الحرية في الكتاب المقدس.

الحريةفي الكتاب المقدس

الأي أيوب شهوان

 

مقدمة

يسرّ الرابطة الكتابية في لبنان أن تضيف إلى منشوراتها البيبلية في العربية كتابًا جديدًا، هو مجموعة المحاضرات التي أُلقِيَت خلال الأيام البيبلية الخامسة التي نظمتها الرابطة المذكورة حول موضوع الحريّة في الكتاب المقدس، في قاعة كنيسة مار الياس، أنطلياس (لبنان)، من 20 حتى 23 شباط 2006.

نودّ أن نقدّم لهذا الكتاب بجولة أفق سريعة وعامة حول الحرية في العهدين القديم والجديد، تشكّل مدخلاً إلى الموضوعات التي عالجها المحاضرون.

 

1 - في العهد القديم

حرية شعب الله هي موضوع لاهوتي أساسيّ في إيمان إسرائيل. إن تخليص الله لشعبه ودعمَه له ضدّ الفرعون وجيوشه يشكّلان تأكيدًا على التصميم الإلهي الذي فَهِمَ الشعبُ العبريُّ تاريَخه من خلاله، وأدرك أنه تاريخ مشبع بالأعمال الخلاصيّة وبالفداء. إن تذكير إسرائيل المتواصل بأنّ إلهَه قد حرّره من سلطان مصر قد غذّى إيمانه بالله عبر القرون. في كل مرة وجد شعب الله نفسه في العبودية، تطلع إلى إلهه ليختبر محبته المخلِّصة من جديد.

 

1/1 - مفردات الحرية في العهد القديم

يتكلم العهد القديم على الحريّة، وتقريبًا بشكل حصري، من حيث كونها مسألة اجتماعيّة: الأحرار مقابل العبيد. هكذا نصادف التعابير العبرية التي تعني ''حرّ'' وحريّة (''حُرْ''، ''حُفشا''، ''حوفشي''، ''دِرُر''، والفعل ''حَفَش'')، والتي لا نجدها كثيرًا، في جدالات حول العبودية ووضع اليد على... (خر 21: 2،5، 26- 27؛ لا 19: 20؛ تث 15: 12-18؛ إر 34: 8-17؛ حز 46: 17؛ أي 3: 19). في هذه النصوص تستعمل بشكل أساسي كلمة ''حوفشي'' للدلالة على امرىء تمّ تحريره من العبوديّة. أمّا كلمة ''حُورْ''، بالمقابل، فتُستَعمَل لإنسان نبيل، كما في 1 مل 21: 8، 11؛ أش 34: 12؛ إر 27: 20؛ 39: 6؛ سي 10: 17؛ نح 2: 16؛ 4: 8، 13؛ 5: 7؛ 6: 17؛ 7: 5؛ 13: 17.

لا يوسع العهد القديم لاهوتًا صريحًا ومباشرًا للحرية، لكنه بالمقابل يضجّ بصدى ما عمله الرب لأجل بني إسرائيل من أعمال تحريرية. لقد افتُدي إسرائيل لكي يكون عبداً لله (لا 25: 42؛ رج تث 6: 20-25)، واللفظة المستعملة لوصف هذا الحدث هي كلمة ''فداء''، وليس ''حريّة''. من ناحية ثانية، كان تقليد سَنةِ ''حريّة'' (لا 25: 10) خاضعًا لبعض التوسيع اللاهوتيّ، كما في أش 61: 1.

الحريّة هي، في الواقع، فكرة تمس قلب الاختبار البيبلي انطلاقًا من اختبار الخروج، وصولاً إلى لاهوت القديس بولس حول الحرية من الخطيئة والموت. الحرية هي انعتاق من الضغوط والرقابة والاستعباد.

 

1/2 - في التوراة

في رواية العهد الذي أبرمه الله مع إبراهيم، كان هناك وعد إلهيّ يبشر بالحرية والازدهار بعد غربة وعبودية: ''إعلم أن نسلك سيكون مستعبدًا في أرض ليست أرضهم، حيث سيُستَعبَدون ويُضطَّهدون أربعمائة سنة، لكني سأدين الأمّة التي تستعبده، وفي النهاية سينطلقون مع غنى عظيم'' (تك 15: 13-14).

إن مواضيع الاستعباد والمضايقة والسخرة التي قاساها بنو إسرائيل في مصر، ثم رحيلهم مع الغنى الذي تمّ الاستيلاء عليه بالخدعة، لها كلها صدى في أولى فصول سفر الخروج (رج خر 1: 11-14؛ 2: 23-24؛ 3: 7-9، 22). هكذا يجب أن يُفهم إلهُ الوعد أنه أيضًا إله التحرير. في وقت الشدة الكبيرة، سيأتي الله لينقذ شعبه المختار.

في خر 6: 6 يتكلم الله إلى موسى، ويخبره عن الوعد الذي سبق وأعطاه لأجداده، بافتداء بني إسرائيل. في هذا المقطع، الفعل العبري الذي استعمل لوصف فعل التخليص هو ''جَ أَلْ''، الموجود في نصوص تتكلم على تحرير أحدِ أفرادِ عائلةٍ ما من معضلة أو صعوبة؛ فعل التحرير هذا هو من أولى مهمات الأنبياء ومسؤولياتهم. هناك بعض الأمثلة على ذلك مستلَّة من حياة إسرائيل اليوميّة نجدها في أسفار اللاويين (25: 23-24)، والعدد (35: 12ي)، وتثنية الاشتراع (25: 5-10) وراعوت (4: 1-12). إن استعمال الفعل ''جَ أَلْ'' بالتوافق مع خر 6: 6 يُفسِح المجال لفهم هذا النوع من التحرير الذي وهبه الله لإسرائيل.

نقرأ في لا 25: 8-17، 23-35 حول سنة اليوبيل التي كان يجري الاحتفال بها كل خمسين سنة، أي في نهاية سبع أسابع من السنين، ويتمّ خلالها إعتاق عام لكل إنسان وقع أسير العبودية، وتُرَدُّ الأرض إلى من سبق وخسرها لأنها تخص الله وحده، ويُحَرَّر السجناء، وتُترك الديون لمن عجز عن إيفائها... كل ذلك كان يرمي إلى ردّ الشعب إلى ما كان عليه من كرامة وحق وعدل، وتذكيره بمتطلبات الحفاظ عليها. لقد أعتق الله، ولمرة واحدة، بني إسرائيل من العبودية في مصر، فلم يكن بالتالي يجوز أن تعود العبودية إلى وسطهم، فكان عليهم بالتالي أن يحرّر المستَعْبِدُ المستَعْبَدَ كما حرّرهم الله. لذلك كانت سنة اليوبيل مناسبة لعيش اختبار التحرير والافتداء والخلق من جديد. لا بد لنا من الملاحظة هنا أنّ الكتاب المقدس العبري لا يفيد بأنّ متطلبات سنة اليوبيل كانت تُنَفَّذ بالفعل، بل بقيت على ما يبدو حلمًا ليس إلاّ، ومع هذا، بقي الأمل برؤية تحرير سيتحقق يومًا يغذو نفوس الكثيرين (رج تث 7: 8؛ 9: 26؛ 15: 15؛ 24: 18).

إضافةً إلى ذلك، يُستعمل فعلٌ عبريٌّ آخَر، هو ''فَدَهْ''، لوصف إنقاذ الله لإسرائيل أو افتدائه في اختبار الخروج من مصر. يوجد هذا الفعل في أغلب الأحيان في إطار تاريخي، كما نقرأ في تثنية الاشتراع: ''من أجل أن الرب أحبك ولأجل أمانته لقسمه الذي أقسمه، حملك بيده القوية خارج مكان العبودية وافتداك من يد فرعون ملك مصر'' (تث 7: 8). تواصل الآيات التالية من هذا المقطع تفسير واقع أن افتداء إسرائيل هذا هو في خط العهد الذي وعد به برحمة ثابتة تجاه شعب الله المختار.

 

1/3 - في كتب الأنبياء

في حز 46: 17، يستعمل النبي تعبيرًا جديدًا ليتكلم على الحرية، هو ''دِرُرْ''، الذي يتضمّن على ما يبدو تلميحًا إلى سنة اليوبيل التي ورد ذكرها أعلاه. ما ينبغي الإشارة إليه هنا هو الناحية الاقتصادية أو التجارية التي تلتقي بتلك الروحانيّة، مثلاً، بيع ملكيّة، حق وراثة، وذلك بهدف إبراز رغبة الله في أن يختبر الشعب الحرية والتحرير في الزمن الآتي.

في أش 40-55، استعمل النبي المجهول في المنفى بدايةً الفعلَ ''جَ أَلْ'' ليصف اختبار التحرير من القوات البابلية عَبْرَ خروجٍ جديد وخليقةٍ جديدة: ''أنظر، ها أنا فاعل شيئًا جديدًا؛ ها إنه الآن يُفرخ، ألا تراه؟ في الصحراء أجعل طريقًا، وفي القفر جداول أو أنهارًا'' (أش 43: 19). يستعمل النبيّ صورة صحراء متجددة، مثلاً، ليعلن، أنه، بالفعل الخلاصي الذي يتحقق، يكون هناك واقعٌ جديد بالكليّة، يتخطى الأعمال السابقة للفداء في خلق عالم وفي الخروج من مصر. ويمرّ إسرائيل في الأوقات العصيبة في اختبار جديد للتحرير على يد الله، شريكه في العهد.

في أشعيا 56-66، ينظر نبيُّ ما بعد المنفى إلى شخص ممسوح (أش 61: 1)، وإلى الجماعة (أش 58: 6-7، 9ب-10أ)، ليدخله في عمل التحرير: ''روح الرب عليّ، مسحني، وأرسلني لأبشّر الفقراء، وأجبر منكسري القلوب، وأنادي بالحرية للأسرى والإعتاق للمأسورين'' (أش 61: 1-2). هنا يقوم المسيحُ الربُّ بعمل الله الخلاصي عن طريق حمل الحريّة إلى المقيدين بسلاسل العبودية، تمامًا كما حصل للعبرانيين المسخَّرين في مصر. عندما تصف كلمات النبي صيامًا أصيلاً تقوم به الجماعة، فإنها كبوق يدعو إلى الحريّة: '':أليس الصوم الذي فضّلته هو هذا: حلُّ قيود الشرّ، وفكُّ رُبُطِ النير، وإطلاق المسحوقين أحرارًا، وتحطيم كلِّ نير؟...'' (أش 58: 6-7). يتوضح هنا أن تحرير الله للشعب يتمّ عبر التزام ملموس وواضح يقوم به أولئك الذين يعتبرون أنفسهم من شعب الله.

 

1/4 - في المزامير

يتضمّن كتاب المزامير صلوات عديدة للتحرير: ''طهّرني من الخطيئة بالزوفا حتى أصبح طاهرًا. حرّرني من إثم الدم يا الله إلهي المخلّص'' (مز 51: 9، 16). يصلّي المؤمن لينال عونًا إلهيٌّا يتحرّر به من سلطان الخطيئة: ''خلّصني، أيها الرب، من أيدي الشرير؛ إحفظني من الرجال العنيفين الذين يصمّمون ليُزِلُّوا رجلي'' (مز 140: 5). هناك أيضًا صلاة شائعة في المراثي الفرديّة، ألا وهي الاستغاثة لطلب عون الله ضدّ العدو في مواقف مختلفة: ''أبرز قدرتك وهلمّ لخلاصي. يا رب الجنود، ردّنا؛ إذا أشع وجهك علينا نكون في مأمن'' (مز 80: 3ب-4). تستغيث الجماعة كلها بالله، واثقة أن إله إسرائيل الأمين والعادل هو الوحيد الذي يحرّرها.

 

2 - في العهد الجديد

 

2/1 - مرادفات الحريّة في العهد الجديد

في العهد الجديد، يجري الكلام على الحريّة تحت تسميات متنوّعة ومتكاملة:

- الافتداء: الافتداء هو ''التخليص''؛ الكلمة اليونانيّة apolutrosi"، أي ''افتداء''، لا معنى تجاريًا لها، كما لو أنه كان ينبغي دفع ''تعريفة'' أو ''ثمن''، ولمن؟ هل لله الآب؟ للشيطان؟ لا، فإنّ كلّ شيء هو مجانيّة في عمل الله، وفيض حبّ.

''الافتداء''، بالمعنى البيبلي للكلمة، هو ردّ الحريّة إلى عبد، دون النظر إلى الثمن. هذا ما كان يحصل في الغالب من خلال دَفْع فدية، ولكن أيضًا بفضل السلوك الحسن لدى عبدٍ ما، أو بفضل تحقيق نجاح ما، أو أيضًا عبر إنقاذه بمعركة: ''لم يأت ابن الانسان ليُخدَم بل ليَخدُم، ويُعطي حياته فديةً عن كثيرين'' (مز 10: 45).

يسأل بولسُ فيلمونَ في رسالته إلى هذا الأخير أن يردّ الحريّة إلى العبد المرتدّ أُنَسيمَ، لأنّ فيلمون نفسه كان قد خُلِّصَ بقبوله بشرى الإيمان من بولس، وبالتالي عليه دَينٌ تجاه الرسول؛ وانطلاقًا من هذا الدَين يسأله بولس أن يَرُدَّ الحريّة إلى أُنَسيم الذي كان قد أصبح ''ليس عبدًا، بل أفضل بكثير من عبد، أخًا عزيزًا جدٌّا'' (آ 16)، ''كقلب بالذات'' (آ 12).

 

2/2 - حرية المسيح ينبوع تحرير

''مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد شعبه ونجّاه وخلّصه!'' هذا ما ينشده زكريا عند مولد يوحنا المعمدان (لو 1: 68)؛ وعند التقدمة في الهيكل، ''تتكلّم حنّة عن الصبيّ إلى كلّ الذين كانوا ينتظرون خلاص أورشليم'' (لو 2: 58).

لأن المسيح حرّ إلى ما لا نهاية، أتمّ تحرير أسرى العبودية، وهذه الحريّة هي أساس الإنجيل: فعندما جرّب الشيطانُ يسوعَ قُبَيل إنطلاقه في البشارة، أجاب يسوعُ الموسوسَ قائلاً: ''لا تجرّب الربّ إلهك''؛ ويعلّق لوقا على الحدث فيقول: ''وعندما استنفد الموسوس كلّ تجاربه، ابتعد...'' (لو 4: 13).

ومن علاقة يسوع بالجماهير نستخلص أنّ حريتَه هي بيّنة: ''وجاز في وسطهم ومضى'' (لو 4: 30). مرّات عدّة ''كانت الجماهير تريد أن تمسك به وتحول دون أن يتركها'' (4: 42)، ولكن ''يسوع، إذ كان يعلم أنها كانت ستأتي وتمسك به لتعلنه ملكًا، توارى...'' (يو 6: 15).

بالنسبة إلى الناس، إنّ مصدر الحريّة هي الحريّة مقابل التجربة. تتأسّس هذه الحريّة على مبدَأَيْ الطاعة للآب، وسلطة يسوع الخاصة. أساس كلّ حريّة بشريّة هو الطاعة والتصميم والقرار، فهي ليست استقلاليّة، بل خضوع على أساس البنوّة الحرّة والتامة. المسيح حرّ لأنّه يحب أباه: ''طعامي أن أعمل مشيئة مَن أرسلني'' (يو 4: 34)؛ ''هو لا يتركني وحدي لأني أعمل أبدًا ما يرضيه'' (يو 8: 29)؛ ''العبد لا يقيم إلى الأبد في البيت، أما الابن فإنه يقيم فيه إلى الأبد؛ فإن حرّركم الابن، كنتم حقًا أحرارًا'' (يو 8: 35-36).

لكن الحريّة تفترض أيضًا قوة داخليّة للاستمرار في الأمانة، وهذا ما يسمّيه مرقس ''سلطة'' يسوع. الكلمة اليونانيّة ''إِكْسُوسِيَّا'' (ecousia) تعني ''ما يصدر من طبيعة الشخص العميقة''؛ لقد ''كان يسوع يعلّم كَمَن له سلطان...؛ بسلطان يأمر حتّى الأرواح النجسة'' (مر 1: 22-27)؛ ويقول لوقا: ''كانت قوّة تخرج منه'' (لو 5: 17).

تجلّت حريّة يسوع بجلاء في بستان الزيتون عندما قال: ''لا تكن مشيئتي بل مشيئتك'' (لو 22: 42). إن إخضاعَه إرادته الخاصة لإرادة الآب هو علامة حرية أقوى من الموت: ''لا أحد يأخذ حياتي، بل أنا مَن يعطيها...؛ هذه هي الوصيّة التي تلقّيتها من أبي'' (يو 10: 18)؛ إنها الحريّة التي تكشفها القيامة: ''خرج لعازر من القبر مربوطًا بالأكفان'' (يو 11: 44)، لكن يسوع ترك الأكفان ممدّدة في مكانها (يو 20: 8)، ولا أحد، ولا حتى مريم المجدليّة، بمقدوره بعد الآن أن يُمسك به (يو 20: 17).

إنّه هو الذي ''أُعطِيَ كلّ سلطان في السماء وعلى الأرض'' (مت 28: 18). على هذه الحريّة الكليّة القدرة تتأسّس بشارة الرسل: ''إذهبوا في الأرض كلّها، وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين'' (مت 28: 19).

تتميّز رسالتهم، في قوة الروح القدس، بـ''الجرأة'' التي لا يوقفها أي شيء، هذه ''الجرأة'' التي يتكلّم عليها لوقا وبولس مرات عدّة (أع 9: 27-28؛ 14: 3؛ 19: 8؛ الخ؛ 1 تس 2: 2؛ 2كو 3: 12؛ 7: 4؛ الخ).

 

2/3 - ''حياة جديدة''، و''مصالحة''

في الرسالتين إلى الرومانيين وإلى الغلاطيّين، يدعو بولس التحريرَ ''تبريرًا''، الذي لا يعني فقط أن يصبح المرء بارًا أمام الله عن طريق عدم إلصاق خطاياه به من بعد، الأمر الذي يضحي خدعة، بل تحرير قوى الحياة فيه بإعطاء الروح القدس، ممّا يؤدّي إلى ''الحياة الجديدة''، و''المصالحة''.

 

2/4 - البُعد الكوني

هكذا، بموته، وقيامته، وإعطاء الروح القدس، يتمّم المسيح التحريرَ الكامل لأولئك الذين كانوا عبيدًا للخطيئة، مسحوقين تحت قوةِ موتٍ لم يكونوا قادرين بقواهم الشخصيّة على أن يتحرّروا منها: ''أما اليوم، وإذ صرتم مُحرَّرين من الخطيئة ومُستعبَدين لله، تثمرون للقداسة والبلوغ؛ هذه هي الحياة الأبديّة'' (روم 6: 22)، ''لأنه حيث روح الرب، هناك الحريّة'' (2 كو 3: 17).

ولكون الإنسان، كما الملائكة أيضًا، الكائنَ الوحيدَ المُدرِكَ في الكون، فإنّ عبوديّته تعني عبوديّة كلّ الخليقة؛ هو وحده يمتلك القدرة على أن يُجيب بحريّة على دعوته بأن يُحبّ ويَجُرَّ خَلفَه الكونَ كلَّه نحو التناغم. أمّا إذا بقي عبدًا، فسيَغرق العالمُ كلُّه في البغض وفي خواء الأنانيات.

كلّ الكون ينتظر إذًا تحرير القلوب هذا: ترنو الخليقة المنتظِرة إلى تجلّي أبناء الله...، مع الأمل بأن تكون هي أيضًا محرَّرة من عبوديّة الفساد، لكن تدخل في حريّة مجد أبناء الله'' (روم 8: 19-21).

 

2/5 - ''الحقّ يحرّركم''

في الإنجيل بحسب يوحنا، مفتاح التحرير هو معرفة الحق: ''إذا ثبتّم في كلمتي، كنتم حقٌّا تلاميذي، وتعرفون الحقّ، والحقُّ يحرّركم'' (يو 8: 32؛ رج 8: 36).

إنّ هذه ''المعرفة'' السامية، والتي تحرّر من معرفة ''الخير والشرّ''، هي خروجٌ جديد في إثر يسوع، ''الطريق والحق والحياة'' (يو 14: 6)، وذلك تحت دفع الروح القدس الذي ''يقود في الحقّ كلّه'' (يو 16: 13). فالله مخلّصنا يريد أن يَخْلُصَ كلُّ الناس، ويبلغوا إلى معرفة الحق'' (1 تيم 2: 4). عندما تتناغم الحياة مع الإيمان، يردّ اختبارُ الحقّ إلى الإنسان حريّتَه في أن يُحِبّ. هذه الحريّة الوجوديّة هي حالة فيها يثبت الإنسان، هي ''معرفة'' تحلّ محلّ خطيئة البدايات، وطعمٌ جديد للحياة. الحقّ يقود إلى رفض الكذب الذي أبوه الشيطان، الذي ''كان قاتلاً منذ البدء'' (يو 8: 44). إنها ''إرادة'' الله، لأن الكذب عبوديّة تحول دون تدخّله المحرِّر: ''هل عليّ أن أحرّرهم، عندما يتفوّهون ضدّي بالأكاذيب؟ هم لا يصرخون إليّ من صميم قلبهم... إنهم كقوس غاشٍّ'' (هو 7: 13).

 

2/6 - تصرّفوا كأناس أحرار

بالإضافة إلى بولس، ذهب رسلٌ آخرون بعيدًا في تعليمهم، كما نقرأ في رسالة بطرس الأولى: ''تصرفوا كأحرار، لا كمَن يجعلون الحريّة للسوء سترًا، بل كعبيد لله'' (1 بط 2: 16). وفي رسالته الثانية يكتب ما يلي: ''يَعِدُهُم (أنبياء الكذب) بالحرية، وهم أنفسهم عبيد للفساد، لأنّ المغلوب عبدٌ لغالبه'' (2 بط 2: 19).

من ناحيته يكتب القديس يعقوب في هذا السياق ما يلي: ''أمّا الذي أكبّ على شريعة كاملة، شريعة الحريّة، وداوَم عليها، وصار لا سامعًا ينسى، بل عاملاً يعمل، فهذا يكون سعيدًا في عمله'' (يع 1: 25). ويضيف الرسول قائلاً: ''هكذا تكلّموا، وهكذا اعملوا، كأنكم ستُدانون بشريعة الحريّة، فإنّ الدينونة لا ترحم مَن لا يرحم، أمّا الرحمة فتشمخ على الدينونة'' (يع 2: 12-13).

 

خاتمة

''لقد حرّرنا المسيح لكي نبقى أحرارًا'' (غل 5: 1)

أن يُحَرَّرَ المرءُ إذًا يعني أن يجعل ذاته ''عبدًا للمسيح'' (1 كو 7: 22). لا تعني الحريّة التي يتمّ الحصول عليها أن يفعل الانسان ما يشاء ووفقَ أهوائه، بل أن يقدّم حياته حبٌّا بالله وبإخوته، كما فعل المسيح. فالحريّة هي انشدادٌ نحو المحبّة، ومسؤوليّةُ محبة: وحدها المحبّة تحرّر. يكتب بولس إلى الغلاطيّين في هذا السياق ما يلي: ''قد دُعيتم إلى الحريّة، فلا تكونَنَّ هذه الحريّة حجّة للجسد، بل بالمحبّة ضعوا أنفسكم في خدمة الآخرين...؛ إنقادوا بالروح'' (غل 5: 13-16). نعم، الانقياد للروح هو في أساس التحرّر والحرّية.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM