المدعون الذين لا يلبون الدعوة.

 

المدعون الذين لا يلبون الدعوة

متى 1:22-14

الأب ريمون الهاشم الأنطوني

 

(1)وَعَادَ يَسُوعُ يَتَكَلَّمُ بِالأَمْثَالِ،

فَقَالَ: (2)»يُشَبَّهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ

 

أ- بِإِنْسَانٍ مَلِكٍ أَقَامَ وَلِيمَةً فِي عُرْسِ ابْنِهِ،

(3)وَأَرْسَلَ عَبِيدَهُ يَسْتَدْعِي الْمَدْعُوِّينَ إِلَى الْعُرْسِ،

 

ب- فَلَمْ يَرْغَبُوا فِي الْحُضُورِ.

 

أ1-(4)فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ ثَانِيَةً عَبِيدًا آخَرِينَ قَائِلاً لَهُمْ:

قُولُوا لِلْمَدْعُوِّينَ: هَا أَنَا قَدْ أَعْدَدْتُ وَلِيمَتِي؛

ثِيرَانِي وَعُجُولِي الْمُسَمَّنَةُ قَدْ ذُبِحَتْ وَكُلُّ شَيْءٍ جَاهِزٌ،

فَتَعَالَوْا إِلَى الْعُرْسِ!

ب1- (5)وَلكِنَّ الْمَدْعُوِّينَ تَهَاوَنُوا، فَذَهَبَ                      وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ، وَآخَرُ إِلَى مَتْجَرِهِ؛                    (6)وَالْبَاقُونَ قَبَضُوا عَلَى عَبِيدِ الْمَلِكِ                        وَأَهَانُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ.

أ2- (7)فَغَضِبَ الْمَلِكُ وَأَرْسَلَ جُيُوشَهُ،                                فَأَهْلَكَ أُولئِكَ الْقَتَلَةَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ.

أ3-(8)ثُمَّ قَالَ لِعَبِيدِهِ: إِنَّ وَلِيمَةَ الْعُرْسِ جَاهِزَةٌ،

وَلكِنَّ الْمَدْعُوِّينَ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ.

(9)فَاذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ الطُّرُقِ،

وَكُلُّ مَنْ تَجِدُونَهُ ادْعُوهُ إِلَى وَلِيمَةِ الْعُرْسِ!

 

ب2-(10)فَخَرَجَ الْعَبِيدُ إِلَى الطُّرُقِ، وَجَمَعُوا كُلَّ مَنْ

وَجَدُوا، أَشْرَارًا وَصَالِحِينَ، حَتَّى امْتَلأَتْ قَاعَةُ الْعُرْسِ

بِالضُّيُوفِ

 

أ4-(11)وَدَخَلَ الْمَلِكُ لِيَنْظُرَ الضُّيُوفَ، فَرَأَى إِنْسَانًا لاَ يَلْبَسُ ثَوْبَ الْعُرْسِ

(12)فَقَالَ لَهُ: يَا صَاحِبِي، كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَأَنْتَ لاَ تَلْبَسُ ثَوْبَ الْعُرْسِ؟

 

ب3-فَظَلَّ صَامِتاً

 

أ5-(13)فَأَمَرَ الْمَلِكُ خُدَّامَهُ قَائِلاً: قَيِّدُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَاطْرَحُوهُ فِي الظَّلاَمِ  الْخَارِجِيِّ، هُنَالِكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ (14)لأَنَّ الْمَدْعُوِّينَ كَثِيرُونَ، وَلكِنَّ الْمُخْتَارِينَ قَلِيلُونَ! «

المقدّمة

بعد عدّة قراءات لمراجع كثيرة تبيّن لنا أنّ شرّاح هذا المثل (مت22: 1-14) يعتبرون بأنّه كُتب على مرحلتين، لأنّه يحمل موضوعين متكاملين الأوّل يتكلّم عن الأنبياء الذين أُرسلوا قبل المسيح وعن المسيح بالذات الذي أرسله الآب وقتلوه، والثاني يتكلّم عن الرسل الذين أرسلهم المسيح. ولكنّنا إذا حصرنا النص بهذا النوع من الشرح لا نستطيع الدخول في موضوعنا الأساسي، وهو حرّية الإنسان وموقفه من مبادرات الآب السماوي تجاهه. لذلك سنحاول قراءة النصّ كما وصلنا، مع الاستعانة ببعض المقارنات لحلّ رموزه التي باعتقادنا تصلح لتكون أكثر إفادة للنفوس ولحاجاتها الروحيّة.

سنبدأ أوّلاً بوضع النص في إطاره الأدبي، ومن ثمّ سنحاول تقسيمه وتوزيع عناصره وصوره ومعانيه بطريقة تعيننا على توضيح رؤيتنا لمعناه، وفي النهاية سنقوم بشرح النص بحسب ما أوتينا من قدرة وإلهام سماوي من أجل ذلك.

 

1-الإطار الأدبي للنص

إذا ما تعمَّقنا في قراءتنا لهذا المثل، نلاحظ بأنَّنا أمام نص يحتوي على موضوع واحد، ألا وهو ملكوت السماوات. جاء المسيح بعرضه هذا يطرح علينا مشروع الدخول إلى الملكوت.

ولكن السؤال المطروح هو التالي : من هم هؤلاء الذين تعرَّض المسيح لهم ليتلو على مسامعهم هذا المثل؟ أليسوا الفريسيين والشيوخ وعظماء الكهنة والصدوقيين؟ بدأ المسيح مواجهته معهم منذ اللّحظة التي دخل فيها إلى أورشليم (مت 21)، كملك متواضع لا يبغي القتال من أجل فرض وجهة نظره، بل يسعى إلى الحوار كي يعرض ما جاء من أجله، وهو كلام يحمل مفاهيم جديدة تصفّي الشريعة الإلهية من تفاسير معقَّدة سبق واستنبطها المعلّمون اليهود، فأقفلوا أبواب السماء عليهم ومنعوا الناس من الدخول. لم يكن هناك من مشكلة مع الجموع التي علمت مسبقًا بقدومه، فحضَّرت لمجيئه استنادًا إلى ما سمعت من الشهود عن لسانه وعن أعاجيبه، كما ورد في يوحنا:''من أجل هذا أيضًا لاقاه الجمع، لأنَّهم سمعوا أنَّه صنع تلك الآية أي أعجوبة قيامة لعازر من القبر'' (يو 11و12:18).

أما بالنسبة إلى دخوله إلى الهيكل وطرده للباعة وللصيارفة من ساحته (مت 21: 12)، فقد علَّم الموجودين، وصنع العجائب مع الذين سمعوا كلامه واعترفوا به ابن داود (آ13-14)، وكل هذا ليس من دون أن يحصل أي اعتراض على هويَّته وعلى كلامه من قِبَل الرؤساء الروحيين، ''فتضايق رؤساء الكهنة والكتبة'' (آ15).

وصنع بعد ذلك آية لَعْنِ التينة التي يبست في الحال، وأعطى من خلالها تعليمًا قال فيه : ''كل ما تطلبونه في الصلاة بإيمان تنالونه'' (آ23). وجرى حوار في الهيكل الذي كان يتردَّد إليه ليعلِّم، كشَفَ من خلاله عدم مقدرة الكهنة وشيوخ الشعب على تبنِّي سلطان يوحنا وسلطانه بالذات (آ23-27). وبدأ بأحاديثه يعطي أمثالاً يُظهر فيها ثمار عدم اعترافهم هذا (آ28-32)، وقال: ''إنَّ جباة الضرائب والزانيات سيسبقونكم في الدخول إلى ملكوت الله... ولمّا رأيتم أنتم هذا لم تندموا بعد ذلك لتصدّقوه'' (آ31-32). وجدَّد المسيح أمثاله لتصبح أكثر حدَّة، فتكلَّم عن المزارعين القتلة (آ33-46)، الذين قبضوا على العبيد المرسلين من قِبل صاحب الكرم ليتسلَّموا ثمر الكرم في حينه، فضربوا بعضهم وقتلوا بعضهم ورجموا البعض الآخر، إلى أن قتلوا ابن صاحب الكرم ليحصلوا على ميراثه. ولكن صاحب الكرم عاد فأهلكهم، ونزع الكرم من أيديهم ليعطيه إلى شعبٍ يعطي الثمار في حينه. فكانت الضربة موجَّهة إلى الكتبة والفريسيين، فبدأوا بذلك يسعون للقبض عليه.

أما في النصوص التي تلت مت 22:1-14، بدأت المؤامرة انطلاقًا من الإدعاءات التي يوجِّهها الفريسيون ضدَّه: ''يا معلِّم، نعلم أنَّك صادق وتعلّم الناس طريق الله في الحقّ، ولا تبالي بأحد لأنَّك لا تراعي مقامات الناس'' (16:22). ودار جدال بينه وبين الصدوقيين حول القيامة فاتَّهمهم ''بأنَّهم في ضلالٍ لأنَّهم لا يفهمون الكتاب ولا قدرة الله'' (22:29). وبعدها اتَّحد الفريسيون والصدوقيون معًا ليستدرجوه حول الوصيَّة العظمى في الشريعة، فأجابهم : ''أحبِبْ الربّ إلهك من كل قلبك...، وأحببْ قريبك كنفسك'' (آ37). وفي النهاية تقدَّم المسيح من الرؤساء الروحيين وسألهم هو بنفسه سؤالاً عجزوا عن الردّ عليه ليكشف لهم عن نفسه هو فقال: ''فإن كان داود يدعوه ربَّه فكيف يكون ابنه'' (آ46).

نستنتج من هذه القراءة السريعة أنَّ الحوار بين المسيح والفريسيين والصدوقيين ورؤساء الكهنة وشيوخ الشعب هو حوار يحاول فيه المسيح استعراض مفاهيم جديدة لكلمة الله التي أتى بها وعرضها عليهم دون أن يحسب لهم أي حساب، فتصدّوا له بالمؤامرات وبالاستدراجات والمحاولات الفاشلة في القبض عليه. فالأمر واضح، رفض الرؤساء بأن يعترفوا بسلطانه وبكلامه نظرًا لضلالهم وعدم فهمهم لقدرة الله. وبما أنَّهم غير قادرين على الإصغاء والسماع والتأثّر بكلامه، اعترضوه وحاولوا امتحانه، لأنَّ تعاليمه مسَّت بتعاليمهم. فالمسيح بعمله هذا الذي أظهر فيه قدرة الله وعظمته للّذين سلّموا لتعاليمه، طرح ما عنده دون إلزام أحد فيه ودون المساس بكرامة أحد، وانتظر الردّ على دعوته بالإصغاء وبالعمل بما يعلّم كيف يُفتح باب الملكوت بوجه كل من يعتني بهذه التعاليم ويعمل بها.

فالعمل في الكرم إذًا هو الدخول في سرّ الكلمة، لأنَّه بالكلمة تنضج النفس وتعطي ثمارها في حينه. فالحريَّة هي عامل أساسي في اختيار الكلمة، لأنَّ الحريَّة ترتكز على القناعة والإرادة التي صوَّرنا الله بها على صورته كمثاله. فالله لا يُرغم شبهه بكلامه. فالكلمة خيار يؤدّي إلى الملكوت، أما رفضها فيؤدّي بالإنسان إلى الهلاك، لأنّه برفضه لها يتشبّث بمفاهيم يعتبرها روحًا قدسًا بالنسبة إليه، ويلغي دور الروح الحقيقي بفهم الكلمة وبالتذكير بها، وبمدّ يد العون إلى كل من يرغب بعيشها.

 

2-تحديد النص

إنَّ مت 22:1-14 هو مثلٌ يتضمَّن موضوع توجيه دعوة من قِبل الملك إلى وليمة عرس ابنه. وهذا الموضوع هو مختلف تمامًا عن النص الذي يسبقه، وهو مثل المزارعين القتلة (21:33-46)، وعن النص الذي يليه وفيه الردّ على سؤال الفريسيين حول دفع الجزية لقيصر (22:15-22). إذًا فالنص هو وحدة أدبيّة كاملة بموضوعه.

 

3-تقسيم النص

يُقسم النص إلى قسمين: الأول وهو آ 2ب-7 حيث يتكرَّر فعل ''أرسل'' في آ3 و7، فيحدّد القسم الأول من النص ليعود ويظهر في آ 4 التي يتمحور حولها المقطع بكامله.

أما آ 3ب فهي تتوازى مع آ5، لأنَّها تتضمّن ردود الفعل عند المدعوّين، وهي عدم الرغبة والتهاون والقتل.

لا يتضمَّن القسم الثاني من النص (آ8-14) فعل ''أرسل''، بل يتحدَّد بكلمة المدعوّين التي تتكرَّر في آ8 مع فعل ''أدعوه'' (آ9) وفي آ14. وتتوازى الآيتان 10 و12ب، لأنَّهما تتضمَّنان ردود فعل المدعوّين. رضي الأشرار والصالحون بالقدوم إلى الوليمة (آ10)، وبقي أحدهم صامتًا أمام سؤال الملك حول حلَّة العرس التي كان ينبغي عليه ارتداؤها (آ12ب). وتبقى آ11-12أ لوحدها ليتمحور حولها النص، بحيث أنَّها تتضمَّن سؤالاً وجَّهه الملك إلى أحد الحضور.

بذلك تتوزَّع الآيات على الشكل التالي :

أ (2ب-3أ)                 أ3 (8-9)

ب (آ3ب)                  ب2 (10)

أ1 (آ4)               أ4 (11-12أ)

ب1 (آ5-6)                    ب3 (12ب)

أ2 (آ7)               أ5 (13-14)

 

4-شرح النص

 

أ- مت 22: 1-7

يُشبِّه المسيح ملكوت السماوات بكل ما سيقوله في هذا المثل، لذلك فالوصول إلى الملكوت هو مجموعة مراحل تتألَّف من مبادرات وأحداث لها نتائجها وذيولها وتأثيراتها على الأجواء بشكل عام وعلى البشر بشكل خاص. يتألَّف المثل من مبادرات عدَّة قام بها إنسان ملك (آ 2أ) ووجَّه خلالها دعوة خاصة بالبداية إلى أشخاص معيَّنين ومَعْنيين. لذلك قال في آ 3 :''وأرسل عبيده يستدعي المدعوّين إلى العرس''، فالمدعوّون هم الذين دُعوا سابقًا، والآن سوف يتمّ استدعاؤهم لأنَّهم على علمٍ مسبق بالأمر. تكرَّرت الدعوة مرّتين في القسم الأول من النص، والذين أُرسلوا من أجل القيام بالمهمّة هم العبيد أي الخدّام (آ3 و4). وفي المرة الثانية أرسل الملك عبيده يطلب منهم أن يقولوا للمدعوّين ويؤكّدوا لهم أنَّ الوليمة صارت جاهزة بثيرانها وعجولها ومسمّناتها، وما عليهم سوى المجيء إلى العرس.

أعطى الملك للمدعوّين فرصيتن، وألحّ مرتين عندما أرسل عبيده وليس جيشه؛ فالدعوة بإرسال العبيد تحمل بمضمونها المستوى الانساني الذي يتمتّع به هذا الملك باحترامه للآخرين. إنَّ إرسال العبيد يعني بأنَّ الدعوة غير مُلزِمة، وحريّة الأشخاص بالمجيء محترَمة، ولكن الإلحاح يوحي فقط بروح الكرم والضيافة والمحبّة وبروح العطاء اللاّمتناهي، بحيث أنَّ الدعوة أتت من القلب، ويهمّ الملك حضور المدعوّين لأنَّ الوليمة معدّة لهم.

ولكن كيف كانت ردود فعل المدعوّين إلى العرس؟

في الواقع، لقد ردّ المدعوّون على الدعوة الأولى بعدم رغبتهم في الحضور (آ 3ب)، وعلى الدعوة الثانية ردّ القسم الأول منهم بالتهاون بحيث أنّهم أعطوا الأولوية لأشغالهم من حقل ومتجر وغيره، واعتبروا الدعوة إلى الوليمة أمر دخيل على حياتهم لا أهمية له. والقسم الثاني من المدعوّين استفزَّ الملك، وعرض عليه المواجهة بحيث أنّهم قتلوا العبيد المرسلين إليهم بعد أن أهانوهم (آ5-6). ومن الملاحظ أنَّ الملك لم يتعرَّض للّذين لم يرغبوا أو تهاونوا في الحضور، بل للذين أرادوا الأذيّة وأعلنوا عن عصيانهم داخل المملكة، فردَّ عليهم الملك بإرساله جيشه وليس عبيده، فأهلك القتلة وأحرق المدينة (آ7). إنَّ إهلاك القتلة وإحراق المدينة هو نوع من دينونة جلبه العصاة على رؤوسهم لأنّهم لم يكتفوا فقط بالخروج عن الطاعة، بل اعتبروا أنَّ المُلْك صار لهم، ووجود الملك أمر غير مستحب، فقالوا في أنفسهم، إما ديمومته وإما ديمومتنا، وأرادوا إلغاءه، وهذا أمر غير معقول.

والسؤال المطروح هو التالي : ما هي هذه الوليمة وهذه الدعوة التي اعتبرها قسم من المدعوّين عملاً استفزازيًا يتطلَّب عملاً عدوانيًا من قِبلهم، وردًا عسكريًا من قِبل الملك؟ أتكون الدعوة أمر خرج به الملك عن المفاهيم والتقاليد المعتمدة في المملكة؟ أم أنّ الملك أخذ مبادرة كان ينبغي عليه قبل أن يتمّمها المرور بهم ومشاركتهم في القرار؟

نلاحظ من خلال تحاليلنا أنّ الملك قام باحترام الحرّيات، وعمل ضمن مبدأ عرض ما عنده، واحترام حريّة الآخرين بقبول العرض أو برفضه.

 

ب- مت 22: 8-14

بعد الانتهاء من صدّ المدعوين الذين قتلوا العبيد، عاد الملك ليقول لخدّامه:  ''إنّ المدعوين لم يكونوا مستحقّين'' (آ8)، وليوجّههم إلى مفارق الطرق ليجمعوا كلّ مَن يجدونه ويدعونه إلى وليمة العرس (آ9). استعمل متّى الفعل ''استحقّ'' في مكان آخر من الإنجيل حيث جاء فيه ما يلي: ''وَكُلَّمَا دَخَلْتُمْ مَدِينَةً أَوْ قَرْيَةً، فَابْحَثُوا فِيهَا عَمَّنْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ، وَأَقِيمُوا هُنَاكَ حَتَّى تَرْحَلُوا، وَعِنْدَمَا تَدْخُلُونَ بَيْتًا، أَلْقُوا السَّلاَمَ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْبَيْتُ مُسْتَحِقٌّا فِعْلاً، فَلْيَحِلَّ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقٌّا، فَلْيَرْجِعْ سَلاَمُكُمْ لَكُم، وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ كَلاَمَكُمْ فِي بَيْتٍ أَوْ مَدِينَةٍ، فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ، وَانْفُضُوا الْغُبَارَ عَنْ أَقَدَامِكُمْ. الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ حَالَةَ مَدِينَتَيْ سَدُومَ وَعَمُورَةَ سَوْفَ تَكُونُ فِي يَوْمِ الدَّيْنُونَةِ أَخَفَّ وَطْأَةً مِنْ حَالَةِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ (مت10: 11-15). عندما نقرأ آيات كهذه نلاحظ بأنّ الدعوة موجّهة إلى من هو مستحق، والمستحقّ هو الّذي يقبل سلام حاملي البشارة أي الكلمة الإنجيليّة. أمّا قابلو سلام رسل الله فهم الّذين يستطيعون قبول الرسول والإصغاء إلى كلمته. فالمستحقّون إذًا هم الّذين يعترفون بالرسول وبكلامه، أمّا غير المستحقّين فهم الّذين يرفضون الاعتراف بالابن والإصغاء إلى لكلامه، وعرّضوا نفوسهم للدينونة، أي لخسارة ما قد يغنيهم ليصبحوا أهلاً لدخول الملكوت.

لنعد الآن إلى الرموز محاولين ولوجها. الملك هو الخالق أي الآب نفسه، وابن الملك هو المسيح، والمدعوون موزّعون بين الفرّيسيين ورؤساء الكهنة وشيوخ الشعب والكتبة وعامة الشعب. ما هي الدّعوة إذًا؟ الدعوة هي رسالة المسيح الموجّهة إلى هؤلاء بدون تمييز أو محاباة للوجوه، أمّا الوليمة فهي ليست الملكوت بل المدخل إليه، لأنّها تتطلّب اعترافًا بابن الملك وبسلطانه، وهذا ما لم يقدر عليه الرؤساء الروحيون اليهود، وتقضي أيضًا بالمجيء ردٌّا على دعوته من أجل الالتفاف حوله والإصغاء إلى محتوى رسالته التي حضّرها الآب كوليمة وأرسلها معه إلى المدعوّين.

لذلك، فعندما نتابع قراءة النص، نلاحظ بأنّ الملك قد أعطى للعبيد كامل الحريّة في جمع من أرادوا المشاركة في الوليمة، أشرارًا كانوا أم صالحين، حتّى يملأوا قاعة العرس بالضيوف (آ10). السؤال المطروح هو التالي: أيّة وليمة تستطيع أن تستوعب هذه ''التشكيلة'' من المدعويّن؟

فالكلمة التي أتى بها المسيح موجّهة إلى الجميع ومن دون تمييز، أي إلى الأشرار وإلى الصالحين معًا. ولكن بالرغم من ذلك، فهناك شرط أساسي كي يستطيع المدعو الدخول إلى الوليمة ويختلط بالمدعوّين. والمدعو، إن حضر، عليه أن يرتدي ثوب العرس (آ11-12). وحول هاتين الآيتين الأخيرتين تتمحور الآيات 8-14 أي القسم الثاني من النصّ. ما هو ثوب العرس هذا وماذا يعني، لأنّ عدم ارتدائه دفع بالملك إلى طرد الذي أتى من دونه؟ إذا كانت الوليمة هي وليمة إصغاء إلى الكلمة؛ فثوب العرس يعني السماع والاستعداد لتغيير المفاهيم القديمة، والدخول بمفاهيم جديدة سينوّره عليها ابن الملك. أمّا عدم ارتداء ثوب العرس فيعني السخرية ممّا سيقال وعدم الإعتراف بابن الملك.

تنتهي الآيات 8-14 والآيات 1-7 بحكم على المدعوّين غير المستحقّين. فغير المستحقّ يسعى دائمًا إلى القضاء على وجود الابن، ليس لأنّه الوريث الوحيد للملك، بل لأنّه يحمل رسالة الملك التي تزعج بمضمونها مفاهيمهم. فهم عندما قتلوا المسيح، قتلوه ليس لأنّه يزعجهم بزعامته، بل لأنّهم أرادوا صلب لسانه ومنعه عن الكلام لأنّه يجدّف على كلام الله بالنسبة إليهم، ولأنّهم أرادوا التشبّث بمفاهيمهم وتفاسيرهم التي زادوها على كلام موسى وإيليّا وباتت شريعة لهم. وعندما نقول بأنّ الملك طلب من العبيد طرد الرجل مقيّدًا ليطرحوه في الظلام الخارجي (آ13)، نعتبر بأنّ العمل الذي قام به الجنود في آ 7 هو أمر مشابه له تمامًا. لأنّ الذي ينتج عن رفض الإنسان للابن هو نفسه ينتج عن رفضه لكلام الابن، وهو التمتّع بكامل حرّيته عن اعتناق ما يسمح له بالدخول إلى الملكوت السماويّ.

 

الخاتمة

خرج المسيح بعبرة أساسيّة من المثل وقال بأنّ ''المدعوّين كثيرون والمختارين قليلون'' (آ14). نلاحظ من خلال ما ورد بأنّ الكلمة الإنجيليّة موجّهة إلى الجميع، أشرار وأخيار، ومن دون تمييز لذلك؛ فكلمة مدعو لا تعني بأنّ الإنسان صار داخل الملكوت، لأنّ الملكوت يتطلّب من المدعو قناعة كاملة بالخيار الذي تمّمه تجاه كلمة المسيح. والقناعة الكاملة تنبع عادة من قلب حرّيته التي تدفعه ليقول ''النعم'' أو ''اللا''. و''النعم'' للكلمة يفترض الإصغاء الكامل إليها والتسليم غير المشروط لمضمونها، وإيمانًا كاملاً بها وبملقيها، كونها الكلمة الحقّ. وبأنّ الابن يلحّ كي نؤمن به بملء حرّيتنا، فلأنّه عارف بأنّ كلامه ما زال بحاجة إلى الروح القدس ليصبح مفهومًا. فالمختار إذًا هو الذي يؤمن بالابن أوّلاً، لأنّه عالم بأنّ الدخول إلى وليمة الإصغاء إلى الكلمة، وفضّ مفاهيمها الصحيحة يتطلّب تحرّك الروح القدس الذي لا يتدخّل إلاّ من خلال هذا الاعتراف وهذا الاستعداد لنزع الإنسان القديم وارتداء الإنسان الجديد بمفهوم جديد لكلام الآب السماويّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM