مثل الكرام والفعلة يسوع من أجل حرية وكرامة الإنسان.

 

مثل الكرام والفعلة

يسوع من أجل حرية وكرامة الإنسان

د. جوني عوّاد

كلية اللاهوت للشرق الأدنى

 

مقدمة

عُرف يسوع كضارب للامثال، عبر من خلالها عن فكرة محورية أساسية ومركزية تميزت بها خدمته ورسالته، هي ملكوت الله. أمثاله، كباقي أمثال معاصريه،كانت قصصًا منسوجة من شخصيات وعناصر من واقع حياته وحياة سامعيه اليومية.

عندما كان يسوع يتحدث عن صاحب كرم أو سيد ما، كان يهدف من ذلك إلى استحضار ما أمكن لهذه الشخصيات أن تثيره من صور واختبارات وتجارب فيمخيلة سامعيه القرويين. بالنسبة إلى هؤلاء القرويين، شخصية صاحب الكرم كانتتجسد نُخب المجتمع وأغنيائه وأصحاب السلطة والنفوذ. كذلك الأمر بالنسبة إلى عناصر قصصه. الكرم على سبيل المثال كان في اختبارات وتجارب سامعيه مكانالجهاد والكد والتعب والعمل والعناء سعياً وراء لقمة العيش والحياة. كَمُن ابداعيسوع في كيفية جعله لهذه الشخصيات والعناصر أن تتفاعل مع بعضها البعض في حبكة متينة كي تحاكي حياة سامعيه وتقول شيئًا ما عن ملكوت الله.

من هنا، أيّ فهم معمق لأمثال يسوع ومعانيها ومقاصده بها، وما يمكن لهذهالأمثال من أن تقوله عن الملكوت، لا يكتمل إلاّ إذا اقتربنا بأكبر قدر ممكن منالعالمالذي عاش فيه يسوع. أعني بـ''العالم'' السياق الطبيعي، السياق التاريخيوالاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي أحاط به، والذي كان المشكل الرئيسي للصور والاختبارات التي أثارتها أمثاله في مخيلة سامعيه.

في ما يلي سأقدم قراءة جديدة لمثل الكرام والفعلة في السياق التاريخي ليسوع، كاشفًا في طواياها عن يسوع من أجل حرية وكرامة الإنسان؛ لكن قبل الدخول في ذلك، لا بد من توضيح بعض الأمور.

 

في طبيعة الأناجيل

نتعرف على أمثال يسوع من خلال الأناجيل الثلاث الأول (متّى، مرقس، لوقا)، التي كُتبت ما بين 40 إلى 50 سنة بعد موت يسوع وقيامته. بالرغم من أن الأناجيل تروي قصةحياةيسوع وخدمته وتعاليمه، غيرأنها ليست سردًا تاريخيًا، أو تأريخيًا بالمعنى الحديث لكتابة التاريخ والتأريخ؟

الأناجيل هي تفاسير لحياة يسوع وخدمته؛ هذا لا يعني أن الأناجيل لا تتحدثأوتروي أحداثًا تاريخية. ما نقوله هنا هو أن الأناجيل هي تاريخ مُفَسَّر، أو تاريخ ''مُلَهْوَت''، أو تاريخ من وجهة نظر لاهوتية معينة. لتوضيح هذه الفكرة، آخذ علىسبيلالمثال الحرب اللبنانية. كانت الحرب اللبنانية حدثًا تاريخيًا، لكن إعادة سردأحداث الحرب ومسبباتها ونتائجها تختلف من شخص إلى آخر، ذلك لأن كل إعادة سرد هي إعادة تفسير، وكل تفسير محكوم بقناعات ووجهات نظر الشخص الذي يفسر والجماعات التي يُفَسَّر لها.

الأناجيل كُتبت إلى جماعات لم ترَ يسوع ولم تعش في أرض فلسطين. كُتبت كييتسنى لها سماع صوت يسوع من خلال قصة حياته وتعاليمه يخاطبها، ويحاكيمشاكلها، ويرشدها الطريق، ويهدئ من اضطرابها ويريح أثقالها. والظروف التي كانت تعيشها هذه الجماعات كانت تختلف عن تلك التي أحاطت بحياة يسوع وحياة سامعيه الأوائل.

إن الطبيعة القصصية لأمثال يسوع جعلتها سهلة الحفظ. حفظها أتباعه وتناقلوهاواستخدموها في الوعظ والتعليم والعبادة والإرشاد لفترة أربعين سنة، قبل أن توضعبشكل نهائي كما هي الآن في الأناجيل. من الطبيعي أنه كلما عُلِّم بمثل ما في سياق جديد وظروف جديدة، أخذ المثل معاني وأبعادًا أيضًا جديدة. هذا دليل على غنى الأمثال وإمكانية تعدد معانيها. سأوضح هذه الفكرة من خلال المثل اللبناني الشعبي:''طِبِّ الجَرَا عا تِمَّا البنت بتطلع لإمَّا''. هناك معنى حيادي للمثل إذا ما أخذناه فيمعرض تحليل سوسيولوجي موضوعي: الأولاد يتأثرون بأهلهم وعائلاتهم (الإنسان يتأثر ببيئته). لكن لهذا المثل معنى إيجابي إذا ما أخذناه في سياق المدح لأم من خلال ابنتها (عَيُّوقَا مثل إمَّا). لكن هناك أيضًا معنى سلبي إذا ما أُخذ المثل في سياق الذم بأم من خلال ابنتها (لئيمة مثل أمها). المثل واحد، لكن السياقات الثلاث المختلفة أعطته ثلاثة معانٍ مختلفة أيضًا.

تأثرت معاني أمثال يسوع بالسياقات التي وضعت فيها. هذه السياقات علىالأكيد ليست السياق الأصلي الذي ضرب فيه يسوع مثلاً ما. مثل الكرام والفعلة لهسياق أصلي في خدمة يسوع، لكن له سياقات أخرى خلال الفترة التي تناقلت أقوالهجماعات الإيمان. لكن ما تبقى من هذه السياقات هو السياق الذي ورد فيه هذا المثل في إنجيل متّى؟ إذًا نحن أمام سياقين على الأقل وبالتالي أمام معنيين للمثل نفسه.

 

مثل الكرام والفعلة في سياق إنجيل متّى

مثل الكرام والفعلة يرد حصريًا في إنجيل متّى في سياق حديث يسوع مع الرجلالغني، الذي دعاه يسوع أن يبيع كل أملاكه ويعطيها للفقراء ومن ثم يتبعه لكي تكونله الحياة الأبدية (متّى 19:16-30). ثم يسأله بطرس:''ها نحن قد تركنا كل شيءوتبعناك فماذا يكون لنا؟''(19:27)، فيجيبه يسوع، في العالم الجديد، أي العالمالنهيوي (الاسخاتولوجي)، في نهاية الزمان ستجلسون مع ابن الإنسان لتدينوا اسباط إسرائيل. الأولون في هذا العالم (أي الأغنياء الذي يصعب عليهم الانفصال عن ممتلكاتهم، كالرجل الغني الذي مضى حزينًا)، سيكونون آخِرين في العالم الآخِر، والآخرون (أي الفقراء الذين تركوا كل شيء من أجل رسالة الملكوت وتبعوا يسوع) سيكونون أولين في العالم الجديد. في هذه النقطة بالذات يضع متّى مثل الكرّام والفعلة ليشرح ويعلق ويُعقب على كيفية أن يكون الأولون آخِرين والآخِرون أولين. هذا واضح من النهاية التي أعطاها متّى للمثل في 20:16، والتي ليست بالضرورة جزءًا من المثل الأصلي (''هكذا يكون الآخرون أولين والأولون آخرين'').

لكن قراءة متأنية للمثل في السياق الموجود فيه في إنجيل متّى تكشف عن نوع منالتوتر أو عدم الارتياح بين المثل ومحيطه. إذا كان الهدف من المثل كيف يكون الأولون في هذا العالم آخرين في العالم الجديد والاخِرون أولين، فإنه بالتأكيد لمينجح في تحقيق أهدافه، وذلك لسبب واحد أساسي، وهو أن الاولين والاخِرين في المثل هم من الفعلة المتساوين في فقرهم.

ترى لماذا وضع متّى هذا المثل في هذا المكان بالذات؟ ربما الجاذب له كانمشهد دفع الأجرة في المثل حين دعي الفعلة الآخِرون ليتقاضوا أجرهم قبل الفعلة الاولون، وبالتالي يكون الأولون آخِرين والآخِرون أولين.

لقرون مضت فُسّر هذا المثل كباقي الأمثال تفسيرًا رمزيًا، إذ يرمز صاحب الكرمإلى إسرائيل أو إلى الكنيسة كامتداد لإسرائيل، والفعلة الأولون إلى شعب إسرائيل أو إلى التلاميذ الأوائل، وفعلة الساعات الثالثة والسادسة والتاسعة والحادية عشرة إلى اليهود وإلى الأمم الذين اعتنقوا المسيحية في أوقات مختلفة، والدينار، إلى الخلاص، الخ. هدف هذه القراءة الرمزية القول إن نعمة الله للخلاص متساوية للجميع، بغض النظر عن الوقت الذي دخلوا فيه إلى الكرم أو الكنيسة. لكن عندما ضرب يسوع هذا المثل، لم تكن الكنيسة من يهود وأمم قد ولدت بعد، ولم تكن الأمم في ذهنه، كونه حصر خدمته في شعب إسرائيل. التفسير الرمزي لهذا المثل بعيد عن فكر يسوع والسياق الذي وضع فيه هذا المثل حتى في إنجيل متّى والذي تحدثت عنه سابقًا.

إذًا، يبقى السؤال: ما الذي قصده يسوع في هذا المثل؟ لنكن واضحين، لا يمكنناالجزم أنه بمقدورنا أن نعرف اللحظة التي ضرب فيها يسوع أي مثل من أمثاله والظروف المحيطة به،  ذلك لأن تلك اللحظة قد ضاعت وليس بالإمكان استرجاعها. كل ما بالإمكان عمله هو وضع أمثال يسوع في السياق التاريخي العام للعالم الذي عاش فيه لتبيان تفاعلها معه. لذا لا بد من رسم تضاريس ومعالم ذلك العالم ولو بشكل مقتضب.

 

العالم الذي عاش فيه يسوع

عاش يسوع في مجتمع متوتر سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. كانت روما تحتلالأرض كقوة استعمارية. كانت مصالحها اقتصادية بحتة، وتمركزت حول دفع الجزية لقيصر من قبل سكان الأراضي المستعمرة بغية تمويل سياستها الاستعمارية.

لكن من أين تأتي الضرائب في مجتمع زراعي مثل الذي عاش فيه يسوع؟ كانتتأتي من الأرض ومحاصيلها. بعد احتلالها لأي منطقة ما، كانت روما تقوم بمصادرة الأراضي، ثم إيكالها إلى حفنة من العائلات المحلية الحاكمة. تقوم هذه الطبقة بالاشراف على زرع الأراضي، وتأمين الفعلة، وبيع المحاصيل، وخلق دورة اقتصادية تساهم في تأمين الجزية إلى قيصر. يُقدر الباحثون أن90-95% من شعب إسرائيل آنذاك كانوا من الفلاحين المزارعين. في حال استطاع فلاح ما أن يبقي على ملكية قطعة أرض ورثها من أجداده، أي فشل أو إخفاق في الإنتاج الزراعي بسبب جفاف أو مرض ضرب بالزرع، كان كافيًا لدفع الفلاح إلى الاستدانة لتأمين الجزية. أياخفاق في دفع الدَين كان يعني خسارة الملكية وبالتالي انتهاء ذلك الفلاح إلى فاعل يوميّ يعيش تحت رحمة سيده. أمثال يسوع مليئة بشخصيات وعناصر من هذا العالم. هناك الأسياد، والوكلاء، والفعلة، والديون، والكروم، والوزنات، الخ. تُرى عندما ضرب يسوع أمثاله ألم يكن يبالي بمشاكل مجتمعه؟ هل كانت أمثاله تحاكي ذلك المجتمع الإقطاعي أم أنه تجنب التعاطي معه؟

الجزية إلى قيصر لم تكن العبء الضرائبي الوحيد؛ فهناك ضرائب مباشرة كانتتدفع إلى الحكومات المحلية وواجب العشور إلى الهيكل. يُقدر الباحثون أن قيمةالضرائب التي كانت تدفع من قبل فلاح أو فاعل يومي في فلسطين في القرن الأول كانت تصل إلى حد ربع أو ثلث مدخوله. الأموال والتقدمات التي كانت تعطى إلى الهيكل من قِبَل اليهود المحليين والمنتشرين في أرجاء الامبراطورية جعلت من الهيكل خزينة لا يستهان بها. لكنه كان يعاني من سوء الإدارة؛ فعوض أن تصرفالأموال على التخفيف من بؤس الفقراء والأرامل والأيتام، كانت تهدر على رفاهيةالعائلات الحاكمة والكهنوتية. تظاهرة يسوع في الهيكل عندما قلب طاولات الصيارفة يجب أن تُقرأ ضمن هذا الجو والسياق. إن الأعباء الضرائبية المختلفة وسوء إدارة أموال الهيكل، أدَّيَا إلى تراجع في مستوى الحياة اقتصاديًا، وإلىتنامي الهوة بين الفقراء والأغنياء اجتماعيًا. هذه هي معالم العالم الذي عاش فيه يسوع.

مثل الكرّام والفعلة في سياقه التاريخي

صاحب الكرم هو أحد أعضاء تلك الطبقة المحلية التي تسيطر على مقدراتالحياة. حاجته إلى فعلة كثيرين دلالة على ضخامة كرمه. التي كانت تعيق قدرته على تقدير عدد الفعلة الذين يحتاجهم. لهذا السبب كان ذهابه المتكرّر إلىالسوق لإستئجار الفعلة. لكن لماذا شخصية بهذا المستوى يُذهبها يسوع في قصتهالخيالية إلى السوق لاستئجار فعلة، علمًا أن لديه وكيلاً كما تُظهر القصة لاحقاً؟الجواب على هذا السؤال هو بشقين؛ سأقدم الشق الأول الآن، وسأبقي على الشقالثاني حتى نهاية هذه القراءة للمثل. يُذهب يسوع صاحب الكرم إلى السوق لكييكشف لسامعيه هوية من يتحكم في أجرة الفعلة اليوميّ في مجتمعه، وليكشف عنهوية من يتحكم بالمستوى المعيشي لأكثرية شعب إسرائيل. صحيح أن نص المثليقول إن صاحب الكرم اتفق مع الفعلة الأولين على دينار. لكن من الضروري الانتباه إلى ما يقوله الكرّام لفعلة الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة: ''إذهبوا إلىالكرم فأعطيكم ما يحقّ لكم''. هو الذي يُقدّر ما يحقّ للفعلة؟ ما يسميه المثل اتفاقًا بين صاحب الكرم والفعلة الأولين ما هو باتفاق، إنما فرض لأجر عن جانب واحد، ولا خيار للجانب الآخر إلا أخذه والقبول به أو تركه. الأجر ليس موضوع جدال ونقاش.

وماذا تظنون بالدينار وقيمته. فهو ليس بأجر سخي. حسب تقدير الباحثين، كان الدينار الحد الأدنى للأجر، بالكاد أن يكفي فلاحًا وعائلته ليوم واحد.

وجود فعلة في السوق الساعة الثالثة، والسادسة والتاسعة والحادية عشر دلالة على مستوى البطالة وعلى تردّي الحياة الاقتصادية في أرض فلسطين، لا يمكن إلا للفعلة إدراك أهميتها وتأثيرها. ولما كان المساء قال صاحب الكرم لوكيله: أدعُ الفعلةَ وأعطهم الأجر مبتدئًا من الآخِرين إلى الأولين. فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذوا دينارًا دينارًا، فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر، فأخذواهم أيضًا دينارًا دينارًا.

لماذا دعا صاحب الكرم وكيله لدفع الأجر، ولم يرسله لاستئجار الفعلة؟ ولماذا هذا الترتيب في دفع الأجر؟ دعوة الوكيل لدفع الأجر هي ربما إجراء تكتيكي لوضع الوكيل في واجهة المواجهة. إذا تذمر الفعلة صبّوا بغضبهم على الوكيل، وبقي صاحب الكرم على الحياد. أما الترتيب غير المتوقع لدفع الاجر، فهو لإذلال الفعلة الاولين. للقول لهم بطريقة غير مباشرة، أو ربما مباشرة، إن ما فعلوه كل النهار يساوي ما فعله فعلة الساعة الحادية عشرة في ساعة واحدة. دفع نفس الأجر أمام بعضهم البعض هو لإثارة روح الغيرة والحسد في ما بينهم، وبالتالي لإبقائهم منقسمين (سياسة فرِّق تَسُدْ).

إن دفع نفس الأجر دينارًا دينارًا لكل الفعلة أمام بعضهم البعض، بغض النظر عن عدد ساعات العمل، يندرج ضمن خطة صاحب الكرم في الحفاظ على صورته كسيد كريمومعطاء. على أي حال ما يدفعه من دنانير ما هو إلا الشيء البسيط لما أحرزه هؤلاء الفعلة من عمل مجتمعين.

أمام هذه الحال هناك خياران أمام الفعلة الأولين في الرد على ما تعرضوا له: إما الصمت وأخذ الدينار والذهاب، قابلين بالذل، مليئين بالحقد على صاحب الكرم وزملائهم فعلة الساعة الثالثة، والسادسة والتاسعة والحادية عشر، وإما الاحتجاج دفاعًا عن حقهم وكرامتهم، معترضين على استراتيجيات صاحب الكرم، لكن في الوقت ذاته مجازفين بإمكانية الحصول على فرصة للعمل اليوم القادم.

ترى أي قرار يتخذون؟ في هذا المثل يَجعلهم يسوع يتّخذون القرار الثاني قائلين: ''هؤلاء الآخِرون عملوا ساعة واحدة، وقد ساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر''. صحيح أن الفاعل اليومي قد لا يملك الكثير، لكنه يملك كرامته. عندما تداس كرامته ينتفض لأنها الكل في الكل في هذه الحياة، ولو كان ذلك مجازفة بقُوْتِه اليوميّ في اليوم التالي.

ماذا يفعل صاحب الكرم؟ ينتقي واحدًا من الفعلة المحتجّين، ربما ليكون عبرة للآخرين، مخاطبًا إياه: ''يا صديق، يا صاحب ما ظلمتك: أما اتفقت معي على دينار؟ فَخُذْ الذي لك واذهب، فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك'' (20:13-14). لكنالسؤال: هل صحيح أنهما اتفقا على دينار أم أن الأجر كان فرضًا من جانب واحد؟ وهل أن ما هو عادل في هذا العالم رهن بمزاج الأقوياء فيه؟

ويتابع صاحب الكرم: ''أما يَحلُّ لي أن أفعل ما أريد بما لي، أم عينك شريرة لأني أنا صالح؟''. اصرار صاحب الكرم على ما هو له هو بمثابة صب الزيت على النار. يعرفالفلاحون جيدًا من أين أتى صاحب الكرم بكرمه، وبأي طرق أعلن ملكيته عليه. يعرفون جيدًا أن صاحب الكرم هو جزء من تلك الطبقة الحاكمة المعيّنة من قِبل روما والمستأثرة بمغانم شعب إسرائيل.

أما وصف صاحب الكرم للفاعل على أن عينه شريرة وهو صالح، فهو اغتيال لشخصية الفاعل ومحاولة لإبراز شخصية صاحب الكرم على أنها معطاءة وصالحة. المؤسف في هذا المثل ومن خلال هذه القراءة أن صلاح صاحب الكرم يأتي على ظهر وعلى حساب عين الفاعل الشريرة. صلاح أصحاب النفوذ لا يمكن أن يتحقق إلا إذا ديس على الضعفاء ونعتوا بأوصاف.

 

يسوع من أجل حرية وكرامة الإنسان

تُرى ما الذي قصده يسوع في هذا المثل؟ حسب القراءة التي قدمتها فإن مثل الكرّام والفعلة هو مثل يُشَفِر واقع ومآسي المجتمع الذي عاش فيه يسوع. المثل يكشف القناع عن مصدر الظلم، وسلب الكرامة، والاستغلال في مجتمعه من خلال شخص صاحب الكرم المتحكم والقابض على مقدرات الحياة الذي يذهب إلى السوق ليفرض الأجر الذي يريد. يكشف المثل عن التكتيكات اللعينة لصاحب الكرم المتمثلة بدفع أجور متساوية للآخِرين أمام الأولين بغية خلق روح الغيرة والقسمة في ما بينهم وإبراز شخصه على أنه كريم ومعطاء.

لكن الأهم في المثل هو صوت الاحتجاج على هذاالواقع المأساوي وحلقاتالعنف التي تُكبل ذاك المجتمع. يُبرز المثل صوت الذين لا صوت لهم، صوت المظلومين والمقهورين والمهمشين، من خلال صوت احتجاج الفعلة الأولين. صوتهم كان صوتًا حرًا دفاعًا عن كرامتهم وما هو عادل حتى لو كان ذلك على حساب قُوْتِهم في اليوم التالي. هؤلاء المحتجون هم أبطال القصة الخيالية في مثل يسوع. من خلال المثل يدعو يسوع كل من يدور في هذه الحلقات العنيفة إلى أن يقف وقفة عز وكرامة وحرية.  لكن كل وقفة عز لها ثمن. يسوع لم يقف إلى جانب الفقراء ضد الأغنياء، إنما وقف إلى جانب الفقراء في وجه ظلم الأغنياء.

مثل الكرّام والفعلة هو من أجل حرية وكرامة الإنسان. الحرية ليست أن نقول ما نريد قوله، إنما قول ما يجب أن يقال بصوت عالٍ في مجابهة كل ظلم ودفاعًا عن كرامة الإنسان مهما كان الثمن. إذا كان ملكوت الله حيثما يملك الله على حياة خلقه،فهو يريد أن يملك بعدل وفي مجتمع عادل على قوم أحرار وكرماء. ملكوت الله يكون حيثما تسود العدالة من خلال أصوات حرة تنادي بكرامة الإنسان. هذا ما يقوله المثل عن الملكوت.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM