تعرفون الحق والحق يحرركم.

 

تعرفون الحق والحق يحرركم

يو31:8-32

الأخت باسمة الخوري الأنطونية

الحرية والعبودية حالتان نختبرهما في حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكنهما في الوقت عينه رمزان لحالة الانسان الداخلية التي تحددها خياراته الأخلاقية، وماضيه وطموحاته الخلاصية. لا يذكرهما يوحنا الانجيلي سوى نادراً، ولا يأتي الإزائيون على ذكرهما أبدًا. وحده القديس بولس، بين كتّاب العهد الجديد، من يتناول هاتين الحالتين، وفي ذلك الكثير من الغرابة! فكيف يمكن ألا نقرأ في الانجيل عن العبودية والحرية، في حين انهما في أساس المفهوم اليهودي للتاريخ؟

منذ أن كان إسرائيل مستعبدًا في مصر، ثم في بابل وحرره الله، أصبح موضوع الحرية والعبودية جزءًا أساسيًا من عقيدته، يتخطّى المعنى التاريخي ويأخذ صفة الرمز(1). فالديانة البيبلية تتجذّر عميقًا في التاريخ، وما هو محوري فيها ليست الحرية كفكرة أو كمفهوم فلسفي وحكمي، كما نجده في الحضارة اليونانية، بل الحرية كحدث تاريخي مؤكّد. فالتحرر قد تمّ مرارًا، جرّاء تدخّل الله القادر، بأشكال شتى في مراحل تاريخية متعددة، وبالابن في ملء الزمن. وعليه، تسقط الغرابة، لأن عبارة ''الخلاص'' هي التعبير الديني المرادف لعبارات الحرية والتحرر والتحرير التي يستعملها الانسان يوميًا. من هذا المنطلق لم تذكر الأناجيل عبارتي الحرية والعبودية إلا نادرًا، فالحرية في مفهومها أصبحت خلاصًا وحقيقة متجسدة بيسوع المسيح، وكأن الإنجيليين يقولون إن يسوع هو الحرية في كل مرة يؤكدون أنه الخلاص(2).

 

الكلمة المحرِّرة (يو 8: 31-36)

إطار النص

يتعلّق حديثنا بآيتين نقرأهما في الانجيل اليوحنوي، مفادهما أن يسوع قال ''لِليَهودِ الَّذينَ آمَنوا بِه: إِن ثَبتُّم في كلامي كُنتُم تلاميذي حَقًا، 32تَعرِفونَ الحَقّ، والحَقُّ يُحَرِّرُكُم''.

يأتي هذا الكلام عن الحق الذي يعطي الحرية (يو 8: 31-32ي) في أحد أطول المقاطع المختصّة برسالة يسوع السماوية، وهو نص خطابي يبدأه يسوع في 8: 12 حيث يقدم نفسه على أنه ''نور العالم''، وينتهي مع محاولة رجمه في 8: 59؛  ويندرج في إطار الجدال الكبير الذي ينقله يوحنا في 8: 12-59 بعد خبر محاكمة المرأة الزانية ''لإحراج يسوع''، حيث يبقى يسوع مكانه بعد انسحاب الفريسيين والكتبة، وبعد ذهاب المرأة، فلا ندري باديء ذي بدء الى من يتوجه في خطابه الطويل هذا، لأن النص يقول في 8: 12 إنه ''كلمهم''، ثم نعرف في ما بعد انه توجه أولاً الى الفريسيين ( آ 13)، ثم الى اليهود (آ 22).

ينقسم النص الى قسمين، ويتمحور حول موضوعين أساسيين هما:

- أصل يسوع وهويته في القسم الأول (آ 12-30)؛

- وبنوة ''اليهود'' الابراهيمية في القسم الثاني (آ 33-59).

وتأتي الآيتان 31-32 كجسر بين القسمين، لتربط شخص يسوع حامل كلمة الله وحقه، بتلاميذه الذين يصلون من خلاله الى الحرية والبنوة الإلهية.

* في القسم الأول (آ 12-30) المتمحور حول أصل يسوع وهويته، موضوعان هامّان هما الشريعة والحياة من جهة، وموضوع الكلمة من جهة ثانية. بما يخص الموضوع الأول تبدو المشكلة في كيفية تفسير الشريعة، أبحسب اللحم والمنطق، على طريقة الفريسيين والكتبة، أم بحسب الحق على طريقة يسوع؟ ويأتي حديث يسوع ليحدد شروط الحكم الحق التي لا تتوفّر إلا فيه، مرتكزًا على هويته المتعلقة بالآب أولاً، وعلى الشريعة التي تطلب شهادة اثنين ثانيًا. في ذلك فقط يصل الانسان الى الحياة.

أما الموضوع الثاني فيدور حول موضوع الكلمة، وهو ما يولّد جدلاً حول الحياة والموت، الايمان والخطيئة، فيكثر اللغط وعدم الفهم من قبل اليهود الذين لا يرون الحق ولا يسمعون الكلمة، في حين أن يسوع هو النور وهو الناطق بكلمة الله. وهكذا، انطلاقًا من الشريعة يوصلنا الكاتب الانجيلي الى شخص يسوع، الحكم الحق على هذه الشريعة؛ وانطلاقًا من الكلمة، يقودنا الى الناطق باسم الله، كلمة الله يسوع، جاعلاً من يسوع محورًا للنص بكامله.

* أما القسم الثاني (33-59) فيدور حول وضع اليهود محاوري يسوع، ويمكن تقسيمه الى ثلاثة أقسام:

-   آ 31-41أ : تتمحور المسألة حول بنوة اليهود الابراهيمية (من حيث الذرية، ومن حيث السلالة، ومن حيث الرمز). يبدأ الانجيلي باستنتاج أولي يؤدي الى سؤال بديهي. الاستنتاج هو التالي: إن كان اليهود من ذرية ابراهيم ومن سلالته فإنهم أبعد من أن يكونوا أبناءه، لا بحسب المنطق ولا بحسب الرمز، ذلك لأنهم لا يعملون أعماله(3). من هنا السؤال البديهي: إن لم يكونوا أبناء ابراهيم، فأبناء مَن هم إذًا؟

-   آ 41ب-50: لا يمكن لليهود أن يكونوا بلا أب، فأباهم إما الله وإما ابليس. يعلن يسوع أن من يسمع كلمة الله هو ابن لله، ومن يسمع كلمة ابليس يكون ابنًا له. فالانسان هو ابن لمن يسمع، وعلى كلٍ أن يعرف ابن من هو.

-   آ 51 -58: حياة الانسان تتعلق بصوت من يسمعه. من يسمع صوت الابن لا يذوق الموت لأن الابن هو كلمة الآب.

وفي حين يبدو وكأن القسم الأول قد أدى الى الموافقة على أقوال يسوع، ''كثيرون آمنوا به'' (آ 30)،  تسبب القسم الثاني بردة فعل عنيفة تعيدنا الى موقف الفريسيين الأول حين جاؤا بالمرأة ليتهموه(4).

في هذا الإطار (بين هوية يسوع ورفض اليهود الإقرار بما هم عليه فعلاً)، يمكننا فهم الآيتين 31-32: ''قال يسوع لليهود الذين آمنوا به: إِن ثَبتُّم في كلامي كُنتُم تلاميذي حَقًا، تَعرِفونَ الحَقّ، والحَقُّ يُحَرِّرُكُم''.

 

الثبات في الكلمة لمعرفة الحق والحصول على الحرية

يتوجه يسوع الى ''اليهود الذين آمنوا به''، بعد سماعهم القسم الأول من خطابه المتعلق بهويته وسلطته النابعة من بنوّته الإلهية (آ 31). لكن هؤلاء السامعين لا يختلفون كثيرًا عن أعداء يسوع الظاهرين. فمنذ الصعوبة الأولى نراهم ينضمون اليهم (آ33)، فلا يعود القاريء يعرف الى من يتوجه يسوع، أإلى أعدائه، أم الى هؤلاء الذين ''آمنوا به''؟ من هنا نسمعه يقول لهم في 8: 45: ''أنتم لا تؤمنون بي''.

فهل هم مؤمنون أم لا؟ ولماذا؟ ومن هو المؤمن إذًا؟

 

* الثبات في الكلمة

في 8: 12 دعا يسوع الانسان الى اتّباعه: ''أَنا نُورُ العالَم، مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة''، وها هو الآن يدعوه الى الثبات في كلامه، مما يوضح أن المطلوب هو إذًا قبول كلمة يسوع والرسوخ فيها وحفظها(5).

هذا هو الشرط الذي يسمح للانسان بأن يكون تلميذًا حقًا (وتأتي عبارة التلميذ هنا للمرة الأولى في الانجيل الرابع)، متميّزًا عن اؤلئك الذين تركوا المعلم في 6 :66. التلميذ الحق هو الذي، على مثال ''التلميذ الذي يحبه يسوع''، لم يكتفِ بـ''اتباع'' يسوع فقط  (18: 12) أو بالإيمان به (8: 31)، بل ثبت في كلمته(6).

يتعلق الأمر إذًا بقبول ''الكلمة''، لكن الكلمة كانت قد كُشفت في إسرائيل وبطريقة فريدة. فمنذ الوعد لإبراهيم، كُشف للشعب المختار بأن الله الواحد هو إله العهد، وأنه يريد الارتباط بشعبه، وكم من مرة عبّر عن هذا الارتباط من خلال صورة علاقة الأب بالإبن مشددًا على حميمية هذه العلاقة. وكان اليهود يعتبرون بأن هذه الكلمة التي كُشفت لهم، والتي تلزمهم هي ''الحقيقة''(7) التي يرتبط بها مصيرهم، وطالما تعلّقوا بها وقدّسوها، فما معنى ما يقوله لهم يسوع؟ وهل يريد أن يقول بأنهم خانوها؟

لا! كان الأنبياء يؤمنون بأن معرفة الحق كاملاً هي عطية الأزمنة الأخيرة(8)، وهو ما يؤكده يسوع بقوله ''تعرفون'' )gnwvsesqe(، بمعنى: إن آمنتم بأن الأزمنة الأخيرة هي هنا الآن. صدق الأنبياء، وها هي الآن الأزمنة الأخيرة التي تؤهل المؤمن لمعرفة الحق. هذه المعرفة مشروطة بـ''الثبات'' في كلامه (آ 31) وليس في الكلمة. إن كلمة يسوع هي من يشرح معنى الكلمة الإلهية التي كُشفت لشعب الوعد، ويسوع هو المفسّر الاسكاتولوجي لإله اسرائيل، يكشف للبشر الى أي شراكة هم مدعوون. وبالتالي فإن في عدم قبول يسوع إعلانًا واضحًا عن الانتماء الكاذب إلى سلالة ابراهيم المؤمنة بالإله الواحد الحق، والمنتظرة الأزمنة الأخيرة ومعرفة الحق(9).

يؤكد يسوع في بداية حديثة: ''إذا ثبتم... الحق يحرركم'' (آ 31)؛ وفي معرض خطابه يؤكد: ''إذا حَرَّرَكُمُ الابنُ كُنتُم أَحرارًا حَقٌّا'' (آ 36)، مما يعني بأن الحرية التي يعطيها الحق تعطى للتلاميذ بواسطة يسوع. فما هو الحق، أو بالأحرى من هو الحق؟ وما هو جوهر الحرية؟

* تعرفون الحـق

- الحقيقة وخلفيتها الفلسفية

أعاد بعض الشارحين النص الى خلفية أدبية هلِّينية ثنائية حيث معنى عبارة  ajlhvqeia هو ''الواقع الحقيقي'' في مقابل ''الواقع الظاهر''، فأعطوها عند يوحنا معنى ''واقع الحقيقـــة الإلهيــة'' وكشفهـــا، المتناقض مع ''حقيقة العالم الظاهرة'' ((pseudo-réalité؛ وبما أن هذه الحقيقة تكشف إمكانية الوجود البشري الوحيدة التي تقود الى الحياة )whz(، فيجب أن نفهم في ajlhvqeia القدرة على إعطاء الحياة التي تنير وجود الانسان، بكشفها له الامكانية الوحيدة للوجود.

ولتأكيد الخلفية الفلسفية اليونانية، لفت هؤلاء الشارحون النظر الى العلاقة التي يبرزها النص اليوحنوي بين الحقيقة والحرية، على مثال ما كان يفعله الرواقيون والغنوصيون.

أكد الرواقيون بأن الحكيم هو من يتحكم بأهوائه، فيصل الى الهدوء الداخلي والابتعاد عن القلق (ataraxia)، فيخضع للقدر الكوني، وعليه، أعلن  Epictète أن السعادة تكمن في التحرر من الأهواء الفوضوية، للمشاركة في اللُوغُس ((Logos المنشور في الكون(10)؛ وسعى الغنوصيون الى التحرر من المادة، بالتخلص من الجهل الذي يسجن الانسان، من جهة، والوصول الى معرفة الشرارة الإلهية المخبوءة فيه، والمتأتية من القسم الإلهي الذي سقط منه الانسان، من جهة ثانية. وفي انجيل فيلبس الغنوصي المنحول، نصٌّ مشابهٌ لما نجده في يو 8: 32 نقرأ فيه ''الحقيقة كالجهل: مخفية، ترتاح في ذاتها، ولكن عندما تنكشف وتُعرف، نمجّدها... الحقيقة تعطي الحرية''؛ ويكمل: ''قال اللوغس: إن عرفتم الحق، الحق يحرركم''. ''الجهل عبد، والمعرفة حرية''(11). يبدو واضحًا في نهاية هذا النص المنحول تغيير المعنى الانجيلي، فالغنوصي يتحرر من الجهل وليس من الخطيئة. وفي نسبه القول الى اللوغس، يشير الكاتب الى طابع الحقيقة العقلي، في حين أنها، بالنسبة الى اليهود كما بالنسبة الى يسوع، كلمة تلزم على الصعيد الوجودي بالذات.

 

- الحقيقة وخلفيتها البيبلية

لا يمكن نفي التأثير الفلسفي والغنوصي على الانجيل الرابع، لكن الدراسات الحديثة كشفت عن الوضع الديني والسياسي المعقّد لفلسطين في القرن الاول للميلاد، والذي كان يخضع للتأثير الهليني بشكل عام، ولكن لتأثير العديد من المجموعات الدينية اليهودية بشكل خاص. وقد أبرزت اكتشافات قمران عمق هذه التعقيدات، وأكدت نقاط التشابه بين كتابات قمران والانجيل الرابع ارتكاز الاثنين على العهد القديم، وعلى التيارات الروحية التي كانت مزدهرة ومتكاثرة في فلسطين في ذلك الوقت.

''الحق'' )(ajlhvqeia هي بحسب المعجم العبري مرادفة لـ ''إِ مِ تْ'' التي تشير، من جهة، الى ما هو ثابت في الانسان(12)، ومن جهة ثانية، إلى ما يميّز العلاقة الدائمة والمتعمّقة بين شخصين، أي ''الأمانة''، وهي العبارة التي ميّزت إله العهد عبر الأجيال.

في العهد القديم، وخاصة في الأدب الحكمي، العديد من المراجع حول الحقيقة تتعارض مع المعنى الفلسفي الفكري المحض. فقد فهم العهد القديم الحق بطرق مختلفة، أهمها المعنى الديني (75 مرة من أصل 126 في الكتاب المقدس العبري) حيث الحق هو صفة الله  أو صفة شريعته (49 مرة).

صحيــح أن الـ ajlhvqeia، من حيث كونهـا صفة مسيـحـانية، تصــف الواقع (réalité) الإلهي الذي كُشف بالمسيح، لكن فكرة الـ ''إِ مِ تْ'' تتضمن أيضًا معنى الحقيقة. فالله ليس واقعًا فقط بل هو أيضًا حق. هذا هو معنى ''إِ مِ تْ'' العميق حيث يترافق المعنى الأخلاقي مع مشروع الله وأعماله الخلاصية. من هنا ترافق النعمة مع الحقيقة cavri" kai ajlhvqeia التي نجدها في العهد القديم في عبارتي ''حِ سِ دْ'' \ ''إِ مِ تْ'' (خر 34: 6) حيث يتلخّص وصف الله لذاته ولمشروعه الخلاصي بأنه العظيم في رحمته وأمانته. ويبدو  هذا التجانس بين الشخص والأخلاق واضحًا في 2 صم 7: 28: ''أنت الله حقًا، أي أن كلامك حق''. فكلمة الله حق (2 صم 7: 28؛ 1 مل 17: 24)، وأحكامه حق (مز 19: 9)، ووصاياه حق (مز 119: 151؛ رج آ 86)، وشريعته حق (مز 119: 142)، وقد كُتبت الأمثال لتعرّف سامعيها الحق (أم 22: 21)؛ ويتضرّع المؤمن الى الله ليرسل له الحق (مز 43: 3)، ويسأله أن يقوده بالحق (مز 25: 5)، ويعد بأن يسير بالحق (مز 86: 11). ويشخّص سفر الأمثال الحق ويعرضه للإقتناء (أم 23: 23)، ويصوّره أشعيا متكلّمًا في السوق (أش 59: 14).

في حك 3: 9؛ 6: 22 كما  في دا 10: 21 تأكيد على ان الحصول على الحكمة ومعرفة الحق تعني معرفة سر الله والمشاريع الالهية الخلاصية. انطلاقًا من هذه الخلفية، يقول يو 8: 31-32 إن الحق قد تجسّد بيسوع، وأن الحق أخذ وجهًا بتجسد الحكمة الإلهية (يو 8: 40). يتعدى معنى الحق البيبلي إذًا المعنى الهلِّيني عن الواقع الإلهي، ليطال الحكمة الإلهية المتجسدة بيسوع الذي أتى من علُ، ويعود إليه بعد أن يكشف ان خلاص العالم يأتي من الآب بواسطة رسوله، الابن(13). فإن كان اليهود المؤمنون يتوقون، منذ قبل مجيء الابن، الى الحفاظ على الشريعة الالهية والثبات فيها (مز 119: 17، 57 الخ)، فهم مدعوون الآن إلى الثبات في الكلمة التي يقولها الابن الذي خرج من الآب. لقد أخذ الابن المكان الذي كان للحق في آ 32، فهو الحق المتجسّد الذي يحرر (يو 1: 14؛ 14: 6).

يُظهر يوحنا أن يسوع المسيح هو تجسيد لحقيقة الله لأنه بذاته تحقيق وعود الله وشريعته. من هنا استعماله 3 مرات وبشكل مطلق لعبارة  ,ejgw eijmiV في هذا النص (8: 24، 28، 58)، التي تُظهر نية الإنجيلي في استعمالها كمقدمة لكشف المسيح عن ذاته: ''ejgw eijmi oJ oJdo" kai hJ ajlhqeia kai hJ zwh," (يو 14: 6).

ليوحنا في الحقيقة أسلوب خاص به يميّز تركيبته الكريستولوجية، ويقضي باستعمال العديد من الألقاب، بحيث تتكامل ويشرح بعضها بعضًا، لإيصال القاريء الى الهدف الذي وضعه لنصّه (يو 20: 31). وهكذا يتضح ان الحق الذي يحرر في يو 8: 32، هو الابن في 8: 36، الذي ليس سوى يسوع في 14: 6.

فيسوع هو إذاً الكاشف (révélateur) والكشف (révélation) في الوقت عينه، به تتحقق مشاريع الله بالكشف والخلاص. ففي حين كانت الشريعة هي الحق، ودراستها هي ما يحرر الانسان (مز 115)، أخذ الايمان بيسوع هذا الدور، لأن يسوع هو الحق بالذات.

 

- الحق اليوحنوي

كل ما يقال عن الحق يجب ان يرتكز على كلمة يسوع، ''أنا هو الحق''. فإن كان الحق هو صفة المسيح، وإن كان قد تجسد فيه، فهو إذًا يتعلق بشخصه. فأن نقول الحق ونفعله ونعرفه، ليس مجرد أعمال مادية، بل هو موقف مرتبط بشخص يسوع المسيح كلمة الله. وعندما يقول يسوع ''انا الحق''، فهو يتخذ صفة من صفات الله(14). وكما ان النور، أبعد من النور المادي الذي يسمح لنا بالرؤية، لأنه شخص المسيح الـ ''نور'' الذي يحكم على الظلمات ويدينها، كذلك الأمر بالنسبة الى الحق الذي هو شخص المسيح الذي يكشف الكذب يحكم عليه ويحرر منه. الحق كما النور هو شخص المسيح أساس الايمان، ومن يؤمن به يعمل الحق(15)، ويشهد للحق(16). فبقوله ''مَن كانَ مِنَ الحَقّ'' (18: 37: 1 يو 1: 8؛ 2: 4) يعني يوحنا عمليًا ''من كان من الله'' (8: 47؛ 1يو 4: 10). وبقوله: ''أنا الطريق والحق والحياة'' (14:6) يريد يوحنا الإعلان بأن يسوع هو الطريق لأنه الحق الذي يوصل الى الحياة. فبكونه الحق، يشركنا في حياة الآب ويقودنا اليه. بهذا يصل الانسان الى الحرية. فإن كانت الشريعة قد أُعطيت للبشر بموسى، فإن الحق أي ملء النعمة، قد أُعطي لنا بالمسيح. منه تأتي كلمة الحق، فإن سمعها الانسان يعلن انه من الحق. عمل الحق هو سماع من يقول الحق، وتتميم كلامه.

 

الحـق يحــرركـم

إن كان يمكن القول بأن مفهوم الحق كما أبرزناه يمكن أن يحرر الانسان، فمن الواجب أيضًا الانتباه الى مفهوم الحرية وإعطاؤه الأهمية اللازمة. فعبارة  ejleuqeron كما ejleuqero" لا تتواجد في الأدب اليوحنوي إلا في هذا النص و3 مرات في الرؤيا (6: 15؛ 12: 16؛ 19: 18) حيث يُستعمل بالمعنى القانوني في مقابل .doulo" وإن كانت فكرة الحرية تدخل في كل ما يشكل خلفية الإعلانات اليوحنوية، فلا بد من التساؤل حول كيفية الوصول الى الحرية ومن أي شيء يتحرر الانسان.

- الحرية في الفكر الفلسفي

في الفكر الهلِّيني عمل الرواقيون بشكل خاص على هذا الموضوع، فأكدوا بأن الحرية تقوم على الفصل بين طبقتين: من هم بذاتهم ومن هم بغير ذاتهم، ويتأتى الخطأ نتيجة عدم التزام الانسان حدود كونه ذاته، فيسعى وراء أشياء خارجًا عن ذاته. من هذا المنطلق، تقوم الحرية على أن يثبت الانسان في حدود نفسه حيث لا تأثير للخارج عليه. لهذا لا يمكن للانسان أن يُستعبد للخطيئة، لكنه يُخطيء على الأكيد بمقدار ما لا يفهم الحرية الحقة بشكل صحيح. الحرية في الفكر الهلِّيني هي إذًا التحرر من كل ما ليس أنا. وبالعودة الى الذات الأصلية يمكن الوصول الى الحرية.

أما التيارات الغنوصية الثنائية بمختلف تياراتها فتميّزت بنظرتها إلى تحرر النفس (ما هو أسمى) من المادة (الأدنى) التي تسجنها؛ وتأكيدها بأن هذا التحرر من الجسد يتحقق بالمعرفة الحقة (la gnose)، على ما تراه اسطورة الخلاص التي تخبر عن مخلص فادٍ، ينزل من العلاء ليسجن نفسه في المادة وينتصر عليها، فاتحًا الطريق لتحرر الجميع.

 

- الحرية في خلفيتها البيبلية

يبدو هذا المنطق مشابهًا لخلفية موقف اليهود في ردة فعلهم العنيفة على قول يسوع انهم بحاجة الى تحرر. فقد أعلنوا انهم أبناء ابراهيم وبالتالي انهم لم يكونوا أبدًا عبيدًا لأحد (آ33). من الواضح انهم، في قولهم هـذا، لم يفكروا بوضعـهم السياسي  -وقد عاشوا قديمًا زمن العبودية في مصر، وحاضرًا وطأة السلطة الرومانية-  بل بحريتهم الداخلية العميقة. فبصفتهم الشعب المختار حافظوا على حريتهم عبر كل تاريخهم، ولم يكونوا عبيدًا لأي صنم، أو لأي متسلّط متألّه(17). فقد كانوا واثقين بأنه يكفيهم التحدّر من ذرّية ابراهيم لضمان حريتهم الداخلية. وأنه بالرغم من القمع الروماني، فإن هذه الحرية حق يعود لشعب الله ولا يمكن لأحد أخذه منهم(18).

هنا يأتي جواب يسوع ليظهر خطأهم، بإعلانه أن الحرية الحقيقية غير ممكنة إلا بالتحرر من الخطيئة. ولمن يفخر بسلالته البشرية، يعلن يسوع أن الكلام والأعمال هي ما يظهر السلالة الحقيقية، وأن الأهم بالتالي هو النوع الآخر للعبودية، أي العبودية للخطيئة. لم يحفظ اليهود شريعة موسى، فأعمالهم تدل إذًا على أنهم عبيد لا عبّاد بيت الله(19). العبد هو من يعمل الخطيئة (عكس عمل الحق).

لم تكن العلاقة بين العبودية والخطيئة غريبة عن اليهود. فقد فهم اسرائيل منذ البدء عبوديته كقصاص (قض 10: 7؛ رج 3: 7؛ نح 9: 35). من هذا المنطلق أخذت العبودية في مصر معناها، وقد رأى اليهود في الإقامة على ضفاف النيل زمن خطيئة (يش 24: 14؛ رج هو 9: 3)، حتى اعتبر اليهودي أن الخطيئة هي عبودية ينزلها الله بالشعب الخائن (أش 64: 6؛ أم 11:6 ؛ رج 5: 22)؛ وقد وضعت نصوص أخرى الأهمية على سيطرة الشيطان والأرواح النجسة على الخاطيء (وصية دانيال 4: 7؛ وصية نفتالي 8: 6؛  وصية أشير 6: 6). على هذا المستوى لا يأتي العهد الجديد بالجديد. فالممسوسون الذين يتكلم عنهم الازائيون ما هم سوى رمز للانسان الساقط تحت سلطة شيطان الخطيئة (2 تيم 2: 26)، والمسيحي كان هو أيضًا عبدًا للخطيئة (روم 6: 17؛ رج تيط 3: 3؛ 2 بط 2: 19ت). وبما أن فكرة الخطيئة كعبودية لم تكن غريبة عن التقليد اليهودي، كان بإمكان سامعي يسوع أن يفهموا عن أي عبودية يتكلم؛ وإن كانوا لا يريدون الاعتراف بأنهم عبيد، فذلك لأنهم كانوا يظنون انهم معصومون عن كل خطيئة، كما كانوا يعتقدون بأنهم مبصرون في حين انهم عميان. كانوا مقتنعين بأنهم تركوا بيت العبودية الى بيت الرب بيت الحرية، فإذا بيسوع يؤكد بأنهم ليسوا سوى عبيد غير ثابتين في هذا البيت، وأن الابن وحده قادر على تحريرهم من عبوديتهم، جاعلاً منهم أبناء حقيقيين.

في هذا الإطـــار، يشكــل جواب يســـوع في آ 35،  وهو على شكل مثل، قمة النص، وقــــد أبرزها التقليد بوضعه أمامها الآمين المزدوجة: ''العَبدُ لا يُقيمُ في البَيتِ دائِماً أَبَداً بلِ الابنُ يُقيمُ فيه لِلأَبَد''(20). فبدلاً من المقابلة بين ''حر وعبد''(21) تقدم الآية 35 مقابلة بين الابن والعبد(22)، حيث ان الابن هو بالطبع انسان حر. يبدو أن كلمة ''أحرار'' بالآرامية هي ''أبناء أحرار'' (benei horaya)، مما سمح ليسوع بالانتقال ببساطة من كلمات اليهود الأخيرة، '' كيف تقول سَتَصيرونَ أَحْراراً'' ((benei horaya؟''، إلى: ''إذا حَرَّرَكُمُ الابنُ كُنتُم أَحرارًا'' (أو أبناء أحرارًا)، بتأكيده أن ''العَبدُ لا يُقيمُ في البَيتِ دائِمًا أَبَدًا بلِ الابنُ يُقيمُ فيه لِلأَبَد''.

صحيح أن يوحنا ينقل هنا مثلاً يأتي في مكانه لأن موضوع الابن يرتبط تقليديًا (كما موضوع البيت) بالحرية والعبودية. لكنه يتضمّن في الوقت عينه إشارة الى ''الابن''، ''ابن الآب''، المرتبط بالآب بشكل حميم(23). فالابن هو الحر، مما يعني أنه متحرر من كل خطيئة، وبالتالي ليس عبدًا لأي كان، مما يعني انه القادر أن يحرر من عبودية الخطيئة. فمع كونه يتضمن تهديدًا لإسرائيل(24)، يظهر المثل كيفية تدارك خطر ترك البيت يوماً ما. فإن كان الانسان مستعبدًا للخطيئة ذاتها، وبالتالي فاقد حريته، لا سلطة له على ذاته، فهو إذًا بحاجة الى سلطة أعظم من سلطته، لأن الحرية بالنسبة الى يسوع، هي نعمة وعطية إلهية، ولا يمكن أن يصلها الانسان بذاته، لكنها ممكنة بواسطة الابن فقط(25).

 

خاتمة

''إن ثبتم في كلمتي تكونون تلاميذي حقًا، تعرفون الحق والحق يحرركم''. يبقى الثبات هو الشرط الوحيد للتلمذة، لأن الثبات في كلام يسوع هو الايمان بما جاء به العالم. فإن كان الانجيلي يستعمل فِعلَي ''آمن وعرف''، وكأنهما مرادفان (6: 69؛ 10: 38؛ 16: 30 رج 1 يو 4: 16)، فذلك لأنه من غير الممكن، بالنسبة إليه، الايمان بما لا نعرف، كما لا يمكن بالمقابل أن نعرف ولا نؤمن. ليس الايمان والمعرفة مراحل في مسيرة نمو الايمان لأنه لا يمكن لأحدهما أن يكون دون الآخر، كما لا يمكن أن نقسم جماعة المؤمنين الى مؤمنين بسطاء ومؤمنين عارفين (على ما عند الغنوصيين). ايمان المؤمن هو ايمان بكشف، ايمان يسميه يوحنا معرفة الحقيقة (8: 32)؛ ويؤكد في 16: 13 أن روح الحـق يقـود المؤمـن الى الحـق. فالكـلمـة الذي ملـؤه النعمـة والحق (1: 14) أصبـح بشراً، وحمـل للانسان النعمة والحق (1: 17). انـه الكاشف (révélateur) الذي قال ''الحق الذي سمعه من الله '' (8: 40). ولد وأتى الى هذا العالم ''ليشهد للحق'' (18: 37)، وبالتالي يمكنه أن يقول: ''أنا الحق... والحق يحرركم'' (14: 6؛ 8: 32).

أخذ موضوع التحرر من الخطيئة مكاناً مهمًا في العهد الجديد(26) عامة وعند بولس خاصة، وقد أعلن أن الشريعة أدت دورها، ولم تستطع أن تعصم الانسان من الخطيئة. لا يتكلم بولس في رسائله عن التحرر بالشريعة بل عن التحرر من الشريعة (غل 3 :13)(27). أما يوحنا في يو 8: 31-36 فيؤكد التعليم التالي: قبل مجيء المسيح كان الانسان عبدًا للخطيئة، مما يمنع عنه المكوث في ملكوت الله. ولكن الابن الحرّ أتى ليحرر من يقبله ككلمة وحق، فمن يثبت فيه يصبح ابن الله. وهكذا فإن الانسان الذي كان يظن انه حرّ يصبح حرًا بالفعل بهبة من الابن، إن أقرّ بعبوديته (يو 9: 39-41) واستسلم للكلمة دون شروط.

بالايمان بالمسيح نحصل على الخلاص والحياة، هدف مجيء يسوع الحقيقي هو خلاص العالم(28). فالخلاص الذي يحمله هو نعمة، لأنه يعطي من يقبله ''الحياة الأبدية''(29). بإعطائهم هذه الهبة يحررهم ليس فقط من سيطرة الموت والظلام بل من الكذب الحاضر في جوهر مختلف شهوات الحياة. الحرية التي يعطيها كشف يسوع هي الخلاص، إن قبلنا هذا الكشف كعطية حياة أبدية، وهذه الحرية لا يمكن إلا ليسوع أن يعطيها لمن يؤمن بشهادته، هو الابن الذي يثبت الى الأبد )oJ Cristo" oJ menei  eij" to aijwna( (يو 12: 34).

يقدم يسوع طريق الخلاص لمن توصّلوا الى بذرة الايمان الأولى، لكن المثابرة بالايمان يؤدي الى فهمها على حقيقتها، وتجعل منهم تلاميذ للمسيح، وتخرجهم من ذواتهم فتحررهم للحقيقة.

1 .ِ ،ٌفٍ ِّل مِّّىٌُقٌٍّس فج ،ِّْمُكىز ٌِّفذ

2  نجد في يو 8: 31-36 تعليماً بهذا المعنى ينقله الازائيون في إطار طرد الشياطين بحيث يعلنون بأن المسيح حررنا من عبودية الخطيئة والشيطان.

 

3  كان اليهود قد جعلوا من الهيكل ذخيرة تؤمن لهم عدم الموت (إر 7)، ومن ذرية ابراهيم ضمانة أكيدة للحياة الأبدية، مما جعل الهوة كبيرة جداً بين الايمان والأعمال لم يكفّ الأنبياء عن التنبيه في شأنها (إر 9: 24؛ مي 3: 11؛ عا 5: 14)، ولم ينسها الرابينيون الذين أعلنوا فيما بعد أن الاسرائيليين لا يشبهون بشيء ذرية ابراهيم (19 ُُّققء ومًْىذ). شغلت مسألة ذرية ابراهيم الحقيقية الجماعة المسيحية الأولى بشكل كبير، وهو من نراه مثلاً في دعوة المعمدان الى التوبة (مت 3: 9)، وفي رسالة يعقوب (2: 21ت) اللذان يركزان على أهمية الأعمال وثمار الايمان.هذا النص قاسٍ جداً لا يمكن قراءته على أساس أنه تقرير عن حوار أو بالأحرى عن جدال بين يسوع وأعدائه3. لفهمه يجب وضعه في إطار المشاكل الكبيرة التي عانت منها الكنيسة الأولى مع المجمع، وهدف الانجيلي من التأكيد للجماعة الناشئة انها من الله بمقدار ما تثبت بيسوع. لا يكتفي يسوع بالقول بأنهم ليسوا أبناء ابراهيم، بل يؤكد بأنه ولد قبل ابراهيم، وأنهم أبناء ابليس (آ 44) تدخل هذه النزاعات في إطار محاولة قتل يسوع فيظهر يسوع هنا في صورة من يعلن لهم حقيقة ما هم عليه.

4  تؤلّف الآيات 8: 31-36 كلاً متكاملاً. يبدو أن الانجيلي قد جمع أقوالاً  قديمة متفرّقة لوصف التأزم في العلاقات بين اليهود ويسوع. وتأتي الإشارات الى خطر الموت المحيط بيسوع (8: 20، 28، 37، 40، 59) كإطار لهذا النص.

5  (8: 51) كما ان الابن نفسه يحفظ كلمة الآب (آ 55)، ''ليمَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله: ... هُمُ الَّذينَ مِنَ اللهِ وُلِدوا'' (يو 1: 12-13).

6  الثبات هو الايمان الصحيح، وهو ما يتوسّع فيه يوحنا في حديثه عن الثبات بالكرمة الحق يسوع (يو 15). بذلك يفهم المؤمن ويدخل في المعرفة العميقة، أي بالشراكة مع ''الحق''.

7  راجع 2 صم 7: 28؛ مز 19: 10؛ 86: 11؛ 111: 7ت؛ 119: 27، 43، 86، 138، 142، 151، 160؛ طو 12: 11؛ حك 6: 22؛ ملا 2: 6 الخ. وفي كتابات قمران 1 .15 :6 ذ8 :5 سر 1 ذَّ26 :7 بر

8  راجع إر 31: 34 ''لا يكلّم كل واحد قريبه قائلاً اعرف الرب، لأنهم سيعرفوني من كبيرهم الى صغيرهم يقول الرب''؛ أش 54: 13 ''جميع بنيك يكونون تلامذة الرب''؛ حك 3: 9 ''المتوكلون عليه سيدركون الرب''.

9  هذا ما أثار حفيظة اليهود الذين دافعوا عن بنوتهم الابراهيمية، التي بعيداً عنها يصبحون في خانة من هو ليس الحق أي ابليس، فلا يبقى في الساحة سوى ابن الله الحق القادر على القول عن نفسه ''أنا هو''.

10  89 ،ة ،ضة ،ََُّىُّفُّْمََّّى

11  انجيل فيلبس، القول 123

12  راجع معجم اللاهوت الكتابي 1329.

13  الحق سيُعرف (8: 32) في حين أن غير المؤمن لا يعرف يسوع ولا الآب (8: 19 رج 8: 55). إن يسوع يقول الحقيقة (8: 6) التي شهد لها المعمدان (5: 33) والتي أتى يسوع العالم من أجلها (18: 37). وبالتالي من كان للحقيقة يسمع صوته (18: 37؛ رج 1 يو 3: 19). اكن الشيطان كذاب غير مرتكز على الحق (8: 44) من يعمل الحقيقة، يأتي الى النور (3: 21) ويحيا في النور (2 يو 4؛ 3 يو 4) الذي يقدسه (17: 17-19)، ويقوم بمسؤوليته في نشر الحقيقة (3 يو 8). وبالطريقة عينها فإن الروح المنبثق من الآب يشهد للابن (15: 26) ويصل المؤمنون عبره الى الحقيقة (16: 13).

14  انطلق يوحنا كما يبدو من العبارة الكتابية  ِّو ىَف ليتوسّع فيها بشكل فريد مما يعني بأنه أراد فتح المعنى ليس فقط على العلاقة التي تربط يسوع بالآب، بل انه أراد تأكيد وحدة عمل الآب والابن، وهذا ما تؤكده الآية 8: 58 .،ىٌٍّىم .ٌّهٌّم ىفَّّ،مَمه ٍ.ففْقءض َ.ىِْ لقد وضع يسوع نفسه دون أي شك بعلاقة مع ابراهيم أب كل الاسرائيليين، من تلقى الوعود وشارك في المشروع الإلهي. لا يمكن فهم الكريستولوجيا اليوحنوية خارجاً عن العهد القديم. فأحد أهم الألقاب التي يطلقها يسوع على نفسه في انجيل يوحنا هو استعماله لفعل ىٌٍّىم بالترافق مع صفـة مـا مثـل:  \ي/وٌّ« ي/وُّ يُُّْ؛ف ـُ ىٌٍّىم (يـو 6: 35)؛ ٍَُِّّ،ًُ /ُُِّّ ي/ٌّن .ُُّ ىٌٍّىم ( يـو 8: 12)؛ ٌَُّّ،فقُِْ َ/ٌُّّ فْ،ِّّ ـو ىٌٍّىم (يـو 10: 7)؛ ي،ٌُفً ـُ َ.وٍىُِ ـُ ىٌٍّىم (يـو 10: 11)؛ ،وٌّ« ـو .ىفً يىَّفَُّّ،فٌَّف ـو ىٌٍّىم (يو 11: 25)؛ .وَىّوٌٌّف ـو يٌُمٍِ؛ف ـو ىٌٍّىم (يو 15: 1).

 

15  نجد هذه العبارة كثيراُ في العهد القديم (تك 47: 29؛ يش 2: 14؛ 2 صم 2: 6) كما في يهودية ما بعد البيبليا، لكننا لا نجدها في العهد الجديد إلا عند يوحنا (وفي أف 4: 15). عمل الحق بالنسبة الى نح 9: 33 يُظهر عدل الله في مقابل العمل الانساني الشرير ''وأَنتَ بارٌّ في كُلَ ما حَلَّ بِنا لأِنكَ بِالحَقِّ عَمِلتَ ونَحنُ أَثِمْنا''، وفي أش 26: 10 بحسب السبعينية ان الشرير في نهاية الزمن لا يعمل الحق ولا يهتم بجلال الرب. أما عدم عمل الحق فيعني العيش في الظلمات، وفعل الشر. الحق هو أرض صلبة يمكننا الثبات فيها، وعكسه الكذب النابع من إبليس غير القادر على الثبات أبداً. فكل عدو للحق هو عبد لسيد آخر هو إبليس أبو الكذب (يو 8: 44) .يسوع هو الحقيقة، يقول الحق لكن ابليس هو كاذب وليس الحق فيه. إبليس هو إذاً بالنسبة الى الانجيلي تجسيد لكل ما هو عكس يسوع. بدأ يسوع بالكلام عن عمل هذا القاتل الخارج عن دائرة الحق، وليس الحق فيه، هو الكاذب وأبو الكذب. فإبليس إذاً يتكلم عما هو، في حين يتكلم يسوع عما أعطاه الآب ليقول. إبليس هو أب الكذب وفي ذلك عودة الى قصة الانسان الأول في الجنة، وقايين وهابيل، دون أن يوضح أصل الشرير. كل ما يستنتجه هو وجوده منذ بدء البشرية.

16  شهد يسوع للحق (18: 37-38)،  لأنه رسول الله  ''يتَكَلَّمُ بِكَلامِ الله، والَّذي أَرسَلَه ''صادِق'' (8: 26). وشهد الآب لحقيقة شهادته (5: 31-47)، فكلامه إذاً هو كلام الله بالذات وبقبول كلامه نقبل كلمة الله نفسه ونشهد ان الله حق. كلام يسوع حق لأنه كلام الآب، وما على الانسان إلا قبول كلمة الآب من خلال كلمة يسوع، وإلا فهو أمام دينونة: من لا يقبل الحق يدين نفسه. يظهر حدث 18: 37-38 كيف أن موقف الانسان من شهادة يسوع وكلامه يحدد له مصيره، لأن الحق ليس سوى المسيح نفسه. جلس بيلاطس على كرسي الحكم لكن يسوع هو من يصدر الحكم بكلمة الحق. في محكمة الحق تتم الدينونة في المواجهة مع المسيح: ففي سماع الانسان كلمة المسيح أو عدمه يعلن الى أي مملكة ينتمي ويختار لنفسه العبودية أو الحرية، الخلاص أو الهلاك. فأمام شهادة يسوع للحق وقف بيلاطس حائراً، مضطرباً يسأل ''ما هو الحق''. إن الحق إطار بعيد عن فهمه، لأن الحق ليس فيه.

 

17  يمكن أن نجد في ذلك وجهة النظر الفريسية. فالغيورون كانوا ينظرون الى التعامل مع الرومان كشكل من أشكال العبودية، في حين اعتبر الفريسيون أن عبادتهم هي لله وحده. لنا في ذلك إشارة الى تجذّر الانجيل الرابع في الإطار الفلسطيني. ولكن أبعد من الإطار المباشر فقد رأى اليهود بالله، ومنذ خروجهم من مصر المحرر الأكبر (خر 1 -15)، والمخدوم الأوحد (خر 7: 16، 26؛ 8: 16 الخ.)، لذلك لا يمكن ليهودي أن يكون عبداً لبشر. ''إنهم  عبيدي'' يقول الرب ''لأني أخرجتهم من بلاد مصر'' (لا 25: 55)، فمن افتداهم الرب هم أحرار ولقبهم الأهم انهم '' عبيد الرب'' (يش 14: 7؛ قض 2: 8؛ مز 104: 42 الخ.)

18  في سؤالهم ''كيف تقول :تصيرون أحراراً'' يظهر كل كبريائهم ''فهل اسرائيل هو عبد، هل ولد في العبودية؟'' (إر 2: 14)، ورفضهم للحرية التي يريد يسوع أن يعطيهم إياها كهدية، في حين يعتبرونها إرث لهم منذ البدء، ففي قبولهم هدية كهذه اعتراف بأنهم عبيد.

19  في قول يسوع في آ 39 ''إن كنتم أبناء ابراهيم لفعلتم ما فعل'' وفي ذلك إشارة الى استقبال ابراهيم للرسل الإلهيين في تك 18. في 22 :5 وُُّققء مًْىذ نقرأ ان العلامة التي تدل على ان الانسان هو من سلالة ابراهيم هي أن يكون ''متواضعاً غير متكبر، متسامح غير منتقم''.

20  يبدأ يوحنا بتطبيق المثل في آ 31- 34 حتى قبل إيراد المثل بحد ذاته. في هذه الآيات يطبّق التلاميذ كلمة يسوع  ٌَّم مُّوَ،ىمٍ على الابن في آ 31، والعبد على من يفعلون الخطيئة في آ 34. يقلب الانجيلي الترتيب في الكلام عن العبد والابن فيأتي الابن ثانياً مما يسمح له بإدخال شرح عن الابن في آ 36 حيث الابن هو يسوع ذاته، والمحور هو قدرته على إعطاء الحرية مما يعيدنا الى الآية الافتتاحية على الشكل التالي:

أ     : من أُعطوا الحرية (31 ب- 32)

ب أ  : مسألة العبودية والحرية (آ 33)

ب   : من هم في العبودية (آ 34 )

ب أ : مثل العبد والابن (آ 35)

أ    : الابن يعطي الحرية (آ 36)

المثل هو إذاً ما يعطي إطار النص (آ 31- 36) والهدف منه إظهار يسوع القادر وحده على إعطاء الحرية في مقابل اليهود غير القادرين على ذلك. هنا أساس الجدل الذي يتبع في كامل الفصل. بدأ يوحنا بمثل يتكلم عن العبد والابن فأسقط القسم الأول واحتفظ بالثاني لينطلق في كلام مطوّل عن يسوع الابن القادر بقدرة الآب. من هنا نصل في آ 37-47 الى مسألة هوية الابن بحيث يظهر ان يسوع هو ابن الله في حين ان اليهود هم روحياً أبناء ابليس وتأتي الآيات 48-58 لتؤكد بأن من يؤمن بيسوع لا يرى الموت للاستنتاج بأن من له هذه السلطة هو أزلي. يعلن التشبيه حقيقة مشاعر الجمع تجاه يسوع وتجاه ذواتهم. فحقيقتنا تظهر من خلال أعمالنا، وفي هذه الحالة الخاصة من خلال ما تفعل حيال يسوع أو معه.

21  المقابلة بين العبد والابن فريدة في العهد الجديد. يقوم المقابلة عادة بين العبد والحر (1 كور 7: 21-24؛ غلا 3: 28؛ أف 6: 8؛ كول 3: 11؛ رؤ 6: 15؛ 13: 16؛ 19: 18) أو بين العبد والسيد (أف 6: 5-9؛ كول 3: 22-4: 1؛ 1 تيم 6: 1-2؛ طي 2: 9-10؛ فيل 16؛ 1 بط 2: 18) كما في أمثال يسوع (مت 10: 24-25؛ 18: 23-34؛ 20: 27؛ 21: 33-41؛ 24: 45-50؛ 25: 14-30؛ مر 10: 44؛ 17: 7-11؛ 19: 13-27). المقابلة المباشرة الوحيدة بين العبد والابن نجدها عند بولس في غلا 4: 1-5: 1 حيث نجد أيضاً العلاقة بابراهيم كما في يو 8: 31-36. يهتم بولس بالتحرر من عبودية الشريعة مما يعطي المسيحي حرية الابن، وبالتالي حق الميراث. لكن عند يوحنا لا مكان للشريعة ولا دور للذرية الابراهيمية سوى في الدلالة على عدم الايمان. أعطى يوحنا المثل معنى كريستولوجياً مما يظهر منذ الآية 31 حيث التجاوب مع كلمة يسوع هو شرط الحرية (وهو ما فعله مت 17: 26).

22  نجد في العديد من النصوص الإزائية مراجع عن الابن (لو 15: 31؛ مت 17: 25-26؛ مت 5، 9، 45؛ لو 6: 35؛ 20: 36) وعن العبد (مت 18: 25؛ 24: 50-51؛ 25: 30؛ لو 12: 46؛ 16: 1-8) لكن ما يثير الانتباه هو عبارة   ؟فَ/ٌٌّّىف َ.ُُّ يٌّىم ىمَ،مٍ التي يبدو انها يوحنوية (12: 34) مع أننا نجدها في (2 كور 9: 9؛ 1 بط 1: 25؛ رج عب 7: 24).

23  يمكن أن نأخذ جملة ''الابن يبقى الى الأبد'' بمعناها المطلق. في هذه الحالة يكون على يوحنا أن يتخلى عن صورة البيت ليتوقف عند أزلية الابن، وعند أمانته ومكوثه في البيت، على هذا المستوى تشبّه به من أصبحوا أبناء الله، بذلك يُظهر الانجيلي بأن نبوءة ناتان لداود قد تحققت  (2 صم 7: 11، 16): سيبني الله بيتاً لداود ويثبّت ملك ذريته. هذا ما نقرأه في 1 أخ 17: 12-14 ''سليمان ''يبني بيتاً لي، واثبّت عرشه للأبد. أكون له أباً ويكون لي ابناً... أثبته للأبد في بيتي وفي مملكتي''؛ وقد طبّق هذا النص فيما بعد على المسيح الذي سيبقى الى الأبد، وأخذ معنى البيت معنى روحياً دينياً يدل على الجماعة ''نحن جماعة المؤمنين نحن بيت المسيح'' (عب 3: 5).

24  ربما كان لهذا القول المعنى الذي أخذه مثل الكرامون القتلة (مت 21: 33-41) : بدلاً من أمة مختارة الى الأبد، يُدخل الابن من لم يولدوا من رغبة الجسد بل من إرادة الله (يو 1: 12-13). يستعمل يوحنا هذا القول كإنذار موجّه الى الجميع بغية الاختيار بين العبودية والبنوة، وبين الخطيئة والايمان. كان القول بأن '' العبد لا يسكن في البيت الى الأبد'' يسبب الفرح لليهود في الماضي لأنه يؤكد بأن التحرر من مصر ''بيت العبودية'' (خر 20: 2). أما الآن فالمقصود هو البيت الذي بناه الله، والذي يقيم فيه اسرائيل كإبن دعاه الله من مصر (مت 2: 15؛ هو 11: 1). أن يكون عليهم أن يتركوا هذا البيت كعبيد على مثال هاجر وابنها (غلا 4: 30ت) هو أن يكونوا خارج الخلاص. فبما أن الخاطيء عبد، عليه أن يترك المنزل كما الوكيل الخائن (لو 16: 1-8) والخادم البطال (مت 25: 30).

25  العبد لا يملك شخصية قانونية تؤهله السيطرة على حالته وليس له القدرة على تحرير ذاته مما يعني ضرورة تحرره من الخارج، بواسطة قوة أعظم. أن يترك الانسان نفسه تحت سلطة الخطيئة  يؤدي الى ترك الايمان وجماعة الخلاص ''خرجوا منا لكنهم لم يكونوا منا لأنهم لو كانوا منا لكانوا بقوا معنا'' (1 يو 2: 19). لكن العبد ليس الوحيد الذي عليه أن يترك المكان للابن، فموسى العبد الأمين عليه هو أيضاً أن يترك المكان للمسيح الابن رأس البيت (عب 3: 5).

26  في العهد الجديد، يظهر المسيح المنتظر في ملء الزمن ليعلن ''للأسرى التحرير'' ( لو 4: 18)، ''كيما محررين من أيدي أعدائنا نخدمه بلا خوف بالقداسة والبر'' (لو 1: 74-77)، بعد أن غفر لنا خطايانا. أخذ الحق وكلمة الله كل هذه القوة المحررة لأن الكلمة صارت جسداً، ولأنها ابن الله بالذات. فالابن المحرر يكمل عمل الله الذي كان لشعبه محرراً على الدوام (أش 41: 14؛ 43: 14؛ 47: 4؛ إر 31: 31 الخ.). حرر الله شعبه من عبودية الخطيئة (أش 59: 20؛ مز 130: 8) لكنه لن يعطي الحرية الحقيقية إلا في نهاية الأزمنة بشخص المسيح الذي ''يحرر كل البشر سجناء بليار'' (وصية زبولون 9: 8؛ رج وصية يشوع 18: 2).

27 بين النص اليوحنوي والفكر البولسي أكثر من نقطة لقاء واختلاف على هذا الصعيد منها

- إطار الحوار 8: 30-59 : هو الجدال بين الكنيسة الناشئة واليهود المسيحيون. تتوافق تصرفات اليهود والمواضيع المطروحة مع حالة الكنائس البولسية.

-  تتجذّر فكرة الحرية عند يوحنا في التقليد اليهودي المتأثّر بالفلسفة اليونانية، وقد تطرّق اليها بولس على طريقته فأدخل مسألة الشريعة والختان خ وهو ما لم يقم به يوحنا الذي لم يأت على ذكر ابراهيم- فاعتبر ان المؤمن الحقيقي هو ابن ابراهيم. والحرية بالنسبة الى بولس، كما بالنسبة الى يوحنا،  هي التحرر من الخطيئة بالمسيح يسوع، فركّز بولس على صليب المسيح ويوحنا على كلمته. لكن الاختلاف الحقيقي يكمن في ان بولس يعتبر، في خط العهد القديم، أن المؤمن عندما يلتزم بيسوع لا يقوم إلا بتغيير السيّد، فيكون عبداً للمسيح (رو 6: 18، 22؛ غلا 5: 13)؛ في حين يشدد يوحنا على أننا لسنا عبيداً بل إخوة للمسيح.

فهم بولس أيضاً حرية المسيحي على أنها تحرر من الخطيئة التي تتضمّن التحرر من الشريعة وتؤدي الى التحرر من الموت. فالمسيحي الذي تحرر من الخطيئة يصبح عبد البر (رو 6: 17ت؛ رج. 6: 12ت؛ غلا 5: 12ت)، عبداً للمسيح (2 كو 10: 5؛ 1 كور 7: 22) فيستطيع بالتالي أن يصرخ بالروح ، روح التبني الإلهي، ''أبـّا ! أيها الآب'' (رو 8: 15).

28   راجع يو 3: 17؛ 5: 34؛ 10: 9؛ 12: 47.

29   راجع يو 1: 4؛ 3: 15، 16، 36؛ 5: 24، 40؛ 6: 40، 47، 63، 68؛ 10: 10، 28؛ 14: 6؛ 17: 2، 3؛ 20: 31.

 

 

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM