حرية الضمير عند البروتستانت.

 

حرية الضمير عند البروتستانت

القس الدكتور عيسى دياب

 

مقدّمة

يظن البعض من العامة أن البروتستانت يعتمدون كثيرًا على الضمير، والضمير قوة عقلية غير ثابتة، استنسابية. يعمل الضمير وفقًا للمخزون الخلقي والأدبي المدرب عليه، لذلك فضمائر الناس متنوعة ومختلفة، وما يبيحه ضمير قد يرفضه آخر. لذلك يرى البعض أن ما يسمى بـ ''حرية الضمير''، خاصة في ما يتعلق بتفسير وتأويل الكتاب المقدس، هو أحد أسباب الشرذمة الإنجيلية وتعدد الكنائس إذا كان يُنظر إلى هذا الأمر نظرة سلبية.

بشفافيتنا المعهودة نقول، يوجد كثير من الصحة في هذا المشهد لأن كثيرين بين الإنجيليين فهموا أن حرية الضمير هي أن يفسر الإنسان النصوص المقدسة بما يرتاح إليه ضميره، فينتهي إلى تكوين عقائده الخاصة، و''حرية الضمير'' تضمن له حق هذه الخصوصية في التفسير وفي الاعتقاد. لا داعي للقول بأن في هذا المفهوم لحرية الضمير كثيرًا من الخطأ، وسببه عدم الاضطلاع على كتابات المصلحين البروتستانت بشأن الموضوع أو سوء فهم لمواقفهم.

ثم إن موضوع الحرية في اللاهوت الإنجيلي، حاضرًا وفي زمن الإصلاح، يتجاوز الضمير؛ فالموضوع هو ''الحرية المسيحية''، وحرية الضمير جزء يسير من هذه المساحة الكبيرة عن الحرية.

تختلف الحرية المسيحية التي اشتغل عليها المصلحون الإنجيليون عما تعنيه اليوم الحرية في ''لاهوت التحرير''. الحرية المسيحية حالة روحية راقية ينتقل إليها الإنسان، أي إنسان. هي عطية إلهية يستطيع العبيد الأرقاء أن يحصلوا عليها ويعيشوا فيها وهم في حالة العبودية الاجتماعية، أو في السجن، أو في حالة القهر والظلم. يكتب بولس إلى العبيد في كورنثوس (1كو 7:21-23):

''دعيت وأنت عبد فلا يهمك، بل وإن استطعت أن تصير حرًا فاستعملها بالحري، لأن من دُعي في الرب وهو عبد فهو عتيق الرب، كذلك أيضًا الحر المدعو هو عبد للمسيح. قد اشتريتم بثمن، فلا تصيروا عبيدًا للناس''(1).

درس المصلحون الإنجيليون الحرية المسيحية بأبعاد ثلاثة: حرية الضمير والكتاب المقدس، حرية الضمير والخلاص، حرية الضمير والسلوك.

لا ننسى بأن الإصلاح البروتستانتي قام في سياق تاريخي وثقافي وديني خاص، لذلك نرى من المفيد قراءة هذا السياق كتأسيس لمواقف المصلحين البروتستانت.

 

أولاً: تأسيس كتابي وتاريخي لموضوع ''حرية الضمير''

 

1. الضمير في اللاهوت الكتابي

لا ننسى بأن الإصلاح الإنجيلي قام تحت شعار: ''الكلمة فقط'' و''النعمة فقط'' و''الإيمان فقط''. فالمفاهيم التي أسس عليها المصلحون لاهوتهم، بما فيه كلامهم عن الحرية، هي مفاهيم كتابية. نستدرك ونقول بحسب فهمهم للكتاب وبحسب قواعد التفسير التي كانت معروفة في زمنهم. لذلك، فإن مفهوم المصلحين الإنجيليين عن ''الحرية'' مؤسس على المفهوم الكتابي لهذا الموضوع.

أعني بـ ''الضمير''، في هذه المقالة، ''الشعور المؤلم بسبب تصرف خاطئ، وإطار هذا الشعور بشكل أوسع'' و''السلطة الأخلاقية الباطنية، وما، في داخلنا، يحكم فينا ويقودنا''(2). الكلمة اليونانية المستعملة، بشكل عام لـ''ضمير'' هي suneidesis.

لا يوجد تعبير لما نسميه اليوم ''الضمير'' (suneidesis) في العهد القديم. كان ''القلب'' يستأثر بكل ملكات الإنسان العقلانية والوجدانية: ''فوق كل تحفظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة'' (أم 4:23). استمر نفس المفهوم لـ ''القلب'' في العهد الجديد، وخاصة في الأناجيل. بولس هو أكثر من يستخدم تعبير ''الضمير'' بين كتبة العهد الجديد، لكن لم يكن مفهوم التعبير ما نعنيه اليوم بـ ''الضمير''.

يستشهد بولس بضميره لتبرير شرعية وجدوى خدمته (رج روم 9:1؛ 1كو 4:4؛ 2كو 1:12؛ أع 23:1؛ 24:16). ويحث قارئيه على أن يفعلوا نفس الشيء (2كو 4:2؛ 5:11). في روم 13:5، يجعل بولس، وبطرس بعده (1بط 2:19)، من الضمير ملكة، وطاعتها تحمي الفرد من عقاب السلطة الحاكمة.

في معالجته لموضوع أكل لحوم الذبائح المقدمة للأوثان (1كو 8:1-13؛ 10:18-31؛ روم 14)، يبرز بولس الضمير، لا كملكة تقول للإنسان ماذا يفعل، بل كقدره تستخدم ليدين الإنسان نفسه. الضمير القوي هو من يعرف عدمية الأوثان، فلا يترك وسواسًا يجعل صاحبه مترددًا في أكلها. لكن هذه الحرية التي يتمتع بها الضمير القوي، لا يجب أن تتحول إلى عثرة لصاحب الضمير الضعيف، الذي ليست لديه نفس المعرفة، والذي قد تجرحه حرية صاحب الضمير القوي. وليس الضمير هنا، بل العلم، هو الآمر الناهي، أو السلطة الأخلاقيّة المطلقة. ولا يعمل الضمير هنا باستقلالية عن صاحبه، بل الرجل العالم هو من يختار أن يسلك بمحبة تجاه الرجل الذي لا يعلم.

في سياق كلامه عن الشريعة وعملها في الإنسان، يستخدم بولس ''الضمير'' كشاهد على تقصير الإنسان حتى تجاه ''الشريعة الطبيعية'' أو ''القوانين الأخلاقية للشريعة في الطبيعة'' (رج روم 2:14-16). وبولس في هذا السياق يقود القارئ إلى رأي مفاده: لا الشريعة الموسوية، ولا الضمير ولا الطبيعة تفيد الإنسان بل المسيح (رج غل 3:24).

الرسائل الرعوية تتكلم عن ''الضمير الصالح'' (1تي 1:5، 19)، و''الضمير الطاهر'' (1تي 3:9؛ 2تي 1:3؛ 1بط 3:16،21) وأضدادها (1تي 4:2؛ تيط 1:15) للتعبير عن التصرف المستقيم.

في الرسالة إلى العبرانيين، الضمير هو إطار الشعور بالمذنوبية التي تزول بذبيحة المسيح الكهنوتية (عب 9:9،14؛ 10:22).

وبالإجمال، لا يشرح العهد الجديد ماهية الضمير ولا يوضح عمله. وعلى وجه الخصوص، لا يعلم بأن ''الضمير صوت الله في داخل الإنسان''، ولا يسند إليه عمل الحكم، والتوبيخ والتشجيع، والقيادة الأخلاقية، هذه الأعمال التي سيستحدثها الفلاسفة واللاهوتيون في ما بعد، والتي يسندها العهد الجديد بالإجمال إلى عمل الروح القدس في الإنسان.

 

2. الضمير في تاريخ الكنيسة

في الحقبة الآبائية، يستحوذ الضمير اهتمام كثير من آباء الكنيسة، لكن لم يحظَ الموضوع بمعالجة سكولاستية. يستوحي أوريجنس من الفلاسفة الرواقييـن ليشكـل مفهوم ''المبـادئ الأخلاقية'' المتعارف عليها بين جميع البشر (I 4, sc 32 Celse Contre)، وفي تفسـيره لـ 1كو 2:11، يعرِّف أوريجنس الضمير على أنه روح الله فينـا، هـذا المفهــوم الذي سيؤخذ به في ما بعد. ذهبي الفم يجعـل من الضميــر عامـلاً أخلاقيًـا أســاسيًا؛ فصوت الضمـير يعرِّف بالشرعة الأخلاقية التي هــي السياق الطبيعي للأخلاق المسيحية(3) نصل إلى أوغسطينس، الذي تأثر به مارتن لوثر. لم يأخذ أوغسطينس بمفهوم ذهبي الفم أو غيره من الذين ساووا وماهوا بين ''الشرعة المسيحية'' و''الشرعة الطبيعية''. ولعل اعتراضه العنيف على مبادئ البيلاجية قاده في هذا الطريق. رفض أوغسطينس الموقف الإيجابي من الإنسان لناحية الأخلاق. وبالرغم من أنه يرى ''القاعدة الذهبية (مت 7:12) مكتوبة في الضمير(4)، الضمير موجود في وعينا فقط لنعي بأن الله يعرفنا ]على حقيقتنا[(5)، وليؤكد لنا دينونته بحضور هذا الضمير نفسه'' (6)

وهذا الرأي السلبي لأوغسطينس عن ''الضمير''، الذي سيتبناه الراهب الأوغسطيني مارتن لوثر، سيؤثر فيه سلبًا ويحرمه النوم، وسيولد فيه الثورة لقلب المفاهيم.

 

ثانيًا: حرية الضمير عند المصلحين البروتستانت

مع المصلحين البروتستانت، يتحرر الضمير من المعايير الأخلاقية التي وضعها التقليد البابوي في القرون الوسطى (مجمع اللاتران) على أنها مرجعٌ للضمير: أعمال النذورات والإماتات والتقشف وغيرها من الممارسات الدينية. قدم المصلحون البروتستانت قواعد جديدة لعمل الضمير؛ فكلمة الله والمحبة المسيحية هما المعياران الوحيدان اللذان يجب أن يرجع إليهما الضمير عند إصداره الأحكام على صاحبه. والضمير الحر يكون في من تحرر من سلطة الخطيئة والشريعة الموسوية. يوجد في الإصلاح اللوثري أمران بارزان: انفتاح لوثر على الكلمة برؤية جديدة وخبرته الروحية، ولا ندري أي من الاختبارين أتاه أولاً. لم يعد الضمير ''صوتًا ميتافيزيقيًا في الإنسان، بل صار عاملاً له دوره في عملية الخطيئة والخلاص. الإيمان هو المادة الأولى التي تغذي الضمير، ثم كلمة الله هي المادة الأخرة التي تنظم وتضبط عمل الضمير. بالنسبة إلى لوثر ''الضمير هو خط التماس بين تبرير بأعمال الشريعة هو مستحيل، إيمان بكلمة الله المبررة. وعندما تهدد الشريعة الضمير...، لا يكن لك ثقة إلا بالنعمة وبالكلمة المعزية''(7). لم يعد الضمير موجهًا نحو الله بشكل طبيعي، بل أصبح جزءًا من عمل المسيح التحريري. عندما يحرر المسيح الإنسان، بالإيمان، من سلطان الخطيئة والشريعة، يتحرر الضمير أيضًا من ''المرجعيات'' البشرية التي استأسرته ووجهته خطأً. أصبح الضمير في علاقة وثيقة مع الإيمان: ''فالإيمان الذي تولده كلمة الله يعطي الإنسان راحة الضمير. ليس الضمير مركز الحكم الأخلاقي في الإنسان، لأن دينونة الله، وليس ما يقوله الضمير، هو المهم للإيمان. يتولد الضمير الصالح في الإنسان، قبل العمل الصالح، إذ الضمير الصالح من صلب عمل التبرير، والعمل الصالح هو نتيجة التبرير. وليست راحة الضمير نتيجة للعمل الصالح، بل تحرير الضمير يؤول إلى العمل الصالح.

شدد لوثر على وجوب التوقف عن عملية ''تربية الضمائر'' عن طريق ممارسة الشعائر والطقوس الدينية والأعمال الصالحة أو الأعمال الإماتية والزهدية، أو تعليمات الكنيسة المتعلقة بالطعام والشراب، وبتوجيه الإنسان الخاطئ نحو اختبار تحوّل روحي حقيقي فيه يحصل الإنسان على ضمير صالح. ورأى كالفن أن الضمير الصالح هو نتيجة حتمية عند الحصول على الخلاص الذي هو عطية نعمة الله بالمسيح.

1. الحرية هي أولاً تحرر روحي

إن ما شغل مارتن لوثر هو خوفه الدائم من الله ''الغضوب'' الذي من الصعب أن تحصل على رضاه؛ فكل الإماتات الرهبانية والاعترافات وممارسة الفضائل لم تكن قادرة على تحريره من الشعور بالذنب. كان أسيرًا لهذا الشعور، مقيدًا بخوفه من الله. كتب في مذكراته عن هذه الحالة:

''لقد حاولت بكل جهدي أن أحافظ على النظام. تعوّدت أن أكون منسحق القلب، وكنت أجهز قائمة بخطاياي. اعترفت بها المرة تلو المرة. نفذت، بكل حرص، العقوبات الدينية التي عُيّنَتْ لي. ومع كل ذلك، بقي ضميري يقلقني، وظل يخبرني: أنت قصرت هناك، أنت لم تندم بما يكفي، لقد خصمت تلك الخطيئة من قائمة خطاياك. كنت أحاول أن أشفي نفسي من الشكوك وتعب الضمير بوسائل بشرية، وكان ضميري يزيد في إقلاق راحتي''(8).

في وقت من الأوقات، توطدت العلاقة بين لوثر والأسقف العام للأديرة الأوغسطينية، جوهان ستوبيتز (Johan Staupitz)، وأصبح الأسقف معرِّفه ومرشده وأباه الروحي. وفي وقت ما، صارحه بشعوره العميق بالذنب، وبعذابه، وبخوفه من الدينونة. تذكّر لوثر صورة المسيح الملونة على لوحة من زجاج نافذة في مانسفيلد مهددًا الجنس البشري بالسيف، وارتاع لوثر من هذا المشهد إذ وجد أن لا أمل له بالنجاة من هذه الدينونة بالرغم من كل أصوامه وصلواته وإماتاته التي يتممها في الدير. لكن الأسقف نصح لوثر الشاب أن يحوّل بصره من إله الدينونة إلى إله المحبة، ومن خطاياه إلى مراحم المسيح. ولأجل ذلك، كتب لوثر لأسقفه في وقت لاحق: ''أنت قبل أي شخص آخر هو الإنسان الذي جعل نور الإنجيل يضيء في ظلام قلبي''.

قراءة التاريخ في سياقه تُلزمنا أن نفهم بأن مارتن لوثر درس ''الحرية المسيحية'' في خلفية قلقه وعذابه الناتج عن شعوره العميق بالذنب. وكان يبحث عن نوع من التحرير من عذاب الضمير.

وفي غمرة تناقضاته ومخاوفه من الله الديّان، حدث للوثر اختبار روحي؛ فبعد سنين طويلة تذكّر وكتب عن هذا الاختبار كيف بينما كان يقرأ رسالة رومية في ''البرج''(9)، شعر فجأة بقوة النص: ''البار بالإيمان يحيا'' (روم 1:17). أدرك لوثر معنى هذه الكلمات شيئًا فشيئًا. يبدو أن وعد الله يملأ متطلبات المستوى الخلقي الذي يطمح بالوصول إليه. فالراهب المثابر ليس عليه الاتكال على مثابرته، أو على الإماتات التي يقوم بها أو العقوبات التي يعاقب بها نفسه، إذ إن بر الله موعود به لكل الذي يضعون ثقتهم فيه. الإيمان هو القناة التي من خلالها تفيض نعمة المخلص إلى النفس المضطربة، فتضع فيها السلام. الإنسان عاجز عن أن يخلص نفسه، غفران الخطايا عطية مجانية من الله. ونتيجة إدراك معنى هذه الآية من رسالة رومية، كتب لوثر عن نفسه: ''انتابني الشعور إني على الفور ولدت ثانية ودخلت من أوسع الأبواب إلى الفردوس نفسه... هكذا في الحقيقة، كانت لي هذه العبارة من بولس بوابة الفردوس...''(10).

بحسب تعليم الإصلاح، الحرية التي حررنا بها المسيح (غل 5:1) هي ''حرية من الخطيئة'': ''أجابهم يسوع: الحق الحق أقول لكم: إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية... فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا'' (يو 8:34، 36).

و''حرية من الشريعة'' (روم 7:1-4):

''أم تجهلون أيها الأخوة، لأني أكلم العارفين بالناموس، أن الناموس يسود على الإنسان ما دام حيًا. فإن المرأة التي تحت رَجُلٍ هي مرتبطة بالناموس بالرجل الحي. ولكن إن مات الرجل فقد تحررت من ناموس الرجل. فإذًا، ما دام الرجل حيًا تدعى زانية إن صارت لرجل آخر، ولكن إن مات الرجل فهي حرة من الناموس حتى إنها ليست زانية إن صارت لرجل آخر. إذًا، يا إخوتي، أنتم أيضًا قد متُّم للناموس بجسد المسيح لكي تصيروا لآخر، للذي قد أقيم من الأموات لنثمر لله''.

الخطيئة، وكذلك الشريعة - في اللاهوت الكتابي بشكل عام، والبولسي بشكل خاص - سيد متسلط على الإنسان الخاطئ، ويبقى هذا عبدًا لهما ما لم يمت أو ما لم يتحرر منهما ويصبح تحت سيادة أخرى. لقد تحرر المسيحي من سيادة الخطيئة والشريعة عليه بموته مع المسيح وبانتقاله إلى سيادة المسيح (روم 6:3-7).

''أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته. فَدُفِنّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضًا في جِدَّة الحياة. لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضًا بقيامته، عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليُبطَل جسد الخطيئة كي لا نعود نُستبعد أيضًا للخطية. لأن الذي مات قد تبرأ من الخطية''.

 

2. حرية الضمير والكلمة

اعتبر مارتن لوثر أن ضميره حر من سلطة الكنيسة، وخاصة البابا، وأسير كلمة الله فقط. وفي هذا الوضع المتأزم، في زمن الإصلاح، وبعد استنفاد كل المحاولات لعودة الابن الضال إلى حضن الكنيسة، قام الإمبراطور شارل الخامس، ملك إسبانيا وإمبراطور الإمبراكورية الرومانية المقدسة، بمبادرة لحل قضية ''الأخ مارتن''، هذا ''الراهب المتعصب'' الذي يرفض أية سلطة، أكانت سلطة الإمبراطور أم سلطة البابا. رتب الإمبراطور جلسة استماع في وورمز (Worms)، استدعى لوثر إليها ومنحه صك الأمان على حياته. انعقد المجمع في 17 نيسان / إبريل سنة 1521؛ ولما كان لوثر مستعدًا لمناقشة لاهوتية، وجد أن السلطات الكنسية أعدت مجموعة من كتاباته، وسألوه إذا كان مستعدًا أن يُنكر هذه الكتب أو أي شيء فيها. وعندما فوجئ بالأمر، طلب لوثر مهلة أربعة وعشرين ساعة لكي يجيب. قضى لوثر تلك الليلة في الصلاة، وعاد في اليوم التالي إلى المجمع وصرح بإعلانه الشهير:

''ما لم أقتنع بشهادة الكتاب المقدس أو بسبب واضح، لأني لا أثق في البابا ولا في المجامع وحدها، حيث من المعروف أنهم كثيرًا ما أخطأوا وناقضوا أنفسهم، فأنا ملتزم بأقوال الكتاب المقدس التي اقتبستها، وضميري أسير كلمة الله. إني لا أستطيع وسوف لا أنكر أي شيء. فإنه ليس مأمونًا ولا صوابًا أن نخالف الضمير. لذلك لا أستطيع أن أفعل شيئًا خلافًا لذلك، هنا أثبت، ليت الله يعينني''(11).

 

3. العيش في الحرية هو السلوك في المحبة

جاء، بعد ذلك، تعليم لوثر عن ''الحرية المسيحية'' مطابقًا لاختباره الروحي. ويرى لوثر أنه يعيش في الحرية مَنْ دَخَلَها، أي من تحرر من سلطان الخطيئة والناموس. كتب مارتن لوثر في ''الحرية المسيحية'' سنة 1520:

''الإنسان المسيحي هو الأكثر حرية، والسيد على الكل، ولا يخضع لأحد. الفرد المسيحي هو الأكثر تحسسًا لواجبه كعبد، ويخضع لكل واحد. بالرغم من أن هذين التصريحين يظهران متناقضين، لكن إذا تواجدا جنبًا إلى جنب، يعبران بطريقة رائعة عما أريده. إنهما تصريحا بولس نفسه الذي قال: ''فإني إذ كنت حرًا من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين'' (1 كو 9:19)، و''لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلا بأن يحب بعضكم بعضًا'' (روم 13:8). هذا يعني أن المحبة بطبيعتها تشعر بالواجب وتخضع لأغراض المحبوب. وهكذا، فالمسيح نفسه، هو رب الكل، وُلد من امرأة، وولد تحت الناموس؛ وكان، في الوقت نفسه، حرًا وعبدًا؛ وفي الوقت نفسه، كان في هئة الله، وفي هيئة العبد.

كثيرون هم الذين، إذ يسمعون عن حرية الإيمان، يُصَيِّرونها فرصة للجسد. يظنون أن كل الأشياء تحل لهم، ولا يختارون أن يُظهروا أنفسهم أناسًا أحرارًا بطريقة أخرى غير تلك التي يُظهرونها في الاحتفالات والتقاليد والشرائع البشرية، كما لو كانوا مسيحيين فقط لأنهم يرفضون الصيام في أيام معينة، أو يأكلون اللحم عندما يكون غيرهم صائمًا، أو يهملون الصلوات الاعتيادية، أو يسخرون من طرق البشر، ويتركون جانبًا كل فضائل الديانة المسيحية. من جهة أخرى، يقابلهم أولئك الذين يلهثون وراء الخلاص بواسطة الاحتفالات الدينية...، والصوم في أيام معينة... كم كان الرسول بولس أكثر اتزانًا إذ يعلمنا أن نسير في  الطريق الوسط، متنكرًا لكل تطرّف، فيقول: ''لا يزدرِ من يأكل بمن لا يأكل، ولا يدن من لا يأكل من يأكل'' (روم 14:3)... ويرى أن لا أحد يلاحظ الآخر بالمحبة التي تبني''.

وفي رسالة أخرى تظهر لنا الصفة الإنسانية المحببة من المصلح الألماني، تكلم لوثر عن حرية المسيحي:

''الإنسان المسيحي هو السيد الأكثر حرية من الجميع وليس خاضعًا لأحد، بحق الإيمان. الإنسان المسيحي بين الكل هو أعظم خادم يؤدي الواجب، ومطيع للآخرين، بفضل المحبة. فالإيمان والمحبة يكونان السمة الحقيقية للمسيحي: الإيمان يربطه بالله، والمحبة تربطه بزميله الإنسان''(12).

إذًا، المسيحي حر في كل شيء ومن كل شيء إلا أن يسيء بحريته إلى قريبه، وعندما تهدد الحرية الشخصية الآخر بأبعاده المتعددة: الضمير، البدن، القيم المعنوية مثل الكرامة، عندئذٍ تخضع حريته بفرح وبرضى للمحبة الأخوية. المسيحي حر إلا من المحبة.

الحرية من الشريعة ليست حرية لارتكاب الخطيئة، ومن يتصرف هكذا فهو ينتقل من عبودية الشريعة إلى عبودية أخرى هي عبودية الخطيئة.

أما في ما يتعلق بـ ''الأمور المختلفة الثانوية'' (Adiaphora)، أي الأمور التي فرضتها الكنيسة الكاثوليكية على أبنائها لجهة الطعام والشراب والأعياد والاحتفالات، ولا يوجد في الكتاب المقدس بخصوصها رفض أو قبول، فكان خلاف بالرأي بين المصلحين؛ فمنهم من تصرف بردة فعل تجاه الكنيسة الكاثوليكية، فرفض أي شيء لمجرد أنه ممارسة كاثوليكية، حتى ولو لم ينهِ الكتاب المقدس عنه. أما البعض الآخر فكانوا أكثر تساهلاً، إذ تركوا الموضوع لحرية الفرد، ولم يجدوا مانعًا من أن يمارس المسيحي عادات تمارسها الكنيسة الكاثوليكية من أجل تنظيم حياة أبنائها الروحية، ويساهم في نضجهم ونموهم الروحي، ما لم تكن الممارسة مخالفة لتعاليم الكتاب المقدس.

الخلاصة

يجب أن يُفهم تعليم المصلحين البروتستانت حول حرية الضمير في سياق الوضع التاريخي والثقافي والديني الذي كان سائدًا في القرون الوسطى. كان تعليم مارتن لوثر عن ''حرية الضمير'' نتيجة خبرة دينية شخصية، التي هي بدورها كانت ثورة على الموروث الأوغسطيني حول طبيعة الإنسان والضمير، الذي يوصف بأنه سلبي، وعلى الموروث الديني للكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى حول الكتاب المقدس، والآلية التي يجب أن تتبع للحصول على راحة الضمير. هذان الموروثان سبَّبَا لمارتن لوثر تعبًا وألمًا، وأوقعاه فريسة لشعور عميق بالذنب.

رأى المصلحون البروتستانت حرية الضمير كنتيجة حتمية للخلاص بنعمة الله بالإيمان. عندما يتحرر الإنسان من سلطة الخطيئة والشريعة، يتحرر الضمير من القيود البشرية، ولا يربط صاحبه إلا بكلمة الله وبالمحبة المسيحية. فقط الضمير المسيحي المشحون بكلمة الله وبالمحبة المسيحية يصلح ليكون قائدًا للمؤمن.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM