الفصل العاشر: أمّا أنا فذبيحة يُراق دمُها

 

الفصل العاشر

أمّا أنا فذبيحة يُراق دمُها

بولس يعيش أيّامه الأخيرة في سجن رومه: هو وحده، لا يزوره إلاَّ القليل من الناس بسبب القساوة التي تحيط به من قبل السلطة. وها هو يعطي وصيَّته قبل موته. تلك هي الرسالة الثانية التي أُرسلت إلى تيموتاوس. رسالة تُعصر بالألم والدموع، لأنَّ بولس توقَّف عن عمل الإنجيل. ولكن لا بأس. فالرسالة تتواصل. تيخيكس الذي من مقاطعة آسية الصغرى (أع 20: 4) مضى إلى أفسس. فهو »الأخ الحبيب والمعاون الأمين في خدمة الربّ« (أف 6: 21). كريسكبُّس (أو: كريسانس) مضى إلى »غلاطية« أي إلى بلاد الغال، فرنسا الحاليَّة. فهو من هناك ويكلِّم الناس بلغتهم. تيطس مضى إلى دلماطية، أي إلى كرواتيا الحاليَّة والبلدان المحيطة بها. في كورنتوس، أراستس يتابع الرسالة، وهو من كان رفيق تيموتاوس إلى مكدونية (أع 19: 22). لهذا يستطيع أن يسلِّم نفسه الآن إلى الآب السماويّ. هو سكيب. هو بعض الخمر أو الماء أو الزيت الذي يُسكَب على الذبيحة قبل أن تقدَّم لله (خر 29: 4؛ عد 28: 7). أجل، يُسكَب دم الرسول في ذبيحة استشهاده الذي تمَّ على طريق أوستيا. تلك هي الصورة الأولى، والصورة الثانية، السفينة التي قُطعتْ حبالها فمضت في عرض البحر. والصورة الثالثة، الجنديّ الذي انتهى جهادُه فطوى خيمته وعاد إلى أرضه (2 تم 4: 6). مثله بولس يعود إلى بيت الآب. قال عن نفسه: »أرغب أن أترك هذه الحياة لأكون مع المسيح« (فل 1: 23). ورغبتُه سوف تتحقَّق قريبًا. ولكن قبل ذلك، أعطى توصياته لابنه تيموتاوس: كيف يكون الرسول، كيف يكون خادم الربِّ الذي ائتمنه الربُّ على بيته »ليعطي خدَمَه طعامهم في حينه« (مت 24: 45).

من هو الرسول؟ هو أوَّلاً الإناء المختار على مثال بولس نفسه الذي صار الإناء الذي اختاره الربُّ ليحمل اسمه إلى الأمم والملوك (أع 9: 5). ثمَّ هو الجنديّ الذي يجاهد لكي ينتصر مع أنَّ المتسابقين كثيرون في الميدان، أو يموت على مثال بولس وهو حامل »سلاحه، الذي هو »الكتب« التي تركها في ترواس فأُحضرت إليه« (2 تم 4: 13). وأخيرًا، الرسول هو الشاهد في الأزمنة الصعبة، مهما كثر الخصوم.

1- الإناء المختار

حدَّث الرسول تلميذه تيموتاوس عن الآنية التي تكون في البيت الكبير (2: 20). هي أنواع وأنواع. منها الثمينة تكون »من ذهب وفضَّة«، ومنها الأقل ثمنًا، تكون »من خشب وخزف«. من أيِّ نوع يكون خادم الربِّ؟ ونحن نعرف أنَّ الكتاب المقدَّس حين يريد أن يتحدَّث عن شيء ثمين، يشبِّهه بالذهب والفضَّة وسائر الحجارة الكريمة. مثلاً، »غطّى سليمان داخل الهيكل بذهب خالص، ومدَّ سلاسل ذهب أمام المحراب، وغطّى بالذهب الهيكل كلَّه ومذبح المحراب« (1 مل 6: 20-21). وما نقوله عن الهيكل نقوله عن أورشليم الجديدة التي لا قيمة توازيها: »وكانت الأبواب الاثنا عشر اثنتي عشرة لؤلؤة، كلُّ باب منها لؤلؤة، وساحة المدينة من ذهب خالص شفّاف كالزجاج« (رؤ 21: 21).

هذا الموضع »المذهَّب« يستقبل الربّ. والإنسان يكون من ذهب لأنَّه يحمل كلام الله. وهكذا شُبِّه بالإناء. ففي إناء وُضع المنُّ (خر 16: 33) ليكون آية عن عناية الله في شعبه خلال المسيرة في البرِّيَّة. هذا ما يُدعى »إناء شريفًا، مقدَّسًا، نافعًا لربِّه، أهلاً لكلِّ عمل صالح«. ما يقابل الشريف هو »الخسيس«. وما يقابل المقدَّس هو »النجس«. وما يقابل النافع هو »المضِرّ«. وتجاه العمل الصالح يكون العمل الشرّير. فخادم الربِّ يريده الربُّ حاملاً الأعمال الصالحة وإلاَّ يجدَّف على اسم الله بسببه (رو 2: 24). فالأعمال الصالحة هي نور. ولهذا قال الربُّ في العظة على الجبل: »فليضئ نورُكم هكذا قدَّام الناس ليشاهدوا أعمالكم الصالحة ويمجِّدوا أباكم الذي في السماوات« (مت 5: 16). هل يعرف الرسول أنَّه »نور العالم«؟ (آ14). وهل يعرف أنَّه موضوع على مكان عالٍ لكي يَرى الجميعُ نورَه، سواء الذين في البيت (آ15) أو الآتون من الخارج والداخلون إلى البيت (لو 8: 16)؟

وتجاه آنية الذهب والفضَّة، هناك آنية الخشب والخزف. فهذه تكون لاستعمال دنيء. حرفيٌّا: للهوان. بسببها يُهان الله ولا يُكرَم. بسببها النور الذي فينا يكون ظلامًا (لو 11: 35). لهذا يدعونا الرسول لكي نتنقّى »من كلِّ هذه الشرور« (2 تم 2: 21). وما هي هذه الشرور التي تتربَّص بخادم الله؟ ذكر منها بولس ثلاثة: أهواء الشباب. المماحكات الغبيَّة، المشاجرات.

ونبدأ بأهواء الشباب. الهوى ما يذهب بالعقل ويجعله يضيع، الهوى يأخذ بالنفس إلى مَيَلانها. في الأصل، الهوى يميل بنا نحو الخير والشرّ. ولكنَّ »أهواء الشباب« تعني عادة الانحرافات وذلك في خطِّ الكتاب المقدَّس. مثلاً، أبناء عالي الذين اختلفوا كلَّ الاختلاف عن والدهم الشيخ (1 صم 2: 22). ونقول الشيء عينه عن ابنَي صموئيل: لم يسلكا طريق الوالد، بل »مالا وراء المكسب، وأخذا رشوة، وعوَّجا القضاء« (1 صم 8: 3). ولو سمع رحبعام بن سليمان نصيحة الشيوخ لما انقسمت مملكته (1 مل 12: 13). بل سمع من الشباب الذين علَّموه أن يقول: »خنصري أغلظ من خصر أبي« (آ10). والمرتِّل سوف يصلّي: »لا تذكر خطايا صباي ومعاصيَّ« (مز 25: 7). ويعلن سفر الأمثال: »الشابّ الذي يُطلق العنان لأهوائه، يُخجل أمَّه« (أم 29: 15).

ثمَّ المماحكات والجدالات. بمَ تقوم؟ تشير إليها الرسالة الأولى إلى تيموتاوس: الخرافات والأنساب (1: 4). هي تنظيرات يهوديَّة متعلِّقة بالآباء وببعض وجوه العهد القديم. استلهمها العالم الغنوصيّ بهرطقته التي تتضمَّن مزيجًا من الميتولوجيا اليونانيَّة والنظرة الفلسفيَّة وأمورًا من الكتاب المقدَّس. وما نجده أيضًا بعض المعلِّمين الكذبة الذين يحسبون نفوسهم معلِّمين في الشريعة بل في المجتمع كلِّه، فيقدِّمون »أناجيل« في وجه الإنجيل الحقيقيّ. تلك الأناجيل صارت اليوم »الأناجيل المنحولة«، أي التي انتحلت صفة ليست لها. فلا هي أناجيل بمعنى أنَّها تحمل الخبر الطيِّب، ولا هي ملهمة لكي تكون قاعدة الإيمان والأخلاق. ربَطَها الرسولُ بخرافات تتناقلها العجائز (1 تم 4: 7). إذًا، لا تهتمّوا لها. وتلميذ بولس يتجنَّبها لأنَّها تخلق الخصومات. مثل هؤلاء الناس يضعون المحبَّة جانبًا وينحرفون عن الإيمان ليضيعوا في كلام باطل، فارغ، لا منفعة منه، بل كلُّه ضرر. وجاء كلام الرسول قاسيًا: لا يفهمون ما يقولون، ولا ما يؤكِّدونه بقوَّة (1 تم 1: 7). فبقدر ما يشدِّدون على هذه الأمور، يدلُّون على أنَّهم جهّال. يرفعون الصوت فنحسب أنَّ الحقَّ بجانبهم، ولكنَّهم بعيدون عن الحقّ بُعدَ الظلمة عن النور. فهل نسمع بعدُ لهم؟

وأخيرًا المشاجرة. كدتُ أقول الخلاف والقتال والتباعد بين المؤمنين. لا، ليس هذا موقع »خادم الربّ« (2 تم 2: 24). ويعطيه الرسول التعليمات التي تجعله »أهلاً للتعليم«. الصفة الأولى، يكون رفيقًا، لا قاسيًا، خصوصًا على الجهّال والضعفاء. يكون وجهه بشوشًا وكلامه هادئًا. لا بالنسبة إلى فئة صغيرة يتعاطف معها، بل مع الجميع. والصفة الثانية الوداعة. فالودعاء يرثون الأرض، كما قال الربّ (مت 5: 5). ويمتلكون قلوب الناس. أمّا القوَّة فلا تنفع، والعنفُ يعطي النتيجة المعاكسة. تلك كانت طريقة الربِّ بحسب نبوءة إشعيا: »لا يماحك ولا يصيح ولا يسمع أحدٌ صوته في الشوارع. قصبة مرضوضة لا يكسر، وسراجًا مدخِّنًا لا يُطفئ«. هكذا يربح الرسول المؤمنين إلى »معرفة الحقّ«. ما أهون على الكاهن أن يحكم على من يخالفه الرأي، أو يناقشه! يجعله في فئة من الفئات ويحسبه هالكًا. قد يكون هذا الإنسان »وقع في فخِّ إبليس« (2 تم 2: 26). هل نتركه هناك؟ هنا نتذكَّر ما عمل يسوع مع تلك المرأة المنحنية الظهر: »أما يجب أن تُحَلَّ من رباطها؟« (لو 13: 16). وهذا الخاطئ، هل نتركه »يطيع مشيئة إبليس«؟ أم نطلبه كما يُطلَب الخروف الضالّ. والأسلوب يكون في الصبر والوداعة، فلا نعجِّل لأنَّ الربَّ »يأخذ« وقته، يطيل أناته، لكي يأتي بالجميع إلى التوبة. فهو إله الحياة لا إله الموت.

يتجنَّب خادم الربِّ الأمور السلبيَّة، ومقابل هذا يطلب الأمور الإيجابيَّة. ذكر الرسول منها أربعة: البرّ، الإيمان، المحبَّة، السلام (2 تم 2: 22). أمّا البرُّ فهو العمل بمشيئة الله، واتِّباع طريق الإنجيل بعد حفظ الوصايا كما أوضحها يسوع. أوَّلاً تكون حياة الكاهن مثالاً في أقواله وأعماله وتصرُّفاته، »لئلاَّ يكون في خدمتنا عيب«، كما قال بولس. ومع البرِّ الإيمان. هو التعلُّق بالربِّ والاستسلام له في الرسالة. واحد منّا يزرع، وآخر يسقي. وما من أحدٍ منّا يُنمي، سواء نام الناس أو قاموا (مر 4: 26-27). المهمّ أن نقوم بالعمل المطلوب منّا: نزرع، نسقي، نزيل الحجارة، ننقب. هذا ما سوف نقوله عن الزارع والعامل في حقل الربّ.

والصفة الثالثة، المحبَّة. محبَّتنا لله تدفعنا لكي نحبَّ الإخوة. قال القدّيس أوغسطين: »أحبب وافعل ما تشاء«. وحدَّثنا بولس: »المحبَّة لا يمكن أن تسيء إلى القريب«. ونحن في علاقاتنا، هل نبحث عمَّا يجعلنا على حقّ ولو حطَّمنا القريب؟ أم نطلب الحقَّ مع القريب متَّجهين إلى من يدعونا ويدعو الآخرين، بحيث يكون الجميع »في الحظيرة الواحدة؟« (يو 10: 16).

وأخيرًا، السلام. السلام الآتي من الربّ، لا ذاك الذي نفرضه على الآخر حين نفرض عليه أن يصمت ولا يجادل بعد. قال بولس: »عيشوا في سلام مع جميع الناس« (رو 12: 18). وعاد يقول لنا في الرسالة عينها: »لنطلب إذًا ما فيه السلام والبنيان المشترك« (14: 19). الحرب تدمِّر: لا نجازي شرٌّا بشرّ. »نجتهد أن نعمل الخير أمام جميع الناس. نمتنع عن الانتقام. لا ندع الشرَّ يغلبنا بل نغلب الشرَّ بالخير« (رو 12: 17-21).

2. الرسول جنديٌّ وفلاّح

من هو الجنديّ؟ ذاك الذي يدافع عن الوطن. والفلاّح؟ ذاك الذي يهتمُّ بالأرض فيُخرج منها الطعام لإخوته وأخواته.

قال بولس لتلميذه تيموتاوس: »شارك في احتمال الآلام كجنديّ صالح للمسيح يسوع« (2 تم 2: 3). إذا كان التلميذ يحمل الصليب، فهذا يعني أنَّ الألم جزء من حياته. الرسول يعرف ذلك منذ بداية المسيرة وبولس قال لنا بصراحة: »أعطيَ لنا لا أن نؤمن به، بل أن نتألَّم معه« (فل 1: 29). إذا كان الإيمان هديَّة من عند الربّ، فالآلام أيضًا هديَّة. تلك هي المشاركة المطلوبة من خادم الربّ، على ما قال بولس أيضًا: »أتمِّم في جسدي ما ينقص من آلام المسيح من أجل جسده الذي هو الكنيسة« (كو 1: 24). أتُرى آلام المسيح ناقصة؟ بل المسيح ترك لنا مكانًا لكي نحمل صليبه معه. وهذا هو شرف كبير لا يفهمه إلاَّ القدّيسون. ونلاحظ قول الرسول: هو لا يتأفَّف بسبب الآلام التي تصيبه في رسالته، بل يعلن: »أفرح بالآلام التي أعانيها«. فلسنا وحدنا حين نحتمل الآلام، فهناك من يحمل صليبنا معنا، وقد يحملنا حين يرانا ضعفاء، بائسين، لا نعرف كيف نتوجَّه.

ووضع بولس المثال: الجنديّ. هو من يقدِّم عمله وتعبه، بل يجعل حياته على كفِّه. وهناك جنديٌّ وجنديّ. فالجنديّ الصالح لا يترك الساحة مهما كانت الأخطار. والجبان يهرب حين يرى العدوَّ آتيًا. هنا نتذكَّر جيش جدعون الذي عُدَّ بالآلاف، ولكن كم كان الذين رافقوه؟ ثلاثمئة فقط. هناك الخائف المرتعد (قض 7: 3) الذي ينقل خوفه إلى الآخرين. هذا تراجع. الرسول الذي يتراجع خوفًا، يدلُّ أنَّه لا يؤمن بمن جنَّده. وهناك من فكَّر بامرأته وأولاده، أو بحقله فرجع. وهناك من تماهل فأخذ وقته ليشرب على مهل بحيث يكون الأخير فيموت من يموت ويتدبَّر هو أمره. فكم من الأشخاص يتركون العمل لغيرهم! وإذا أحسُّوا أنَّهم وحدهم تذمَّروا. مع أنَّه شرف كبير أن يستند الربُّ إليَّ ويقول لي: اذهب إلى كرمي (مت 21: 28).

كان بإمكان الربِّ أن يختار غير شاول (أو بولس) بين الماضين إلى دمشق. ولكنَّه اختار شاول ودعاه باسمه مرَّتين. وماذا ينتظره بعد أن اختاره الربّ؟ قال الربُّ لحنانيا: »سأريه كم يجب أن يتحمَّل من الآلام في سبيل اسمي« (أع 9: 16). ليس نداء الربِّ نزهة بين المروج، ولا شَرفيَّة وفخرًا، بل الصعوبات والآلام. فابنا زبدى طلبا أن يكونا عن يمين الربِّ وعن شماله، حين يكون في مجده. قال لهما يسوع: »أتعرفان ما أنتما تطلبان؟ هل تستطيعان أن تشربا كأس الموت التي سأشربها؟ (مر 10: 38). لم يعرفا ما ينتظرهما في ذلك الوقت، ولكن فيما بعد عرفا ولاسيَّما يعقوب الذي كان أوَّل رسول يموت لأجل اسم يسوع: قتله هيرودس بحدِّ السيف (أع 12: 2).

خادم الربِّ »يتجنَّد«، أي يتفرَّغ لعمل الجنديَّة. ويقول بولس لتيموتاوس: »لا يشغل باله بأمور الدنيا إذا أراد أن يُرضي قائده« (2 تم 2: 4). لا يهمُّه سوى إرضاء من جنَّده. يسوع المسيح هو قائدنا، ونحن ننتظر أوامره. هنا نتذكَّر »شاول« بعد اهتدائه في دمشق ومروره في أورشليم. ماذا عمل؟ مضى إلى طرسوس، إلى بلدته وانتظر الأوامر من قائده. فأرسل إليه برنابا »فجاء به إلى أنطاكية« (أع 11: 25). ولن تتوقَّف مسيرة رسول الأمم حتّى آخر رمقٍ من حياته.

وما يميِّز الجنديّ هو »الجهاد«. قال بولس عن نفسه: »جاهدت الجهاد الحسن وأتممتُ سعيي وحفظتُ إيمانيّ« (2 تم 4: 7). وما قام به بولس، ها هو يطلبه من تلميذه، ومن كلِّ كاهن في كنيسة الله: »وجاهِد في الإيمان جهادًا حسنًا، وفُزْ بالحياة الأبديَّة« (1 تم 6: 12). وتحدَّثت الرسالة الأولى إلى الكورنثيّين عن »السباق« الذي يقوم به كلُّ واحد منّا: هناك مجهود وضبط النفس (1 كو 9: 25). الناس في الميدان ينتظرون إكليلاً يَفنى، أمّا نحن فإكليلاً لا يَفنى. هناك هدف أمامنا نتطلَّع إليه ولا يشغلنا عنه شاغل. نحاول أن ندرك المسيح الذي أدركنا. لهذا ننسى ما وراءنا ونتطلَّع إلى ما قدَّامنا »للفوز بالجائزة التي هي دعوة الله السماويَّة في المسيح يسوع« (فل 3: 14). ملكوت الله يؤخذ بالقوَّة، والأقوياء هم الذين يأخذونه. »فلا مكان للجبناء«، كما قال سفر الرؤيا (21: 8). فهم يقفون مع السحرة وعبدة الأوثان والكذّابين.

خادم الربِّ هو جنديّ، وهو فلاّح أيضًا. قال بولس: »والزارع الذي يتعب يجب أن يكون أوَّلَ من ينال حصَّته من الغلَّة« (2 تم 2: 6). يسوع هو الزارع الأوَّل. ذاك ما نفهمه من الأمثال الإنجيليَّة. »خرج الزارع ليزرع« (مت 13: 3). والزارع هو يسوع المسيح الذي تقع كلمته في أكثر من موضع. وما أسعدنا إن وقعت في الأرض الجيِّدة، فهي تثمر ثلاثين وستّين ومئة. هو يزرع، وإن جاء العدوُّ »وزرع الزؤان بين القمح« (آ24) فهو لا يتراجع. وحبَّةُ الخردل التي يزرعها، تصير شجرة وإن كانت في الأصل حبَّة صغيرة (آ3-32). ومعه يزرع »خدَّامُ الإنجيل« على ما قال بولس عن نفسه وعن الفريق الرسوليّ: »فإذا كنّا زرعنا فيكم الخيرات الروحيَّة، فهل يكون كثيرًا علينا أن نحصد من خيراتكم المادِّيَّة؟« (1 كو 9: 11). أجل، هكذا مضى الرسول من مدينة إلى مدينة يزرع الإنجيل. ونبَّه معاونيه في الرسالة: »وتذكَّروا أنَّ من زرع قليلاً حصد قليلاً، ومن زرع كثيرًا، حصد كثيرًا« (2 كو 9: 6).

أجل، الكاهن يزرع كلام الله. والويل له إن تقاعس عن هذا العمل وارتضى ببعض الممارسات الخارجيَّة التي قد ترضي الله بسبب قلوب العاملين بها. فنسمع صوت الربِّ بفم إشعيا: »أبغضتُ أعيادكم. إذا بسطتم أيديكم، أسترُ عينيَّ عنكم لئلاَّ أراكم. وإذا أكثرتم الصلاة لا أسمع لكم« (إش 1: 15). فإذا كنّا لم نزرع شيئًا، فماذا نحصد؟ ولماذا نتذمَّر من رعايانا لأنَّها ميتة ولا حياة فيها؟ معتقدات بلا جذور! فمن هو المسؤول عن هذه »الأرض« التي لم تُفلَح ولم تُصلَح؟ ولماذا نندهش إذا الكرمة ما أعطت عنبًا، بل حصرمًا برِّيٌّا؟

الربُّ يرسلنا إلى كرمه ويطلب منّا الثمار، هذا يعني أنَّنا نعمل ولا نخفي وزنتنا في الأرض (مت 25: 18). حينئذٍ نستحقُّ تسمية »الخادم الشرّير الكسلان« (آ26). فإذا جاء الربُّ ماذا يحصد إذا كنّا لم نزرع شيئًا؟ وماذا يجمع إذا نحن لم نلقِ البذار؟ عندئذٍ نسمع الحكم القاسي: »وهذا الخادم الذي لا نفع فيه، اطرحوه خارجًا في الظلام. فهناك البكاء وصريف الأسنان« (آ20). ولكن طوباه العامل في الكرم فيسمع كلام الربِّ حين يعود: »أدخل فرح سيِّدك« (آ23).

3- خادم الربِّ هو الشاهد

الشاهد هو الذي كان حاضرًا حين حدثَ حادث، فرأى أو سمع. وهكذا يستطيع أن يشهد وتُقبَل شهادته. وغير ذلك هو شاهد الزور الذي ما رأى ولا سمع. أوَّل الشهود هم الرسل الذين رافقوا يسوع منذ معموديَّة يوحنّا المعمدان حتّى صعود الربِّ إلى السماء (أع 1: 22). وبعد هؤلاء جاء الذين سمعوا الشهود الأوَّلين، تكلَّم عنهم لوقا في بداية إنجيله: »كانوا منذ البدء معاينين وخدَّامًا للكلمة« (لو 1: 2). ونحن العائشين اليوم، ننتظر كلمة الحياة من الذين سمعوه، من الذين رأوه بعيونهم وشاهدوه، من الذين لمسوه بأيديهم (1 يو 1: 1).

بولس هو الشاهد مع أنَّه لم يرافق يسوع خلال حياته على الأرض. ولكن كانت له خبرة على طريق دمشق، حين »سطع حوله بغتةً نورٌ من السماء...« (أع 9: 3)، وسمع صوتًا يناديه باسمه. وإذا كان بطرس والرسل نعموا بظهور الربِّ القائم من الموت، فبولس نال نعمة مماثلة: »ظهر لي آخرًا أنا أيضًا« (1 كو 15: 8). انطلاقًا من هذه الظهورات، حمل الرسلُ الإنجيل، فقال بولس: »أكنتُ أنا أم كانوا هم، هذا ما نبشِّر به وهذا ما به آمنتم« (آ11).

وما كان بولس شاهدًا وحده. فهناك برنابا ومرقس ولوقا، عدا عن الذين عملوا في الرسالة. ساروا كلُّهم في خطى الاثني عشر، الذين تحدَّث عنهم لوقا في سفر الأعمال فقال: »وكان الرسل يؤدُّون الشهادة بقيامة الربِّ يسوع« (أع 4: 33). أمّا شهادتهم فجاءت في خطِّ ما فعله الربُّ يسوع. قال عنه بولس في الرسالة الأولى إلى تيموتاوس: »المسيح يسوع الذي شهد أحسن شهادة لدى بيلاطس البنطيّ« (1 تم 6: 13). فهذا الوالي الرومانيّ دخل في قانون الإيمان وفي عهده تألَّم يسوع وصُلب ومات وقُبر.

في مثل هذا الإطار، استطاع بولس أن يمتدح ابنه تيموتاوس: أنت شهدت للحياة الأبديَّة »شهادة حسنة بحضور شهود كثيرين« (آ12). وإذ يمضي بولس إلى الموت »ذبيحة يراق دمها« يدعو تلميذه: »لا تخجل بالشهادة لربِّنا وبي أنا سجينه، وشارك في الآلام من أجل البشارة متَّكلاً على قدرة الله« (2 تم 1: 8). فالشهادة تقود إلى الاستشهاد. هذا ما نراه عند بولس الرسول الذي راح يشهد للربِّ يسوع »خلال صعوده إلى أورشليم« منطلقًا من أفسس. قال للشيوخ: »وأنا أعرف أنَّكم لن تروا وجهي بعد اليوم، أنتم الذين سرتُ بينهم كلِّهم أبشِّر بملكوت الله« (أع 20: 25). وهكذا يبدو بولس سائرًا إلى الموت. وفي قيصريَّة، أخذ أغابُّوس حزام بولس وقيَّد به يديه ورجليه وقال: »يقول الروح القدس: صاحب هذا الحزام سيقيِّده اليهود هكذا في أورشليم ويسلمونه إلى أيدي الوثنيّين« (أع 21: 11). بكى الحاضرون، فقال بولس: »أنا مستعدٌّ لا للقيود وحدها، بل للموت في أورشليم من أجل الربِّ يسوع« (آ13).

منذ البداية سمع بولس صوت الربِّ بفم حنانيا: »فأنت ستكون له شاهدًا عند جميع الناس بما رأيتَ وسمعتَ« (أع 22: 15). وفي النهاية، ظهر الربُّ لبولس في الليل وقال له: »تشجَّع! فمثلما شهدتَ لي في أورشليم، هكذا يجب أن تشهد لي في رومة« (أع 23: 11).

فمثلُ هذا الشاهد الذي سيكون شهيد المسيح، يستطيع أن يتحدَّث عن الشهادة التي يدعو إليها تيموتاوس، ويدعو كلَّ خادم للربّ أن يكون الشاهد بحياته، أن يكون الشاهد بكلامه فيعلن البشارة في وقتها وفي غير وقتها: ساعة التعليم يعلِّم، وساعة التوبيخ يوبِّخ، وساعة التشجيع يشجِّع.

والشاهد لا يخاف الأزمة الصعبة التي يعيش فيها. فإن رفض أن يشهد، يكون مثل النعامة التي تضع رأسها في الرمل لكي لا ترى الخطر. ولكنَّها تحكم على نفسها بالموت. هكذا خادم الله. قال لنا الربّ: أنتم في العالم ولكنَّكم لستم من العالم. يعني سلوك المؤمن، وبالأحرى الكاهن، لا يمكن أن يكون مثل سلوك العالم. ولهذا، قال الربّ: »يبغضكم العالم«. ولكن إذا كنّا مثل العالم، فالعالم يحبُّنا. ذاك هو المحكُّ لرسالتنا. فإن حاولنا أن نرضي الناس، لا نكون خدَّامًا ليسوع المسيح.

ونبَّه بولس تيموتاوس إلى نوعيَّة الناس، لا في أيّامه فقط، بل في أيّامنا أيضًا: »يكونون أنانيّين، جشعين، متعجرفين، متكبِّرين...« (2 تم 3: 2ي). وتتواصل اللائحة البشعة. فما يكون موقف خادم الله؟ يبتعد عنهم.

وهم لا يكتفون بالشرِّ لهم، بل يتسلَّلون إلى البيوت (آ6). هنا يكون خادم الربِّ يقظًا فيتنبَّه للخطر الآتي، كما يتنبَّه تيموتاوس إلى التعاليم الضالَّة التي تهدم الإيمان لدى بعض الناس. فهل يترك الراعي الذئب يدخل إلى الحظيرة، فيخطف ويبدِّد؟ (يو 10: 12). إن هرب كان أجيرًا لا راعيًا، يشتغل لأجل أجرة ينتظرها. أمّا الراعي فيستعدُّ لأن يضحّي بحياته من أجل خرافه (آ15). إلاّ إذا اعتبرنا أن الخراف لا تخصُّنا! حينئذٍ، الويل لنا. روى داود عن نفسه كيف كان يلاحق الأسد (أو الدبّ) إذا أخذ شاة من القطيع: يضربه وينقذ الشاة من فمه (1 صم 17: 34). هل الإنسان أفضل من الشاة؟ هل نترك المؤمنين يُسبَون لأنَّنا لا نعرف أن ندافع عنهم، كما لا نكون بقربهم، فنتركهم يشردون في كلِّ مكان مثل خراف لا راعيَ لها؟

وذكر بولس بعض الأسماء. منهم من رفض الشهادة للربِّ فاعتبر أنَّه لا يعرف بولس ولا سمع باسمه. فيجلُّس وهرموجينيس (2 تم 1: 15). وتجاه هذين أونيسفورس. »ما خجل لقيودي«، بل بحث عنّي، شجَّعني. هي صداقة قديمة لبثت حاضرة (آ18).

وذكر بولس اسمين من التقليد اليهوديّ: بنيس ويمبريس. هما بين السحرة الذين عارضوا موسى (خر 7: 11، 22). ويصوِّرهما الترجوم (أي النصّ الأراميّ) وهما يفسِّران الحلم لفرعون. كما جعلهما ابنَيْ بلعام الذي دعا العبرانيّين إلى الفجور وعبادة الأوثان (عد 22: 22).

كلُّ هذا كان الوجه السلبيّ الذي يحاربه تيموتاوس. وهناك الوجه الإيجابيّ الذي يتعلَّمه الابن من أبيه. إذا كان بولس أقيم »مبشِّرًا ورسولاً ومعلِّمًا« (2 تم 1: 11) فتلميذه يتبعه. بولس يتحمَّل المشقَّات ولاسيَّما هذا السجن (آ8)، ويمكن أن يصل الدور إلى تيموتاوس. وبانتظار ذلك يقوم بثلاثة أعمال.

الأوَّل: »اعمل بالأقوال الصحيحة التي سمعتَها منّي« (آ13أ). فهناك أقوال كاذبة يجب أن تتجنَّبها. يمكن أن نتخيَّل هنا التعاليم المتعدِّدة التي انتشرت في الجيل الثاني المسيحيّ، كما نتخيَّل ما يصدر من تعاليم اليوم، عن الربِّ يسوع الذي هو إنسان فقط، لا إله وإنسان، بحسب كتاب دُعيَ »الإنجيل الخامس«. فما هذا الإنجيل الذي ينحدر عن الأناجيل فيصبح كلام بشر لا كلام الله. ردَّ الرسول فقال: »فنحن لا نعظ عن ضلال ولا دنس ولا خداع، بل نتكلَّم كلام من امتحنهم الله، لا لنرضي الناس، بل لنرضي الله الذي يختبر نفوسنا« (1 تس 2: 3-4). إذا كان كلام الله صعبًا، قد يتركنا الناس، كما التلاميذ تركوا يسوع (يو 6: 66). حينئذٍ نرضيهم، أو نساير نظريّات بشريَّة، فننقل يسوع من محيطه فنجعله في محيطنا. لا نرتفع إليه، بل نحدره إلى مستوانا.

الثاني: »اثبتْ في الإيمان والمحبَّة التي في المسيح يسوع« (آ13ب). فنحن لا نؤمن إيمانًا بشريٌّا، بل إيمانًا إلهيٌّا. أن يكون يسوع المعلِّم والفيلسوف وحامل الثورة... أمور لا بأس بها، ولكنَّها لا ترفع الإنسان إلى الله. والمحبَّة لا تكون عاطفة بشريَّة محضة. بل هي في المسيح يسوع الذي أحبَّنا وبذل نفسه عنّا.

الثالث: »احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا« (آ14). هي وديعة الإيمان، التي يمكن أن نخسرها. فالإيمان موهبة نتقبَّلها بالشكر أو نشبه ديماس »الذي أحبَّ العالم الحاضر« (2 تم 4: 9). نحن وحدنا لا نستطيع، ولكنَّ الروح القدس العامل فينا يُعيننا. وهذا ما يُسند تقليد الإيمان من جيل إلى جيل. فذاك الذي دوَّن الكتاب المقدَّس ممسكًا بأيدي كتّاب عديدين، ما زال يقرأ معنا كلمة الله ويوضحها للمؤمنين مدى الأجيال. هذا الروح يسكن فينا ويُفاض علينا (أع 2: 17) فيجعلنا نكتنز كلام الربِّ ونحمله إلى الذين حولنا.

الخاتمة

ذاك الذي أحبَّه بولس ولبث يذكره في صلواته (2 تم 1: 3). ذاك الذي تعلَّق بمعلِّمه فبكى حين افترق عنه (آ4)، وتركه في أفسس (1 تم 3). ذاك الذي نما إيمانه على ركبتي جدَّته لوئيس وركبتي أمِّه أفنيكة (2 تك 1: 5)، ذاك الذي صار خادم الربّ حين وُضعت الأيدي عليه، اسمه تيموتاوس. هو بعيد عن بولس ويحتاج إلى نصائحه لكي يكون خادمًا للربّ. والإيمان المتجذِّر فيه يحميه من الصعوبات العديدة التي تحيط به وبرسالته. ذاك الذي عرف الكتب المقدَّسة منذ طفولته (2 تم 3: 5)، فردَّدها وتأمَّل فيها وحملها إلى المؤمنين، يكون مثالاً للكاهن الذي يكون كتابه الأوَّل الإنجيل وسائر الأسفار المقدَّسة. فإن عرف كلمة الله، عرف كيف يعلِّم، كيف يردُّ على أشخاص مثل »اسكندر النحّاس... الذي عارض أقوالنا معارضة شديدة« (2 تم 4: 14-15). أيُعقَل أن لا يعرف الكاهن أن يدافع عن الإيمان في وجه الضالّين والمضلّين؟ وما الذي يمنعه من الدرس والمطالعة والبحث والسؤال؟ والكتاب يساعد الكاهن على تربية شعبه وتقديم سلوكه. فالأخلاقيّات تبقى سطحيَّة إن لم تستند إلى كلام الله. فمن أنا حتّى أعلِّم الناس؟ إن كان يسوع قال: »تعليمي ليس من عندي، بل من عند الذي أرسلني« (يو 7: 16)، فماذا يقول الكاهن؟ ومن أين يأتي بتعليمه؟ أمِن داخله؟ أمن من عند البشر؟ في أوَّل رسالة كتبها بولس، قال لأهل تسالونيكي »بشَّرناكم بشارة الله« (1 تس 2: 9). وفي الرسالة إلى رومة أعلن: »الإيمان من السماع، والسماع هو من التبشير بالمسيح« (رو 10: 17). ونحن الكهنة بمن نبشِّر؟ أبأنفسنا أم بالمسيح ربِّنا؟ (2 كو 4: 5).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM