الفصل العشرون: كيرلس الإسكندراني ورسالة العيد حول رموز الفصح

الفصل العشرون

كيرلس الإسكندراني ورسالة العيد

حول رموز الفصح

منذ نهاية القرن الثاني، اعتاد أساقفة الإسكندريّة أن يبعثوا برسالة إلى الأساقفة المرتبطين بهم، كما إلى أساقفة آخرين حول التاريخ الذي فيه يُعيّد الفصحُ كلّ سنة. وفي هذه المناسبة، يقدّم لنا أسقف الكنيسة الثانية بعد رومة تعليمًا حول الفصح، بدءً ا بشرح رموز العيد إلى التوسّع حول طبيعة الابن المتجسّد، وانتهاء بممارسات كان أوّلها الصوم الأربعينيّ. وما شذّ كيرلّس، أسقف الإسكندريّة، عن هذه القاعدة، فكانت له رسالة كلّ سنة تُدوّن في شهر أيلول، وتُقرأ في عيد الدنح أو الغطاس، وذلك على مدى أسقفيّته من سنة 414 إلى سنة 441. اخترنا من هذه الرسائل رسالة العيد العاشرة لما فيها من شرح لرموز الفصح. ولكن قبل تقديم نصّ هذه الرسالة الغنيّة، نقدّم توسّعًا أوّل حول تحديد عيد الفصح في الكنيسة، وتوسّعًا آخر حول رسائل العيد لكنيسة الإسكندريّة لتصل إلى الكنائس الكبرى، التي كانت تنطلق من رومة، إنطاكية، أورشليم، بانتظار أن تأخذ القسطنطينيّة المركز الثاني بعد رومة سنة 381.

1- توقيت الفصح كلّ سنة

هذا السؤال الذي يُطرح علينا اليوم، طُرح على الكنيسة منذ أيّامها الأولى. ولكن ماذا يعني عيد الفصح؟ تذكُّر ذبح الحمل الفصحيّ و»عبور البحر الأحمر«؟ أو تذكّرُ حاش يسوع وآلامه وموته؟ أو تذكار قيامته؟ فالجواب على هذه الاحتمالات الثلاثة هو موقف تتّخذه الكنيسة. فإن اعتبرت أن الفصح الذي تحتفل به هو فصح الحمل وعبور البحر، أي الفصح اليهوديّ الذي تمّ في المسيح يسوع، عيّدت مع اليهود، أي في الرابع عشر من نيزان، الشهر الأوّل في السنة، الذي يقابل آذار - نيسان في حسابنا اليوم. ولكن هناك خطرين. الأوّل، تركّز الكنيسة احتفالها على موت المسيح، لا على قيامته. والثاني، تربط عيدها بالحساب الذي يقدّمه اليهود. وإن اعتبرت كنيسة من الكنائس أن الاحتفال يكون بقيامة الربّ، فاليوم الثالث يقع بعد يومين من موت يسوع على الصليب، أم يومين بعد موته »الرمزيّ« خلال العشاء السرّيّ؟

يتضمّن كلّ جواب، لا على ترتيب ماديّ وتنظيميّ وحسب، بل على موقف لاهوتيّ. فحين تركت الكنيسة الحساب اليهوديّ، لتحديد عيد الفصح، وقامت بحساباتها الخاصّة، دلّت على قطيعة نهائيّة مع العالم اليهوديّ. وإذا كان الفصح هو قبل كلّ شيء احتفالاً بموت المسيح، أما يغيب عنصر جوهريّ في سرّ الخلاص، هو القيامة التي هي نهاية هدف العبور من هذا العالم إلى الآب (يو 13: 1)؟ وإن عيّدت الكنيسة قيامة المخلّص، يجب أن لا ينفصل، في هذا الاحتفال، الموت والقيامة. كما يجب أن يكون هناك وقتُ تهيئةٍ وصوم قبل هذا العيد الذي هو عيد الخلق الجديد والخلاص النهائيّ: ستّة أيّام تستعدّ فيها الكنيسة، على مثال ستّة أيّام الخلق. هو الأسبوع المقدّس. وأربعون يومًا تتذكّر فيها مسيرة الشعب العبرانيّ في البريّة، وصوم يسوع في البريّة حين جرّبه الشيطان.

هذه الاعتبارات مهمّة كي نفهم لماذا لم تستطع الكنيسة في القرنين الأوّلين للمسيحيّة، أن تتّفق على اختيار يوم تعيّد فيه الفصح. فأبعد من الحسابات الفلكيّة، هناك الأمانة لسرّ الخلاص.

في البداية، سار المسيحيّون الأوّلون مع الكلندار (الروزنامة) اليهوديّ، فعيّدوا في 14 نيزان حسب خر 12: 1-14: الشهر الأوّل، شهر أبيب وحصاد الشعير. في اليوم الرابع عشر، أي بدر نيسان. هو عيد ثابت في الكلندار القمريّ، لا في الكلندار الشمسيّ مع أحد عشر يومًا وربع اليوم من فارق بين الكلندارين. فما العمل للتوفيق بين الشمس والقمر؟ نضيف شهرًا في بعض السنوات، لكي يكون العيد دومًا في بدر نيسان. ولكن كيف يُحدّد الشهر الأوّل وبالتالي عيد الفصح؟ يعيّدون في البدر الذي يلي اعتدال الربيع. هذا ما كان يفعله اليهود حتّى ثورتهم الثانية (132-135) بقيادة ابن الكوكب. وتبعهم المسيحيّون فعيّدوا في الرابع عشر من الشهر، في أي يوم وقع، فكان ما يُسمّى الاحتفال الأربعشريّ والبعض الآخر عيّد الأحد الذي يلي بدر نيسان. وبدأت الخلافات في الكنيسة منذ زمن اغناطيوس الإنطاكيّ، وأبوليناريوس، اسقف هيرابوليس، إلى مليتون السرديسيّ.

وتحوّل اليهود، فما عادوا يعيّدون بعد اعتدال الربيع، بل قبله. وما عادوا يحتفلون بالفصح في أورشليم. فوجب على الكنيسة أن تتخلّى عن أورشليم كمركز لتحديد وقت العيد، وتأخذ خيارًا تتخلّى فيه عن الحساب اليهوديّ أو تبقى عليه. في الواقع، خسر الفصح المرتبط بالعالم اليهوديّ من قيمته شيئًا فشيئًا. فصار المسيحيّون يعيّدون يوم الأحد، واستندوا إلى حسابات آتية من العالم اليونانيّ، ولا سيّما من كنيسة الإسكندريّة. في هذا الإطار، تقع رسائل العيد(1) التي اعتاد أساقفة الإسكندريّة أن يرسلوها إلى أبناء كنيستهم وإلى الكنائس الكبرى.

2- رسائل العيد

لمّا كان الاحتفال بعيد الفصح، مرّة في السنة، أخذ يتعمّم، ولمّا كان تاريخ الاحتفال بالعيد يختلف بين كنيسة وأخرى(2)، صار إعلان يوم العيد ضرورة للكنيسة. فتكاثرت الحسابات. ولكن سيطر حساب الإسكندريّة شيئًا فشيئًا بسبب شهرة علماء الفلك فيها.

وأوّل ما وصلنا من هذه الكنيسة مقال قصير يتضمّن أوّل حساب فصحيّ. وجّهه ديمتريوس (188-230) إلى أورشليم وإنطاكية ورومة: لا بدّ من الحساب لتحديد زمن الفصح. يجب أن يكون توافق بين الكنائس الكبرى. أمّا نقطة الانطلاق فكنيسة الإسكندريّة الخبيرة بهذه الحسابات. وحدّثنا أوسابيوس القيصريّ(3) عن ديونيسيوس، أسقف الإسكندريّة، عن »رسائل عيديّات«(4) فيها كلام امتداح لعيد الفصح. وأهمّ ما فيها الاحتفال بعيد الفصح بعد اعتدال الربيع، ودورة تمتدّ على ثمانيّ سنوات.

وأخبرنا أثناسيوس أن بطرس الأوّل الإسكندرانيّ (300-311) أرسل مقالاً إلى شخص يُدعى تريقانتيوس، حول الفصح. بقيت منه أجزاء(5) ينتقد فيها هذا الأسقف ضلال اليهود الذين يعيّدون الفصح قبل اعتدال الربيع، بعد أن عيّدوه بعد هذا الاعتدال. كما تحدّث بطرس الأوّل عن توافق الإنجيليّين وإقامة يسوع في القبر. وحدّد أخيرًا يوم العيد: 10 نيسان سنة 309. وأرسل الإسكندر (311-351) إلى سلفسترُس، أسقف رومة، رسالة العيد(6): »كلمة الله الحقيقيّ، الحياة، صورة الله الذي لا يُرى...« (رج كو 1: 15؛ فل 2: 5-7). حسب إبيفانيوس(7)، أسقف سلامينة، في قبرص، كان خلاف حول العيد قبل مجمع نيقية(8).

مع أثناسيوس (328-373) المدافع العنيد عن إيمان نيقية، تصبح الوثائق حول الفصح عديدة. فقد أُرسلت رسائلُ العيد خلال خمس وأربعين سنة دامت فيها أسقفيّته. غير أنّ النصّ اليونانيّ لم يصل إلينا، بل ترجمات في القبطيّة(9) والسريانيّة(10) والأرمنيّة.

تتيح لنا هذا ''الرسائل العيديّة'' أن نتتبّع أثناسيوس في رحلاته التي سبّبها أكثر من منفى. ولكنّنا نتوقّف بشكل خاصّ عند العناصر التالية:

(1) في البداية، تعلن الرسالة تاريخ الفصح وأسبوع الصوم الذي يسبق العيد.

(2) في الرسالة الثانية (330) ربط أثناسيوس بالاحتفال بالفصح صومًا يدوم أربعين يومًا، بعد أن كان يبدأ مع الدنح حسب العادة المصريّة. فالجديد الذي يرتبط بأثناسيوس هو العلاقة بين أربعين أيّام الصوم وأسبوع الفصح. في الماضي، كانوا يعلنون تاريخ الفصح والأسبوع الذي يهيّئه. بعد سنة 300، أخذوا يعلنون بداية الصوم، الأسبوع المقدّس، أحد الفصح. وهكذا أدخل أسقف الإسكندريّة، بشكل رسميّ، الصوم المقدّس في الدورة الفصحيّة.

(3) ونلاحظ أنّ تاريخ الفصح يُعطى حسب الكلندار اللاتينيّ(11)، ثمّ الكلندار القبطيّ. هذا يعني أنّ هذه الرسائل توجّهت إلى جميع الكنائس(12).

(4) ونقرأ في الفهرس السريانيّ أنّ هذه الرسائل كانت توجّه إلى كلّ مدينة، وكلّ أبرشيّة خاضعة لأسقف الإسكندريّة، منذ البنتابوليس(13) إلى ليبيا الدنيا وحتّى بلاد عمّون والواحات ومصر الصغيرة والكبيرة...''(14)

ماذا تضمّنت هذه الرسائل؟ دعوة للاحتفال بفرح بالعيد، وتهيئته، حضّ على الصوم والإماتة، شروح تعليميّة عن المسيح وعن الفصح، وأخبار عن الأسقف. ونلاحظ أن الرسالة التاسعة والثلاثين تتضمّن ردًا على جماعة مليتيوس، أسقف ليكوبوليس، ولائحة بالكتب المقدّسة التي تعترف بها الكنيسة.

واحتفظ لنا إيرونيمُس، في اللاتينيّة، بثلاث رسائل عيديّة(15) لتيوفيلُس، أسقف الإسكندريّة، سنة 401، 402، 404. كما وصلت إلينا أجزاء في اليونانيّة والسريانيّة (سويريوس الإنطاكيّ) والأرمنيّة، تتحدّث عن الرسائل الأولى (386) والخامسة (390) والسادسة (391) والعاشرة (395).

وبعد أن توفّي تيوفيلُس، صار كيرلّسُ أسقفَ الإسكندريّة في السابع عشر من تشرين الأوّل سنة 412، فتابع كتابة هذه الرسائل. كان هذا الفنّ الأدبيّ المعروف برسائل العيد أو الرسائل العيديّة، أمرًا عاديٌّا. هنا نقرأ ما دوّنه كاسيانُس: »في مقاطعة مصر يحافظون على تقليد قديم يريد أن يرسل أسقف الإسكندريّة رسائل إلى جميع كنائس مصر، يحدّد فيها بداية الصوم ويوم الفصح، في جميع المدن، كما في كلّ الأديرة«(16). وهكذا تصل الرسائل في عيد الدنح، هذا يعني أنّها تُكتب قبل ذلك الوقت بسبب بُعد المسافات. وقد نُقلت إلى العالم اللاتينيّ(17) كما إلى العالم السريانيّ. أمّا الرسمة في كلّ رسالة فتبدو كما يلي: إعلان العيد (الفرح، الاستعداد). شرح تعليميّ لعنصر من عناصر العيد (شرح النصوص الكتابيّة، تحذير من الهرطقات). كلام عن الاستعداد للعيد بالتوبة والنسك والصدقة والعون المتبادل. وفي النهاية، تحديد بداية الصوم، أسبوع الآلام، أحد الفصح، الزمن الفصحيّ حتّى العنصرة.

في السنوات الأولى من القرن الخامس، كان أسقف الإسكندريّة أمينًا لهذه المهمّة التي جعلَها على عاتقه مجمعُ نيقية. لا شكّ في أن رسائل العيد لا تصل إلى جميع الكنائس لأكثر من سبب(18). ومع ذلك، فقد لعبت دورًا هامًا في حياة الكنيسة، إذ دعت المسيحيّين كي يعيّدوا بقلب واحد، ويحذروا الضلالات حول العقيدة وتفسير الكتب المقدّسة...

3- كيرلّس ورسائل العيد

احتفظ التقليد المخطوطيّ بتسع وعشرين رسالة عيديّة لكيرلّس. تبدأ كلّ رسالة بمقدّمة يُعلن فيها كيرلّس أنّه لا يتوخّى إرضاء الناس، ولا يطلب التصفيق ولا مديح السامعين، بل فائدة المجتمعين في الكنائس. فهو لا يهتمّ باللغة الحلوة ولا بالبلاغة. وما توخّاه أن يحافظ على تقليد قديم يَفرض على أسقف الإسكندريّة أن يكتب هذه الرسائل كلّ سنة.

بعد أن يدعو الأسقف المسيحيّين للاحتفال بعيد الفصح في الفرح والسلام والنور، ولإعداده بالصوم والإماتات وممارسة الفضائل، يتوقّف عند نقطة خاصّة. مثلاً، شدّد في الرسالة الأولى على الصوم. وفي الثانية توقّف عند رموز الذبيحة (خر 29؛ لا 2-6). في الرابعة أشار إلى عدم إيمان اليهود وخطأهم. في الخامسة قابل بين ذبيحة إسحاق وذبيحة يسوع. وفي السادسة، أشار إلى ضلال اليونانيّين والعبادات الوثنيّة، وإلى عمى اليهود في ممارستهم للختان والسبت. ويرد بعد هذه »المقالات الصغيرة« كرازةٌ موجزة حول بشارة الخلاص: تجسّد كلمة الله، مات وقام وعاد إلى أبيه، أرسل إلينا روحه. وفي النهاية، يحضّ كيرلّس الجماعة على الاستعداد للاحتفال بالعيد ويعلن بداية الصوم...

ويمكننا أن نتوقّف عند الرسائل التالية: فصح 30 آذار سنة 419، 18 نيسان سنة 420، 3 نيسان 421، 26 آذار 422، 15 نيسان 423. توجّهت بدرجة أولى إلى كلّ كنائس مصر. فتحدّثت الرسالة السابعة مثلاً عن البرَد الذي ضرب المحصولات الزراعيّة، والثامنة عن المجاعة والسرقات المتعدّدة وظاهرة اللصوصيّة وقطع الطرق. نفهم في الرسالة التاسعة أنّ الهدوء عاد إلى البلاد، فتوقّف كيرلّس عند العبادات الوثنيّة، وكلّم المثقّفين في الإسكندريّة بلهجة هادئة علّهم يفهمون ضلالهم ويؤمنون بالإله الحقّ(19).

أمّا الرسالة العاشرة(20) التي سوف نقدّم ترجمتها، فتفسّر سفر الخروج وتعالج رموز الفصح. أرسلت بمناسبة العيد، 26 آذار 422، فجاءت في مقدّمة وخاتمة وثلاثة أقسام. أعلنت المقدّمةُ العيد وتحدّثت عن الدينونة والخلاص. والقسمُ الأوّل عالج المسيرة من مصر إلى البريّة، للتخلّص من العبوديّة. ودعا القسم الثاني المؤمنين إلى القداسة. هكذا يقودنا يسوع إلى الخلود (القسم الثالث). وجاءت الخاتمة تشدّد على خطيئة اليهود لهلاكهم وتعلن زمن العيد: الثلاثون من شهر فمنوت أي 26 آذار سنة 422.

4- نصّ رسالة العيد العاشرة

أ- المقدّمة(21)

إعلان العيد

يجب علينا أيضًا، على ما نظنّ، أن نخضع لصوت القدّيسين، فنسعى لاتّباع عادة لديهم، فنمدّ يد المحبّة إلى إخوة وأبناء، فنلقي هذه التحيّة السامية: »النعمة لكم والسلام من الله الآب والرب يسوع المسيح« (روم 1: 7). فهو الذي دلّنا أيضًا على زمن العيد المقدّس الذي رغبنا فيه ورغبنا وتمنّيناه. أعلنته جوقةُ الأنبياء العظيمة والمشهورة، التي أنارها الروح القدس، وعلّمها مسبقًا ما سوف تناله بالمسيح. فداود الإلهيّ، قدّم لنا على قيثارته الروحيّة لحنًا إلهيٌّا، فبدا النشيد تقريبًا كما يلي: ''لتفرح السماوات وتهلّل الأرض. لتبتهج الحقول وكلّ ما فيها أمام الربّ، لأنّه يأتي، يأتي ليدين الأرض، ليدين العالم بالبرّ والشعوب في الحقّ'' (مز 96: 11-13)(22).

غير أنّ ذلك الذي أعلن مجيئه منذ زمن بعيد، سيُعلمنا بقراره، في وضعنا وبشكل مباشر، وبدون حرج ممكن. هو لا يكشف لنا الفرح في الرجاء، بل في الواقع. أقام (بيننا) في الأوقات الأخيرة من هذا الزمان، حسب الكتابات الإلهيّة المقدّسة: »دان الأرض بعدل« (مز 96: 13) حسب قول المرتّل(23). وكيف دان؟ حين حكم على الذين كانوا في الضلال، أو سلّم للعقاب أولئك الذين لم يحسبوا حسابًا لشرائع الله منذ زمن بعيد. ولكن كيف يمكن أن يكون صحيحًا إعلانٌ يُقال فيه: »ما أرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم« (يو 3: 17)؟ في الحقيقة، أتخيّل أن كلّ فطن يوافق على أنّ القرار القاسي على المذنبين والحكم بالعقاب لهم، ليس من وضع ذاك الذي يخلّص، بل ذاك الذي يريد الإساءة، فلا يغفر بل يطلب حسابًا عن الآثام السابقة. فكيف لم يأتِ ليدين العالم، بل ليخلّصه، إذا كان القرار الذي اتّخذه تجاهه قاسيًا(24)؟ لا نجد، في رأيي، إنسانًا بهذا الجنون يظنّ أنّ بإمكان الحقّ أن يكذب ولو في نقطة واحدة. في هذه الظروف، كيف دان الأرض؟ هذا ما قاله المرتّل في كلامه.

تسلّط إبليس

وقام متسلّط مرعب علينا: إبليس الذي قاده جشعه لأن يسود، وهو الذي طُرح كالبرق (أش 14: 12-13) من بين جمهور الملائكة القدّيسين، فحُرم كلّ الحرمان من مجد كان فيه، ومن كرامة تفوّق بها. تجرّأ فقال: »أكون شبيهًا بالعليّ« (أش 14: 14). وبما أنّه لم يكن بإمكانه أن يعارض قرارات العليّ، ولا في وسعه أن يغيظ قداسة محرّك العقاب، أخذ يحاربنا. فسعى في الحال إلى إبعاد الإنسان من الصراط المستقيم. وبعد أن مال به إلى مشيئته الخاصّة وأبعده عن معرفة الله الحقّة، حوّل ذاك الذي صُنع على صورة الله، عابدًا له وخادمًا. غذّى نفسه بحسد قتّال ضدّنا، وحاول أن يتوّج رأسه بمجد شبيه بمجد الله. هي رغبة قديمة تسوده. والشرّ الذي استحقّ له العقاب تفاقم فتوخّى بوقاحة أن يمدّ سلطانه على الكون(25). وبعد أن كاد يجعل الأرض كلّها تحت سلطانه، فقال إنّ الله أهمل خلائقه الخاصّة وما عاد يهتمّ بحياتنا، رفع الهمجيّ (= إبليس) حاجبًا متكبّرًا، فاستخفّ بالضعف البشريّ وقال: »آخذ الأرض كلّها بيدي كعشّ وكبَيض متروك وأحمله، فلا يُفلت منّي أحد ولا يعارضني« (أش 10: 14). وإذ كان يقول هذا الكلام، سمع جواب الربّ، سيّد الكون: »كما أنّ ثوبًا تغمّس بالدمّ لا يُنقّى، فأنت أيضًا لا تُنقّى لأنّك دَمّرت الأرض وأهلكت شعبي. ولكنّك لن تدوم طويلاً« (أش 14: 20-21).

دينونة الله

وإذ هدّده الله بأن يضع حدٌّا لتسلّطه، تجسّد من أجلنا ساعة جاء الزمن الذي فيه يطلب عقابًا قاسيًا للماكر وللقاتل، »فدان الأرض بعدل« (مز 96: 13). وجده جائرًا وجشعًا، فقيّده في ظلمة الجحيم، كما يقول الكتاب، وسلّم إلى دينونة (2بط 2: 4) اليوم العظيم تفحّصَه من أجل العقاب. أمّا نحن البشر المقيمين على الأرض، فحرّرَنا من قيود الخطيئة (روم 6: 18-22)، وبرّرنا بالإيمان (غل 2: 16؛ 3: 24)، وأعادنا إلى قداستنا الأصليّة. وجب أن يُعلَن هو مذنبًا بسبب ما أذنب إلينا، فطلبنا ذلك منذ زمن بعيد وبصريح العبارة: هذا ما تفهمه إن تنبّهت إلى أقوال المرتّل حين يجعل أمامنا شخصًا يكاد يمثّل وحده البشريّة، فيرتمي أمام الله ويقول له: »أفق واستيقظ لدى دينونتي وقضيّتي، يا إلهي وربيّ« (مز 35: 23).

من الواضح للجميع أن المخلّص حكم أيضًا على تسلّط إبليس (عب 2: 14)، فحرّرنا (غل 5: 11) وافتدانا (تي 2: 14). فقال في الكتابات الإنجيليّة: »الآن دينونة هذا العالم. الآن يُطرح أركونُ هذا العالم خارجًا، وأنا إذا ما ارتفعت من الأرض، اجتذبت إليّ جميع (البشر)« (يو 12: 31-32). ذاك الذي قال إنّه ما جاء إلينا ليدين العالم، ولا لهذا أرسله الله الآب، أكّد فقال: الآن دينونة العالم«.

وبعد كلام عن الفداء بالمسيح، »الوسيط بين الله والبشر«، وعن الإيمان الصادق والصوم الحقيقيّ، يعود كيرلّس إلى الصراع ضدّ الشيطان.

»فثمرُ المجهود الشجاع يكون كلّه مجيدًا. فلا يتخيّل أحد أنّه يصنع الخير بلا جهاد، ويظفر بالخطيئة بلا تعب. فإبليس خصم رهيب. فهو قادر بالعوائق التي يهيّئها كذبُه، أن يعطّل فكر الذين يريدون أن يعيشوا حياة مستقيمة لا لوم فيها، وأن يجمّد قوىً تتوق إلى عيش الفضيلة.

سفر الخروج

نأخذ برهاننا الواضح والذي لا جدال فيه، ممّا حدث وكُتب في سفر الخروج، كتاب موسى. فالله جعل من الأمور المنظورة رموزًا وصورًا مضيئة عن أمور غير منظورة. وإذا تصوّرنا أنّ كلّ ما حصل للأقدمين توخّى أن يبيّن لنا ما خفيَ، فلم نفهمه، لا نخطئ(26). في أيّ حال، يتوافق بولس الإلهيّ معنا في هذا الموضوع. فقد هتف حين تكلّم عن أحداث قديمة: »هذا حصل لهم في صورة (نمط)، وكُتب لتعليمنا« (1 كور 10: 11). بعد هذا، يمكننا أن ننطلق من خبر قديم، فنرى رسمة دقيقة، كما على لويحة، لتسلُّط اقتناه علينا إبليس المستعدّ لكلّ الوقاحات: امتلأ عنفًا فسار للقاء الذين مالوا إلى سلوك أناس أحرار في إرادتهم. لا يتركهم يخرجون من حدود الخطيئة، بل يُكرههم على الإقامة فيها، ويأمرهم بأن لا يبالوا مبالاة بالتقوى تجاه الله، حتّى لو اختاروا في داخلهم الخيار الحسن.

فمن يستطيع أن يختار الطريق القويم؟ وما هو شرح هذا الخبر؟ حان الوقت لأن نقوله، على ما يبدو«.

القسم الأوّل: الانطلاق من مصر(27)

من مصر إلى البريّة

في يوم من الأيّام، جُرّد إسرائيل من كرامة حرّيّته القديمة ومن مجدها. فالتسلّط المصريّ القاسيّ فرض عليه نيرَ العبوديّة الغليظ. وإذ كان لا يتوقّف عن الأعمال، أكره اليهود إكراهًا على العمل في الطين وصنع الحجارة (خر 1: 14). ولكنّ الله رحمهم، ورأى ضعفهم وتعبهم بفعل أسيادهم الذين لا يشفقون، وشرع في إعادتهم إلى حرّيتهم الأولى التي كانت لهم في الماضي. فأمر موسى الحكيم جدٌّا بأن يمضي شخصيٌّا إلى متسلّط المصريّين ويقول له: »هذا ما يقول الربّ، إله العبرانيّين: ''أطلق شعبي ليخدمني (أو ليعبدني) في البريّة« (خر 5: 1). لماذا لم يأمر بالحريّ بأن يعبدوه في مصر؟ لماذا يدعوهم إلى أماكن مقفرة؟ أما يجب أن نلاحظ أنّ الذين يعبدون الله القدير، ينبغي عليهم أوّلاً أن يرذلوا نير العبوديّة الغريب، قبل الطاعة المكرهة لوسوسات الشيطان، وأن يتوقّفوا عن العمل في الطين والحجارة، أي أن يمتنعوا ويتخلّوا منذ الآن عن نجاسة الأعمال الأرضيّة، فيخرجوا خروجًا تامٌّا من أرض المغتصب(28)، فيدخلوا بعقل فرغ من كلّ شيء فتحرّر وارتاح، وهكذا يمضون إلى الله أنقياء بلا عيب، فيقدّمون له العبادة.

تسلّط فرعون

تلك كانت التوجيهات التي أعطاها موسى العظيم، موسى الإلهيّ، حين دعا إسرائيل إلى البريّة النقيّة جدٌّا. ولكن واجهه فرعون بوقاحة، فحمل السلاح، وتحدّى مجد الله قائلاً: »لا أعرف الربّ، ولا أطلق إسرائيل« (خر 5: 2). ولكن قهرته الضرباتُ الآتية من العلاء، فوافق في النهاية مكرَهًا، لأنّ أرضه كلّها كانت في خطر. ثمّ تخيّل طرقًا مختلفة كي يعيقهم، ودون أن يتخلّى كلّيٌّا عن نير العبوديّة. حاول أن يقيم حواجز أخرى، فقال لهم: »أمضوا واذبحوا للربّ إلهكم على أرضي« (خر 8: 22). ترون أنّ إبليس يقف في الوجه ويقاوم، حتّى وإن انتزعتنا شريعةُ الله من الخطيئة. ومع ذلك، كما حارب مخلّصنا يسوع المسيح من أجل حياة الجميع، لجم إبليس جشعه إلى السلطة مكرهًا، وما عاد يستطيع أن يسود الذين يريدهم ويتسلّط عليهم. إذن، هو لا يتركنا كلّيٌّا خارج أرضه، بل يدعونا لكي نقسم نفوسنا لاثنين: رغبته ورغبة سيّد الكون.

ولكن يستحيل أن يكون شكل عبادتنا بلا لوم، بعد أن هربنا كلّ الهرب من أرض إبليس، إن اكتشفنا أنّنا لم نتحرّر تحرّرًا تامٌّا من عبوديّتنا في خدمته. تلك هي الحقيقة، وأنا أؤكّدها لكم انطلاقًا من كلمات موسى الحكيم جدٌّا. ماذا أجاب فرعون الذي قال: »امضوا واذبحوا للربّ إلهكم على أرضي؟« (خر 8: 22) هتف: »لا يمكن أن يكون هكذا. فلا يستطيع الإنسان أن يعبد سيّدين« (مت 6: 24)... ولا تليق رؤيةُ أناس يصنعون في الوقت عينه الشرّ وأعمالاً قريبة من الفضيلة، فيوفّقون غيرة تتقاسمهما أشياء تبعد بعضها عن بعض. فإن جاء وقتٌ ضعُف فيه الروح، لأنّه مريض ممّا يرضي إبليس، ففي وقت آخر يستعيد قواه كي يرضي الله، فيجلب على نفسه توبيخًا استحقّه حقٌّا.

فإن قرّر أن يكرّم الله، وهو الموقف الوحيد الذي يجب أن يختاره، فكيف لا يندّد تنديدًا بالطابع المشين للتصرّف الآخر؟ وكيف يُفلت بعد ذلك من الاتّهام، إذا أقنِع بأنّه عاملٌ شقيّ من أجل من شُجب؟ إذن، نقتني عقليّة السخاء والشجاعة لكي نستطيع الانطلاق إلى الله، كما يجب، ونحن نفعل الخير حتّى النهاية والتمام. فهذا ممكن، بل سهل، شرط أن نتوافق مع الأنماط السابقة.

الحمل

ونرى بني إسرائيل الذين استعدّوا للتخلّص من هذه العبوديّة المشينة والانتصار على سلطان الذين سادوا عليهم منذ زمان طويل. فما كان باستطاعتهم أن يعملوا شيئًا من هذا لو لم يَذبحوا، في مصر، الحملَ الذي هو صورة المسيح، ولو لم يمسحوا نفوسهم بدمه، ولو لم يأكلوه مع الخبز الفطير. إذن، بتكريس حقيقيّ يحمل البركة، نستعيد نفوسنا ونرفض أن نكون بعدُ عبيدَ خطايانا. فإذا أردنا أن نتفلّت من هجمات الشهوات الأرضيّة التي لا تحتمل، فلا وسيلة سوى الامتزاج بالمسيح (عب 3: 14) الذي يقدر أن يجمّد قوّة (فرعون) أي قوّة إبليس.

التجسّد ونتائجه

لهذا السبب خصوصًا، ومع أن الوحيد هو إله بالطبيعة وخرج حقٌّا من الله الآب، قد تواضع بإرادته حتّى الامّحاء، »فأخذ صورة العبد، حسب الكتاب، وعُرف بشكله كإنسان« (فل 2: 3)، لكي يحمل طبيعتنا الوضيعة إلى ارتفاع عظيم فيُنعم عليها بمتانته الخاصّة. هو الذي له طبيعة لامتبدّلة، فما عرف الاندفاع إلى الخطيئة. امتزج، بشكل يفوق الوصف، بطبيعة تندفع بسهولة نحو كلّ أنواع الخطايا، أعني الطبيعة البشريّة«.

ويتابع كيرلّس كلامه عن يسوع الذي غلب الخطيئة في جسدنا الضعيف، ويدلّ على عمل الروح الذي به صرنا أولاد الله.

تكريس الأبكار

إنّ القول الذي تفوّه به في الماضي موسى الحكيم جدٌّا، يمكن أن يكون أيضًا برهانًا ساطعًا. ما الذي قيل له؟ »قدّس لي كلّ بكر، كلّ كائن يكون أوّل من يفتح الحشا الأموميّ« (خر 13: 2). استعمل كلمة »قدّس« بدل »سجّل وقدّم« لأنّه مقدّس وواجب. ولا نستطيع القول، كما أتخيّل، أنّ موسى يمكنه أن يكون موزّع روح الله القدّوس، وأنّ ذاك الذي جُعل في رتبة الخادم والعبد يفتخر بما عند سيّده من منافع، بحيث يستطيع أن يصنع ما هو خاصّ بالله وحده. فمن الذي عناه موسى في الرمز؟ وما الذي قاله لبني إسرائيل؟ قال: »حين يُدخلك الربّ إلهك إلى أرض الكنعانيّين، كما أقسم لآبائك، وهو يعطيك إيّاها، تُخصّص كلّ كائن يفتح الحشا الأموميّ. تخصّص الذكور للربّ« (خر 13: 11-12). أمر أن يكرَّس له كلّ بكر يفتح الحشا الأموميّ. فمقدّسون هم جميعُ الذين يُظهرون في نفوسهم الصورةَ الساطعة للبكر القدّوس، أعني المسيح. أُخذت الشريعة أوّلاً كرمز الشبه الماديّ بين طبيعة كاملة وما يتصوّره موافقًا له، فدلّت على إرادة الله الآب الأزليّة. لهذا يبدو لي أنّ بولس فهم هذا السرّ العظيم، بفضل أعضاء الشريعة فأعلن: »فالذي قرّر وحدّد مسبقًا بأن يجعلهم على صورة ابنه، دعاهم أيضًا، والذين دعاهم قدّسهم أيضًا. والذين قدّسهم مجّدهم أيضًا« (روم 8: 29). ولكن لنتعمّق أيضًا بقدر الإمكان تعمّقًا في معنى هذه الرؤية، ولتكن ملاحظتنا أكثر دقّة. فأيّ شكل يحقّ لنا أن ننسبه إلى المسيح دون أن نحيد عن المرمى الذي يليق به؟

القسم الثاني: الطبيعة الإلهيّة والتقديس(29)

التقديس ومتطلّباته

لا شكّ في أنّ الجمال العلويّ هو صفة نظنّها مرتبطة بجوهر يسمو على كلّ شيء، أعني الجوهر الإلهيّ الذي هو فوق العقل.

وتربط الرسالة قوّة الإنسان بالطبيعة الإلهيّة، قبل أن تعود إلى سفر الخروج، لتدلّ على أنّ المرأة تعيش الخوف والضعف، وترفض الجرأة في الجهاد.

برهان من سفر الخروج

وأقدّم أيضًا مثلاً مأخوذًا من كتابات موسى. قال في الكتاب المقدّس عن المتسلّط على المصريّين، إنّه صورة الشيطان، فتسلّح ضدّ نسل العبرانيّين. أعلن الحرب ضدّ الذين كانوا بعدُ في بطون أمّهاتهم، فعزم على إفناء الأبكار إفناء مباشرًا، وساعة يرون النور. دُوّن هذا الأمر القاسي بلباقة تليق به. فالقاتل أمر بأن تُترك البنات على قيد الحياة، ويُغرّق الصبيان في الماء وفي المستنقعات (خر 1: 22). فما هو المعنى السرّي لهذا الحدث؟ وأي معنى نعطيه للعقول المثقّفة؟«

وبعد أن يتحدّث الأسقف عن الشيطان الذي يحب الطبائع الرخوة، يطلب البرهان في الكتب المقدّسة.

الإحصاء

في ما يُسمّى سفر العدد (كتاب موسى يحمل هذا الاسم)، قال الله في البداية للقدّيس المشعّ موسى، ولهارون: »أحصيا كلّ جماعة بني إسرائيل بالإحصاء (يعني الحساب والعدد)، بحسب العشائر والبيوت، وعُدّهم بأسمائهم رأسًا رأسًا: كلّ ذكر ابن عشرين سنة وما فوق، كلّ رجل حارب في جيش إسرائيل، أحصه« (عد 1: 2-3). أنظر كيف أمر بتسجيل الذكور وجمهور الذين هم منذ الآن في زهرة العمر، وفي مجيء قوّتهم. قال: »من عشرين سنة وما فوق«. ولكنّه لم يحسب حساب النساء ولا الصبيان. ففي نظر الله، يجب أن نرذل العقول الضعيفة أو التي لا تقدر أن تفهم الفهم الكافي. مقابل هذا، فالعقل الرجوليّ والفاهم يعترفون به ويسجّلونه في كتاب الحياة، لأنّه يمتلك من القوّة التي تتيح له أن يقاوم مكايد إبليس. فالعقل الذي ينضمّ إلى طبع شجاع، يكفي لكلّ ما يُطلب من الأثقياء أن يصنعوه...

زكريّا

وأورد أيضًا النبيّ السعيد زكريّا. فهو يشرح هذا للسامعين بوضوح كبير. وإليك ما يقوله: »خرج الملاك المتكلّم فيّ وقال لي: »ارفع عينيك إلى هذا الذي يتقدّم«. فقلت: »ما هذا«؟ فأجاب: »القفّة تتقدّم«. وأضاف: »هو جورهم في الأرض كلّها«. حينئذٍ ارتفعت كتلة رصاص، وإذا امرأة جالسة في وسط القفّة. فقال: »هي الإثم«. ورماها في وسط القفّة، ورمى حجر الرصاص على فمها. فرفعتُ عينيّ فرأيت رؤية: امرأتان تتقدّمان مع نفخة ريح في أجنحتهما. كانت لهما أجنحة مثل أجنحة اللقلق. فحملتا القفّة بين الأرض والسماء« (زك 5: 5-9). أنت تفهم الآن كيف ظهر الإثم للنبيّ بشكل امرأة. والنفوس التي تحاول أن ترفعها إلى السحاب تمتلك البشاعة عينها التي فيها. ففي هذه (النفوس)، نرى أيضًا نساء. ثمّ إنّ الخبر النبويّ أكّد لنا أنّهما امتلكتا أجنحة لقلق، ليدلّ بذلك على استعداد النفوس الأثيمة للنجاسات ونزوعها إلى الملذّات اللحميّة...

فإذا كنّا نحسب أنّ حمْل صورة مخلّصنا المجيدة جدٌّا أمرٌ حلو ولذيذ، وكذلك التشبّه بهذا الجمال الإلهيّ والسماويّ، فلنرذل ما تطبعه الخطيئة فينا من بشاعة، ولنهرب من روح مليء بالرخاوة يكون فريسة سهلة لحيل إبليس الشريرة. ولنتحلّ بالرجولة كالمسيح لكي نُوجد (فل 3: 9) مشاركين (عب 3: 14) في حياته، بعد أن نقف به ومعه في حضرة الله الآب (عب 9: 24)«.

وإذ أرادت الرسالة أن تتحدّث عن عدم الفساد، أعطت مثل المنّ.

القسم الثالث: المسيح يقودنا إلى اللافساد(30)

المنّ

أراد الله القدير أن يعلّم أن ما هو فاسد بالطبيعة يتوصّل إلى العبور إلى حالة أخرى غير حالته، والارتفاع إلى وضع أسمى، إن قرّر الله أن يهتمّ بذلك. كما كتب في المزامير: »عيون الربّ على الأبرار« (مز 34: 16). لهذا السبب أعلن (الله) لموسى وهارون: »املأا غمر مَنٍّ تحفظونه لأجيالكم«. فقال موسى لهارون: »خذ جرّة من ذهب، وَضعْ فيها ملء غمر من المنّ تضعه أمام الربّ محفوظًا لأجيالكم« (خر 16: 32-33). فالمنّ بطبعه طعام فاسد، ولا يقدر من يحتفظ به أن يستعمله إطلاقًا حتّى للغد. أمّا ذلك الذي وضعته يد هارون أمام نظر الله وتضمّنته جرّة الذهب، فلبث بدون فساد.

لا يشك أحد بأنّ هذا ما يحصل لنا نحن أيضًا، على ما أظنّ. فالذي هو حقٌّا خير نفوسنا العظيم، أي المسيح، يحيط جسدنا بالمجد الإلهيّ كما بثوب ذهبي. وبعد أن يضعه أمام نظر الله الآب ينقله إلى اللافساد«.

وبعد كلام عن الخلاص والإيمان ووحدة الآب والابن والمعجزات، نصل إلى الخاتمة.

الخاتمة(31)

رفض الشعب اليهوديّ يسوعَ، وحكموا عليه بالموت. أمّا هو فمنح البشريّة عدم الفساد. »لا شكّ في أنّه سيعود، حسب ما في الكتب. فيجازي كلاٌّ بحسب أعماله، حين يجلس على المنبر الإلهيّ«.

الإرشاد الأخير وتاريخ الفصح

لأجل كلّ هذا، نودّ أن نحتفل بهذا العيد المجيد، فلا نعيش بعدُ لأنفسنا، كما يقول الكتاب الإلهيّ، بل للمسيح الذي افتدانا جميعًا (2 كور 5: 15). فلنحنِ رؤوسنا أمامه ولنعمل برجولة من أجل كلّ عمل صالح، فنحفظ نقاوة الجسد، ونرذل نجاسة النفس، ونحافظ على المحبّة المتبادلة ونتذكّر الفقراء »المسجونين وكأنّنا  مسجونون معهم، والمعذّبين وكأنّنا نتعذّب معهم« (عب 13: 3). حينئذٍ فقط، وبعد أن نتنقّى، نُتمّ في النقاوة هذا الصوم المقدّس جدٌّا: نبدأ زمن الصيام المقدّس في التاسع عشر من شهر ميشير(32)، وأسبوع الفصح الخلاصيّ في الرابع والعشرين من شهر فمنوت(33). ونتوقّف عن الصوم في التاسع والعشرين من الشهر عينه، في نهاية العشيّة، حسب التقليد الإنجيليّ. ونحتفل بالعيد في صباح الأحد التالي، في الثلاثين من شهر فمنوت(34) عينه. ونضيف أيضًا بعد ذلك سبعة أسابيع العنصرة المقدّسة، حسب ما تأمر به الشريعة الإلهيّة. وحين نُكمَلُ بإيمان مستقيم وأعمال صالحة، نرث ملكوت السماوات، في المسيح، إلى دهر الدهور. آمين«.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM