تصميم الله الخلاصي عند لوقا وحرية الإنسان إزائه .

 

تصميم الله الخلاصي عند لوقا

وحرية الإنسان إزائه

الأب هادي محفوظ

بعد آيات أربع أولى سكبها لوقا في لغة يونانيّة رفيعة، وقدّم بها الإنجيل وأعمال الرسل، نرى ملاكًا يظهر هنا، ويعود فيظهر هناك. يتكلّم، فتتحقّق أقواله، وينال البعض الطوبى، ويعاقب آخرون. فيعلم القارئ أنّ أمرًا ما قد بدأ وأنّ لا شيء يستطيع إيقافه لأنّه آتٍ من عند اللّه الجبّار. ونوّع لوقا القصص التي رواها، من بشارة زكريّا إلى إقامة بولس في روما، فعاد إلى مصادر عديدة، ولكنّه أظهر فرادةً في كثير من الأمور التي عنها خبّر. ويعتقد كثير من الشرّاح، بحقٍّ، أنّ فكرة ''تحقيق تصميم اللّه الخلاصيّ'' أو ''استمراريّة تاريخ الخلاص''، الذي يجد محوره في شخص يسوع، وبخاصّة في حدث موته وقيامته، هي الفكرة التي تشكّل، بنوع من الأنواع، صلة الوصل بين كلّ تلك الروايات(1). في هذه المحاضرة، التي تندرج في إطار التفكير حول موضوع ''الحريّة في الكتاب المقدّس''، محاولة لتبيان العلاقة بين هذه الفكرة الرئيسة عند لوقا، وبين حريّة الإنسان.

أوّلاً - تحقيق تصميم اللّه الخلاصيّ

اعتبر البعض أنّ لوقا، كهلّيني، هو مجترح فكرة ''تاريخ الخلاص''(2)؛ فالله صمّم للخلاص، وهو يحقّقه، منذ الخلق وحتى نهاية الأزمنة. فيستشهد لوقا بنص أش 66: 2 في أع 7: 50 ليقول: ''أليست يدي هي الّتي صنعت هذه الأشياء كلّها؟''. كذلك يعود لوقا إلى مز 145: 6 في أع 4: 24؛ 14: 15؛ 17: 24 ليصف اللّه بخالق السماء والأرض والبحر وما فيها. وسوف يتابع لوقا ليبيّن ماهيّة تصميم اللّه الخلاصيّ الّذي يتواصل في التاريخ، حتى نهاية الأزمنة، من خلال وسائل أدبيّة ولاهوتيّة عديدة، تحتلّ مركزًا مميّزًا في عمله، ومنها، الطريق، وتحقّق النبوءات والكتب المقدّسة، ومعرفة اللّه السابقة لما سوف يحدث التي يعبّر عنها الإنجيليّ الثالث بأفعال عديدة. كذلك نلاحظ أنّ اللّه يسيّر الأمور بالروح القدس، والملائكة، والأنبياء، والأحلام، والرؤى. وللعجائب والآيات مكانها في هذا السياق. ونتبيّن، بخاصّة، أنّ التصميم الإلهيّ يتحقّق من خلال ما يعمله يسوع(3).

في ما يلي نقاط عديدة تبيّن ماهيّة تصميم اللّه وتحقيقه.

1 - كلمة ''تصميم'' (boulhv)

ترد كلمة ''تصميم'' (boulhv)، عند لوقا، خمس مرات في اعمال الرسل ومرة في الإنجيل عندما يكون الكلام عن تصميم اللّه(4). ويلفت في هذا السياق أنّ ذكر ''تصميم اللّه'' في الإنجيل في لو 7: 30، يأتي ضمن آيتين زادهما لوقا على مصدره Q، أي أنّ هاتين الآيتين تُظهران تفكيره بشكل مميّز، وفيهما يورد فكرة تصميم اللّه الذي رفضه الفريسيون إذ لم يعتمدوا على يد يوحنا.

2- ''الطريق'' ((oJdov"

بالنسبة إلى ''الطريق'' (oJdov")، فإن هذه المفردة مهمة كثيرًا للتعبير عن تحقيق تصميم اللّه الخلاصيّ، عند لوقا(5). ففي كتاب أشعيا، هي الطريق التي يسلكها اللّه ليحرّر شعبه. وإنّ نصّ أشعيا الذي يستعمله لوقا في 3: 4-6 (أش 40: 3-5)، أي للكلام عن رسالة يوحنا المعمدان، كان اليهود يستعملونه للكلام عن الخلاص في نهاية الأزمنة.كذلك كانت جماعة قمران تستعمله للدلالة على هويّتها.

بدءًا من لو 1: 76، 79، إنّ الطريق هي طريق الربّ وهي تصميمه الخلاصيّ.

وإنّ الطريق هي طريق يسوع يسلكها نحو أورشليم (لو 9: 57) وفق تصميم اللّه الخلاصي (لو 9: 22، 31، 44). والطريق هي طريق الرسل والتلاميذ في تبشيرهم (لو 9: 3؛ 10: 4). إنّها طريق اللّه التي تتحقق في يسوع (لو 20: 21) وطريق الخلاص (أع 16: 17).

وهذه الطريق هي خاصة جماعة المؤمنين التي فيها يتحقّق تصميم اللّه الخلاصي، فينادي لوقا الجماعة المسيحيّة ''الطريق'' (أع 9: 2؛ 18: 25، 26؛ 19: 9، 23؛ 22: 4؛ 24: 14، 22)(6).

3 - الكتب المقدّسة

بالنسبة إلى لوقا، إنّ العهد القديم واحد، وهو، بكليّته، أوّلاً نبويّ؛ فلوقا يستعمل ''الكتب'' أو ''الأنبياء'' ليتكلّم عن العهد القديم بكامله (لو 1: 70؛ 16: 16، 29، 31؛ 18: 31؛ 21: 22؛ 24: 25، 27، 32، 44-46؛ أع 3: 18، 21، 24؛ 10: 43؛ 13: 29، 40؛ 15: 15؛ 17: 2، 11؛ 18: 24، 28؛ 24: 14؛ 26: 22-23، 27؛ 28: 23). في أع 7: 42، يُعتَبَرُ الأنبياء جميعهم كتابًا واحدًا؛ إنّ لوقا هو الوحيد الذي يستعمل عبارة ''جميع الأنبياء''.  فموسى، كاتب التوراة، نبيّ، وداود، كاتب المزامير، نبيّ أيضًا (أع 2: 29-30).

إنْ يركّز لوقا، بخاصّة، على هذا البعد النبويّ، فلأنّه يجعل من العهد القديم وسيلة بها يخبر عن أمانة اللّه لتاريخ الخلاص، فهو يقود هذا التاريخ ويهيّئ، في كلّ مرحلة، للمراحل اللاحقة(7). إنّ العهد القديم بكامله يهيّئ لما يرويه لوقا الآن، أي لعمل يوحنا المعمدان، ويسوع، والرسل.

وإنّ نقاطًا أساسيّة في هذا التنبؤ هي التالية:

أ - العهد القديم يشرح عمل شخصيّات لوقا وأعمال الرسل

يشرح نص أش 40: 3-5 هويّة يوحنّا المعمدان ورسالته (لو 3: 4-6).

واستشهاد يسوع بسفر أشعيا (أش 58: 6؛ 61: 1-2)، في لو 4: 18-19، يشرح رسالة يسوع. كما أنّ الاستشهادات من العهد القديم أو التلميحات إليه، في عمل يسوع، متعدّدة(8).

كذلك في أعمال الرسل، شرح لحدث العنصرة من خلال يوئيل النبيّ (أع 2: 17-21 // يؤ 3: 1-5). وإنّ بطرس يعتمد على العهد القديم، في أماكن عديدة من أعمال الرسل، ليشرح عمل ليسوع.

كذلك بولس يستند إلى أشعيا ليشرح عمله وعمل يسوع (أع 13).

ب - المسيح

تنبئ الكتب المقدّسة عن المسيح، وبخاصّة عن آلامه وموته وقيامته وارتفاعه إلى يمين الآب (لو 24: 26، 44-46؛ أع 2: 31؛ 3: 18؛ 4: 26؛ 17: 3؛ 18: 28؛ 26: 22-23؛ 28: 23، 31؛ راجع أيضًا لو 18: 31؛ 22: 37). وإنّ دراسة الكتب توصل إلى الإيمان بيسوع أنّه المسيح (أع 17: 11-12).

ج - الخلاص

من النافل التذكير بأنّ فكرة الخلاص أساسيّة في كتابَيْ لوقا. ومن الواضح أيضًا أنّ اللّه هيّأ، في العهد القديم، لهذا الخلاص؛ فالله مخلّص، كما أعلن لآبائنا (لو 1: 47، 55)، وهو ''أقام، في بني عبده داود، قويٌّا يخلّصنا، وهو قد أنبأ، على لسان أنبيائه القدّيسين الغابرين، بخلاص من أعدائنا، ومن قبضة كلّ مبغضينا'' (لو 1: 69-71).

يسوع هو الخلاص الّذي أعدّه اللّه، في العهد القديم، لكلّ الشعوب (لو 2: 30-31). والخلاص ينبئ عنه أشعيا النبي الذي يستشهد لوقا به في لو 3: 6. يدخل الخلاص إلى بيت زكّا، وهو ابن المواعيد الإبراهيميّة (لو 19: 9). ينبئ العهد القديم عن مغفرة الخطايا، أي عن الخلاص (لو 1: 77)، باسم المسيح (لو 24: 47).

وجميع الأنبياء تنبّأوا عن مغفرة الخطايا، باسم يسوع (أع 10: 43)؛ فيوئيل النبي (يؤ 3: 5) الذي يستشهد لوقا به في أع 2: 21 يعلن الخلاص لمن يدعو باسم الربّ. ووفق العهد القديم، أقام اللّه يسوعَ، من سلالة داود، مخلّصًا (أع 13: 23).

د - شموليّة الخلاص والرسالة إلى الوثنيين

تتكلّم الكتب المقدّسة، عن شموليّة الخلاص بيسوع (لو 24: 44-47)، وهذه الشموليّة تظهر جليٌّا في لو 3: 6 الذي يستشهد بأشعيا النبي (أش 40: 5). كذلك أع 2: 17، 21 هما استشهادان من يؤ 3: 1، 5. الآيتان من سفر عاموس (عا 9: 11-12) تَظهران في أع 15: 16-17 لتُشيرَا إلى شموليّة الخلاص. تتكلّم أناشيد عبد يهوه التي يتطرق إليها لوقا مرارًا، عن إعادة صوغ أسباط إسرائيل الاثني عشر، وعن خلاص الوثنيّين. واستعمال أش 49: 6 في أع 13: 47 يعني شموليّة الخلاص.

هـ - الجواب السلبي

يعود لوقا إلى العهد القديم ليتكلّم عن العقاب المنزل بالّذين لن يقبلوا تصميم اللّه الخلاصيّ. ففي أع 1: 20 عودة إلى مز 69: 26؛ 109: 8، للكلام عن خيانة يهوذا ومصيره. كذلك، مقاومة اليهود ليسوع تبان في أع 4: 25-26 من خلال مز 2: 1-2، وفي أع 28: 26-27 من خلال أش 6: 9-10. وتحذّر نصوص أخرى من عواقب الرفض (تث 18: 19؛ لا 23: 29 في أع 3: 22-23). كذلك، هنالك كلام عن الجواب السلبي تجاه تصميم اللّه الخلاصيّ (عا 5: 25-27 في أع 7: 42-43؛ أش 66: 1-2 في أع 7: 49-50).

و - التوبة من اجل مغفرة الخطايا

إنّ التوبة من أجل مغفرة الخطايا معلنة في كلّ العهد القديم (لو 24: 46-47).نجد فكرة مغفرة الخطايا، أيضًا عند لوقا، مرتبطة بالإيمان، كما يُعلن العهد القديم. فيقول بطرس، في بيت كرنيليوس، عن يسوع: ''وله يشهد جميع الأنبياء، أنّ كلّ من يؤمن به ينال باسمه مغفرة الخطايا'' (أع 10: 43).

ز - إفاضة الروح القدس

إن إفاضة الروح القدس على الرسل في العنصرة هي موضوع نبوءة في العهد القديم (يؤ 3: 1-5 في أع 2: 17-21).

خلاصة حول العهد القديم

إنّ ما أوردته عن العهد القديم وتنبؤاته المهمّة، كان هدفه تبيان كيف أنّ اللّه هيّأ للأحداث كافة في التاريخ الماضي. وبذلك دلالة واضحة إلى تصميم يتحقّق.

4 - معرفة اللّه المسبقة وأفعال تدلّ على تحقيق تصميم اللّه الخلاصيّ

عند لوقا أفعال مركّبة مع زيادة في أوّلها تدلّ على معرفة سابقة للأمور (مثلاً pro)(9) (أع 2: 39؛ 3: 18؛ 4: 28).

ويستعمل لوقا أفعالاً أخرى ليبيّن أنّ اللّه يحقّق تصميمه الخلاصيّ؛ فالأفعال: تمّم ، وحدّد، و''كان مزمعًا أن ...'' (لو 1: 20؛ 4: 21؛ 21: 24؛ 22: 16؛ 24: 44؛ أع 1: 16؛ 3: 18؛ 13: 27؛ 14: 26؛ الخ) تدلّ كيف أن اللّه سبق فأعدّ كلّ شيء ليتمّ وفق تصميمه.

كذلك، فعل ''يجب'' الّذي يستعمله لوقا أكثر من أيّ كاتب آخر في العهد الجديد، يدلّ على تحقيق تصميم اللّه الخلاصيّ (مثلاً لو 9: 22؛ 13: 33؛ 15: 32؛ 17: 25؛ 19: 5)(10).

5 - الإزائيّة

يستفيض لوقا في وصف شخصيّات روايته، يوحنّا المعمدان ويسوع والرسل، بشكل إزائيّ. من خلال ذلك، يعبّر كاتب الإنجيل الثالث عن تفوّق يسوع على باقي الشخصيّات وعن فرادته، كما يعبّر عن تواصل تصميم اللّه الخلاصيّ من خلال مرسليه(11).

6 - الروح القدس

نرى دور الروح القدس جليٌّا في قيادة تحقيق تصميم اللّه الخلاصيّ(12). يقول لنا لوقا مثلاً إنّ عدّة شخصيّات هي ممتلئة من الروح القدس لتكون في خدمة عمل اللّه (لو 1: 15، 41، 67؛ أع 2: 4؛ 4: 8، 31؛ 6: 3، 5؛ 7: 55؛ 9: 17؛ 11: 24؛ 13: 9، 52).

ويقوم الروح القدس بدور أساسي في قيادة البشارة (مثلاً أع 1: 8؛ 8: 29، 39؛ 10: 19؛ 11: 12؛ 13: 2، 4؛ 16: 6-7؛ 19: 21؛ 20: 22-23).

ويعمل الروح القدس في الجماعة التي هي ''طريق'' تصميم اللّه (مثلاً أع 1: 16؛ 2: 17-21؛ 4: 25؛ 5: 3، 9؛ 11: 28؛ 15: 28؛ 21: 11؛ 28: 25).

والروح القدس يعلّم التلاميذ ما عليهم قوله حين يمثلون أمام الحكام (لو 12: 12؛ أع 6: 10؛ 7: 51). وهو يعزي الكنيسة (أع 9: 31).

7 - الملائكة والرؤى

تظهر الملائكة لتعلن ما عمل اللّه أو ما سوف يعمله. فموسى رأى الملاك في العلّيقة وبلّغه هذا الأخير مهمّته (أع 7: 30-38). وأعطت الملائكة الوصايا إلى اليهود (أع 7: 53). وظهر ملاك لزكريّا ولمريم لينبئ كلاّ منهما عن مولوده الجديد. أعلنت الملائكة ميلاد يسوع (لو 2: 9-15). ويعزّي ملاكٌ يسوعَ في البستان، قبيل آلامه وموته (لو 22: 43). والملائكة تظهر عند القبر وتعلن القيامة (لو 24: 4-8، 23). ويحرّر الملائكة الرسل من السجن (أع 5: 19؛ 12: 7-15). يُعْلم ملاكٌ فيلبّسَ ما عليه أن يفعل (أع 8: 26). كذلك يحدث مع كورنيليوس (أع 10: 3، 7، 22؛ 11: 13). ويرى كلّ من كورنيليوس وبطرس رؤى تفسّر لهما ما عليهما أن يقومَا به. وإنّ ملاكًا يضرب هيرودس (أع 12: 23). ويرى بولس في رؤيا رجلاً من مقدونية يستنجد به (أع 16: 9-10)، فيستنتج بولس من ذلك أنّ الربّ يريد أن يُبَشَّرَ المقدونيّون. يظهر ملاكٌ لبولس في سفره إلى روما ليعلمه عن نجاته ومَن معه (أع 27: 23-24).

 

8 - الآيات والعجائب

إنّ الدور الأوّل للعجائب والآيات هي لإظهار عمل اللّه وعنايته بشعبه(13). فتذكّر عجائب وآيات الإنجيل وأعمال الرسل بعجائب وآيات تدخّل اللّه من أجل الشعب في أحداث سفر الخروج(14). بذلك، نرى، بوضوح، أهميّة العجائب والآيات في تبيان تحقيق تصميم اللّه الخلاصي(15).

خلاصة القسم الأوّل

من خلال كلّ هذا العرض، نشعر بحتميّة تحقيق تصميم اللّه الخلاصيّ، فيعزو بعض المفسّرين ذلك إلى فكرة العناية أو الحتميّة عند اليونانيين(16). لكن آخرين، وأنا أميل إلى هذه النظرة، دون إهمال الأولى، يعتبرون أنّ التاريخ الذي يعرضه العهد القديم، هو المثال بالنسبة إلى لوقا ليرسم تاريخ العهد الجديد على هذا النحو، أي ليشدّد على فكرة أنّ اللّه هو سيّد التاريخ وأنّ تصميمه يتحقّق(17). في هذا الإطار، نستحوذ على فهم أفضل لفكرة ملكوت اللّه الّتي يبشّر بها يسوع والرسل؛ فالربّ، وفق هذه الفكرة، هو الملك، والسيّد المطلق(18).

في جميع الأحوال لا ننسينّ أنّ لوقا متيقّن أنّه يخبر عن أمر جديد وفريد؛ فمهما استقى ممّا هو قبله، تبقى الفرادة وييقى الجديد في ما يخبر(19).

في هذا الجوّ من حتميّة تحقيق تصميم اللّه الخلاصي، هذا التصميم الذي يعرف حتى بالجواب السلبي للإنسان، يُطرح السؤال، بحقّ، عن المكان المتروك لحريّة الإنسان.

 

ثانيًا - حريّة الإنسان إزاء تصميم اللّه الخلاصيّ

للإجابة على السؤال الذي طرحناه في نهاية القسم الأوّل، أي عن حريّة الإنسان إزاء هذا التصميم الذي لا يستطيع أيّ أمر أن يحول دون تحقيقه، أعتقد أنّ العودة، خاصّة، إلى مفهوم التوبة عند لوقا، مع الاسم metavnoia (5 مرات في لوقا؛ 6 مرات في أعمال الرسل؛ و11 مرة في بـاقـي العهـد الجديد) والاسم vejpistrofh (مرة وحيدة في العهد الجديد، موجودة في أع 15: 3)، مع الفعل  metanoevw (9 مرات في لوقا؛ 5 مرات في أعمال الرسل؛ 20 مرة في باقي العهد الجديد) ومع الفعل ejpistrevfw (7 مرات في لوقا؛ 11 مرة في أعمال الرسل؛ 18 مرة في باقي العهد الجديد)، تَسمحُ لنا بفهم العلاقة بين تصميم اللّه وبين حريّة الإنسان عند لوقا. تسمح بعض المفاهيم الأخرى بتبيان العلاقة بين تصميم اللّه الخلاصي وجواب الإنسان، مثل اتّباع يسوع بعد الدعوة الّتي يوجّهها إلى الإنسان. ولكنّ مفهوم التوبة يضيء على نواحي كثيرة تشمل ما قد تبيّنه المفاهيم الأخرى.

فمن جهة أولى، التوبة هي عطيّة من اللّه، وهي معقولة لأنّه يعطيها. إنّها نعمة منه، وهو يعطيها خاصة بواسطة مرسليه، وعلى رأسهم ابنه يسوع(20). فيلخّص الربّ رسالته بالقول: ''ما جئت لأدعو الأبرار بل الخطأة إلى التوبة'' (لو 5: 32). وإنّ ''ابن الإنسان جاء ينشد الضائع، ويخلّصه'' (لو 19: 10).فمخطّط اللّه هو أن يخلص الإنسان ويتحرّر، وهذا ما يبان من وصف يسوع لرسالته، حين استشهد بأشعيا النبيّ، في الناصرة، إذ قرأ: ''روح الربّ عليّ، فقد مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني أنادي بإطلاق الأسرى، وعودة البصر إلى العميان، وأحرّر المقهورين، وأنادي بسنة مقبولة لدى الربّ'' (لو 4: 18-19). واللافت أنّ الجذر المستعمل للإطلاق وللتحرير (a[fesi")، هو نفسه الذي يعني مغفرة الخطايا، أي الخلاص (لو 1: 77). هذه هي رسالة يسوع الأساسيّة. فمجيء يسوع هو للدعوة إلى التوبة والخلاص.

وتلخّص آيتان من أعمال الرسل كيف أنّ التوبة هي عطيّة من اللّه: ''رفع اللّه يسوعَ بيمينه رئيسًا ومخلّصًا، لكي يمنح إسرائيل توبةً وغفران خطايا'' (أع 5: 31). وبعد كلام بطرس الذي بيّن أن اللّه يريد أن يقبل غير اليهود في الكنيسة، ''طاب خاطر السامعين، ومجّدوا اللّه وقالوا: حقٌّا لقد أعطى اللّه الأممَ التوبةَ من أجل الحياة'' (أع 11: 18).

ومن جهة ثانية، إنّ التوبة هي جواب الإنسان على عطيّة اللّه الخلاصيّة.

فتجاه هذا الواقع الخلاصيّ، يبيّن لوقا جوابًا إيجابيٌّا، وآخر سلبيٌّا، ممّا يؤكّد أنّ للإنسان الحرّيّة في الجواب على تصميم اللّه الخلاصيّ كما يحلو له. بإمكانه أن يتوب أو لا(21)، ولكن لذلك عواقب حميدة، وأخرى وخيمة. وفي النهاية إنّ الربّ هو المنتصر.

 

1 - الردّ الإيجابيّ

يظهر الردّ الإيجابيّ على إرادة اللّه الخلاصيّة في تصميمه، من خلال مواقف وأفعال عديدة، مثل: استقبل، سمع، رأى، آمن، تبع، اعتمد، تاب. وتهدف جميعها، من جهة، إلى تبيان حريّة الإنسان في الجواب على تصميم اللّه، ومن جهة أخرى، إلى نجاح هذا التصميم وإلى تحقيق الخلاص، على المستوى الفرديّ والجماعيّ.

تقبل مريم بمشيئة الربّ، فتنضمّ إلى تصميمه الخلاصيّ، وتطوّبها لذلك جميع الأجيال. والرعاة يمجّدون اللّه على ما رأوا وسمعوا حول ميلاد المخلص في مدينة داود. سمعان وحنّة يجيبان بشكل إيجابيّ على الخلاص الذي يعطيه اللّه في يسوع. وبعد أن قبل زكريّا بما بشّره به الملاك الآتي من لدن الربّ، أنشد نشيد الظفر والخلاص. وتطول لائحة الذين يجيبون بشكل إيجابي على دعوة يسوع: بطرس ومن معه، لاوي، الرسل، الخاطئة، المنزوفة، الأبرص، الأعمى، زكا، العشّارون، الخصيّ الحبشي، كثير من اليهود في أورشليم، السامريّون، كورنيليوس، وكثير من الوثنيّين. الأحد عشر، في نهاية الإنجيل، يرون يسوع ويسمعونه، وهو يباركهم قبل صعوده إلى السماء.

كلّ هذه الأجوبة الإيجابيّة كانت ممكنة لأنّ اللّه أخذ المبادرة تجاه هؤلاء الأشخاص، وهم قبلوها.

إذًا، إنّ إرادة اللّه في الخلاص، تتمّ في من يقبلونها، أي يجيبون بالإيجاب على عمل مرسلي اللّه وأقوالهم، وبخاصة على عمل يسوع وأقواله.

 

ثانيًا - الجواب السلبي

نتبيّن المواقف السلبيّة من مرسلي اللّه ومن دعوتهم إلى التوبة، من خلال مواقف عديدة في الإنجيل وأعمال الرسل. هذه المواقف تُظهر، من جهة، الحريّة الّتي يملكها الإنسان في أن يجيب بشكل سلبيّ على الدعوة الإلهيّة إلى الخلاص، وتبيّن، من جهة أخرى، أنّ تصميم اللّه يمضي إلى الأمام، بالرغم من كلّ عائق. فالذي يشكّل عائقًا أو يسببه، لا ينجح، لأنّ اللّه هو المنتصر وهو السيّد(22).

بعد التوطئة (لو 1: 1-4)، يخبر لوقا عن بشارة زكريا الذي يصاب بالبكم نتيجة عدم إيمانه بكلام الملاك (لو 1: 20). عندما يقبل بتصميم اللّه، يعود لسانه فينحلّ (لو 1: 64).

قلب الأوضاع في نشيد مريم يتعلق بكيفية الجواب على عمل اللّه (لو 1: 51-53).

في لو 2: 34، في نبوءة سمعان، يقرّر جواب الإنسان على يسوع سقوطه أو قيامه.

يكلّمنا لوقا عن الويلات في موازاة التطويبات، وهو الوحيد الذي يفعل ذلك (لو 6: 24-26).

نهاية عظة السهل (لو 6: 46-49) تهيّئ لما يرد في أع 3: 23 حيث الذي لا يسمع للنبيّ يُستأصل من الشعب.

تشكّل الآية 9: 24 صدى للطوبى في لو 6: 22، وللويل في لو 6: 26.

والرسل سوف ينفضون الغبار عن أنعالهم تجاه من يرفض البشارة المسيحية (لو 9: 5؛ 10: 11؛ أع 13: 51)، وهذا ما يشكّل لعنة(23).

الذين لا يقبلون آيات يسوع وكلماته سوف يتعرضون للعقاب (لو10: 13-16؛ 11: 29-32).

لو10: 21 هو صدى لنشيد مريم، حيث المتكبّرون يتشتّتون.

في الكلام الذي وجهه يسوع إلى الفريسيين والكتبة في لو 11: 37-54، يتّضح أنّهم موضوع تأنيب يسوع بسبب تصدّيهم لمرسلي اللّه ولتعليمه.

وإنّ اللّه يعاقب كما يقول لنا لو 12: 5.

في لو 12: 9-10، الخطيئة ضد الروح القدس هي رفض الاعتراف بعمله في الجماعة.

في لو 12: 20، يسمّى الغنيّ جاهلاً ويعاقب. هذه التسمية ''جاهل''، تشير، في مز 14: 1، إلى الذي ينكر اللّه.

في لو 12: 46-48، يُعاقب الخادم غير الأمين، لأنّه لا يعتني بالجماعة المسيحانيّة التي يحقّق اللّه فيها تصميمه.

في لو 12: 57-59، و13: 1-9، تحذير من أجل التوبة.

والدخول من الباب الضيق في المثل الذي يعطيه يسوع في لو 13: 22-30، يعني، في الإطار الأوسع، قبول تعليم يسوع وأعماله. وفي الخط عينه، يأتي لو 14: 16-24.

أورشليم تجسّد التصدي لله ولمرسليه، فسوف تعاقب (لو 13: 34-35؛ 19: 41-44؛ 23: 28-31).

لو 14: 11 و18: 14 يتعلّقان بالاعتراف باللّه ربٌّا أو لا.

الغني في مثل الغني ولعازر (لو 16: 19-31) يعاقَب لأنّه لم يسمع للكتب المقدّسة ولم يؤمن، لذا لم يهتم بالفقير.

لو 17: 3، و22: 22 يبيّنان العقاب لأصحاب الشكوك وليهوذا الذي خان الربّ.

في مثل الأكياس والملك الذي يأخذ ملكه، يبان أنّ من يرفض يسوع يتعرض لنتيجة وخيمة (لو 19: 11-27).

يبان رفض مرسلي اللّه جيّدًا في مثل الكرّامين القتلة، فيلاقي الرافضون نهاية شنيعة (لو 20: 9-19).

في أع 5: 1-11؛ 13: 4-12، الذين يتعرضون للعقاب هم تحت تأثير الشيطان، وبالتالي هم أعداء اللّه. ويعرّض حننيا وسفيرة الجماعة المسيحانية للخطر من الداخل، فلا يسمح اللّه لهما بذلك.

في أع 8: 20-24، قلب سيمون الساحر ليس مستقيمًا أمام اللّه.

في أع 9: 1-9، حتى لو كان عمى بولس علامة له، لكنّه أيضًا وسيلة يحدّ بها الربّ من قدرة مضطَهِد المؤمنين به.

هيرودس يتعرض أيضًا للعقاب لأنّه خطر خارجي على الجماعة المسيحانيّة (أع 12).

في أع 13: 46؛ 18: 6؛ 28: 28، ثلاث محطات يعلن فيها بولس رفض اليهود وتحوّل الرسالة إلى الوثنيّين.

إذًا، باستطاعة الإنسان أن يرفض تصميم اللّه، ويعترض تحقيقه، ولكن تصميم اللّه يسير قُدُمًا إلى الأمام(24). وبرهانًا على ذلك، إنّ موت يسوع والرسالة إلى الوثنيين وصلاَ إلى الانتصار رغم العوائق الّتي وضعها الكثيرون(25). لذا يتعرّض من يقف في وجه هذا التصميم إلى الإقصاء، وهذا ما يعنيه العقاب.

ولكن ما يلفت النظر، هو أنّه في الحالتين، أي في قبول تصميم اللّه ورفضه، نرى تقدّم هذا التصميم(26).

 

خاتمة

يتابع تصميم اللّه من أجل الخلاص طريقه، ولا مجال لإيقافه. للإنسان الحرّية أن يرفضه لذاته، ولكنّه بذلك يفشل ويصبح عبدًا لما هو ليس اللّه.

من الناحية السلبية، يبان من لو 22: 22، أنّه حتّى لو كان معروفًا في تصميم اللّه أنّ الإنسان سيُسيء الإجابة، تبقى المسؤولية على هذا الأخير في كيفيّة جوابه: ''وابن الإنسان ماض، على ما حُدِّد له، إنّما الويل لذلك الإنسان الذي يسلمه''.

ومن الناحية الإيجابيّة، أعتقد أنّ ما لخّص به بولس رسالته يصف هدف الربّ وحالة الذين يقبلون بتصميمه الخلاصي. فيتوجّه الربّ إلى بولس قائلاً: ''وأنا أنقذك من شعب وأمم أرسلك إليهم لتفتح عيونهم، فيعودوا من الظلام إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى اللّه، فينالوا، بإيمانهم بي، غفران الخطايا، وميراثًا يرثه المقدّسون''؛ ويتابع بولس: ''فمذ ذاك لم أقاوم، أيّها الملك أغريبا، الرؤيا السّماويّة، وسرت أبشّر أهل دمشق أوّلاً، فأهل أورشليم، فبلاد اليهوديّة كلّها، فالأمم، لكي يتوبوا ويعودوا إلى اللّه، ويأتوا أعمالاً خليقة بالتوبة'' (أع 26: 17-20).

يريد اللّه الخلاص ويحقّق تصميمه. مَن يقبل به يخلّص ومَن يرفضه لا يستطيع إيقافه، فيضحي فاشلاً، مبعَدًا عن نجاح هذا التصميم. إنّها حريّة الإنسان إزاء تصميم اللّه الخلاصيّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM