوغسطين ولوثر. ولمّا انطلق مشروع الترجمة المسكونيَّة الفرنسيَّة للكتاب المقدَّس، كانت الرسالة إلى رومة أوَّل عمل قامت به الكنيسة بكلِّ طوائفها، فانفتح الحوار وما كان أجمله من حوار.
أمّا كلامنا فيسير في ثلاث مراحل. الأولى، بولس مهمٌّ في نظر أوريجان بسبب »سلطته« كرسول. في مرحلة ثانية، نرافق أوريجان حين يكتشف في الكتابات البولسيَّة أساسًا جوهريٌّا لقراءة الكتب المقدَّسة قراءة روحيَّة، كما اعتاد أن يفعل في مجمل شروحه. وأخيرًا، نقرأ المواضيع التي تمُيِّز التفسير الأوريجانيَّ لمؤلَّفات الرسول(4).
1. سلطة الرسول
كان أوريجان معجبًا إعجابًا كبيرًا ببولس الرسول، فرأى فيه »شاهدًا مميَّزًا«، كما قدَّمه على أنَّه »المقتدي بالمسيح« (1 كو 11: 1)، و»أعظم الرسل«(5). تحدَّث عن بولس أنَّه من شعب إسرائيل، وأنَّه صورة معبِّرة، باهتدائه، عن العبور من الشريعة القديمة إلى الشريعة الجديدة. واهتدى بولسُ إلى المسيح فصار »رسولَ الأمم«. وأخيرًا، عرف بولس أعمق الأسرار فصار »معلِّم« العقيدة، وفي الوقت عينه المثالَ الذي نتبعه في الحياة المسيحيَّة.
واللافت في جواب أوريجان على هجوم الفيلسوف قلسوس (الذي جعل »أحاجيَ« كريمة في الديانة اليهوديَّة، تجاه شروح يعطيها المسيحيّون بالنسبة إلى يسوع)، هو أنَّه يقدِّم وجه بولس، ويورد مقطعًا من الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »لكنَّنا نتكلَّم بحكمةٍ بين الكاملين، ولكن لا بحكمة هذا الدهر... نتكلَّم بحكمة الله في سرِّ الحكمة المكتومة، التي سبق الله فعيَّنها قبل الدهور لمجدنا« (2: 6-8). وإذ أكَّد قلسوس أنَّ بولس لم يمتلك ذرَّة من الحكمة، أجاب أوريجان خصمه: »ابدأ وتفحَّص رسائل هذا الكاتب، وتنبَّه إلى معنى العبارات، الموجودة مثلاً في الرسالة إلى الأفسسيِّين، والكولوسيِّين، والتسالونيكيِّين، والفيلبِّيِّين والرومانيِّين...«. ويختم أوريجان كلامه فيقول: لو أنَّ قلسوس »أخذ بقراءة متنبِّهة، فأنا متأكِّد أنَّه يُعجَب بفكر هذا الرجل الذي يقدِّم نظرات رفيعة في لغة بسيطة. أو، إن هو رفض أن يُعجَب، غطَّى نفسه بالهزء، سواء عرضَ في أيِّ معنى فهم الكاتب، أو حاول أن يردَّ عليه أو يعترض ويحسب أنَّه فهم«(6).
هذا لا يعني أنَّ بولس لم يَنمُ في الحياة المسيحيَّة بعد أن اهتدى إلى المسيح، بل إنَّ المقابلة بين الرسائل أوحت إلى أوريجان فكرةً تبيِّنُ التطوُّرَ في مسيرة الرسول. فحين دوَّن الرسالة الأولى إلى كورنتوس، أعلن أنَّه يُخضِع جسده ويَقمعه لئلاَّ يكون مرفوضًا (9: 17). في الرسالة إلى فيلبِّي، أقرَّ أنَّه لم يبلُغْ بعدُ الهدف الذي يتوق إليه (فل 3: 12). تطوَّر تطوُّرًا بحيث لا يستطيع بعده السقوط. في هذا المعنى قال: »نحن الكاملين« (آ15). ويواصل أوريجان: ولكنَّ الرسول أعلن أنَّه لم يُدرك بعدُ »وفرة الفضائل«. وبيَّن أنَّه »أكثر كمالاً« حين كتب الرسالة الثانية إلى كورنتوس (4: 10). »ففيه الذي يحمل في كلِّ مكان وفي كلِّ زمان ميتة يسوع في جسده، ما كان (الجسم) البشريّ (أي: اللحم والدم) يشتهي أبدًا ضدَّ »الروح، بل كان خاضعًا له لأنَّه ماضٍ إلى الموت على مثال موت المسيح«. فيبدو إذًا أنَّ تطوُّرًا حصل. وبالنسبة إلى أوريجان، تجاوز الرسولُ عتبةً جديدة مع الرسالة إلى أهل رومة، حيث كتب: لا شيء يفصله عن محبَّة المسيح (8: 39).
ومسيرةُ بولس هي تلك التي ينبغي على المؤمنين أن يحاولوا الاقتداء بها. رأى الغنوصيِّون أنَّ هناك فصلاً نهائيٌّا بين البشر (فالنفوس الدنيا لا تقدر أن ترتقي نحو حالات »الكمّال«)، أمّا أوريجان فعارضهم واعتبر بقوَّة أنَّ الجميع أُعطي لهم لكي يتطوَّروا على مستوى وجودهم الخلقيِّ والروحيّ، بقدر المواهب التي نالوها وبقدر قبول حرِّيَّتهم. فبولس، الشاهد للإنجيل، هو منذ الآن مثال يُحتذى من أجل حياة تتوافق مع المسيح. لهذا يطبِّق أوريجان على المسيحيِّ ما يقوله بولس عن خبرته الخاصَّة، ولاسيَّما حين يشير الرسول إلى ذروة الكمال. إنَّه يدلُّ بذلك على المثال الذي يُدعى كلُّ واحد إليه ونقرأ كيف يفسِّر رو 8: 35:
من يقدر أن يفصلنا عن هذا الحبِّ؟ إن أتت المحنة نقول لله: »في المحن وسَّعتَ لي«. إذا أحسسنا أنَّنا في ضيق، في العالم، بسبب حاجات الجسد، نبحث عن وسع حكمة الله وعلمه، حيث لا يستطيع العالم أن يضيِّق علينا. لأنِّي أعود إلى الحقول الرحبة جدٌّا، حقول الأسفار المقدَّسة أطلبُ الفهم الروحيَّ لكلام الله، وفيه من ضيق يضيق عليَّ... إذا قضيتُ حياتي كلَّها في الاضطهادات والمخاطر، أقول: »إنَّ آلام الزمن الحاضر لا تُقاس مع المجد المُقبل الذي ينكشف لنا«. قصيرٌ ومحصور هو زمنُ هذه الحياة التي نقضيها في الاضطهادات. ولكنَّه أبديٌّ ودائم ذاك الذي ننتظره في المجد. لهذا يقول بولس: »في كلِّ هذا نحن منتصرون«، لا بواسطة فضيلتنا، بل »بواسطة ذاك الذي أحبَّنا«.
2. فهم الكتب فهمًا روحيٌّا
في الكتاب الرابع من مقال المبادئ، عرض أوريجان تعليمه حول الإلهام في الأسفار المقدَّسة، وحوْلَ مختلف مضامين النصِّ البيبليّ. وتكفي جولة قصيرة في هذه الصفحات لكي تبيِّن لنا كم هو مَدين للقدِّيس بولس. لا شكَّ في أنَّه كانت تأثيرات أخرى مُورست عليه. فأوريجان عرف أساليب التفسير التي كان يمارسها أصحابُ الصرف والنحو وفلاسفة العالم القديم. وعرف بشكل خاصٍّ التأويل عند فيلون، الذي وسَّع في قلب العالم اليهوديّ الهلِّنستيِّ، استعارات (أليغوريّات) عديدة بالنظر إلى أولى أسفار البيبليا. ولكن سبق هنري ده لوباك وبيَّن أنَّ التأويل الذي توسَّع فيه أوريجان هو من طابع مختلف جدٌّا، لأنَّه يستند أوَّلاً إلى الإيمان بالمسيح الذي يوصل الكتب المقدَّسة إلى تمامها. وهكذا أحبَّ أوريجان أن يورد لو 24: 27 حيث القائم من الموت شرح خلال لقائه مع تلميذيه في الطريق إلى عمّاوس »ما يعنيه في كلِّ الكتب«. وشدَّد على الأهمِّيَّة الخاصَّة التي يتمتَّع بها إنجيلُ يوحنّا، هذا الإنجيل »الذي لا يستطيع أحدٌ أن يدرك معناه إن لم يَنَم على صدر يسوع ولا يتقبَّل مريم كأمِّه«(7). فيبقى أنَّ الكتابات البولسيَّة هي هنا المرجع الرئيسيُّ لأوريجان، كما يبيِّنه بشكل خاصٍّ العرضُ في مقال المبادئ.
ونقرأ أوَّلاً ما يلي: »النور الذي تتضمَّنه شريعةُ موسى التي كانت مخفيَّة من قبل تحت حجاب، شعَّت مع مجيء يسوع الذي نزع الحجاب وعرَّفنا شيئًا فشيئًا على الخيرات التي فيها امتلك الحرفُ الظلَّ«(8). هذا النصُّ يلمِّح إلى 2 كو 3: 14-16 (ذلك القناع... لا ينزعه إلاَّ المسيح). عاد أوريجان مرارًا إلى هذا النصِّ في مؤلَّفاته، وذكره ليبيِّن أنَّ اليهود لم يصلوا إلى الفهم الحقيقيِّ للأسفار المقدَّسة، لأنَّهم لبثوا في المعنى الحرفيِّ بدلاً من أن يقرأوها في روح المسيح. وفي مقال المبادئ يواصل أوريجان القراءة فيشرح أنَّ معنى الإنجيل يفرض، لكي نفهمه، نعمةً أعطيَتْ في الماضي لبولس. ويستعير أيضًا كلام الرسول: »نحن لنا فكر المسيح لكي نعرف ما منحنا الله: ما نقوله، لا نقوله في كلمات تعلِّمها الحكمة البشريَّة، بل في كلمات يعلِّمها الروح« (1 كو 2: 16. ثمَّ آ12-13). عندئذٍ يعرض أوريجان تعليمه حول معاني الأسفار المقدَّسة، ولهذا يستعيد المثلَّث الجسد والنفس والروح (1 تس 5: 23). ويوسِّع في توافق مع هذا المثلَّث، النظريَّةَ التي ينبغي بموجبها أن يُفهم النصُّ البيبليّ، لا بحسب مفهومه المباشر فقط (أي في حرفيَّته أو »بشريَّته«، على مستوى »اللحم« (والدم)، بل أيضًا بحسب معنى يوافق النفس (المعنى الخلقيّ)، وحسب معنى للإنسان »الكامل« (المعنى الروحيّ). ويورد، بالنسبة إلى هذا المعنى الأخير، 1 كو 2: 6 (نتحدَّث عن حكمة بين الكاملين). ويضيف إنَّ »الكامل« تبنيه »الشريعةُ الروحيَّة التي تتضمَّن ظلَّ الخيرات الآتية«(9).
وها هي بعض أمثلة تعطي صورة عن المعاني الثلاث للأسفار المقدَّسة. واحد من هذه المعاني، أي المعنى الخلقيّ، أُخذ من 1 كو. نذكر أنَّ أوريجان أورد فيه فريضة من الشريعة (لا تكمَّ الثور في الدياس، تث 25: 4)، وقدَّم الشرح التالي: »هل يهتمُّ الله بالبقر؟ أو هل يقول هذا من أجلنا فقط؟ لأجلنا كُتب هذا، لأنَّ الذي يفلح ينبغي أن يفلح في الرجاء، والذي يدوس الحَبَّ على رجاء أن يأخذ حصَّته« (1كو 9: 9-10). ولكنَّ الأمثلة المتعلِّقة بالمعنى الثالث، بالمعنى الروحيّ، هي التي تبيِّن بشكل خاصٍّ الأساس البولسيَّ للتعليم الذي يتوسَّع فيه أوريجان: »قال الرسول في مكان ما، مستفيدًا من بعض نصوص سفرَيْ الخروج والعدد أن ''هذا حصل مثل أنماط τυπικως ولكنَّه كُتب من أجلنا نحن الذين وصلنا إلى نهاية الدهور''. ويستفيد من المناسبة ليفهم الذي جعل هذه الأحداث أنماطًا τυποιحين يقول: »كانوا يشربون من صخرة روحيَّة كانت ترافقهم، وهذه الصخرة هي المسيح«(10).
عاد أوريجان هنا إلى 1 كو 10: 4، 6: فهم بولسُ أنَّ »الصخرة« التي شرب منها العبرانيّون دلَّت بشكل رمزيٍّ على المسيح. وإن كان مجمل العبرانيِّين لم يرضوا الله، وإن »كانت جثثهم ملأت البرِّيَّة«، فهذه الأحداث »حصلت لتكون لنا مثالاً (أنماطًا) لئلاَّ نشتهي الشرَّ كما اشتهوه هم«. وهكذا أعطى بولس أساسًا جوهريٌّا للتأويل »الأليغوريّ« (أو: الأنماطيّ)، سوف يتوسَّع فيه أوريجان بشكل كبير في مجمل عمله التأويليّ. فمعلِّم الإسكندريَّة عاد إلى عب 8: 5: »تصنع كلَّ شيء بحسب المثالτυπον الذي أُظهر لك على الجبل«. وذكر بشكل خاصٍّ الأليغوريا البولسيَّة حول هاجر وسارة (غل 4: 21-23).
في الرسالة إلى الغلاطيِّين، أراد أن يلوم أولئك الذين يظنُّون أنَّهم يقرأون الشريعة ولا يفهمونها، ويحسبون أنَّهم لا يفهمونها لأنَّهم يعتبرون أنَّ لا أليغوريّات (أو: استيعارات) في هذه الكتابات، فكتب لهم: »قولولي، أنتم الذين تريدون أن تكونوا تحت الشريعة، أما تفهمون الشريعة؟ كُتب أنَّه كان لإبراهيم ابنان، واحد من الأمة وآخر من المرأة الحرَّة؟ فذاك الذي من الأمة وُلد بحسب اللحم (والدم، σαρζ)، وذاك الذي من المرأة الحرَّة، بحسب الوعد: هي أليغوريَّات (استعارات). هذان هما العهدان(11).
لا شكَّ في أنَّ التأويل الأوريجانيّ عاد أيضًا في حالات عديدة إلى أليغوريّات لا علاقة لها بسرِّ المسيح. ويمكن القول إنَّ حُكمَه على التأويل اليهوديّ يجب أن يُكمَل بل أن يُصحَّح، بقدر ما هذا التأويل لا يتوقَّف فقط عند المعنى الحرفيّ. ويبقى أنَّ أوريجان كان على حقٍّ حين قال من الوجهة المسيحيَّة، إنَّ مجيء المسيحيّ يحوِّل قراءة الأسفار المقدَّسة، فيدعونا لنقرأ تحت حجاب الحرف، الصوَرَ المسبقة ونبوءات السرِّ الذي كشفته الآن كتابات العهد الجديد. وتدلُّ بالحقيقة إيراداتُه للنصوص البولسيَّة، كم كان واعيًا لكي يجعل نفسه هنا في خطِّ الرسول بالذات، فيجد فيه مثال التأويل الروحيّ »في فكر المسيح«. وهذا التأويل هو في النهاية، »من أجلنا«، بمعنى أنَّ سرَّ المسيح الذي خُفي أوَّلاً تحت حجاب الشريعة، ثمَّ تجلَّى في أيّام التأنُّس، يجب أن يتَّخذ جسدًا في حياة المؤمنين المدعوِّين لكي يصيروا »مسحاء«(12) آخرين ويحيوا من روحه.
3. تأويل الكتابات البولسيَّة عند أوريجان
ووجد أوريجان أخيرًا في الكتابات البولسيَّة، مادَّةَ عدَّةِ توسيعاتٍ عقائديَّة وخُلقيَّة وروحيَّة. لا نحاول أن نستنفد كلَّ شيء، ولكنَّنا نشير أقلَّه إلى بعض محاور رئيسيَّة لتفسيره، مشدِّدين على الرسالة إلى أفسس، كما على الرسالة إلى رومة بشكل خاصّ.
إنَّ شروح أوريجان على الرسالة إلى أفسس (كما وصلت إلينا عبر مقاطع من تفسيره، كما عبر إيرادات موزَّعة في مجمل مؤلَّفاته) تتيح لنا أن نتعرَّف إلى مواضيع عديدة مهمَّة جدٌّا(13). بعضها يشير إلى الخلق، إلى الكنيسة القبموجودة(14) وإلى تتمَّة الدهور. واستند أوريجان بشكل لافت إلى 1: 4 (اختارنا قبل أساس العالم) ليُسند نظرته التي تقول: النفوس القبموجودة مالت عن مشاهدة الله، فنالت عقابها في »سقوط« في العالم الحاضر. فنال ملامة، بعد ذلك، بسبب هذه النظرة التي اعتُبرَت معارِضة لإيمان الكنيسة، ويجب الإقرار أنَّها تحوِّل معنى النصِّ البولسيّ. ولكن من العدل أن نضيف أنَّ هذا، في نظر أوريجان، كان قبل كلِّ شيء طريقة لشرح وجود الشرِّ في العالم (مع الحفاظ على حرِّيَّة الخلائق، لا الاستناد إلى العقيدة الغنوصيَّة لمبدأ الشرّ، أو لاستعداد مسبق للسقوط). وأتاحت له الرسالة أيضًا (انطلاقًا من أف 5: 31-32) أن يتأمَّل في حبِّ المسيح القبموجود للكنيسة، أو (انطلاقًا من أف 2: 7؛ 4: 13) أن يتأمَّل في نهاية العالم وإعادة بناء كلِّ شيء restauration، وذاك ما يُنتظَر لتتمَّة الدهور. وتوقَّف أوريجان بشكل خاصٍّ حول مواضيع أخرى: موضوع »الإنسان الباطنيّ« في أف 3: 16؛ موضوع العلاقة بين القديم والجديد حسب أف 3: 5-7؛ موضوع الصراع الذي تقوم به بعض القوى ضدَّ الإنسان الروحيِّ على أساس أف 4: 27 أو 6: 12.
ويجدر بنا أن نتوقَّف خصوصًا عند الرسالة إلى رومة(15)، ونحن نمتلك تفسيرًا كاملاً لها. (في نسخة لاتينيَّة، مطبوعة بطابع المترجم، ولكنَّها أمينة في الجوهر لفكر معلِّم الإسكندريَّة) هذا المؤلَّف يلفتُ النظر من عدَّة وجوه، بأصالته، إذا قابلناه بتفاسير لاحقة للرسالة إلى رومة، ولاسيَّما تلك التي تنطلق من الجدال مع البيلاجيِّين في بداية القرن الخامس. فالسياق أوَّلاً ليس سياق جدال مع مسيحيِّين يُبرزون حرِّيَّة القرار ولا يُبرزون سواه (لا مكان للنعمة)، بل إنَّ أوريجان يهاجم بالأحرى مرقيون (الذي يجعل إله العهد القديم يقاوم إله العهد الجديد الذي كشفه لنا يسوع)، كما يهاجم مختلف »الهراطقة« الذين يُلغون الحرِّيَّة البشريَّة. عندئذٍ يشدِّد، مرارًا، فيما هو يؤكِّد على أوَّليَّة النعمة، أنَّ هذه الأوَّليَّة لا تعني غياب »حرِّيَّة القرار« عند الخلائق.
وهناك ميزة أخرى لا تقلُّ أصالة عن سابقتها: اهتمام بولس بأن يميِّز بالتفصيل استعمال لفظ »شريعة« في الرسالة إلى رومة، والتنبُّه إلى الشريعة الطبيعيَّة كما يدعوها الرسول (رو 2: 14). وميزة ثالثة هي الطريقة التي بها يفسِّر مقاطع الرسالة حول الخطيئة. لا شكَّ في أنَّه يقف في خطِّ الرسول بأنَّهم »كلَّهم خطئوا«، ولكنَّه يقدِّم تلاوين، مثلاً في شأن الطفل الذي يميِّز بين الخير والشرّ. ويقدِّم أيضًا تعليمًا لافتًا حول التبرير مُوضحًا الأقوال البولسيَّة حول البرِّ الذي يمنحه الله بواسطة الإيمان. كما يؤكِّد على أهمِّيَّة الأعمال التي يُدعى المؤمن لكي يقوم بها بقدر اتِّحاده بالمسيح (ويجد مناسبة في الفصول الأخيرة من الرسالة، أن يبرز المتطلِّبات الخلقيَّة في الحياة المسيحيَّة). وتستحقُّ مقاطع أخرى أن تلفت انتباهنا مثل تفسير رو 13: 1 حول طريقة التعامل مع السلطات. ذكَّر تأويلُ أوريجان من جهة، أنَّ المسيحيِّين لا يمكن أن يكونوا مشاركين في حكم جائر. ولكنَّه أقرَّ من جهة أخرى، بوضع السلطة المدنيَّة والضرورة للمسيحيِّين بأن يراعوا الشرائع التي لا تعارض وصايا الله.
وتبقى النقطة الأهمّ، وهي أنَّ أوريجان أدرك بوضوح بُعدَ النصِّ البولسيِّ لفهم العلاقة بين إسرائيل والأمم. أشار مرارًا إلى هذا الموضوع في مجمل تفسيره، لأنَّ مثل هذا الموضوع يُقرأ في مجمل الرسالة: ففي الفصول الأولى، يعلِّم الرسول 'كيف أنَّ جوهر الديانة نُقل من اليهود إلى الأمم، من الختان إلى الإيمان، من الحرف إلى الروح، من الظلِّ إلى الحقيقة، من الممارسة البشريَّة (اللحميَّة) إلى الممارسة الروحيَّة«. وانطلاقًا من ف 12 ثبَّت عادات وأعمال هذه الممارسة الروحيَّة التي نُقلت إليها طقوس العبادة«. وقادت ف 9-11 أوريجان إلى أن يوسِّع مطوَّلاً الفكر البولسيّ. فما تأمَّل فقط في ذنب إسرائيل، بل في قصد الله السرِّيّ الذي لا ندامة في عطاياه. وتوقَّف لدى ما يقوله الرسول حول خلاص »كلِّ إسرائيل« حين »يدخل ملءُ الأمم« (رو 11: 25-26). وحثَّ المسيحيِّين على أن لا يتكبَّروا على حساب الشعب الذين »طُعِّموا« فيه. فلا نستطيع إلاَّ أن نُعجَب بتأويل ف 9-11 الذي تمَيَّز عن تفاسير لاحقة تناست امتيازات الشعب اليهوديّ.
الخاتمة
لم يكن ممكنًا في حدود هذا المقال، أن نقدِّم كلَّ وجهات التأويل الأوريجانيِّ للكتابات البولسيَّة. ولكنَّنا استشفَفْنا أقلَّه كيف أنَّ مؤلَّفات معلِّم الإسكندريَّة تدلُّ على محطَّة حاسمة في تفسير هذه النصوص. ما كان أوريجان فقط أوَّل من فسَّر بالتفصيل رسائل بولس، بل وجد فيها أيضًا أساسًا جوهريٌّا لنظريَّته التأويليَّة وممارسته، كما استقى منها مادَّة توسُّعات عديدة للعقيدة المسيحيَّة والتعليم الخلقيّ والروحيّ. لا شكَّ بأنَّه كان للأليغوريّا أهمِّيَّة مفرطة (عكس بولس الرسول)، وبأنَّ الرسول بدَّل معنى هذه الآية أو تلك (كما كان الأمر في أف 1: 4). ولكن يبقى أنَّ أوريجان يبقى، في وجهات عديدة، مفسِّرًا لافتًا للقدِّيس بولس. أمّا في ما يتعلَّق بالرسالة إلى رومة، فنستطيع بالحقيقة أن نتأسَّف، في التاريخ اللاحق للغرب المسيحيّ، أن تكون الجدالات حول الحرِّيَّة والنعمة، قد جعلت في مستوى ثانٍ مواضيع أخرى اهتمَّ بها اهتمامًا كبيرًا معلِّمُ الإسكندريَّة، ومنها العلاقة بين إسرائيل والأمم، و»السرّ« الذي تأمَّل(16) فيه بولس عبر هذا التاريخ.
ملحقات
الملحق الأوَّل، سفر العدد 26/6: 1
ولكن إن لم يكن هذا مثبتًا بالكتب المقدَّسة، فنحسبه خرافة. لندعُ بولس إذًا كشاهد صادق. ففي الرسالة إلى العبرانيِّين، وبعد أن يذكر جميع الآباء، من بطاركة (إبراهيم...) وأنبياء جعلهم إيمانُهم مرضيِّين لله (11: 1-2، أضاف في خاتمة اللائحة بشكل خاتمة: »كلُّ هؤلاء لم يمتلكوا المواعيد بالرغم من الشهادة المؤدَّاة لإيمانهم، لأنَّ الله الذي احتفظ لنا بمصير أفضل، ما أراد أن يدركوا الكمال بدوننا« (11: 39-40). بدت القبائل التسع ونصف القبيلة وكأنَّها تقول عن القبيلتين والنصف إنَّها لم تنل المواعيد قبالةَ الأرض التي عيَّنها لهم موسى في الجهة الأخرى من الأردنّ، لأنَّ الله حفظ لنا مصيرًا أفضل بحيث لا يدركون الكمال بدوننا. لهذا عَبرَ عددٌ كبيرٌ منهم معنا النهر، وهم مسلَّحون للقتال، وأعانونا لمتابعة الحرب وطرد العدوّ. أمّا الذين عبروا، فهم المقاتلون، الجبابرة والأقوياء، أمّا الآخرون كلُّهم، تلك الفرقة الكسولة واللامؤهَّلة للقتال، فلبثت في الجهة الأخرى من الأردنّ.
أمّا الشجعان فيما بينهم، فتركوا البهائم والغنم وكلَّ الأمتعة، وحاربوا معنا إلى أن قهروا عدوَّنا، وإلى أن امتلكنا الأرض الصالحة، »أرض العسل واللبن« (يش 13: 24).
* * *
الملحق الثاني، تفسير متّى 10: 15
وبما أنَّ »كلَّ كاتب متمرِّس في ملكوت السماوات يشبه ربَّ بيت يُخرج من كنزه الجديد والقديم« (مت 13: 52)، من الواضح أيضًا حين نقلب هذا الكلام، أنَّ كلَّ إنسان لا يُخرج من كنزه الجديد والقديم ليس كاتبًا متمرِّسًا في ملكوت السماوات. لهذا ينبغي بكلِّ الوسائل أن نحاول أن نجمع(1) في قلبنا »فنكرِّس نفوسنا للقراءة والإرشاد والتعليم« (1 تم 4: 13). »ونمارس شريعة الربِّ، نهارًا وليلاً« (مز 1: 2) لا في فرائض الإنجيل الجديدة فقط، وأسفار الرسل والرؤيا، بل أيضًا في فرائض الشريعة القديمة »التي تمتلك ظلَّ الخيرات الآتية« (عب 10: 1)، والأنبياء الذين توافقوا في نبوءاتهم. نجمعهم حين »نقرأ ونفهم« (2 كو 3: 2)، وإذ نتذكَّر هذه القراءات »نقابل الأمور الروحيَّة بالأمور الروحيَّة« (1 كو 2: 13)، في الوقت المؤاتي، لا الأمور التي لا علاقة لها بعضها ببعض، بل الأمور المقابلة التي تبدو متشابهة بعض الشيء، لأنَّ للنصِّ المدلولَ عينَه، سواء على مستوى الأفكار كما على مستوى الفرائض، لكي نُقيم ونكفل »كلَّ كلمة« من عند الله (2 كو 13: 1) »بفم شاهدين أو ثلاثة«، وبشهادة الكتب المقدَّسة. وإذ نقوم بهذه الأبحاث، نُخزي أولئك الذين يحاولون أن يقسموا اللاهوت(2) ويفصلوا القديم عن الجديد، لأنَّهم ابتعدوا كلَّ الابتعاد فما شابهوا »ربَّ البيت الذي يخرج من كنزه الجديد والقديم« (مت 13: 52).
(1) συναγειν : نجمع، نشرح، فيستنير الكتاب بالكتاب... ثمَّ نقرأ: »ينبغي أن نجمع اللالئ الجميلة«.
(2) إشارة إلى مرقيون الذي رفض إله العهد القديم. فالعهد القديم يُعدُّ الطريق للعهد الجديد.
* * *
الملحق الثالث، سفر العدد 3: 3
أمَّا أنا فلا أتجرَّأ أن أصعد إلى هناك وحدي، ولا أتجرَّأ أن أغطس في هذه التضاعيف السرِّيَّة جدٌّا، تضاعيف الأسرار، دون سلطة معلِّم من المعلِّمين. لا أستطيع أن أصعد إلى هناك، إذا كان بولس لا يبعثني، وإذا كان هو نفسه لا يدلُّني على طريق هذا السَفَر الجديد والصلب. إذًا، هو نفسه، أعظم الرسل، لأنَّه عرف أنَّ هناك على الأرض، وأكثر من ذلك في السماوات، كنائس كثيرة، عدَّ منها يوحنّا سبعًا (رؤ 1: 4-11). ولكنَّ بولس نفسه ومع ذلك، أراد أن يبيِّن أنَّ هناك أيضًا كنيسة الأبكار، فقال في كتابه إلى العبرانيّين: »لم تقتربوا من نار ملتهبة وملموسة... ولكنَّكم اقتربتم من جبل صهيون ومن مدينة الله، أورشليم السماويَّة، ومن ربوات ملائكة يؤلِّفون أجواقًا، ومن كنيسة الأبكار المكتوبين في السماوات (عب 12: 18، 22-23). إذًا، صوَّر موسى شعب الله مقسومًا في أربعة محلاّت (مخيَّمات) على الأرض، والرسول صوَّر أربع رُتب القدِّيسين في السماوات، ويسير كلُّ واحد منّا بقربها، كما يقول. ولكنَّ الجميع لا يقتربون من الجميع: فبعضهم يقترب من جبل صهيون. والذين يتفوَّقون بالفضيلة يقتربون من مدينة الله الحيّ، أورشليم السماويَّة. والذين ارتفعوا فوق هؤلاء يقتربون من ربوات الملائكة الذين يؤلِّفون الجوقات. وفوق الجميع الجميع، أولئك الذين يقتربون من كنيسة الأبكار المكتوبين في السماوات.
* * *
الردّ على قلسوس kata kelsou. هو فيلسوف وثنيٌّ. دوَّن حوالى سنة 178 الخطبة الحقيقيَّة alhqhV logoV. يورد أوريجان كلمات قلسوس ويردُّ عليه.
أكَّد (قلسوس) »أنَّنا نهزأ بالمصريّين. غير أنَّهم لا يستحقُّون الاحتقار، لأنَّهم يعلِّمون أنَّ هذا إكرام لا لحيوانات عابرة، كما تظنُّ الجماهير، بل لمثُل أزليَّة. وهي بلادة أن لا نُدخل في الشروح على يسوع شيئًا أكرم من التيوس أو كلاب مصر«.
على هذا أجيب: »أنت على حقّ، أيُّها الشريف، بأن تكشف في كلامك أنَّ المصريِّين يقدِّمون عددًا من الألغاز لا تستحقُّ الهزء، وشرحًا غامضًا حول حيواناتهم. ولكنَّك على خطأ حين تتَّهمنا، مقتنعًا، أنَّنا لا نقول سوى بلادات محتقرة حين نناقش بالتفصيل أسرار يسوع، بحسب حكمة اللوغس، مع الكمَّال في المسيحيَّة. فبولس علَّم أنَّ مثْلَ هؤلاء الناس يستطيعون أن يفهموا حكمة المسيحيَّة حين يقول: ''ومع ذلك، نتكلَّم عن الحكمة وسط الكاملين، لا عن حكمة هذا الدهر، ولا عن رؤساء هذا الدهر، الماضين إلى الهلاك. ولكنَّنا نتكلَّم عن حكمة الله المخفيَّة في السرِّ قبل الدهور، والمثبَّتة بيد الله لمجدنا، والتي لم يعرفها أحدٌ من رؤساء هذا الدهر'' (1 كو 2: 6-8).
وأسأل أولئك الذين يشاركون قلسوس في رأيه: »أما كان لدى بولس فكرةٌ عن حكمة سامية حين أعلن أنَّه يتكلَّم عن ''الحكمة وسط الكاملين''؟ وإذ يردُّ عليَّ بجرأته المعتادة أنَّ بولس قد يكون أعلن هذا دون أن يمتلك أيَّة حكمة، أجيبه: ابدأ فتفحَّص رسائل هذا الكاتب، وتنبَّه إلى معنى العبارات الموجودة مثلاً في الرسائل إلى أهل أفسس وأهل كولوسِّي وأهل تسالونيكي، وأهل فيلبِّي، وأهل رومة، وبيِّن أمرَين في الوقت عينه: أنَّك فهمتَ جيِّدًا أقوال بولس. وأنَّك تقدر أن تبرهن أنَّ هناك بلادات تعيسة. فإن استسلم إلى قراءة متنبِّهة، فأنا متأكِّد أنَّه يُعجَب بفكر هذا الرجل الذي يعبِّر عن نظرات رفيعة في لغة عاديَّة، أو أنَّه يرفض أن يُعجَب فيغطِّيه الهزء حين يعرض في أيِّ معنى فهمَ الكاتبَ، أو حين يحاول أن يعارض أو يردَّ على ما تخيَّل أنَّه فهمَ«.
الملحق الخامس، تفسير يوحنّا 1/4: 21
أمّا أنا فأظنُّ أنَّ الأناجيل الأربعة هي مثل عناصر إيمان الكنيسة، هذه العناصر التي يتألَّف منها العالَم كلُّه المُصالَح مع الله في المسيح، كما يقول بولس: »كان الله في المسيح مصالحًا العالم« (2 كو 5: 19). فيسوع أخذ خطيئة هذا العالم، لأنَّ هذا الكلام يعني عالم الكنيسة: »ها هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم« (يو 1: 29). وأظنُّ أنَّ بواكير الأناجيل تُوجَد في النصِّ الذي تطلُب منَّا أن نشرحه بقدر استطاعتنا، إنجيل يوحنّا الذي، ونحن نتكلَّم عن أناجيل فيها نسب، يبدأ بذاك الذي ليس له.
* * *
في المبادئ De principiis
كتاب لاهوتيّ. ضاع في اليونانيَّة ولكنَّه وُجد في اللاتينيَّة. نقله روفين بعد أن حذف منه ما هو موضوع جدال. وكذا فعل جيروم أيضًا. جاء في المبادئ في أربعة أقسام: الله، العالم، الحرِّيَّة، الوحي. أمّا النصوص التي نأخذ هنا فنقرأها في القسم الرابع. نقدّم منه ثلاثة ملاحق: السادس، السابع، الثامن.
الملحق السادس 4/1-6
بعد أن بيَّنَّا باختصار ما يتعلَّق بألوهيَّة يسوع، مستفيدين من الأقوال النبويَّة التي تشير إليه، نبيِّن أنَّ الكتب التي تنبَّأتْ في شأنه، كانت ملهمَة من الله، وكذلك الكتابات التي أعلنت مجيئه، والتي أوردت تعليمًا أُعطيَ بقوَّة وسلطان، وبالتالي ساد الذين اختيروا وسط الأمم. فينبغي القول إنَّ الإلهام الإلهيَّ للأقوال النبويَّة والطابع الروحيَّ لشريعة موسى، ظهرتا بشكل ساطع مع مجيء يسوع. لم يكن من الممكن أن نقدِّم أمثلة واضحة من الإلهام الإلهيِّ للأسفار القديمة قبل مجيء المسيح. ولكنَّ مجيء يسوع وضع أولئك الذين افترضوا أنَّ (أسفار) الشريعة والأنبياء لم تكن إلهيَّة، أن يلاحظوا بوضوح أنَّها دُوِّنت بمعونة نعمة سماويَّة. فمن يدرس بعناية واهتمام الكتابات النبويَّة، يشعر حين يقرأها بالاندفاع. وهذا الشعور يقنعه أنَّ ما نعتقده أقوال الله ليست كتابات بشر. والنور الذي تتضمَّنه شريعة موسى المخفيّ تحت الحجاب (2 كو 3: 15-16)، شعَّ مع مجيء يسوع الذي نزع الحجاب وعرَّفنا شيئًا وشيئًا بالخيرات التي امتلك الحرفُ ظلَّها.
* * *
الملحق السابع 4/2: 4
الأسلوب الذي يبدو أنَّه يفرض نفسه لدراسة الأسفار المقدَّسة وفهم معناها هو التالي: وتشير إليه منذ الآن هذه الكتابات نفسها. ففي أمثال سليمان، نجد هذا التوجيه حول تعاليم الأسفار الإلهيَّة: »وأنت فاكتبْ ثلاث مرَّات هذه الأمور في تفكيرك وفي معرفتك لكي تجيب بأقوال حقيقيَّة، عن أسئلة تُطرَح عليك« (22: 20-21). إذًا، ينبغي أن تكتب ثلاث مرَّات في نفسك أفكار الأسفار المقدَّسة، بحيث إنَّ البسيط يُبنى بما هو مثل لحم (ساركس) الكتاب المقدَّس. ندعو ذلك القبول المباشر. ومن صعد قليلاً يُبنى بما هو مثل نفسه (بسيخي). أمّا الكامل، الشبيه بالذين يقول الرسول عنهم: »نتكلَّم عن الحكمة وسط الكاملين، لا حكمة هذا الدهر ولا رؤساء هذا الدهر الذين دُمِّروا، بل نتكلَّم عن حكمة الله المخفيَّة في السرّ، والتي أعدَّها الله قبل جميع الدهور لمجدنا« (1 كو 2: 6-7)، فيكون من الشريعة الروحيَّة التي تتضمَّن ظلَّ الخيرات الآتية. وكما يتكوَّن الإنسان من جسد ونفس وروح، كذلك الكتاب المقدَّس الذي أعطانا الله في عنايته لخلاص البشر.
* * *
الملحق الثامن 4/2: 6
إنَّ العدد الكبير من الذين يؤمنون إيمانًا حقٌّا وبطريقة بسيطة جدٌّا، يشهدون أنَّه يمكن أن نستفيد من هذا المدلول الأوَّل الذي هو مفيد لذلك. وكمثال تفسير يعود إلى النفس، نستطيع أن نورد مقطعًا من بولس في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »لا تكمَّ الثور في الدياس« (1 كو 9: 9-10). ثمَّ يشرح هذه الشريعة فيضيف: »هل يهتمُّ الله بالثيران؟ أو هو قال هذا لأجلنا وحدنا؟ فلأجلنا كُتب هذا لأنَّ الذي يحرث ينبغي أن يحرث يدفعه الأمل، والذي يدرس الحَبَّ، يأمل أن يأخذ نصيبه«. وهناك تفاسير أخرى كثيرة، عاديَّة، تتكيَّف مع الناس وتبني الذين لا يقدرون أن يفهموا الشروح الرفيعة، ولها الطابع عينه.
فالتفسير الروحيّ هو للذي يقدر أن يبيِّن ما هي الأمور السماويَّة التي نجد رموزها وظلالها في عبادة اليهود بحسب اللحم (والدم). وما هي الخيرات الآتية التي تمتلك الشريعةُ ظلَّها. وبمختصر الكلام، ينبغي أن نطلب في كلِّ شيء، حسب الوصيَّة الرسوليَّة، الحكمة المخفيَّة في السرِّ، تلك التي أعدَّها الله قبل جميع الدهور لمجد الأبرار، وهي حكمة لم يعرفها أحدٌ من رؤساء هذا العالم. وقال الرسول في موضع ما، مستفيدًا من بعض نصوص سفرَي الخروج والعدد، أنَّ هذا حصل في الأنماط، ولكنَّه كُتب لأجلنا نحن الذين بلغنا إلى نهاية الدهور. وقدَّم مناسبة لكي نفهم كيف أنَّ هذه الأحداث هي أنماط، فقال: »شربوا من صخرة روحيَّة ترافقهم وهذه الصخرة هي المسيح« (1 كو 10: 4). ولكي يرتسم ما يتعلَّق بالمسكن، استعمل جملة في رسالة أخرى: »تصنع كلَّ شيء بحسب النموذج الذي رأيتَه على الجبل« (عب 8: 5). وفي الرسالة إلى غلاطية وبَّخ الذين ظنُّوا أنَّهم يقرأون الشريعة ولا يفهمونها، وحسبوا أنَّهم لا يفهمونها لأنَّهم ظنُّوا أنَّه لا يوجد استعارات (أليغوريّات) في هذه الكتابات، فقال لهم: »قولوا لي، أنتم الذين تريدون أن تكونوا تحت الشريعة، أما تسمعون الشريعة؟ كُتب أنَّه كان لإبراهيم ابنان، واحد من الأمة وآخر من المرأة الحرَّة. فالذي من الأمة وُلد بحسب اللحم (والدم)، والذي من المرأة الحرَّة وُلد حسب الموعد، هما نمطان. هما عهدان« (غل 4: 21-22). يجب أن نلاحظ كلاٌّ من هذه الأقوال. قال: »أنتم الذين تريدون أن تكونوا تحت الشريعة« (غل 4: 21) لا: أنتم الذين تحت الشريعة. ثمَّ: »أما تسمعون الشريعة؟« اعتبر أنَّ »سمع« يعني فهم وعرف. وفي الرسالة إلى كولوسّي، أوجز في بضع كلمات ما أراده التشريع كلُّه:»لا يحكم عليكم أحد في المأكل أو المشرب، في الأعياد والأهلَّة (القمر الجديد) والسبوت مع طابعها الجزئيّ، لأنَّها ظلُّ الأمور المستقبلة« (2: 16-17). وكتب أيضًا إلى العبرانيِّين مجادلاً أهل الختان. كتب: »الذين يعبدون حسب الصورة والظلّ، ظلَّ الأمور السماويَّة« (عب 8: 5). ولكن يبدو هنا أنَّ الذين يقبلون حقٌّا الرسول على أنَّه رجل الله، لا يقدرون أن يشكُّوا بالأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى. أمّا في ما يتعلَّق بباقي الخبر، فهم يريدون أن يعرفوا إذا كان هذا أيضًا حصل كما في الرمز. يجب أن نلاحظ هذا المقطع في الرسالة إلى رومة: »احتفظتُ لنفسي بسبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبهم أمام بعل (11: 4). هذا ما نقرأ في سفر الملوك الأوَّل. فهم بولس هذا عن بني إسرائيل بحسب الاختيار، لأنَّ الأمم لم يستفيدوا وحدهم من مجيء المسيح، بل كان هناك أيضًا بعضٌ من النسل الإلهيّ.