لماذا المسيحي حر من الناموس الموسوي بحسب تعليم بولس الرسول.

 

لماذا المسيحي حر من الناموس الموسوي

بحسب تعليم بولس الرسول

الأرشمندريت د.جاك خليل

أستاذ تفسير الكتاب المقدس في جامعة البلمند

 

كثيرًا ما نقرأ في رسائل الرسول بولس عن أنّ ناموس الوصايا لم يعد صالحًا كقانون لحياة المسيحي(1)، وذلك لأنّه لم يستطع أن يحرّر الإنسان الجسداني من شقائه(2).

لكنّ ما يثير الاستغراب هو أنه، فيما يشدّد الرسول بشتّى الطرق على حريّة المسيحيين من الناموس الموسوي، ويذهب إلى حد القول إنّه بدل أن يحيي الإنسان بوصاياه وفرائضه أماته موتًا، لا يتردّد البتّة في أن يمدحه بأقدس الصفات، ويرفض بإصرار أيّ فكرةٍ تدعو إلى إبطاله، أو تحطّ من شأنه كما لو أنّه لا يعبّر عن مشيئة الله التي لا تغيّر فيها.  وهذا ما يحيّر الدارسين ويستدعي نقاشًا لم يؤدِّ بعد إلى توضيح هذه المفارقة الغريبة.

تهدف هذه الدراسة إلى المساهمة في توضيح نظرة الرسول بولس إلى الناموس الموسوي، وإلى التعمّق في تقويمه له، أكان سلبًا أم إيجابًا. كما تحاول أن تحدّد السبب اللاهوتي الذي جعله يذهب إلى حدّ القول إنّ المسيحي حرٌ من هذا ''الناموس المقدّس''(3)، وذلك من خلال مقاربة جديدة وأصيلة تشمل أهم المقاطع التي يتطرّق فيها الرسول إلى هذه المسائل.

قداسة الناموس وفشله

يوافق الإنسان في داخله ويفرح بما يقوله الناموس، ويُقرّ بأن وصاياه مستقيمة (روم 7: 16-22)، لأنّ جوهر الناموس روحيّ (7: 14)، ولكن بالرغم من ذلك يتصرف على عكس هذه الوصايا، فاعلاً ما لا يريده (روم 7: 5-16).

من الواضح أن ''الرسول لا يشك في القيمة الرّوحية والأخلاقية السامية التي للناموس، كونه يعبر عما طلبه الله من الإنسان''(4). فالمشكلة لا تكمن في الناموس، بل في عجز الإنسان عن أن يحفظ الناموس ما دام يحيا ويفكر ويتصرف ''بحسب الجسد''.

''لقد أُضيف الناموس بسبب التعديات'' (غل 3: 19)، أي لكي يحارب الخطيئة، فيعيد الإنسان إلى حالة البرّ. لقد كان تبرير الإنسان هدف الناموس الذي استحال عليه تحقيقه، وهذا ما نستنتجه ممّا يقوله الرسول بولس: ''لأنّه لو أُعطي ناموس قادرٌ أن يحيي لكان بالحقيقة البرّ بالناموس'' (غل 3: 21؛  راجع روم 8: 3-4).

بأيِّ وسيلةٍ كان الناموس الموسوي يحارب الخطيئة؟ بالوصايا، التي تهدف إلى السيطرة على الشّهوة. وجدير بالانتباه في هذا الخصوص ما يقوله الرسول لكي يختصر دور الناموس: ''لا تشته'' (روم7:7). وكانت غاية الناموس أن يشلّ قوّة الخطيئة ويبلغ بالإنسان إلى حالة البرّ أمام الله. ويدلّنا الرسول بولس على الهدف الأساسي للناموس، أي التبرير الذي لم يقوَ على تحقيقه، بقوله: ''لأنّه لو أُعطي ناموس قادرٌ أن يحيي لكان بالحقيقة البرّ بالناموس'' (غل 3: 21)(5).

لقد فشل الناموس في تحقيق هدفه ''لأنه كان ضعيفًا بسبب الجسد'' (روم 8: 3، راجع روم 3: 20؛ غل 2: 16)، ولأنه ظهر عاجزًا عن أن ينجز التبرير بواسطة الوصايا، لا بل جاءت النتيجة عكسية؛ فبدل أن يزيل الخطيئة ويمنح الحياة للإنسان الخاطئ، أدّى الناموس إلى إكثار الشهوات (انظر روم 7: 8)، فعاشت الخطيئة... ومات الإنسان. بهذا المعنى يكون الناموس قد أمات الإنسان بدلاً من أن يحييه (روم 7: 10).

لذا انتقلت حالة الإنسان من سيءٍ إلى أسوأ بسبب الناموس الذي يتألف من وصايا هدفها محاربة شهوة الجسد، والعلّة هي الخطيئة التي استغلت الفرصة التي تقدمها الوصيّة فملأت الإنسان بجميع أنواع الشهوات (روم 7: 8، 13)، هذا ما يعني أن الوصايا التي كان يفترض بها أساسًا أن تسيطر على شهوات الجسد، وبالرغم من أنها صالحة وتريد الصلاح للإنسان (انظر روم 7: 12-13)، قد فشلت في سعيها وجلبت له الموت (روم 7: 10)، لأنه بالفرائض التي تخاطب الجسد(6) (sarx) تتولّد شهوة المعصية (راجع روم 7:7)، وبالنتيجة ''تعيش الخطيئة'' (روم 7: 9) فتمسي سائر الشهوات أقسى وأمرّ (انظر روم 7: 8أ).

تفسّر هذه العلاقة الجدليّة بين الوصيّة والشّهوة كلام الرسول القاسي عن الناموس:

''قوة الخطيئة هي الناموس'' (1كو 5: 56).

''الناموس ينشئ غضبًا إذ حيث ليس ناموس ليس أيضًا تعدٍّ'' (روم 4: 15).

''أهواء الخطايا التي بالناموس'' (روم 7: 5).

كما تعطي هذه العلاقة الجدليّة الجواب على تساؤل كبار المفسّرين عن سبب ذكر الناموس على نحو مفاجئ(7)، مرةً في غل 5: 18 في سياق الحديث عن ''شهوة الجسد ضد شهوة الرّوح'' (غل 5: 16-24)، ومرةً أخرى أيضًا في روم 6: 14 حيث يدور الكلام حول سلطة الخطيئة.

إن الآيتين اللَتين في غل 5: 18 وروم 6: 14 تقدّمان عونًا كبيرًا لفهم الموضوع الذي نعالجه.

في غل 5: 18 يكتب الرسول للغلاطيّين التالي: ''ولكن اذا سلكتم بالرّوح فلستم تحت الناموس''، وذلك لأنّه بعد طلبه منهم قائلاً: ''اسلكوا بالرّوح ولا تتمّوا شهوة الجسد'' (5: 16)، وبعد حديثه عن العداوة والمنافسة بين الجسد والرّوح (5: 17)، أراد أن يشدّد على انّه ببطلان الخضوع لناموس الحرف والوصايا(8)، لا تستطيع الخطيئة(9) بعد الآن أن تنتهز الفرصة التي تقدّمها لها الوصايا لكي تملأ المؤمنين بالشّهوات المتنوعة. هذا لأنه بدون ناموس الوصايا لا تعد أهواء الخطيئة فاعلة في أعضاء الجسم (روم 7: 5)، وبالتالي تصبح ''الخطيئة ميتة'' (روم 7: 8)، بسبب أنّها فقدت القوّة التي كانت تستمدّها من الناموس (انظر 1كور 5: 56).

وجدير بالملاحظة أن الجملة الاستنتاجيّة(10)، ''حتى تفعلون ما لا تريدون''، في غل 5: 17، توازي من دون شكّ الآيات روم 7: 15، 18-19 التي تتبع الحديث عن العلاقة الجدليّة بين الوصيّة (الناموس) والشّهوة (الخطيئة). تأتي هذه الموازاة المهمّة كي تؤكّد طريقة فهمنا لـ غل 5: 18. وبكلامٍ أدقّ، إن غل 5: 17 تصف تأرجح الإنسان في داخله بين أمرين متناقضين هما شهوة الجسد وشهوة الرّوح. ويريد الرسول بقوله هنا: ''لستم تحت الناموس'' تذكير المؤمنين بأنه لم تعد توجد وصايا تخاطب الجسد لكي تُنشئ شهوات الخطيئة عندهم، فتجعلهم عبيدًا مبيعين من الخطيئة (روم 7: 14).

نجد فكرة أخرى موازية في روم 6: 14 : ''فالخطيئة لن تسود عليكم لأنّكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة''.

نلاحظ مجددًا في الآية المذكورة أنّ الناموس يُذكر مرةً أخرى بشكلٍ مفاجئ  في سياق المقطع، بالضبط كما في غل 5: 18. ولكن هذا لن يفاجئنا(11) بعد الآن، فالسبب أصبح واضحًا. لدينا هنا سياقٌ مشابه لــِ غل 5: 18، وهو الحديث عن الخطيئة التي تسود الإنسان المطواع(12) لشهوات الجسد (روم 6: 12. 14أ). إذًا، يشير الرسول بولس في روم 6: 14 إلى كون المؤمنين ليسوا تحت الناموس الموسوي انطلاقًا من تقييمه لعلاقةِ الوصيّة بالشّهوة/الخطيئة، مشددًا من خلال ذلك على أن الخطيئة قد فقدت قوّتها ولا تستطيع بعد الآن أن تسود على المؤمنين.

أخيرًا، لقد سبق وتطرّق الرسول بولس إلى موضوع محبّة القريب قبل غل 5:18(13). بالرّغم من أنّ وصيّة المحبّة تلخّص الناموس الموسوي وتكمّله (غل 5: 14؛ روم 13: 9)، لا تنشئ هذه الوصيّة شهوات جسديّة كما تفعل وصايا الناموس، لأنها تخاطب الرّوح(14) لا الجسد، إذ إنّها إحدى ثمار الرّوح (غل 5: 22). لذا تراه يلفت انتباه الغلاطيين في سياق المقطع غل5: 13-6 :2 إلى أنّ الناموس الموسوي، ''ناموس الوصيّة الجسديّة'' (عب 7:16)، لا يحكم حياتهم، بل قد أضحت طريقة حياتهم روحيّة، خاليةً من شهوات الجسد وأعماله.

بناء على ما سبق، يتبيّن أنّ الآيات 1كور 15: 56؛ غل 5: 18؛ روم 6: 14 تُفهم بوضوح أكثر على ضوء العلاقة الجدليّة بين الوصيّة والشّهوة، إذ قد تأكّدنا من وجود علاقةٍ تربط بين الناموس الموسوي وحالة الخطيئة التي تسود من هم ''تحت الناموس''.

هذا الناموس السينائي، بالرغم من انه ''مقدّس والوصيّة مقدسّة وبارّة وصالحة'' (روم 7: 12) وتقود إلى الحياة (7: 10) إذ هو ذو جوهر روحيّ (روم 7: 14)، لم يستطع أن يدين الخطيئة وأن يبرّر الإنسان بواسطة الوصايا فقط، وذلك بسبب ضُعف الجسد (روم 8: 3). بالتالي، صار ناموسٌ آخرُ يسود أعضاء الجسد ويحارب ''ناموس الذهن''(15)، أي ''ناموس الله''(16) الذي يتماهى مع جوهر الناموس الموسوي، والذي يوافقه الإنسان ويُسرّ به (راجع 7: 16- 22).

 

التحرّر من ناموس الخطيئة والموت

أمام هذا الواقع الأليم يبشّر الرسول بولس بواقعٍ جديدٍ: ناموسُ الرّوح وحده يستطيع أن يحرّر المؤمنين من وطأة ناموس الخطيئة والموت(17) (انظر روم 8: 2) الذي يأسر الإنسان الجسداني (انظر روم 7: 23-25). وتحرُّرُ المؤمنين سوف يقود في نهاية المطاف إلى إعفائهم من الدّينونة الإسخاتولوجيّة (روم 8: 1). أمّا الناموس الرّوحي هذا فإنّه يأتي من الواقع الجديد الذي تكرّس بعد انتصار ابن الله المتجسّد على الخطيئة (روم 8: 3).

ويُفسّر الرسول بولس هذا التعليم الخلاصي في الآيات اللاحقة (روم 3:8-17)، معيدًا إمكانيّة تحرّر الإنسان وخلاصه إلى التدبير الإلهي الذي أتمّه المسيح. وإذا ما دقّقنا في مضمون الآيات المذكورة، نُدرك أن موت المسيح على الصليب، والذي كان سبب تبريرنا، هو الذي سيوجّه أيضًا مسيرة الانتصار على ناموس الخطيئة والموت (أنظر 8: 10، 11، 17)، لأنّ ابن الله، بعد أن أخذ طبيعة إنسانيّة كاملة ومائتة، انتصر على الخطيئة بالجسد (روم 8: 3)، إذ بقي جسده حتّى الموت نقيًا من الخطيئة، وبموته الطوعيّ أدان الخطيئة والموت (أنظر روم 8: 3؛ 1كو 15: 56-57).

يتطرّق الرسول إلى موت المسيح الخلاصي في روم 8: 3 لأن هذا الحدث هو من دون شكّ ركيزة خلاصنا، وكلّ إنجاز بشريّ من هذا القبيل يرتكز على أساس الخلاص الذي أتمّه المسيح. لذا تُعلَّلُ قولةُ روم 8: 2 في 8: 3، وذلك بواسطة أداة الربط "gavr" (= لأنّ)، بغية التأكيد على أنّ التحرّر من ناموس الخطيئة والموت قد تحقّق لأنّ المسيح ''دان الخطيئة بالجسد''. فلا ريب يبقى بعد ذلك في أن انتصار المسيح بموته الطوعي وقيامته المجيدة هو علّة خلاص المؤمن. والآيات اللاحقة للآية 3، كما ذكرت مسبقًا، تبيّن كيفيّة اقتناء خيرات تدبير المسيح الخلاصي على مستوى الفرد المؤمن، أي تشرح كيف يتحرّر الإنسان من ناموس الخطيئة والموت، بواسطة غلبة المسيح.

 

التحرّر من الجسد والأهواء ومن الناموس الموسوي

عند المعموديّة يسكن روح الله فينا (روم 8: 9، 11؛ 1كور 3: 16؛ راجع 1كور 2: 12؛ 6: 11؛ 12: 13؛ 2كور 1: 22). وروح الله هو روح المسيح (8: 9؛ غل 4: 6). لهذا السبب، يكتب الرسول أنّ المسيح نفسه يسكن فينا (روم 8: 10؛ راجع غل 3: 27). إنّه السرّ الغنيّ والمجيد ''الذي هو المسيح فينا'' (كول 1: 27) الذي يتكلـّم عنه الرسول في روم 8: 9-10. وهذا السرّ ليس سوى سرّ الوحدة مع المسيح عبر قبول الصلب معه (غل 2: 19-20؛ روم 6: 6، 8،11).

إنّ المسيحيّين الذين آمنوا بالمسيح يسوع واعتمدوا، قد صُلبوا معه، وماتوا معه في المعموديّة. حينها، دفن هؤلاء مع المسيح حياتهم السابقة التي كانت بحسب الجسد(18). وبنتيجة ذلك تبرّروا (روم 6: 7؛ أنظر 1كور 6: 11)، وليس هذا فقط، بل وأخذوا روح التبنّي (روم 8: 15؛ 1كور 12: 13؛ راجع غل 4: 6).

بالمعموديّة، إذًا، يموت المؤمن طوعًا(19) عن الخطيئة وعن أعمال الجسد (روم 6: 6-7،11؛ 8: 10)، ويأخذ الرّوح القدس.

أمّا عمل الرّوح القدس فيكون متعدّد الجوانب.

أوّلا ، يعيد خلق الإنسان الذي مات مع المسيح حين المعموديّة. لذا يقول الرسول بولس إنّ روح الله ''يحيي أجسادكم المائتة'' (روم 8: 11). ثمّ يهبُ الرّوح الإنسانَ حياةً جديدةً، ووجودًا روحيٌّا مختلفًا عمّا سبق. فبحسب قول الرسول، ''أنتم لستم في الجسد بل في الرّوح، لأنّ روح الله ساكن فيكم'' (روم 8: 9). هكذا يصير الرّوح القدس مبدأ حياة المؤمنين، منه يستمدّون حياتهم  التي ''بحسب الرّوح''. هذا يعني أنّهم لم يعودوا بعد ذلك مُلكًا لذواتهم(20) بل مُلكًا للذي قام من بين الأموات'' (روم 7: 4؛ 1كور 6: 13، 15؛ 2كور 5: 15؛ راجع روم 6: 10-11؛ غل 2: 20)، أي صاروا مُلكًا للمسيح الذي أعطاهم الحياة بواسطة روحه (أنظر روم 8: 9).

ثانيًا، يهبنا الرّوح القدس التبنّي، أي يؤكـّد لنا أنـنا أبناء الله، كما يعطينا الشجاعة أن نصرخ نحو الله ''أبـّا أيّها الآب'' (غل 4: 6).

يتحقـّق التبنّي بالإيمان بالمسيح يسوع (غل 3: 26)، ويصير نمطًا علائقيٌّا جديدًا بين المؤمن والله (أنظر خاصة روم 8: 17). وبناءً على هذه العلاقة الجديدة، لا يعود الناموس الموسوي صالحًا لكي يدين سلوك المؤمن، إنّه قد أضحى ''ابنًا'' وتوقّف عن أن يكون ''عبدًا''، وليس هو بحاجة  إلى مؤدّب.

ثالثًا، الأمر الجوهري الذي ينتج عن حدث المعموديّة، وعلى أساسه يتمحور تعليم الرسول بولس اللاهوتي العميق عن التحرّر من الناموس الموسوي، هو أن الرّوح القدس إذ يمنح حياة  جديدة  للمؤمن، ويغيّر بذا نوعية وجوده، جاعلاً  إياه إنسانًا روحيًا لا جسديًا، يحرّر المؤمن من الخضوع لناموس الوصايا (أف 2: 15؛ غل 4: 6-7) التي تخاطب الجسد، طالما أن واقعهم توقـّف عن أن يكون ''بحسب الجسد''.

لذا، عندما يتكلـّم الرسول بولس على التحرّر من الناموس الموسوي في روم 7: 1-6 (راجع أيضًا 6: 14-15) يبدأ بالتحديد من كون المؤمن المعتمد قد شارك المسيح موته (7: 4-6).

إن موت ''الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور'' (أف 4: 22) يضع حدًا للوجود بحسب الجسد(21)، فيصبح واقع المسيحي روحيٌّا لا جسديٌّا، وهذا ما يؤكـّد عليه الرسول بولس مرارًا وتكرارًا(22).

نتيجة ذلك، إنّ الناموس الموسوي، الذي تخاطب وصاياه الجسد، لا يبقى قانونًا ملائِمًا لسلوك المسيحي،  لأنّ ''عِتق الحرف'' لا يتناسب مع الواقع الرّوحي الجديد (روم 7: 6). يعبّر هذا الناموس عن مشيئة الله في واقع معيّن، وتحديدًا عندما كان المؤمن لا يزال في الجسد (راجع روم 7: 5). الحرف العتيق يخاطب الإنسان العتيق، أمّا الآن فقد تغيّر هذا الواقع وتبدّلت المعطيات؛ فالمؤمن لم يعد في الجسد، وتوقّف عن أن يكون جسدانيًا؛ لقد أصبح روحيٌّا، يفكّر بالرّوحيّات، ويحيا ويتصرّف بحسب الرّوح. لذا، ليس هو تحت الناموس الموسوي بعد الآن، بل تحت ناموس الرّوح، ناموس المسيح، الذي به يتحقّق التبرير.

غاية القول، أنه بعد صلبِ المؤمن الجسدَ مع الشهوات والأهواء، وعيشه وسلوكه بحسب الرّوح، يبطلُ جسدُ الخطيئة، وبموته يتوقّف الخضوع للناموس الموسوي، فتتلاشى عندئذٍ بدورها ''أهواءُ الخطيئة التي بالناموس'' (روم 7: 5)، وذلك بحسب العلاقة الجدليّة بين الوصيّة والشّهوة، التي يلفت إليها الرسول بولس، والتي أسهبنا في دراستها في بداية هذا البحث. وعندما يتوقّف الخضوع للحرف العتيق تخسر الخطيئة ما كان قبلاً سببَ قوّتها، فتموت مجدّدًا، فيحيا الإنسان. هكذا يتحرّر الإنسان من ناموس الخطيئة والموت بواسطة ناموس الرّوح الجديد.

من هذا المنطلق، قدّم الرسول بولس مثال المرأة التي تتحرّر من ارتباطها بزوجها الميت(23)، بحيث أنّها لا تُعتبر زانية ''إن صارت لرجل آخر'' (روم 7: 1-3)، لأنّها تضحي حرّةً من ناموس الرجل (7: 2)، وذلك بهدف توضيح مسألة تحرّر المؤمن على نحو مماثل من الناموس الموسوي، بعد أن مات فيه ''الإنسان العتيق'' (7: 4-6).

لا ريب في أنّ مثال المرأة المترمّلة، كما يقدمه الرسول، يسلّط الضوءَ على العلاقة العضويّة بين الموت والتحرّر. كما تبيّن هذه المقارنة أن من آمنوا بالمسيح لم يخونوا تاريخ الخلاص الذي ترسمه الأسفار المقدّسة، بل بالأحرى، كان انتقالهم من الخضوع للناموس الموسوي إلى ناموس الرّوح، التطوّر الحقيقي لهذا التاريخ، حسبما شاء الله الذي جعل الصليب باب الخلاص من ضعف الجسد. يذهب الرسول إلى أن ناموس الوصايا لا يتناسب مع واقع المسيحي، لأن فعل صلب الذّات مع الميسح و''باكورة الرّوح'' (روم 8: 23) قد جعلا وجوده روحيٌّا. لذا فقد بات حرٌّا من ناموس الوصايا، وحرٌّا، بالتالي، من أهواء الخطيئة وشهواتها التي يولّدها الناموس.

 

 

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM