بين الحرية والتحرر.

بين الحرية والتحرر

الإخت كليمونص حلو

الحريّة هي اليوم أكثر من أي وقت مضى محور حياتنا وأفق انتظاراتها، في أبعادها الإنسانيّة والروحيّة والفلسفيّة والكتابيّة، وعلى الأخصّ في الممارسة الدينيّة والوجدان الإيماني. كلّ هذه الأبعاد نختصرها بكلمة ''سياسة'' في مفهومها الواسع الذي يعطي معنًى للوجود الإنساني بأكمله. فلا حياة سياسيّة للفرد وللمجتمع على مستوى المبادئ من عدالة ومساواة واستقلال، ولا على مستوى الدساتير والقوانين والعمل بها، وبالأخصّ على مستوى التعرّف إلى الله، والتقرّب منه، من دون حرّية.

هذه الحريّة كانت ولا تزال من القيم الأكثر تجاذبًا في مفهومها، والأكثر توتّرًا بين المبادئ والعمل بها. إنّها ''الأزمة'' في معناها الأصيل ((krisis، أي الوجود على مفترق طرق، وبالتالي ضرورة أخذ القرار باتجاه معيّن، وإعادة النظر في الوضع القائم وتغييره وتقويمه. والحريّة بهذا المعنى هي اليوم في لبنان شغلنا الشاغل،  تستقطب كلّ اهتماماتنا على كلّ الأصعدة. بدونها لا حياة إنسانيّة، لا دينيّة - إيمانيّة ولا فكريّة ولا حضاريّة. وفي غيابها لا تستقيم أخلاق، ولا قيَم، ولا تُبنى مجتمعات وتنظم علاقاتها، وتنمو مواردها وإمكاناتها الإبداعيّة المتطوّرة. ولا يمكن لبنان بالتالي أن يكون ''رسالةً'' حتى ولا وطن.

فما هي هذه الحريّة التي نسعى إليها، وعلى الأخص على المستويات الثلاث: العقائدي والكتابي، وتفاعلهما مع الفلسفات المعاصرة؟ وما مدى جدوى هذه الحريّة المرجوّة على الصعيد التطبيقي الحياتي الفعّال؟

أوّلاً، على مستوى العقيدة: الحريّة اختيار

نؤمن أن الحريّة هديّة من الخالق ''الذي تركنا في يد اختيارنا'' (سي 15: 14)، ''ووهبنا العقل تشبّهًا به، فخلقنا أحرارًا وأسياد أفعالنا''، كما يؤكّد القديس إيريناوس. هذه الحريّة هي قدرة على النمو والنضج في الحقيقة والخير. وهي لا تبلغ كمالها إلاّ بالبحث عن الله، والالتصاق به، والتعرّف إليه، والسير في خطاه، ومشاهدة وجهه في كلّ وجه، وقراءة علامات حبّه في الكون كلّه.

ولكن ''الإنسان ليس جزيرة''، بل هو كائن اجتماعي يعيش ضمن العائلة الصغيرة، والعائلة الكنسيّة والوطنيّة والعالميّة الكبيرة، ينتمي إليها بالولادة أو بالاختيار أو بواقع الحال. والحريّة هي الشرط الأساسي والجوهري لهذه المعيّة البشريّة ولبُناها الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. تؤسس الحريّة لها فتصبح واقعًا وتاريخًا وحقيقة اجتماعيّة تستدعي نشوء الدساتير والقوانين التي تنظّم العيش المشترك والقبول بالغير، والتشاور معه، والتناقش، والتوافق من أجل البلوغ إلى سيادة الجماعة واستقلالها وإطراد نموّها. ينبع تنظيم هذه المعيّة من الإرادة الحرّة التي تجسّد اللقاء والتواجد معًا في الواقع الإنساني الاجتماعي والتاريخي، وتساهم بذلك باستقامة هذا الواقع وإنعاشه ونموّه بل تألّقه.

الحريّة بالتالي تجعل الإنسان مسؤولاً على المستوى الفردي والجماعي. وحقّه في ممارسة الحريّة مطلبٌ ملازم لكرامته خصوصًا في الشأنين الأخلاقي والديني، كما يذكّر بذلك المجمع الفاتيكاني الثاني، ''الحريّة الدينيّة'' (2:35)؛ فكلّ إنسانٍ له الحقّ الطبيعي في أن يُعترَف به كائنًا حرٌّا مسؤولاً، كائنًا من كان.

ولكن حريّة الإنسان على المستوى الفردي والجماعي تبقى محدودة ومعرّضة للزلل؛ فالإنسان الأوّل استعمل الخيار الذي أعطيَ له لتحدّي الله والاستغناء عنه ابتغاءً للاستئثار ''بالمعرفة''، فأصبح مسؤولاً عن تبعة الحكم عليه بالموت لابتعاده عن الله ينبوع الحياة. هكذا سأل الله آدم بعد الخطيئة: ''ماذا فعلت؟'' ووضع قايين (تك 4: 10) وداود (2صم 12: 7-15) أمام مسؤوليّتهما عن جرم كلٍ منهما. فالخيار هو ''الأزمة'' التي تتطلّب قرارًا وتوجّهًا، ولولاها لكانت الحريّة مجرّد آلة عمياء، أو دمية للّهو أو مجرّد أسطورة خالية من مضامينها.

وولّد استلاب الخطيئة الأولى استلابات أخرى كثيرة. وكلّ الحروب والمصائب والضيقات في تاريخ البشريّة تشهد على سوء استعمال الحريّة من قبل الإنسان. فالحريّة المطلقة ليست ممكنة. تهدّدها محدوديّة الإنسان بالجهل، والغفلة، والعنف، والخوف والعادات، والمصالح الخاصّة، وعوامل نفسيّة واجتماعيّة أخرى. والحريّة لا تسمح للإنسان وتعطيه الحقّ في أن يقول ويفعل كلّ ما طاب له أو إبتغاه، إساءةً إلى المحبّة، وقطعًا لعلائق الأخوّة مع الآخرين، واستئثارًا بالسلطة أو الغنى أو المكاسب الذاتيّة على حساب الغير. لذا فالحريّة سجينة تكويننا، وتقاليدنا، وأوضاعنا ومصالحنا.

فمن يحرّرها على المستويين الفردي والجماعي، الإنساني والروحي؟

 

ثانيًا، ماذا يقول لنا تاريخ الخلاص عن مسيرة التحرّر؟

يعتبر الكتاب المقدّس العهد القديم أن التحرّر هو التخلّص من العبوديّة  eleuqerew (حلّ القيود)، وهو مليء بأمثلة التحرّر من ربقة الاستعباد (الخروج من مصر، والعودة من سبي بابل). ولكنّ العهد الجديد، مع احتفاظه بإنموذج التحرّر كإطار لكتاباته لم يعد يستعمله في بعده السياسي والزمني، بل استعاض للتعبير عنه بكلمة الخلاص والفداء. صحيح أن العهد الجديد يذكر الحريّة في مجال تحرير تلامذة المسيح من جزية الهيكل (متّى 17: 26)، وأن البشر يتوزّعون بين ''عبيد وأحرار''، حسب مار بولس، ولكن هذا التعبير لا يستعمله يوحنّا إلاّ في نص واحد: ''تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم'' (8: 32-36)، وبولس في ثلاثة مقاطع: رسالته إلى أهل روما (6-8)، والأولى إلى الكورنثيين (7-10)، وإلى أهل غلاطيه (2-5).

فالحريّة في العهد الجديد هي قبل كلّ شيء روحيّة. إنّها مع الخليقة كلّها ''تئنّ حتى اليوم في مثل تمخض الولادة. وما هي وحدها بل نحن الذين لنا باكورة الروح نئن في أعماق نفوسنا منتظرين من الله التبنّي وافتداء أجسادنا'' (روم 8: 22-23). فالحريّة مسيرة تحرّر وخلاص وفداء. فالإنسان مستعبد، منذ مولده، للخطيئة والموت. إنّه معرّض للصراع الدائم في داخله بينه وبين نفسه: ''لا أفهم ما أعمل، يقول بولس، لأن الخير الذي أريده لا أعمله، والشرّ الذي لا أريده إيّاه أعمل'' (روم 7: 7-25). ''وحدها شريعة الروح الذي يهبنا الحياة في المسيح يسوع حرّرتنا من شريعة الخطيئة والموت'' (روم 8: 2). ''حرّرنا المسيح لكي ننعم بالحريّة'' (غل 5: 1)، ونصبح ''عبيدًا'' له (1 كور 7: 21ت) ولإخوتنا (1 كور 9: 19)، فنجني ثمر القداسة والبرّ (روم 6: 22). فقد حارب الكتاب المقدّس الكذب لأنّه من الشرّير، داعية الإنقسام والضياع والتفتّت. ''الابن وحده يحرّرنا داعيًا إيّانا أن نشترك في الحقيقة'' (يو 8: 32). وكما يعلّم الرسول بولس: ''حيث يكون الروح فهناك الحريّة (2 كور 3: 17)؛ ونحن لنا الحظ منذ الآن أن نفتخر بحريّة أبناء الله (روم 8: 21).

هذه الحريّة أسماها القدّيس يعقوب ''الشريعة الكاملة''، أي حكمة الحياة. زُرعت فينا ''كلمة حقّ''، أي كلام الإنجيل، وهي مدعوّة لأن تثمر أعمال محبّة، شرط أن ''نتقبّلها بوداعة''، ''ونداوم عليها''، ''ونعمل بها'' (1: 21-27)، فشريعة الحريّة لا تكتمل إلاّ بشريعة المحبّة، شريعة الشرائع، ''والطريق الملوكيّة''، التي بها نستحقّ الطوبى، وعليها ندان، ''لأنّ الرحمة تنتصر على الدينونة'' (2: 8، 12-13).

هذه الحريّة ليست بنت يومها. لها في كلّ لحظة تاريخ، وفي كلّ يوم بداءة، حسب قول القدّيس يعقوب أيضًا. إنّنا لم نصر بعد خليقةً كاملةً، بل نحن نوع من ''بداءة الخليقة'' (يع 1: 18).

 

ثالثًا، بين الحريّة والتحرّر صليب وقيامة

الحريّة حركة تحرّر متواصلة وتجربة حياة لا تنتهي، لأنّ حياتنا عبور دائم من مشروع إنسان إلى إنسان كامل.

فالإبداع الذي تحقّقه الحريّة هو أشبه بعمليّة الفنّان الذي يخلق جديدًا، يجسّد فكرة مبدعه دون أن يستوعبها بالتمام، أمثال الموسيقي والشاعر والرسّام. من عصارة أفئدتهم، ومضض روحهم، ووثبة إيمانهم يصيغون في سحر الألفاظ والألوان والأنغام منطلقات رحبة لأحلامنا، رغم الضعف، والمضادات، والظلمات التي تحيق بهم بل من خلالها.

والقدّيسون والرسل، هؤلاء الفنانون مجانين الله، على أنقاض حياتهم بنوا ويبنون للسيّد ملكوتًا، مداميكه من شعلة الإيمان والحب المضطرمة في داخلهم، ولو ضئيلة، كالفتيلة تمتص زيت قنديل حقير، ويولدون كلّ يوم لذواتهم إنسانًا جديدًا يتبلور رويدًا رويدًا، في خلق يومي، وهكذا ''يطيرون من نصرة إلى نصرة، كما قال النبي داود، حتى يتجلّى لهم إله الآلهة في صهيون''، الموطن القصي والنهائي للحريّة والحقّ والجمال.

فمن خلال هذه التشابيه التقريبيّة للأفعال الحرّة الخلاّقة هذه، يمكننا أن نتبيّن في الفعل الحرّ ثلاث مراحل هي بالواقع متداخلة، عنيت بها مراحل التقرير والإنجاز والرضى المقتنع إلى حدّ التسليم، بحصر القوى والمعطيات الفاعلة في موضوع معيّن. هذا مع الإشارة إلى أن الرضى يحتلّ مركز الحيويّة والديناميّة الجدليّة بين مرحلتي التقرير والإنجاز، وتكون بينهما رابطة باطنيّة تتحمّل مسؤوليّة الوحدة في الفعل الحرّ الذي يسعى إلى التحرّر الكامل دون التوصّل إليه تمامًا.

هذه الناحية من البحث في تخطّي ''الأزمة'' الحالية على كلّ الأصعدة الداخليّة والخارجيّة هي استخلاص للبعدين العقائدي والكتابي على مستوى المدلول الفلسفي اللاهوتي من جهة، والمدلول الأخلاقي الاجتماعي السياسي من جهة أخرى. كلاهما الأساس في مقاربة الحريّة الروحيّة الكيانيّة التي هي شرعة المحبّة، والتعبير الأمين عن الذاتيّة الفرديّة، والتوفيق بينها وبين الذاتيّة الجماعيّة ومقتضيات السياسة في معناها الواسع الشامل.

أ- التقرير هو حصيلة العقل والإرادة بعد تبيان المبرّرات، ودرس الإمكانات المتوفّرة، وتقدير المسافة التي تفصل الفرد أو المجتمع عن تحقيق المشروع الذي تركّز عليه الإختيار. فمشروع التقرير يبقى في عالم المرجوات إلى أن يحدّه الإختيار ويتبنّاه في الحاضر بعد مراحل الشكّ والانتقاء والتضحية حتمًا بقيم لانتقاء غيرها.

ب- الإنجاز يحقّق ما تقرّر ويكمّله. وتحقيق الأهداف يتطلّب إيمانًا وثقة وجهدًا وطول أناة، بالرغم من المقاومة المتأتّية من المضادات الداخليّة والخارجيّة. فالعادات والتقاليد والأعراف يمكنها أن تضع الحواجز في وجه تطوّر الحريّة وترسيخها، ولكنها بالوقت ذاته تشكّل منطلقًا لجمع القوى وتدريبها، شرط أن تجتاحها من وقت لآخر قوة دافعة تعيد لها التفاعل الثوري والقوّة الخلاّقة، فيهاجم التأثير المفاجئ الضمير المستكين مهاجمة الوحي والإلهام، فلا منجاة حينذاك من إعادة النظر في الأوضاع وصوغها في قالب جديد.

ج-  القبول بالواقع هو المرحلة الأساسيّة، وهي بمثابة الروح الضابطة وأداة الوصل بين عنصري التقرير والتنفيذ. إنّها صليب الإرادة التي تقبل بحتميات الواقع، وتلتزمها، وتمتثل لها، راضية بها، لتجتازها إلى ما هو أبعد، إلى الهدف الجديد موضوع الإختيار، الذي يغتني بها ويتبلور وكأنّه بعث من العدم.

وهنا تكمن معضلة الحريّة الكبرى. كيف يمكننا أن نتحدّث عن حريّة تقرير ما دامت الحتميّات الذاتيّة والاجتماعيّة مفروضة علينا؟ هذه الضرورات تعطي لحريّتنا وجهها البشري، إذ إنّ حريّة البشر ليست مطلقة بل مقيّدة، وهذه الحتميّات هي مرتكز انطلاقتها وتحرّرها. فالمصالحة بين التناقضات امتلاك لها واستيلاء عليها، وإعطاؤها معنى إيجابيٌّا يقيّمها ويعطيها معنى إيجابيٌّا، يميل بها نحو التوحّد والوحدة.

هذه الحريّة المرتجاة هي أفق الممكنات التي يتطلّبها التحرّر، مرورًا بدرب صليب الاقتناع والجهد والصبر الطويل ومشاركة الآخرين آلامهم وتطلّعاتهم، فتتحوّل الحوادث إلى خبرات لها قوّة التطوّر والخلق.

 

رابعًا، مساهمة بعض الفلسفات المعاصرة في مفهوم الحريّة والتحرّر

لقد اغتنى المفهوم اللاهوتي والكتابي بتفاعله مع الفلسفات المعاصرة، رغم الطرق المتباينة والمتكاملة معًا التي اتخذتها كلّ منها. فأوضح هِيغِل مدى التفاعل والتدرّج بين الحريّة الداخليّة وتجسيدها في المجتمع الذي يسير نحو التحرّر الكامل بخضوعه للقوانين التي أنشأها.

قد يعود الفضل للماركسيّة بالمساهمة في مصالحة الإنسان مع المادة، وإيقاظ ضميره إلى الحقّ والعدل، وإعطاء الأولويّة للعمل، ولكنّها نسيت أنّه ''ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان''.

وعكس الماركسيّة، فقد اعتنقت الوجوديّة انتفاضة الحريّة وثورتها لكنّها جرّدتها من قيود القيم، وشرّعت لها أبواب الغرائز، كأنّ هذه الغرائز بطلت أن تكون أغلالاً؛ فاستسلم سارتر إلى ما أسماه ''دوار'' الحريّة، وهو يقوم برفض كل حدود. إنّه دائرة الذات المغلقة على ذاتها وبالتالي رفعها إلى درجة الألوهة. وثارت سيمون دي بفوار على أوضاع محيطها وحطّمت قيود التقاليد والعقائد، فأفلحت في الجرأة على رفض الواقع المفروض، وأرست مبادئ التحدّي والتساؤل وفعاليّة إعادة النظر في شرائع التسلّط، والظلم، والتفرقة، والاستعباد. لكنّ الوجوديّة فشلت في توقّفها على هذه الناحية السلبيّة المجرّدة التي أفضت باتباعها إلى الحيرة واليأس حتى التفاهة. فإذا الإنسان ''هوًى عقيم'' ونظرات الآخرين التي تترصّدنا ''جحيمًا''، كما يقول سارتر.

ولكنّ مفهومًا آخر للوجوديّة مع غبريال مرسال وهيدغر، عدّل الميزان. فهما يهدياننا إلى مفهوم غني للحريّة يتخطّى مرحلة الرفض إلى ملء التزام، رائدها المجاوبة بسخاء على نداءات الله والعالم والآخرين ومتطلّباتهم. هذه الفلسفة أعادت الثقة والرجاء بمسيرة الحريّة. فهناك موقفان أساسيّان يشهدان على حرّيتنا، حسب غبريال مرسال، هما الأمانة للعهود والقدرة على الإعجاب. فالحريّة سعي للاتحاد بالآخرين بالمحبّة، وبالتالي إنشاء علاقة جديدة بيني وبينهم تلدني لذاتي فأنا وأنت نؤلّف ''نحن''.

وقد أضافت فلسفة الشخصيّة عمقًا جديدًا على مفهوم الحريّة الملتزمة، فأسماها إمانويل مونيه ''الحريّة قيد شروط''، مقرًا بارتباطها بالتاريخ والمجتمع، مسايرة امتدادات الشخصيّة وأبعادها. فإذا الحريّة حبّ للواقع، والتصاق به يحملنا أن نستسيغ مقتضياته وكأنّنا نفتديه من التفاهة.

أمّا بول ريكور فقد اختزل هذه الفلسفات بمفهوم جامع للتحرّر الذاتي وتكوين الهويّة الشخصيّة. هذه الهويّة تتفاعل بين معطى تاريخي يُعرف به الشخص، وأحداث الحياة التي نصطدم بها ونجابهها، فتحرّك الجامد في تاريخنا وتحوّله وتوجّهه. هذا التفاعل بين ''مسافة الاختبار'' في العمق التاريخي، ''وأفق الانتظار'' الذي نصبو إليه، يفتح أمامنا آفاق الذكريات بمعانيها المتجدّدة من جهة، وقدرة المخيّلة التي تتيح للرغبات أن تصبو للاكتمال والنضج من جهة أخرى. بين الماضي والمستقبل، نعيد تأسيس هويّتنا في الحاضر المتجدّد.

أما إعادة تأسيس هويّتنا الإيمانيّة على مستوى الفرد والجماعة، فهي تقوم على اكتشاف ذاتنا أمام  نماذج الكتاب المقدّس وأحداثه، واختبار عمق المسافة التي تفصلنا عنها. فكلمة الله على قدر ما نقرأها ونتأمّلها ونستثيغها، تنمو فينا وتتكثّف معانيها، على ما يقول غريغوريوس الكبير. إنّها تتجسّد فينا كالمسيح كلمةً خلاّقة محرّرة.

هذه الفلسفات وغيرها خلاصة عن التحوّلات الاجتماعيّة المتلاحقة التي تتفاعل مع مفهوم الحريّة من نواحي المعتقد والوحي.

ليست الحريّة شيئًا نملكه، لكنّها طريق نسلكه، نحو التحرّر البطيء والمتواصل، وهي لا تنبثق تلقائيٌّا من هذه المسالك كثمرة أو كزهرة على شجرة، بل هي تتطلّب مبادرات الأشخاص للتعرّف إلى منحدرات الحريّة واختيارها واتباع خططها. فالإنسان وحده يمكنه أن يتحرّر بعد أن يختار أن يكون حرٌّا.

فالحريّة ليست مجرّد حماس عابر أو تدفّق عفوي كالشلاّل الهادر، بل هي تصطدم بكثافة الواقع ووعورته المتأتية من ذاتنا ومن محيطنا ومن متطلّبات القيم وأهدافها. ولا يمكن أن تفرض الحريّة علينا فرضًا لئلاّ تتحوّل بدورها إلى استعباد وخواء وخيبة.

قد يساهم سحر العفويّة بتحويل الحريّة إلى حلم يعطي معنى للحياة، ولكن هذا الحلم، لكي لا يصبح مستحيلاً، يجب أن يستند إلى الواقع ''ويعي ضرورته'' ويتقوّى به. فالحلم وعد وهو بداية التحرّر من مختلف العبوديّات التي تكبّل الإنسان ومجتمعه. فلا حرّية من دون تأمين الحرّيات العامة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة، حتى ولو أثبت الدستور نظريٌّا مبدأ هذه الحريّة، ودعمتها ''شرعة حقوق الإنسان''، هذا لا يكفي . إن حرّية كهذه تبقى في عالم النظريّات. أمّا حرّيتنا المبتغاة فهي حريّة إنسان متأصّل في الواقع يسعى إلى حكمة الحياة، الناضجة، المتّزنة، السعيدة. والحريّة الحقّة هي أبعد من الاختيار بين وضعين أو بين قيمتين. فالاختيار ''معموديّة'' بل هو ''معموديّة الدم'' لأنّه يتطلّب تضحية وجرأة وثباتًا وصبرًا وخلقًا متواصلاً لا يعرف الكلل، ولكن الأهم من الاختيار هو الوصول إلى التأقلم مع الحريّة، وتبنّيها، والتحوّل إليها، فتصبح فطرة ثانية ملازمة لنا كالطيران للعصفور أو السباحة للسمكة والرائحة للزهرة. هذه الفطرة تصبح عفويّة، تتعدّى الاختيار، لأنّها عفويّة القدّيسين، النابعة من القلب (لِبُو)  ومن أعماق الذات الأصيلة. فالمسيح صوّب نظره وعزم ''أن يتوجّه إلى أورشليم'' حيث سيصلب (لو 9: 51). ''إن ابن الإنسان كان يجب عليه أن يتألّم كثيرًا'' (مر 8: 31)؛ فالقبول بهذا الواجب وعطاء الذات الكامل بحريّة هما منتهى العفويّة التي سلّم بها جسده ودمه قربانًا لفداء العالم، وتحرّره، وخلاصه. إن حرّيتنا تكمُن في عطاء ذاتنا كالمسيح. إنّها طريق الأخوّة والتلاقي وشركة القدّيسين. فلا حريّة لأحد ما دام الباقون مستعبدون. لأنّ الحريّة لا تتجزّأ. إنّها دخول طوعي في العاصفة التي تهزّ وطننا ومحيطنا، وتقضّ مضجعنا. إن دخولنا في العاصفة أشبه بتطوّع الفدائيين والشهود، بل قُل الشهداء. فالعطاء عن حبّ هو وحده طريق الحريّة والحياة والقيامة.

مجموعة مؤلّفين، الحريّة في أبعادها الحضاريّة، تعاونيّة النور، تشرين الأوّل 2005.

حلو كليمنص، ''لماذا أؤمن بالحريّة''، مجلّة الرسالة المخلّصيّة، 1966.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM