الحرية وتاريخ الخلاص .

 

 

الحرية وتاريخ الخلاص

الخوري جان عزام

 

مقدمة

الحرية مرادفة للانسان نفسه الذي على صورة الله ومثاله. فليس الانسان إنسانًا ان لم يكن حرًا بل انسانًا منتقصًا، ولكنه ليس انسانًا ان لم يكن على صورة الله ومثاله، أي حرًا من خلال هذه الصورة وذاك المثال.

هذه احدى ركائز مسيرة الانسان عبر الاجيال، تارة نحو الافضل وطورًا نحو الأسوأ. تارة يتمتع الانسان بعظمة صورته ومثاله، فينظر إلى فوق، إلى موطنه النهائي، ويندفع بتوق كبير نحو ساكنه، ويقدم له عبادة الحب واناشيد الشكر والتسبيح على اعماله، ويشعر بأن قلبه يبقى قلقًا إلى ان يمتلئ من حبه، وطورًا ينطوي على ذاته يبحث عن معنى الوجود في غباره وغبار من حوله، فيصنع آلهة هي صورة عن ذاته، ويقدم لها العبادة والحب، وعبثًا، لأن لها عيونًا ولا ترى،  وآذانًا ولا تسمع! فباطلة هي وباطل صانعوها! يدعي التحرر من شريعة فوقية، ويُذكي البحث عن النضوج من دون ذاك الاله المتسلط ويتحرر منه، فإذا به مستعبد للحقارات! ومع ذلك يستمر في مسيرة نضوج التحرر بفضل خالقه ومخلصه الذي يحنو عليه من جديد ليعيده إلى أصالته؛ فلقد خُلق ليحب حرًا ويبذل حرًا ويعبد حرًا ويتلقى البنوة كحر.

حديثنا سيبحث عن بعض الركائز الكبرى للاهوت الحرية في مسيرة التاريخ الخلاصي، متوقفًا، بعد بحث لغوي، عند ثلاث وهي: الحرية والعبودية، الحرية والشريعة، الحرية والعبادة والبنوة.

1 - الحرية ومعانيها من الناحية اللغوية

الكلمة الاولى التي تعبر عن الحرية هي ؟؟؟؟ ''إعتاق''، ونجدها في اطار السنة اليوبيلية في لا 25: 10 حيث يعلن: ''وقدسوا سنة الخمسين، ونادوا بإعتاق في الارض لجميع اهلها، فتكون لكم يوبيلاً، فترجعوا كل واحد إلى ملكه، وتعودوا كل واحد إلى عشيرته''. فيكون المعنى الاول لهذه الكلمة مرتبطًا بالإعتاق الاقتصادي، أي تحرير الديون كما يشرح ذلك جيدًا في لا 25. ولكن هذا المعنى سيتطور في استعمالات الانبياء للفعل ومشتقاته:

أول استعمال وأقدمه نجده خاصة في ار 34: 8 ي، حين يتكلم عن إعتاق العبيد والإماء العبرانيين من قبل الملك صدوقيا؛ ويبدو ان هذا الامر مرتبط بنص تشريعي من سفر الخروج الذي يعلن حتمية اطلاق العبد العبراني بعد ستة اعوام من العمل (خر 21: 2 و7)، مع الفارق ان الكلمة المستعملة هناك هي  ؟؟؟؟ وهي الكلمة الثانية الأكثر تعبيرًا عن معنى الإعتاق والتحرير كما سنرى.

بهذا المعنى يمكن الرجوع أيضًا إلى تث 15: 2 حيث يستعمل كلمة إبراء. ونجد ايضًا في حزقيال استعمالاً لكلمة ب؟؟؟؟ عن الارض التي وهبها انسان إلى عبده، فيجب على هذا الاخير ان يعيدها إلى سيده ووارثيه في سنة الإعتاق، أي سنة اليوبيل، اي بعد خمسين سنة.

في كل حال، فإن الاعتاق من الديون او من العبودية كخدمة ملزمة، الذي نجده في نصوص لاويين وارميا وحزقيال، سيجد تطبيقه الرمزي الواسع على شعب الله كله في اشعيا الثاني حيث يعلن: ''روح الرب علي، لأن الرب مسحني وارسلني... لأنادي بإفراج (؟؟؟؟) عن المسبيين...'' (أش 61:1ي)، في اشارة واضحة إلى ان الله مزمع ان يحرر شعبه من السبي ويعيده إلى حرية ارضه. ومن المهم جدًا ان نلاحظ العلاقة الوطيدة بين ''إعتاق الاسرى'' و''تخلية المأسورين''، الموصوف كخروج إلى النور( ؟  ؟؟   ، مما يعطي اهمية لاهوتية كبرى لهذا النص الذي سيستعمله لوقا في اعلان بدء رسالة المسيح في الناصرة (4: 18)، وفي نشيد زكريا الذي يستعمل نفس الفعل في اليونانية ليعبر عن مغفرة الخطايا (1: 77).

نفس الاستعمال نجده في أدب قمران (11/ملك 6) حيث يعلن ملكيصادق ؟؟؟؟ (إعتاق) الأسرى في سنة الرضى (؟؟؟؟، مع التشديد على البعد الاسكاتولوجي وعلى معنى مغفرة الخطايا.

الكلمة الثانية التي سبق وذكرناها والتي تعبر عـن مفهــوم الحـرية هــي ؟؟؟؟ و           التي، انطلاقًا من نص خر 21: 2 - 6، تعني في الاصل تحرير العبد من سيده واعلانه حرًا طليقًا. وهذا ما نجده ايضًا في تث 15. ولكن مع الوقت صارت هذه الكملة تعني كل رجل حر بالمطلق.

المهم في هذا التعبير انه مرتبط دائمًا بفعل  ؟؟؟ بمعنى خلاص العبد من العبودية، وبفعل ؟؟؟   بمعنى اطلاقه (ارساله) من قبل سيده. وهذا في 14 من 17 استعمالاً نعرفها في الكتاب المقدس.

 

2- العبودية والحرية

بعد هذه الملاحظة الاولى حول الكلمتين المستعملتين للتعبير عن الاعتاق من وجهة نظر اقتصادية او تحرير العبد واطلاقه نعرف جيدا أن تاريخ اسرائيل يرتكز، كما لاهوت وجوده بالذات، على اكبر عملية اعتاق وتحرير حدثت في التاريخ، أعني تحريره من عبودية الفرعون، كما جاء في لاهوت سفر الخروج وفي اللاهوت النبوي التاريخي لاحقًا.

 

أولاً، العبودية

ان الواقع الذي وجد فيه اسرائيل نفسه في مصر لم يكن ''عبودية'' من الناحية الاقتصادية فقط، اعني عمل السخرة، بل ان هذا التسلط الفرعوني عليه وصل إلى حد تهديد وجوده بالذات والتحكم بحياته لجهة الموت او الحياة، كما ورد في سفر الخروج، الفصل الاول، حيث لم يكتف الفرعون بفرض اعمال السخرة على العبرانيين لمذلتهم واخضاعهم، بل ادعى لنفسه حق قتل ابكارهم كما لو انه إله يجب تقديم الابكار له! فالعبودية التي عاشها الشعب العبري هناك لم تكن اذًا على المستوى المادي او الاجتماعي فقط، بل أيضًا على المستوى الوجودي! لقد غدى العبرانيون عبادًا، ولو بغير ارادتهم، لفرعون!

 

ثانياً، فعل التحرير

لقد حاول موسى تحرير شعبه بنوع من الثورة او ما يشبه ذلك عندما دافع عن العبراني المظلوم على يد المصري بقتل هذا الاخير! ولكن هذا التحرير الثوري لم ينفع لأن موسى بدوره اعطى لذاته الحق على حياة انسان ولو ظالمًا، وسرعان ما خافه حتى الذين اراد حمايتهم لأنهم لم يجدوا فرقًا بينه وبين فرعون في تحليل القتل والعنف ولو لقضية محقة! وهذه اشارة مهمة إلى دعوة سفر الخروج إلى نبذ العنف كوسيلة للتحرير خاصة عندما لا ينطلق الامر من ارادة إلهية قصوى!

مع ذلك فالرب يريد تحرير شعبه! وكما نعلم، فبعد هروبه من مصر ولجوئه إلى سيناء، وفي خلال اللقاء العجيب مع الله في العليقة المشتعلة، يعلن الله لموسى: ''رأيت مذلة شعبي الذي بمصر، وسمعت صراخه بسبب مسخريه، وعلمت بآلامه، فنزلت لأنقذه من ايدي المصريين، واصعده من هذه الارض إلى ارض طيبة واسعة... فالآن اذهب! ارسلك إلى فرعون! أخرج شعبي إسرائيل من مصر!'' (خر3: 7-10).

ان الافعال المستعملة هنا مثل ؟؟؟ (3: 8) و؟؟؟ (3: 10)، وافعال اخرى وتعابير مثل ؟؟؟ و؟؟؟ و؟؟؟؟؟ ؟؟؟ هي التي تشكل القاعدة اللغوية اللاهوتية لقصة الخروج وللتعبير عن التحرير الالهي لشعبه من العبودية في مصر. وهذه الافعال كلها لا تتضمن كلمتي ؟؟؟؟ و؟؟؟؟ التي قلنا انهما تعبران عن مفهوم إعتاق العبد من عبوديته واعطائه الحرية المطلقة او تحرير المديون من دينه! وليس الامر بالصدفة! فإن لهذين التعبيرين مدلولاً واحدًا، وهو الانتقال من حالة عبودية او مديونية إلى حالة جديدة فيها حرية تامة تجاه السيد أو الدائن!

اما في سفر الخروج فلاهوت التحرير لا يقوم فقط على التحرر من عبودية فرعون الاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية، بل على عمل الله بكونه الـ ؟؟؟؟ لشعبه، يخلصه من بيت العبودية ليقوده إلى العبادة!

 

ثالثاً: من العبودية إلى العبادة

هكذا هو الامر ! ان الحرية المقصودة في لاهوت الخروج ليست مجرد تملص من رباط ظالم للبقاء من دون رباط! وكما نعرف، فإن الله يقول لموسى عندما يطلب منه علامة: ''اذا اخرجت الشعب من مصر، تعبدون الله على هذا الجبل'' (خر3: 12)، ثم يأمره بان يقول لفرعون: ''كذا يقول الرب: اسرائيل هو ابني البكر. قلت لك: اطلق ابني ليعبدني...'' (4: 22-23). وهذا ما سيقوله موسى وهارون لفرعون في أول لقاء لهما معه، وفي كل اللقاءات اللاحقة التي ستسبق الضربات التسع، ما عدا الثالثة والسادسة (راجع 7: 16، 26؛ 8: 4، 16، 23؛ 9: 10، 13؛ 10: 3، 24).

هكذا يتضح ان لاهوت الحرية في سفر الخروج وفي لاهوت الخروج كحدث هو انتقال من ''عبودية'' إلى ''عبودية'' اذا صح التعبير، مع ان العبودية الاولى تقود إلى الموت المعبر عنه بموت الابكار، بينما الثانية تقود إلى التبني المعبر عنه بإعلان الله اسرائيل بكرًا له! ومن عبودية ظالمة إلى عبادة في وسط العيد! هكذا يقول موسى وهارون لفرعون في اول مقابلة لهما مع فرعون: ''كذا قال الرب اله اسرائيل: اطلق شعبي لكي يعيّد لي في البرية!'' (خر5: 1). نعم، الكلمة العبرية ؟؟  تعني حصرًا ''العيد''، ''الاحتفال'' و ''الملذة'' و''التمتع''؛ وكلمة ''حج'' بالعبرية لها المعنى نفسه في اللغات السامية الأخرى، والمقصود اتجاه نحو المقام الالهي للاحتفال بذكرى او حدث، وفي الغالب بذكرى مرتبطة بتتويج الالهة أو بانتصاراتهم على آلهة الفوضى(1) كما في الديانات الشرقية القديمة وحتى في اليونان. وما يهمنا هو التحديد الذي يعطيه تث 26: 2-10 لمعنى الاحتفال بالاعياد الذي يصير خلال ''الحج''، اذ يربطه مباشرة بالتاريخ الخلاصي، بحيث ان التقدمة والفرح ( ؟؟؟؟ ) بالعيد مع الأبناء واللاوي والنزيل مرتبطة مباشرة باعلان الايمان التاريخي بعمل الله. ولذلك يتضمن هذا الطقس الاحتفالي، بعد تقديم البواكير من الارض التي اعطاها الرب، هذا الاعتراف: ''ابي كان آراميًا تائهًا، فنزل إلى مصر واقام هناك مع رجال قلائل، فصار هناك أمّة عظيمة قوية كثيرة. فأساء إلينا المصريون وأذلونا، وفرضوا علينا عملاً شاقًا. فصرخنا إلى الرب إله آبائنا، فسمع الرب صوتنا ورأى ذلنا وعناءنا وظلمنا، فأخرجنا الرب من مصر بيد قوية وذراع مبسوطة وخوف عظيم وآيات وخوارق. وأوصلنا إلى هذا المكان وأعطانا هذه الارض، ارضًا تدر لبنًا حليبًا وعسلاً. والآن هاءنذا آت ببواكير ثمر الارض التي اعطيتني إياها يا رب'' (تث 26: 5-10ب). ويتبع ذلك طقس السجود الذي يرافقه الفرح مع كل العائلة كما قلنا. هكذا يرتبط العيد، من جهة، بالاعتراف بالتحرير الذي صنعه الرب من يد المستعبد والظالم، ولكنه يرتكز أيضًا، من جهة أخرى، على السجود لهذا المحرر، لا سجودًا استعباديًا، بل تعبيرًا عن الحرية الحقيقية التي تمت. وعلامة هذه الحرية في العبادة لله هي الفرح العميم مع العائلة. نستنتج من كل ذلك كيف ان التحرر من عبودية فرعون في لاهوت سفر الخروج هو تحرر من عبادة إله مزيف لا للبقاء من دون إله او من دون عبادة، بل للدخول في خدمة جديدة هي خدمة الاله الحقيقي وعبادته؛ وهذه هي الحرية.

طبعًا هذه العبادة الجديدة التي هي الحرية تفترض اعترافًا بالارتباط بهذا الإله المسجود له والمعترف به كمحرر. وهذا هو معنى العهد الذي يقيمه الله في سيناء مع شعبه، والوصايا العشر مع مجموعة الفرائض والاحكام التي ترافقه. بمعنى آخر، ليس من حرية من دون طاعة! فالعبادة هي العيد، والعيد هو السجود والاعتراف الذي يقود إلى الفرح، وبالتالي فالوصايا والطاعة هي جزء من هذه العبادة التي تقود إلى العيد والحرية. وهذا يقودنا إلى الكلام عن العلاقة بين الحرية والشريعة.

 

3- الحرية والشريعة

احدى ركائز التاريخ الخلاصي الاخرى هي مسيرة الصحراء او التي تتوج بإعطاء شريعة العهد في سيناء، فكيف التوفيق بين عيش الحرية والطاعة لشريعة العهد؟

 

أولا، الحرية والشريعة

تقوم العلاقة بين الحرية والشريعة على ركيزتين أساسيتين: من جهة، كون المشرع حبيبًا! وكون الشريعة كلمة حياة وليست قانونًا! وكون الوصايا طريقًا إلى الحياة وسبيلاً إلى تحاشي الانجرار وراء انخداع المظاهر والانزلاق في طريق الموت! ومن جهة ثانية، كون المتلقي للشريعة قد اختبر الأمرين: اختبر بفضل حب المشرع له بأنه المحرر والحبيب، واختبر صحة الكلمة التي اعطاها له بأنها للحياة.

هذا هو اختبار شعب الله في مسيرة الصحراء بعد الخروج! في كل مرحلة من مراحل الخروج قال الله كلمة، وحقق كلمته، وكانت فعالة ولصالح شعبه! حتى عندما بدا للشعب ان الخطر المحدق به كبير، وراح يتذمر على الله وعلى موسى، فسرعان ما ظهرت صدقية كلمة الله وقدرتها. في مشهد البحر مثلاً، كان الشعب في البداية يخافون من فرعون وجيشه لما رأوا الموت يحيط بهم؛ وكانوا مستعدين للعودة إلى العبودية على ان يواجهوا هذا الموت الرهيب: ''أمن عدم القبور بمصر أتيت بنا لنموت في البرية؟ ماذا صنعت بنا فأخرجتنا من مصر؟ أليس هذا ما كلمناك به في مصر قائلين: دعنا نخدم المصريين، فإنه خير لنا ان نخدم المصريين من ان نموت في البرية؟ ولكن موسى يجيبهم: ''لا تخافوا! اصمدوا تعاينوا الخلاص الذي يجريه الرب اليوم لكم...'' (خر 14: 11-14). أما بعد تدخل الرب، فقد انقلب: ''رأى إسرائيل المصريين أمواتًا على شاطئ البحر. وشاهد إسرائيل المعجزة العظيمة التي صنعها الرب بالمصريين، فخاف الشعب الرب وآمنوا به وبموسى عبده'' (خر 14: 30-31).

هذا الاختبار سيتكرر لمرات عديدة في مسيرة الصحراء: منذ مياه ''ماره'' (خر 15: 22-27)، والمن (خر 16)، والماء الذي خرج من الصحراء (خر17: 1-7). وفي كل مرة كان خوف الشعب من الألم والموت يدفعهم إلى التذمر والرغبة في العودة إلى العبودية، ثم يظهر الله خلاصه لهم، فيؤمنون ويتوبون اليه ويعودون إلى طاعة كلمته بطيبة خاطر. كل هذه الأحداث هي التي هيأتهم لقبول الشريعة التي أعطاهم الله إياها في سيناء. لقد قال الله كلماته العشر (هذا هو اسمها بالعبرية) لأنها كلمة حياة وليست وصايا مفروضة، وأعطاهم الأحكام والفرائض، فقبلوها بطيبة خاطر واجابوا: ''كل ما تكلم الرب به نعمله'' (خر19: 8) وذلك لأنهم كما قالوا هم أنفسهم لموسى: ''هوذا قد أرانا الرب إلهنا مجده وعظمته، وقد سمعنا صوته من وسط النار... تقدم انت واسمع كل ما يقوله الرب إلهنا، وأنت كلمنا بكل ما يكلمك به الرب الهنا، فنسمع ونعمل'' (تث5: 24، 27). والنص الأكثر وضوحًا بهذا المعنى هو الموجود في تجديد العهد في شكيم (يش 24) حيث ان اختبار صدق الله وأمانته عبر التاريخ في تخليصه للشعب يصبح القاعدة التي يرتكز عليها الشعب ليعبّروا عن إيمانهم به وبكلمته وعن استعدادهم لطاعة شريعته. وعندما يخيرهم يشوع بين عبادة الله وعبادة الأوثان، فإنهم يختارون الله بدون تردد قائلين: ''حاشى لنا ان نترك الرب ونعبد آلهة أخرى، لأن الرب إلهنا هو الذي أصعدنا، نحن وآباءنا من أرض مصر، من دار العبودية، والذي صنع أمام عيوننا تلك الآيات العظيمة، وحفظنا في كل الطريق الذي سلكناه، وبين جميع الشعوب التي عبرنا في وسطها... فنحن أيضًا نعبد الرب  لأنه إلهنا'' (يش 24: 16 - 18)، ولذلك ''الرب إلهنا نعبد ولصوته نسمع'' (يش 24: 24).

هكذا يتضح الرابط الأساسي بين الحرية والشريعة بكون هذه الاخيرة هي طريق نحو الحرية، وهي تعبير عن التصاق بالمحرر وثقة بكلمته. إما إذا انتفت هذه الثقة وصارت الشريعة نوعًا من فريضة فوقانية ملزمة، فالشريعة تصبح وسيلة للعبودية!

 

ثانيًا، الشريعة والعبودية

تقول الرسالة إلى العبرانيين: ''فلما كان الأبناء شركاء في الدم واللحم، شاركهم هو أيضًا فيهما مشاركة تامة ليكسر بموته شوكة ذاك الذي له القدرة على الموت أي إبليس، ويحرر الذين ظلوا طوال حياتهم في العبودية مخافة الموت'' (عب2: 14-15). هذا النص واضح من حيث ان العبودية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالخوف من الموت. والعبودية المقصودة هنا هي عدم طاعة الله، وبالتالي الطاعة لإبليس، الذي يستعمل الخوف من الموت ليبعد الإنسان عن الطاعة لكلمة الله، ويستبقيه عبدًا لكذبه وخداعه! أما قوله ان المسيح قد شاركنا في اللحم والدم، وبالتالي بالموت، فمن الواضح انه يقصد طاعة المسيح التامة للآب وثقته بكلمته حتى الموت. ولذلك رضي أن يذهب إلى الموت طوعًا وهو واثق بالآب أنه لن يتركه يرى الفساد! ولذلك لم يقع في تجربة إبليس، وبيّن لنا جميعًا ان الطاعة للآب تقود إلى الحياة. وبالفعل لم يبق في الموت، بل أُقيم بقدرة الروح القدس. هذه الكلمات تجد لها صدى في قول لبولس الرسول في الرسالة إلى اهل روما عندما يؤكد بأن ''الخطيئة اغتنمت الفرصة من الوصية فأغوتني، وبالوصية قتلتني'' (روم 7:11)، شارحًا ما كان قد قاله توًا: ''والوصية التي هي للحياة، صارت لي هي نفسها للموت'' (روم 7: 9-10). من الواضح في نص بولس انه يلمح إلى نص تك 3 حيث ان وصية الله ''لآدم وحواء''، بدلاً من ان تحميهما من الموت، استغلها إبليس ليضع الشك في قلبيهما في محبة الله لهما وفي صلاح هذه الوصية، ودفعهما بالتالي إلى عدم طاعة الوصية باسم الحرية: ''موتًا لا تموتان، فالله عالم أنكما في يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة تعرفان الخير والشر'' (تك3: 1-5). والنتيجة معروفة: فبدلاً من الحرية، اختبر الاثنان أن الموت قد أحاط بهما: الخوف من الله، الخوف الواحد من الآخر، الوحدة، الصراع لأجل البقاء... (تك3: 6 - 18).

من الواضح إذًا أن الحرية التي ينشدها الإنسان بدون شريعة الله تتحول إلى عبودية، مع أنه يرفض الوصية والشريعة باسم الحرية المنشودة. هذه هي مأساة شعب إسرائيل أيضًا في كل مرة نسي فيها أن حريته هي عبادة الله وليس مجرد التحرر من عبوديات اقتصادية أو اجتماعية. فشريعة الله أي كلمته هي الحياة لأنها يسوع المسيح نفسه وروح المسيح المحرر! أما إذا صارت الشريعة وصية مفروضة، فإنها هي نفسها تقود إلى العبودية، كما يقول بولس في روم 5-8.

 

ثالثًا، الحرية والحقيقة، الحرية والخطيئة!

نستنتج إذًا، أن مفهوم الحرية الأساسي في تاريخ الخلاص مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمعرفة الله وطاعته، وانطلاقًا من القناعة بأن كلمته هي الحقيقة. أما الخطيئة فهي العبودية لأنها ابتعاد عن الحقيقة! هذه هي خبرة شعب الله نفسه في كل التاريخ وفي كل المراحل التي عاشوها منذ الخروج الأول إلى كل اختبارات آلام خطيئة الإشراك )syncrétisme( التي يبينها بشكل جيد جدًا كثير من النصوص وبخاصة قض 2: 11-23 الذي يظهر بشكل واضح اختبار إسرائيل للعبودية كلما ابتعد عن الرب، وتمتعه بالحرية كلما عاد إلى طاعته. وهذا ينسحب على سبي بابل والعودة منه! فليس من حالة وسط بين العبودية والعبادة، بل العبودية هي العبودية، والعبادة هي الحرية! فإن لم تكن في العبادة فأنت في العبودية، هكذا بكل بساطة!

 

4- الحرية والعبادة والبنوة

هذا القسم الأخير أود أن أؤكد فيه ما سبق وقلته عن العلاقة الوثيقة بين الحرية والعبادة، مضيفاً إليها تأكيد العلاقة الوطيدة بين العبادة والبنوة. هذه العلاقة، كما سبق ورأينا، موجودة في العهد القديم منذ نص خروج 3، وستجد لها تعبيرها الأفضل وقمتها في يسوع المسيح مثال الخادم والابن.

 

أولاً، العبادة والبنوة في العهد القديم

كما رأينا في نص خر 4: 22-23، فإن الرب يؤكد الارتباط الوثيق بين بنوة إسرائيل لله وعبادته له: ''أطلق ابني ليعبدني''؛ هذا النص يؤكد إذًا أن المدعو للعبادة ليس عبدًا بل ابنًا بكرًا، وهو الأكثر ارتباطًا بوالده. فما هي عبادة الابن؟ انها كما يقول نص تث 14: 1-2: ''أنتم أبناء للرب إلهكم، فلا تصنعوا شقوقًا في أبدانكم، ولا تحلقوا ما بين عيونكم من أجل ميت، لأنك شعب مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لتكون له شعبًا خاصًا من بين جميع الشعوب التي على وجه الأرض''. فعبادة الأبناء هي القداسة، أي، بحسب معنى الكلمة في العهد القديم خاصة، الالتصاق الوثيق بالله والارتباط به دون غيره، بحرية الأبناء، أي بهذا الاستسلام العفوي لإرادته بفضل الثقة العمياء به! (أنظر أيضًا تث 32: 6-21). والعبادة هي صفة الأبناء أيضًا لأنها تتميز بالفرح والابتهاج، لأن فعل العبادة مرادف للعيد كما سبق وقلنا. وهذا ما يؤكده أيضًا نص إرميا 31: 9-14 حيث إعلان الرب أبوته لإسرائيل وبكرية أفرائيم له يتجسد في أعياد العودة من السبي، وأفعال العبادة الجديدة المتميزة بالتهليل والفرح والرقص... فعبادة الله إذًا ابعد ما تكون عن علاقة خضوع لشريعة أو خنوع أمام إرادة غريبة، بل هي جواب حب على حب، وكلمة بركة واعتراف وشكر مقابل كلمة خلاص وتحرير وإعتاق قالها الله وحققها! العبادة بالنسبة إلى الأبناء هي الحرية لأنها دخول في زمن العيد، أي في الراحة مع الله. وهذا ما لا يستطيع العبد أن يناله لأنه يعمل بشكل دائم. ولذلك فأرض الميعاد نفسها التي هي أرض العبادة، تسمى أيضًا راحة الرب، كما جاء في مز 95: 10-11 حين يقول: ''أربعين سنة سئمت ذلك الجيل وقلت: هم شعب ضلت قلوبهم ولم يعرفوا سبلي حتى أقسمت في غضبي أن لن يدخلوا في راحتي''. والمقصود هنا أرض الميعاد بشكل واضح، كما يؤكد ذلك سفر يشوع بن نون الذي هو كتاب لاهوت أرض الميعاد بامتياز (يش 21: 44؛ 22: 4؛ 23: 1). ولكن الرسالة إلى العبرانيين بدورها تؤكد أن هذه الراحة تتحقق لا في الدخول الجسدي في أرض الميعاد، بل في إمكانية المشاركة في راحة السبت، وهو يوم العبادة بامتياز. يوم العبادة هو نفسه يوم الراحة، ويوم الراحة معطى للأبناء دون العبيد:  هنا نتذكر ما قاله فرعون لموسى عند رفضه السماح للشعب بالذهاب إلى العبادة والعيد: ''لماذا، يا موسى وهارون، تعطلان الشعب عن أعماله؟ إذهبوا إلى سخراتكم!'' (خر5: 4). هكذا إذًا، فالعبادة والراحة متلازمتان، وهما خاصتان من خصائص الأحرار لا العبيد، بل قل الأبناء، كما سبق ورأينا. وغني عن القول إن هذه العبادة الكاملة قد حققها الابن بموته حرًا على الصليب وإدخاله لنا، إذا آمنا، في راحة السبت الأبدية، أي راحة الأبناء، كما تؤكد ذلك الرسالة إلى العبرانيين في المكان عينه الذي ذكرناه سابقًا، وكما يؤكد ذلك بولس بتعابير أخرى تلتقي مع الخلاصة عينها: الحرية هي خاصة بالأبناء، وهؤلاء هم الذين يؤدون العبادة الحقيقية بقوة روح البنوة المعطى لهم (روم 8). ولا عجب فإن أحد ألقاب يسوع في العهد الجديد، وخاصة في أعمال الرسل(2) هو كلمة pais التي تحتمل معنى ''الخادم'' و''العبد'' كما ''الابن''، لأن يسوع حقق في ذاته العبادة التامة للآب، وهو إن فعل ذلك فبحرية الابن وثقته البنوية التامة.

 

خاتمة

مسيرة الحرية في تاريخ الخلاص ليست إذًا فقط خلق فخطيئة فعبودية فمسيرة عودة إلى الحرية، بل هي أكثر من ذلك؛ إنها مسيرة تحرر من الخوف من الموت إلى العبادة الحقيقية في راحة أبناء الله. فالخروج من عبودية مصر هو رمز للتحرر، ولكنه ليس سوى نقطة الانطلاق: التحرر هو في الوصول إلى أرض الراحة، إلى مكان العبادة، إلى استسلام الأبناء وإلى مجد القيامة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM