الحرية في سفر حزقيال.

 

الحرية في سفر حزقيال

الأب أيوب شهوان

 

مقدمة

أوّل ما يتبادر إلى الذهن عند الكلام على الأنبياء في العهد القديم، هو مدى إصرار الله الخالق والمخلّص على إبقاء الإنسان كما خرج من يده، حَسَنًا، بهيٌّا، ''لا عيبَ فيه'' (أف 5: 27)، ''على صورته ومثاله'' (تك 1: 26)، سيّدًا على كلّ المخلوقات (رج تك 1: 26)، وحرٌّا، و''بالمجد والكرامة مكلَّلاً'' (مز 8: 7). هكذا كان تصميمه في البدء، وهكذا يبقى إلى الأبد.

 

1 - الحريّة هَمّ الله الدائم

إذا شئنا أن نحدّد الحريّة، أو أن نستعرض ما تحفل به المؤلفات التي لا تُحصى حول هذا الموضوع، لوجدنا أنفسنا أمام سلسلة من التحديدات التي تحدّها الحقولُ التي أنتجَتْها، أي الدين، والفلسفة، وعلم الاجتماع، وغيرها. لذلك نقول بوجيز الكلام: الحريّة هي ما يُتيح للمرء ''أن تكون له الحياة وتكون بوفرة'' وبكرامة، وأن تكون له الكلمة وتكون وليدة الحقيقة، وأن يكون له الاختيار ويكون بإفراز عقليّ عاقل. تمحَض الحريّةُ الإنسانَ تفوّقًا على سائر مخلوقات الله، من حيث إمكانيّتُه إعتاق الذات ممّا قد يكبّلها، من أجل وُلوج ملكوت اللقاء، والتخاطب، والحبّ، إعتاقٍ يسمو بالمرء إلى الوعي والإدراك والتعقّل، إلى الاتّزان والاعتدال والعَدل، إلى البرّ والتقوى والقداسة، فالمعرفة والحكمة، أخيرًا إلى تلقّي روح الله في الهيكل المقدّس؛ وحيث يُقيم روح الله فهناك تتفاضل الحريّة.

هكذا تصبح الحريّة عنصرًا مكوِّنًا لإنسانيّة الإنسان، وعاملَ ارتقاءٍ بالذات وبالآخر إلى حيث ''الساكن في الأعالي'' (مز 113: 5)، ''الساهر'' (إر 1: 12؛ مل 2: 12) على ''مَن جَبَلت يداه'' (رج تك 2: 7، 8، 19). هذا ما تُشير إليه، في سفر التكوين، الوصيّةُ التي بها ''أَمَر الربُّ الإلهُ الإنسان قائلاً: من جميع شجر الجنة تأكل، وأما شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها'' (تك 2: 16-17)؛ فالمنع هنا أو التحريم يَخلق حريةَ الارتباط أو رفضه، وبالتالي الحرية لأَنْ يحبّ المرءُ أو لا ! الشجرة هنا هي ''شجرة معرفة الخير والشرّ''؛ تعني ''المعرفة''، بالبُعْد البيبليّ للكلمة، الحصولَ على اختبار حميمٍ لأمرٍ ما: ''عرف'' آدم امرأته (تك 4: 1)، فوُلِدَ قايين؛ بالتالي، عندما ''يعرف'' إنسانٌ ما ''الشرَّ''، فإنّ هذا الأخير ''يلد له الموت'' (روم 5: 12؛ 6: 23). الحريّة المُعطاة للإنسان أصلاً، لم تكن إذًا لأجل أن يختار بين ''الخير والشرّ''، بل ليرفض أو يشتهي هذه المعرفة للشرّ، بمعنى الارتباط الحميم الذي يلد الموت. لقد تشوّهت الحريّة، لا بل بَطُلَت بسبب دخول طعمٍ مُحرَّمٍ إلى قلب آدم وحوّاء. وَحدَه ''الذي لم يعرف قط الخطيئة'' (2 كو 5: 21) ليس عبدًا لها؛ لذا، وحده المسيح يسوع قادرٌ على أن يكون بطاعته الحرّة والمطلقة مصدر مصالحة مع الله.

تاريخ الخلاص إذًا هو عمل تحرير القلب؛ فلكي يتمكّن إبراهيم من أن يستجيب بحريّة لنداء الله، كان عليه أن يقتلع ذاته من أرضه، ويترك الأهل والأقارب والمعارف والأصحاب؛ وهذا ما سيعتمده يسوع مع تلاميذه لاحقًا. مع موسى نشهد اقتلاعًا من نوعٍ آخر، من أرض العبوديّة، مع معرفتنا أنّ هناك مَن يتأقلم مع العبوديّة ويتماهى معها، ويصبح بالتالي من الصعب جدٌّا إقناعه بنَبذها.

تحت قيادة موسى، أسَّسَ الخروجُ من مصر وإعطاءُ العهد الشعبَ المقدّسَ؛ قال الرب: ''نزلت لكي أُنَجّيَ شعبي'' (خر 3: 8). وعندما أجاز الله شعبه في البحر الأحمر، ''افتداه وقاده برحمته'' (خر 15: 13). منذئذٍ، راحت المزامير والنصوص الحكميّة البيبليّة تغنّيه على أنه ''المحرّر'' (2 صم 22: 2؛ مز 18: 3؛ 144: 2؛ حك 19: 9).

وبعد ستّة قرون، بشّر أشعيا بالعودة من المنفى البابليّ، وكأنها تحريرٌ ثانٍ، يُجدّد الحدث الأوّل المؤسِّس؛ يقول أشعيا: ''يعود الذين حرّرهم الربّ، يَبلغون صهيون هاتفين فرحًا، حاملين معهم فرحًا أبديًا'' (35: 10؛ رج 51: 11).

مَن يتمّم عمل الله، يصبح بدوره مُحرِّرًا. يقول أشعيا: ''أليس هذا الصومُ الذي أفضّل: فَكُّ السلاسل الظالمة، وحلُّ القيود المكبِّلة، وتحريرُ المقهورين، وكَسْرُ كلِّ نير ؟'' (أش 58: 6). كلّ العمل المسيحانيّ يُختَصَر عندها في ''تبشير الأسرى بالتحرير'' (61: 1)، وَفْقَ ما أدرجه يسوع في برنامجه في مجمع الناصرة لاحقًا (لو 4: 18-19)، وبَرهَن عن قدرته في التحرير عَبرَ ''حلّ'' المأسورين من قيودهم التي كان المرضُ أو الشيطان قد كبّلهم بها (رج لو 13: 15-16).

 

2 - الأنبياء أبطال الحرية

لا نعرف تصميمَ اللهِ المُحِبَّ والخلاصيَّ تجاه الإنسان من علم الماورائيات، ولا من التحاليل اللاهوتيّة العقليّة فقط، بل أيضًا وخاصةً من تاريخه مع الإنسانِ مخلوقِه الأسمى، مع شعبه، لا بل مع أهل الدنيا كافة؛ نعرفه من عمله في التاريخ عبرَ أنبيائه ومُرْسَلِيه، عمّالِه بامتياز حتى العبادة ! نعم، لا يمكن التفكير بالأنبياء دون العبور إلى مَن هو علّة وجودهم وإقامتهم لهذه الخدمة، إذ إنهم صورة أُبوّته وحنانه ورحمته، نراها بأعيننا، ونسمع بَوْحَها بآذاننا، ونلمسها بأيدينا (رج 1 يو 1: 3)، وكأننا أمام ''عليقة تلتهب ولا تحترق'' (خر 3: 2)، أو ''جبلٍ مدخّن'' (خر 19: 18) ولا نار فيه ، أو ''صوت كما النسيم اللطيف'' (1 مل 19: 12) يتغلغل، فتصدحُ أوتار القلوب حياةً وحبٌّا وسلامًا. الأنبياءُ صورة؟! نعم، ولكن ليست جامدة، ولا محفوظة في متحف، أو معلّقة على حائط ومنسيّة. إنّهم القوّة، والنشاط، والحضور، والحياة. هم عشّاق الحريّة أكثر من أي إنسان على وجه الأرض، لأنهم ذاقوا طعمها السماويّ، فخلبت منهم القلوب؛ وذاقوا مرارة فقدانها، فأشعلت فيهم غضبًا مقدّسًا سلميٌّا وخلاصيٌّا.

يتحوّل النبيّ إلى ''نار آكلة'' (أش 33: 14) تحرق الهشيم البريّ، و''الشوكَ والحسكَ'' (تك 3: 18)، وكلَّ ما يتسلّل خلسة إلى ''بستان عدنٍ'' (تك 2: 8) ليخنق ''شجرة الحياة'' (تك 2: 9) ويقضي عليها، فيردّ إلى تِيكَ الشجرة حُسنَها وحيويّتَها وعطاءَها. هكذا هُمُ الأنبياءُ، طلاّبُ حياة، وحُماة الحياة؛ وحيث الحياة فهناك الحريّة، وحيث العبوديّة فهناك الموت؛ لذلك، الأنبياء هم كالساهر الذي لا ينعس ولا ينام(1)، وهم قوّادٌ ثوريّون، يُغضبهم الظلمُ المُميت، فلا يعرفون راحةً قبل أن يُريحوا منه المظلومين المقهورين.

 

3 - الحرية هَمُّ حزقيال الكاهن والنبيّ

في هذا السياق العام لموضوع الحريّة، خاصة ببُعدها البيبلي، يندرج موضوع الحريّة في نبوءة حزقيال النبيّ الذي، كسائر أنبياء العهد القديم، ''شهوةً كان يشتهي'' (رج لو 22: 15) أن يتنعّم شعبُ الله بالحريّة، لذلك وبّخ وقرّع، أنذر وهدّد، عزّى وشجّع.

حزقيال هو نبيّ مختلف لأنه يشكّل حالة مميّزة في تاريخ شعب الله، إذ إنّه نبيّ إله إسرائيل، لكن في أرض غريبة؛ ستكون لهذا الأمر أهمية كبيرة بالنسبة إلى تطوّر لاهوت العهد القديم(2).

لقد شاطر إسرائيلُ طويلاً الشرقَ القديم نظريّتَه العامة التي تقول بأنّ الآلهة كانت ترتبط ببلدانها، ولا يمكن عبادتها إلاّ في مواطنها الخاصة (1 صم 26: 19؛ 2 مل 5: 17-18). بالمقارنة مع الذين بَقوا في أورشليم، أي ''في ديار بيت الرب'' (مز 116: 19؛ 135: 2)، كان منفيّو بابل يَبدون بعيدين عن الرب، لأنهم لم يكونوا يُقيمون في أرض إسرائيل. فحضور نبيّ في ما بينهم، مدعوّ من الله ''في أرض غريبة''، كان يشهد بأنّ إله إسرائيل لم يكن إله أرضٍ بل إله شعب، فحيث كان الشعب، كان هناك أيضًا إلهه.

من ناحية ثانية، بِكَوْنِ النبيّ شخصيّةً ذاتَ صفة عامة، كان بذات الفعل يمثّل واحدةً من مؤسسات المجتمع الإسرائيلي الأساسيّة في ذاك العصر (إر 18: 18)، أي الأنبياء. هكذا كان حزقيال، النبيّ بين المجلوّين، يمثّل العنصر المؤسَّسِيَّ الوحيدَ الذي بقي لهم.

كذلك لعب الكهنة أيضًا، حتى وهم محرومون من الهيكل ومن إمكانيّة ممارسة العبادة، دورًا مصيريٌّا في تعميق إيمان إسرائيل في المنفى. لقد ساعد حزقيال، الكاهنُ والنبيُّ في آنٍ معًا، في القيام بمهمّته لدى المجلوّين. كان كاهنًا في أورشليم، وسيبقاه في أعماقه كلّ حياته (1: 3)؛ يدلّ على ذلك بوضوح استفظاعُه التدنيسَ (4: 9-17)، وعبادةَ الأصنام (8: 3-18)، ولغتُه ومصطلحاتُه القضائيّةُ (14: 1-11؛ 18؛ الخ) القريبةُ من الأوساط الكهنوتيّة(3).

لكنّ حزقيّال أصبح نبيًا(4)، فكان عليه أن يحلّ المعضلات الكبيرة التي كان معاصروه يطرحونها على ذاتهم: أمام المأساة، كيف تُحدَّد المسؤوليّات؟ هل إله إسرائيل هو ضمانة غير مشروطة لخلاص شعبه؟ ما هو دور النبيّ؟ كيف يمكن تقييم موقع السلطات السياسيّة ومعناها؟ ما هو مستقبل إسرائيل بعد العقاب، وأيّ رجاء بعد انهيار كلّ المؤسسات؟

لم يكن على النبيّ حزقيال أن يُجيب على الأسئلة التي يطرحها المنفيّون على ذاتهم أو عليه، بل أيضًا وخاصة كان عليه هو أن يقرأ الوقائع والأحداث ويحلّلها، ويكشف عن مسبّباتها، ويتبيّن مَسار الأمور ومَآلَها، ليتّخذ الموقف المفيد، مهما كان صعبًا، أو حتى خطيرًا. إنه المحلِّل بامتياز، الذي يقود من ثمّ إلى التحرّر والكرامة.

فبكونه كاهنًا، كان حزقيال يدرك أهميّة أن يكون المؤمن طاهرًا، لا دَنَسَ يلطّخ نقاوةَ قلبه، ولا نجاسةَ تصيب جسمَه، فيضحي بالتالي عبدًا لها. وكأنّي به، ومنذ البدء، قد أدرك أنّ الدّنس قد أصاب شعب الله، لذلك راح يصف رجاساتِ سكّان أورشليم، لا بل الهيكل أيضًا، ليستنتج أنّ الربّ لا يستطيع أن يبقى مقيمًا على أرض دنسة، وفي هيكل مُنَجّس. إنه الإنباء بمغادرة مجد الرب وبدمار المدينة. لاحقًا، وفي آخر السفر (43)، سيصف حزقيال عودة مجد الرب إلى هيكله ومدينته.

إنّ في ذلك تحريرًا للعقلية التي كانت سائدة، والتي كانت تَخْلُد إلى الاطمئنان الكاذب بأنّ إله إسرائيل سيدافع عن شعبه في كلّ الأحوال. ستتبدّل النظرة إلى الله بفضل حزقيال من خلال التحرير من الاعتقادات الخاطئة التي تفضي إلى الخمول الروحيّ، وتقضي على نظرة واقعيّة إلى الحياة وإلى الإيمان. هكذا يجد حزقيال نفسَه مُضطرٌّا لأنْ يُـبَيّن أخطاء إسرائيل، خاصة ضدّ الهيكل وفيه (رج حز 8).

لذلك نشهد في حز 9 حصول مذبحة الخطأة وحريق المدينة، وفي هذا عملية تحريرية لا مفرّ منها، يليها إعلان الخلاص للذين يبكون بسبب عبادة الشعب للأصنام. لنتذكّر دعوة إرميا الذي أقامه الربّ ليهدم وينقض ويقلع ويهلك، قبل أن يبني ويغرس.

4 - تحرير من المفاهيم الخاطئة

من جملة المعضلات التي يعالجها سفر حزقيال هي المسؤوليّة الشخصيّة والجماعيّة (رج حز 18؛ 33: 10-20)، التي يعرض لها من زاوية تشفّع أناس مشهورين، يُفترض أن تتمكّن صلاتهم من تخليص أشخاص آخرين. لكنّ الجواب يأتي سلبيٌّا، إذ يجب أن يُخلّص كلُّ امرىءٍ ذاته.

كان هناك مثل شائع، هو التالي: ''لقد أكل الآباء الحصرم، فضرست أسنان البنين'' (18: 2). موقف النبي من هذا الأمر واضح: لا يوجد تراكم استحقاقات أو أخطاء من جيلٍ إلى آخر. هناك إذًا احتجاج على النظريّة الكلاسيكيّة في موضوع المسؤوليّة الجماعيّة(5).

 

5 - تحرير في موضوع الرعاة الأشرار

يطبّق النبي حزقيال، وكغيره من الأنبياء صورة الرعاة على قادة البلاد، الذين يُلصق بهم مسؤوليّة ما حلّ ببني إسرائيل، عنيت السبيَ إلى بابل. الكارثة بالطبع جسيمة، فما العمل؟ يبشّر النبيّ بحلٍّ جذريٍّ وحاسم، ألا وهو أن الربّ هو مَن سيعتني بالقطيع. كفى مع الوسطاء، كفى مع الملوك، وكأنّي بالنبيّ المطّلع في العمق على سيرة ملوك بني إسرائيل، في الشمال كما في الجنوب، لا يرى حلاٌّ إلا بتحرير بني قومه من الملوك الأرضيّين، لِيَكِلَهم إلى الذي لا مَلِكَ سواه، إلى الله. لكن السؤال الذي يُطرح هو التالي: هل يرمي حزقيال إلى اعتماد هذا الحلّ نهائيٌّا؟ هو يبشّر في الواقع براعٍ فريد، و''سيصبح داود عبدي ملكه'' (34: 22-24).

 

6 - تحرير من التشرذم والانقسام

أدرك حزقيال بحسّه النبويّ الرفيع كم أنّ المرارة في نفوس بني إسرائيل كبيرة، أقلّه لدى المدركين منهم، بسبب انقسام الإخوة وتشرذمهم، وقيام مملكة في الشمال وأخرى في الجنوب، والتناحر والتخاصم حتى الاقتتال (رج حز 34: 22-24؛ 37: 15-28)، لذلك راح يُذكي فكرة توحيد إسرائيل ويهوذا في مملكة واحدة، يرأسها داود الجديد، الملك الذي على حسب قلب الله. إنّ التحرّر إذًا من هذا الواقع الأليم يرتدّ بالتأكيد خيرًا عميمًا، سياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا، وروحيًا، وغير ذلك.

 

7 - تحرير من الدنس

يعلن حز 36: 16-38 عن إعطاء قلبٍ وروح جديدَين (آ 26)، لأنّ قلب الشعب قد تغلغل فيه الدنس الذي هو عبادة الأصنام قبل شيء. إن الأسلوب المستعمل هنا هو قريب من ذاك الكهنوتي؛ ما يطلبه حزقيال هو التالي: ''التطهّر من جميع نجاستكم ومن كل أصنامكم'' (36: 25). أما الوسيلة فهي التالية: ''أرشّ عليكم ماءً طاهرًا فتطهرون'' (36: 25)، كون الفصل بين الطاهر والنجس هو من إحدى مهمّات الكاهن (حز 22: 26). هنا أيضًا يأخذ التطهير معنى التحرّر، وبالتالي تُكتَسَب الأهليةُ من جديد لبلوغ القداسة.

 

8 - تحرير من الموت المعنوي

في حز 37: 1-14 (العظام اليابسة)، وبدءًا من آ 11، يحدّد النبيُّ الوعودَ بحياة جديدة. سيلقى شعبُ إسرائيل في المنفى، وقد مات ودُفِن (رج كلمة ''القبور'' في آ 12)، هذه الحياةَ بقوة الروح. بعمل رمزي، كُلّف النبي بأن يجعل الروح يأتي. سيكون الشعب هكذا مستعدًا للعودة إلى أرض إسرائيل، ولقبول ''روحي'' (37: 14)، يقول الرب(6).

9 - الدينونة والعقاب طريق إلى الحرية

بكشفه في القسم الأول من رسالته أخطاء إسرائيل، يضع حزقيال القواعد الضرورية للإنباء بالدينونة وبالعقاب، لأنه كان ضليعًا في التقاليد الكهنوتية، إذ كان أكثر إحساسًا من الآخَرين بقداسة الله، وكان هكذا قادرًا على أن يعي بحيوية عمقَ خطيئة إسرائيل؛ إنه يتبيّن جيدًا البَوْنَ الشاسع الموجود بين قداسة إله إسرائيل ودنس الإسرائيليين.

الدينونة هي أحد أعمدة الرسالة النبوية: ''حاكمهم، حاكمهم، يا ابن الإنسان. إكشف قبائحهم'' (20: 4). لقد أُعلِن الحكم (9: 9-10)، وبدأ العقاب (9: 11). تدعو الحالة إلى عقاب جذري: تدمير المدينة، إحراق الهيكل، نفي بقية صغيرة يمكن تخليصها (5: 3-4؛ 9: 4). يجب أن يزول الكل كي يستطيع كل شيء أن يبدأ من جديد. إن دينونةً كهذه، من قِبَل كاهن، تفاجىء القارىء. وإنه لأمرٌ مدهشٌ تَصَوُّرُ إنسانٍ متعلّق بعمقٍ بالمقدسات يصف ذهاب مجد الله وينذر به. لكن يجب أن نذكر، مع هذا، الوعي الذي كان عنده لخطيئة الشعب، ولأنّ ''يد الرب عليه''، وتقوده في رسالته. ينبىء حزقيال باستمرار بنفي الشعب وبزوال كل المؤسسات: العبادة، الحرية السياسية، والأرض. بعيشهم عبيدًا في بلاد غريبة، دون أن يكون لهم شيء، يُعاد بنو إسرائيل إلى بداية تاريخهم: ''وآتي بكم إلى برية الشعوب، وأحاكمكم هناك وجهًا لوجه، كما حاكمتُ آباءكم في برية أرض مصر'' (20: 35-36).

كان صراع النبي شاقًا على قدر ما كانت أوهام الشعب كبيرة. كان الأنبياء يبشرون بالسلام، في حين أنه لم يكن هناك سلام (13: 10). يشعر الذين نجوا من السبي الأول، أنهم في أمان في أورشليم (11: 15). بالنسبة إليهم، السعادة تقترب (11: 33)، لكن خيبة الأمل ستكون على مقياس هذا الرجاء الكاذب: ''عظامنا قد يبست وهلك رجاؤنا، وقضي علينا'' (27: 11). سيكتشف الناس أن النبي كان على حق، وأنه يستطيع أن يقوّم الوضع، وأن يعلن رسالة رجاء.

10 - وعي الخطيئة بداية التحرير

حزقيال هو الذي جعل أكثر ما يكون أخطاء إسرائيل راديكالية. إن النغمة التفاؤلية الوحيدة في قصة دعوته متَضَمَّنَة في هذا التأكيد: ''سواءٌ أسمعوا أم لم يسمعوا... سيعلمون أنَّ بينهم نبيٌّا'' (2: 5). رسالته هي بنوع خاص قاتمة، إذ عليه الإنباء ''بالمراثي، والنواح والويلات'' (2: 10).

نحفظ من حزقيال هذه القناعة المفاجئة بأنّ إسرائيل، بالنسبة إليه، لم يَعِشْ مطلقًا خارج الخطيئة. لم يعرف قط زمن شراكة مع إلهه. الخطيئة موجودة هناك أبدًا. لقد وجّه هوشع أيضًا ، الذي منه استوحى حزقيال الكثير، انتقادات قاسية إلى شعب الله، لكنه ذكر عصرًا ذهبيًا كان إسرائيل فيه قد ''جاوب''، كما كان الرب يأمل (هو 2: 17). لا نجد أيَّ أثر لهذا عند حزقيال (حز 20).

سيعرف وعيُ الخطيئة هذا، المعَبَّر عنه هنا بطريقة راديكالية قوية، انتشارًا واسعًا بدءًا من المنفى، وسيشكّل مظهرًا هامٌّا من التيار اليهودي (judaïsme).

 

11 - تحرير إسرائيل من أخطائه وخطاياه

يصف حزقيال أخطاء إسرائيل بلهجات عدة. يكشف بواسطة التشابيه (حز 16 و23)، وبلوحات واقعية (8 و20)، وبكثير من التفصيل، أحدَ الأوجه الأساسية لخطيئة إسرائيل، ألا وهي عبادة الأصنام. يقترب كثيرًا بهذا من هوشع، فيستعمل صُوَرَه، كتلك التي عن الزوجَين، ليظهر العلاقات بين إسرائيل وإلهه. في الحالتَين، المقصود هو الانحراف. كان إله إسرائيل قد اختار شعبه عندما تجلّى له في مصر (20: 5). هو الذي أحياه (16: 6؛ بالرغم من أن الصورة مطبّقة على أورشليم، يمكن توسيعها لتشمل كل إسرائيل)، لكن إسرائيل قد تبدّل؛ فلقد استعمل عطايا إلهه ليتبع طرقًا أخرى، ليعطي ذاته لآخَرين (16: 15-21). يتجسّد هذا الانحراف في المعاهدات السياسية، في التبعيّات التي يرضَخ لها رضوخًا، أو تلك التي يُبحَث عنها؛ إنه يريد حياةً في غير إلهه (حز 23).

في الفصل الثامن، يظهر النبي نتائج هذا الضلال في العبادة. لقد غزت عبادة الأصنام هيكل الرب. ولكشف موقف الشعب بطريقة أفضل، يذكر حزقيال أقوال أهل أورشليم ومسؤوليها: ''يقولون: الرب لا يرانا. لقد ترك الربُّ البلاد'' (8: 12). يرى في حرم الهيكل بالذات، أمام المذبح، خمسةً وعشرين رجلاً يديرون ظهرهم إلى المقدس وينظرون نحو الشرق، نحو مطلع الشمس (8: 16-18). تدل وضعيّتهم الجسمية بوضوح على موقف إسرائيل الديني: لقد أداروا ظهرهم إلى قدوس إسرائيل، لقد تحوّلوا نحو آلهة أخرى.

ليست هذه الأخطاء الوحيدة التي يلوم حزقيال الشعبَ عليها، لكنها الأكثر. ويندد بالمناسبة بالظلم والعنف (7: 10 و32؛ 22)، لكن المقصود عندها هو إحدى نتائج التخلي عن الله.

لدى حزقيال تعبير ذو مدلول كبير يصف به إسرائيل، ألا وهو ''بيت تمرّد''. في رواية الدعوة، يُستَعمَل هذا التعبير أكثر من مرة (2: 5، 6، 8؛ 3: 9). نجد أيضًا الفعل ''عصى'' في 20: 8، 13، 31. إن التمرد هو موقف إسرائيل القاسي القلب والرأس. لهذا السبب لا يريدون أن يسمعوا لا النبيّ ولا إلههم (3: 7). لهم قلب من حجر، بارد ودون إحساس. لا يمكن أن يحصل تغيير الموقف إلاّ من خلال تحوّل جذريّ يؤدّي بالنتيجة إلى التحرّر.

 

12 - تحررٌ من النجاسات وتَجَدُّد

ليس الطريق الذي يقترحه حزقيال هنا أسهل من ذلك الذي كان يرشد إليه قبل سقوط أورشليم. النبي هو إنسان يسير دومًا ضد التيار. لشعب في حال بلبلة تامة، وفي مواجهة خطر زوال مميت كشعب إسرائيل، يعلن حزقيال برنامج تطهير وتجديد جذريين.

- التطهير

بابتعاده عن إلهه للتوجه نحو شعوب أخرى (معاهدات سياسية) وآلهة غريبة، حاد إسرائيل عن ينبوع الحياة، وعن القداسة، وعن الطهارة. التطهر والعودة إلى الحياة يتوافقان: الموت هو الدنس العام، والحياة هي الطهارة الجذرية. وإذ يعرف النبي جيدًا طقوس الهيكل، فإنه يستعملها ليعبر عن عمل إله إسرائيل: ''وأرش عليكم ماء طاهرًا، فتطهرون من كل نجاساتكم، ومن كل أصنامكم أطهركم'' (36: 25). تستفيد البلاد من ذلك بذات الطريقة التي بها وصمت بدنس الشعب: ''كان الإسرائيليون قد دنسوا الأرض التي يسكنون؛ لقد نجسوها بسلوكهم وأعمالهم'' (36: 17). بعمل الرب يتجدد الشعب والأرض: ''في اليوم الذي أطهّركم فيه من جميع خطاياكم، أعمل على أن تصبح المدن مسكونة، والأخربة معمّرة؛ الأرض المقفرة تُحرث، بعد أن كانت خرابًا على عينيّ كل عابر... وتعلم الأمم بأنني أنا الرب بنيت من جديد ما كان قد تهدّم، وأعدت غرس ما كان قد أقفر. أنا الرب تكلمت وصنعت'' (36: 33-36).

 

- التجمع

ابتعد إسرائيل عن إلهه، وأُبعد إلى ما بين باقي الأمم. بذات الفعل كان ميتًا (36: 12؛ 37: 2). تتطلب العودة إلى الحياة تجميعًا للإسرائيليين من كل البلدان التي نُفُوا إليها (37: 12؛ 36: 24؛ 37: 21؛ 34: 11-13)(7). هذا التجميع موجَّه نحو العودة إلى البلاد: ''أجعلهم يتركون الشعوب حيث هم، أجمعهم من البلدان الغربية وآتي بهم إلى أرضهم. أرعاهم على جبال إسرائيل وفي الأودية وفي جميع مساكن الأرض'' (34: 13).

ليس أشعيا الثاني النبي الوحيد للخروج الجديد، فحزقيال أيضًا قد ارتقب العودة من خلال رجوعه إلى الخروج. بالتأكيد، لا يتكلم عن ذلك غالبًا بطريقة صريحة، لكن مصطلحاته وصوره لا تترك مجالاً للشك. هكذا فإنه يستعمل فعل ''صعد'' في 37: 6، 8، 12-13. في الحالتين الأوليين، هو اللحم الذي ''يصعد'' على العظام اليابسة، لكن لاحقًا المقصود هو الإصعاد من القبور. هذا الفعل هو أحد المفردات المفضّلة في التقليد الكتابي للدلالة على الخروج من مصر، وفاعله في هذه الحال هو الرب. من بين الأفعال التي تعطي تحديدًا للخروج من مصر، هذا الفعل هو الأقدم، إذ إنه يتجذر على الأرجح في الليتورجيا، وبنوع خاص في مملكة الشمال (هو 12: 14). إن الشكوك بعدم الأمانة، التي لحقت بمعابد الشمال تحت تأثير إصلاح تيار تثنية الاشتراع خاصة، تفسر استبداله التدريجي بكلمة أخرى، وهي الفعل ''خرج''. كان هناك شعور بوجود شَبَهٍ بين الوضع في المنفى، وبين حالة إسرائيل في مصر. كان يُنظر إلى العودة إلى البلاد وكأنها بدء من الصفر. إنها حقٌّا مسيرة نحو الحرية.

- العهد

يُعَبَّر عن الروابط الجديدة التي ينبغي أن تقوم بين إسرائيل وإلهه، بنظرة جديدة إلى العهد. لم يلتزم الفريقان بذات الطريقة في العهد القديم. ليست أمانة الرب موضوع بحث، لا بل، على العكس، لأن أخطاء إسرائيل قد أظهرت عمق التزامه. كان الأنبياء قد شجبوا نقض العهد تكرارًا(8). يضع سفر إرميا إثباتًا لهذا الفشل (إر 31: 31). يشعر حزقيال جيدًا بأنه لا يكفي تطهير الشعب وإعادة إقامته على أرض مطهرة. سيعبّر عن ضرورة تحوّل جذري من خلال موضوع تغيير القلب والروح. تُدوّن رسالته، وبأحرف من ذهب، عطية الله لقلب جديد وروح جديد(9): ''وأعطيكم قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا؛ وأنزع من لحمكم قلب الحجر وأعطيكم قلبًا من لحم. أضع روحي فيكم، وأجعلكم تسيرون وفق شرائعي، وتحفظون أحكامي وتعملون بها'' (36: 26-27؛ رج أيضًا 37: 14؛ 39: 29)(10).

خاتمة

نتيجة لتحرّر الشعب من معاصيه وآثامه وخطاياه، ولتجدّده قلبًا وقالبًا، سيكون هناك هيكل جديد وأرض جديدة، كما نتبيّن في حز 40-48، ولكنّ الأهمّ هو أنّ بني إسرائيل المحرّرين ''سيعرفونني بأني أنا الرب''، فيعبدون الله، وتتمّ الوحدةُ بينهم، لأن الروح الذي يحلّ فيهم من جديد يحرّر ويجمع ويوحّد.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM