الفصل التاسع عشر: أثناسيوس الكبيرالمدافع عن لاهوت الإبن .

الفصل التاسع عشر

أثناسيوس الكبير

المدافع عن لاهوت الإبن

 

ذاك الذي دُعي البطريرك المتخفّي بسبب الهجوم عليه من قبل الأريوسيّة، فمضى إلى المنفى خمس مرّات. ذاك الذي تحلّى بشجاعة لا تقاوَم أمام الخطر فكان »عمود الكنيسة« وبطل نيقية والمدافع عن إيمانها. ذاك الذي لولاه ضاعت الصفحة الأولى من إنجيل يوحنّا، في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة لدى الله، وكان الكلمة الله. ذاك الذي ما استند فقط إلى قوّة عزيمته، بل عرف أن يلتجئ إلى الصلاة والمصلّين، فدعا أنطونيوس من عمق صحرائه ليقف في الثلمة من أجل الدفاع عن ذاك الذي هو نور من نور، إله حقّ من إله حقّ. ذاك الذي اعتبره الأريوسيّون الخصم الخصم، فرأوا أنّه إن سقط صارت لهم المعركة لقمة سائغة وتحوّلت الكنيسة إلى الأريوسيّة تعلن أن الابن غير مساوٍ للآب، وتنفي بالتالي عقيدة الثالوث. ذاك الذي هو من أكبر الشخصيّات في تاريخ الكنيسة وأكبر أساقفة الإسكندريّة في عصورها، اسمه أثناسيوس الكبير المدافع عن لاهوت الابن.

فمن هو أثناسيوس هذا، وما الذي ترك لنا من آثار، إذا ترك له الاضطهاد من قبل الأساقفة الأريوسيّين والسلطة المدنيّة من وقت، فأمضى في المنفى سبعة عشر عامًا ونيّف؟

 

1- حياة أثناسيوس

وُلد أثناسيوس في الإسكندريّة، سنة 295 تقريبًا، من والدين غير مسيحيّين، من أصل يونانيّ. غير أنّه اهتدى باكرًا إلى المسيحيّة. أتراه تأثّر بالاضطهاد القاسي الذي عرفته كنيسة الإسكندريّة في بداية القرن الرابع؟ يبدو أنّه لم يحتفظ بتذكّر دقيق لهذه الفترة الصعبة التي عرفتها المسيحيّة قبل مجيء قسطنطين وقرار ميلانو.

ما نلاحظه في فتوّته، هو أنّه نال تربية متينة على مستوى اللغة، فدرس خطباء مثل ديموستينيس اليونانيّ، وألمّ بالأدب بدءًا بهوميرس، ودخل إلى عالم الفلسفة مع أفلاطون ومدرسته، عبر مقتطفات عرفها الطلاّب في ذلك الزمان. ولا شكّ في أنّه قرأ مؤلّفات مسيحيّة، مثل التهيئة الإنجيليّة لأوسابيوس القيصريّ، وغيرها من الكتب. وهكذا اقتنى أسلوبًا واضحًا في الكتابة جعل مقاله يصل إلى المؤمنين ويحرّكهم، لئلاّ يبقوا مكتوفي الأيدي تجاه الخطر الذي يتهدّد الإيمان. أمّا ينبوع إلهامه الأساسيّ فكان الكتاب المقدّس، في النسخة اليونانيّة السبعينيّة، والآباء اليونانيّين أمثال اغناطيوس الإنطاكيّ، أثيناغوراس الفيلسوف الأثينيّ، إيريناوس أسقف ليون في فرنسا مع الردّ على الهراطقة، وأوريجانس الذي أخذ منه تفسيره للكتب المقدّسة، دون أن يتأثّر به تأثّرًا عميقًا على مثال سلفه الأسقف اسكندر.

درس اللغة القبطيّة بعض الشيء، ولكنّه ما استطاع أن يكتب فيها بطلاقة، ونحن نعرف أنّ رسائله كانت تترجم لتصل إلى المؤمنين في الريف المصريّ. ولكن هذا لم يمنعه من الجمع بين بساطة التقوى القبطيّة وبراعة العالم اليونانيّ. جذبته الحياة النسكيّة في شبابه، بحيث تساءل البحّاثة إن كان عرف القدّيس أنطونيوس في تلك الفترة. في أيّ حال، »حياة القدّيس أنطونيوس« التي تركها لنا تفهمنا أنّ هذا الراهب الذي أثّر على الحياة الرهبانيّة في الشرق والغرب، ترك أثرًا كبيرًا في حياة لم تعرف الهدوء، يومًا واحدًا، على مثال ما قال بولس الرسول: صراع في الداخل من أجل وحدة كنيسة الإسكندريّة. صراع في الخارج مع عدوّ دينيّ يريد أن يسيطر على كنيسة الإسكندريّة، وعدوّ مدنيّ يسخّر الدين من أجل مآرب سياسيّة، طلبًا لوحدة بلاد متعدّدة المشارب.

رسمه الإسكندر، بطريرك الإسكندريّة، قارئًا ثمّ شماسًا، وهكذا صار أمين سرّ الأسقف حوالي سنة 318. ساعة بدأ الجدال الأريوسيّ يمتدّ وينمو، وقف أثناسيوس بقوّة في وجه أريوس، كما يقول في الدفاع الثاني. ويبدو أنّه وضع الخطوط الكبرى لرسالة بعث بها الإسكندر »حول التجسد«. ثمّ كان للشمّاس أن يرافق اسقفه إلى مجمع نيقية، سنة 325. لا شكّ في أنّه لم يتكلّم داخل المجمع لأنّه ليس أسقفًا. ولكنّ شخصًا مثله لا يمكن إلاّ أن يكون ناشطًا في الكواليس، وهناك التقى باللاهوتيّين الرئيسييّن الذين يقاومون الأريوسيّة، أمثال أوستاتيوس الإنطاكيّ المتقدّم في السنّ، ومرسالوس الأنقيريّ ابن الخمسة وأربعين عامًا. كلّ هذا جهّزه ليكون ذاك الأسقف الراعي الذي يبذل نفسه من أجل الخراف، على مثال معلّمه، لا ذاك الأجير الذي يهرب حين يرى الذئب مقبلاً.

مات الإسكندر، أسقف الإسكندريّة في 17 نيسان سنة 328. ويبدو أنّه عيّن أثناسيوس خلفًا له، كما يقول سوزومين في التاريخ الكنسيّ. ولكن بسبب الخطر الآتي من حزب ميليتيوس أسقف ليكوبوليس (= أسيوط)، كُرّس الأسقف الجديد على عجل بيد مناصريه في 8 حزيران. مثل هذا الإجراء بدا غير عاديّ، وجعل بعضهم يعتبر أنّ تكريس أثناسيوس أسقفًا لم يكن صحيحًا. غير أنّ الإمبراطور قسطنطين اعترف بالأسقف الجديد، طالبًا منه أن يعلن مشاركته مع أريوس. ولكنّ أثناسيوس بدا حازمًا منذ البداية، وسوف يظلّ كذلك حتّى موته. بدأ أثناسيوس أسقفيّته بنزع الزؤان من الحقل، وتنوير المؤمنين تجاه الهرطقة التي تهدّد كنيسة الإسكندريّة. فأخذ يزور البلاد في طولها وعرضها، ويتّخذ إجراءات قاسية. يُخضع من يريد أن يخضع، ويُلغي تبّاع ميليتيوس وأريوس. حُرم أريوس في مجمع نيقية. أمّا ميليتيوس فلم يحرمه المجمع، بل عاقبه عقابًا خفيفًا (وكذا كان الوضع بالنسبة إلى »المنفصلين«)، فمنعه من أن يرسم أساقفة. ولكن بعد موته، عاد تبّاعه يهاجمون أثناسيوس، ويشكّكون في رسامته. فكان الأسقف الجديد قاسيًا معهم. فاشتكوا منه لدى الإمبراطور بسبب عنفه تجاه الأسقف أرسانيوس والكاهن إليسخيرا، بشكل خاصّ. وإذ لم يلقوا جوابًا، انضمّوا إلى جماعة أوسابيوس في سينودس صور، ولعبوا دورًا في إرسال أثناسيوس إلى المنفى.

أمّا جماعة أريوس التي لم تهدأ بعد مجمع نيقية، فاتّهموا أثناسيوس بالفساد والخيانة. وافتروا عليه بأنه قتل الأسقف أرسانيوس. فقدّمه إليهم حيٌّا أمامهم، ومع ذلك لم يتراجعوا. ودعوه إلى قيصريّة، في فلسطين. فرفض المجيء. كان ذلك سنة 334. في السنة التالية، حُكم على أثناسيوس في صور، بعد أن قدّمت لجنةٌ نظّمها الإمبراطور، تقريرًا حول أمور الكنيسة في منطقة مريوط، قرب الإسكندريّة. لم يكن أعداءه فقط أريوسيّو مصر، بل خارج مصر أيضًا. عندئذٍ استأنف أثناسيوس لدى الإمبراطور، فلاحقه اتّهام آخر ليقول: منع أثناسيوس تأمين القمح المصريّ إلى رومة. عندئذٍ أرسل قسطنطين أثناسيوس إلى المنفى، في تريار (ألمانيا الحاليّة) في 7 تشرين الثاني سنة 335.

خمس مرّات مضى أثناسيوس إلى المنفى. المرّة الأولى وهي التي ذكرناها، في عهد الإمبراطور قسطنطين. دام هذا المنفى الأوّل سنتين وأربعة أشهر (335-337). حاول الخصوم في هذه الفترة أن يجعلوا أريوس أسقفًا مكانه، فلم ينجحوا. في ذاك المكان، تعرّف إلى قنسطان الشاب الذي سيصبح إمبراطور الغرب، باسم قسطنطين الثاني. هذا، ما إن مات والده في 22 أيّار 337، حتّى دعا أثناسيوس من المنفى، وسمح له أن يعود إلى الإسكندريّة.

في ذلك الوقت، تعالت الاحتجاجات، بل كتب أنطونيوس الكبير نفسه، فأورد سوزومين جواب الإمبراطور الذي تحدّث عن أثناسيوس »الوقح والمتكبّر«، ورفض أن يكون الأساقفة تصرّفوا بحقدٍ ضدّ بطريرك الإسكندريّة. ولمّا عاد أثناسيوس، كتب الإمبراطور الجديد إلى المسيحيّين في المدينة، فاعتبر أنّ هذا »النفي« كان موقّتًا، لا عقابًا لأثناسيوس، العالِم بالشريعة الإلهيّة، بل إبعادًا عن الخصوم لئلاّ يصيبه مكروه.

ودام النفيُ الثاني سبعَ سنوات. بدأ في 16 نيسان 339 وانتهى بعودة أثناسيوس إلى الإسكندريّة في 21 تشرين الأوّل 346. ماذا حدث؟ في سنة 338، دعا قسطنطين الثاني إلى مجمع أساقفة، فألغوا الحكم الذي صدر في صور. فردّ حزب أوسابيوس بأن دعا غريغوريوس، أسقف كبادوكية، بأن يتسلّم أبرشيّة الإسكندريّة. فدخل محاطًا بالجنود. عندئذٍ لجأ أثناسيوس إلى الهرب بسبب القلاقل التي حدثت في المدينة. هرب أثناسيوس فاستقبله البابا يوليوس، ودعا إلى سينودس رفض أن يشارك فيه أصحاب أوسابيوس. فأعلن البابا من جهته، سنة 341، وقوفه بجانب أثناسيوس ورفيقه مرسالوس. في ذلك الوقت، عُقد مجمع في أنطاكية، فثبّت غريغوريوس على كرسيّ الإسكندريّة. ولكن موت هذا الأخير، في 25 حزيران 345، ساعد على حلحلة الأمور. دُعي أثناسيوس فتردّد، ولكنّه في النهاية قبِلَ، فعاد فاستقبلته الإسكندريّة استقبال الحفاوة والحرارة.

وعاش أثناسيوس عشر سنوات »ذهبيّة« (346-356)، فوصل نشاطه اللاهوتيّ والرعائيّ إلى الذروة. أمّا على المستوى الرعائيّ، فتصالح مع جماعة ميليتيوس وعيّن بعضًا منهم أساقفة. كما عيّن أساقفة أيضًا بعض الرهبان، متوخّيًا توطيد الحياة المسيحيّة في أبرشيّته. وعلى المستوى اللاهوتيّ، كتب رسالة حول قرارات نيقية، فأوجز ما قيل في هذا المجمع: قاعدة إيمان أوسابيوس القيصريّ، ثمّ النصّ الذي أعيد فيه النظر فقُبل. وبرّر أثناسيوس استعمال لفظ »هوموأوسيّوس« (من ذات الجوهر) الذي وإن لم يكن كتابيٌّا، فهو يقدّم معنى موافقًا لما قدّمه الكتاب المقدّس. وكتب رسالة إلى دراكونتيوس الراهب الذي اختير ليكون أسقفًا على هرموبوليس (دمنهور، مصر) فتراجع مع أنّ الكنيسة في خطر وأنّ الراهب يمكن أن يكون مثالاً للإيمان. دعاه أثناسيوس لكي لا يتردّد في خدمة الكنيسة: »يجب أن لا تهرب في هذا الوقت الذي يتهدّد الكنيسة مصائبُ كبيرة. عندئذٍ يصبح الكرسيّ فريسة الناس الكاذبين. الله يعرفنا أكثر ممّا نعرف نفوسنا، وهو يعرف إلى من يسلّم كنيسته. فمن ظنّ نفسه غير أهل لا ينظر إلى حياته السابقة، بل ليتمّ رسالته. عجّل، يا حبيبي، ولا تتردّد. فكّر بالذي يسلّمك هذا الواجب، إروِ عطش الآخرين بتعاليمك... إنّ الشعب ينتظر أن تحمل له الطعام، تعليم الكتاب المقدّس. تعال وأسرع. فالأسبوع المقدّس يقترب، فلا تقبل أن يحتفل الشعب بالفصح بدونك. فمن يحدّثه عن الآلام إن لم تكن هنا؟ من يُعلن له القيامة إن أنت اختبأت؟ من يعلّمه كيف يحتفل بالعيد إن أنت هربت؟«

وجاء النفيُ الثالث في شباط 356. مات الإمبراطور الغربيّ الذي كان سندًا لأثناسيوس. ومات أيضًا البابا يوليوس وخلفه البابا ليبيريوس. وهكذا صار أثناسيوس وحده. فعُقد مجمع في ميلانو وحكم على أسقف الإسكندريّة. كان أثناسيوس يحتفل بعيد من الأعياد في كنيسة القدّيس تيوفانس، فأحاط الجيش بالمكان، ونجا الأسقف بأعجوبة فلجأ إلى الرهبان في البريّة. عندئذٍ كتب إلى جميع أساقفة مصر وليبيا يحذّرهم من هرطقة أريوس ويثبّتهم في إيمان نيقية:

»كلّ سنة يتشبّه الهراطقة بمفاوضين يهتمّون بالسلام في العالم. فيجتمعون ونيّتهم الظاهرة الكتابة من أجل الإيمان. ولكن إلى ماذا يَصِلون؟ إلى الخزي والعار. تُرذل كتاباتُهم بانتظار أن يُرذَلوا هم أنفسهم. فلو وثقوا بتعبيرهم الأوّل (كما في نيقية)، لما ألّفوا تعبيرًا آخر ليرموه جانبًا بانتظار أن يؤلّفوا الثالث الذي يعجّلون فيبدّلونه في أوّل مناسبة تطلّ عليهم... ماذا يفعلون بنصوص يقول فيها الربّ نفسه: »أنا والآب واحد«. »من رآني رأى أبي«. أو هذا القول للقديس بولس: »هو شعاع مجده وصورة جوهره؟« فمن لا يرى أنّ الشعاع لا ينفصل عن النور، أنّه يشاركه في طبيعته ولا يمكن أن يُميَّز عنه؟... تألّقوا بضياء الإيمان والحقّ البهيّ. لهذا أَستحلفكم بأن تتمسّكوا بالإيمان الذي ثبّته الأساقفة في مجمع نيقية. ليكن إيمانكم واثقًا بالربّ، وكونوا مثال إيمان للجميع«.

قضى الأسقف القدّيس سبع سنين في المنفى، وحلّ محلّه الأسقف جاورجيوس الأريوسيّ الآتي من كبادوكية، في 24 شباط 357، ولكنّه طُرد في 2 تشرين الأوّل سنة 358. ولمّا عاد بعد ثلاث سنوات قُتل في 24 كانون الأوّل سنة 361. وكان قسطنسيوس قد مات في 3 تشرين الأوّل سنة 361. فخلفه يوليانس الملقّب بالجاحد، فأمر بعودة الأساقفة إلى كراسيهم، وهكذا عاد أثناسيوس في 21 شباط سنة 362، وجمع سينودوسًا هامًا، عمل على إزالة الالتباسات في التعابير اللاهوتيّة. كلّ هذا ورد في »المجلّد إلى الإنطاكيّين«. عالج هذا المقال الوضع في كنيسة أنطاكيّة، وأوصى بأفضل التدابير لإعادة السلام والوئام. وبيّن الحدود التي فيها تكون مشاركة مع الأريوسيّين الذين يريدون العودة: بعد حُرم صريح لتعليم أريوس، يعلنون قانون إيمان نيقية. ردّ أثناسيوس على تعليم أريوس الكرستولوجيّ، ودافع عن الطبيعة البشريّة الكاملة في المسيح، وعن اتّحاده التام بالكلمة. ولكن ما فعله أثناسيوس لم يَرُق ليوليانس، فاستعدّ للتدخّل.

كان المنفى الرابع في عهد الإمبراطور يوليانس الجاحد، في 24 تشرين الأوّل سنة 362 إلى 5 أيلول سنة 363، وذلك في صحراء مصر، وبين رهبانها. هنا نلاحظ، كلّ مرّة مضى أثناسيوس إلى المنفى، كيف استفاد من الوقت ليعمل من أجل كنيسته. في المرّة الأولى التقى ذاك الذي سيكون الإمبراطور قسطنطين الثاني. في المرّة الثانية التقى البابا يوليوس وعرّف الغرب إلى الحياة الرهبانيّة في الشرق. وفي هذا النفيّ الرابع، زار جماعة باخوميوس (توفّي سنة 346) مع أبّا تيودورس. لاقاه الرهبان وهم ينشدون المزامير. وطلبوا منه أن لا ينساهم. فقال: »إن نسيتك، يا أورشليم« (مز 137: 5). وكان قد قال للمؤمنين وهو يودّعهم: »لا تخافوا. هي سحابة صيف ما تعتّم أن تزول...«. وفي الواقع، قُتل يوليانس في 26 حزيران سنة 362، وخلفه جوفيانس، صديق أثناسيوس والقريب من نيقية. ولكنّ هذا الإمبراطور توفّي قبل أن يصل أثناسيوس إلى كرسيه. وخلفه إمبراطور موافق للأريوسيّة، فعاد أثناسيوس إلى المنفى للمرّة الخامسة، في 5 تشرين الأوّل سنة 365. ولكنّ ضغط المؤمنين، فرض على الإمبراطور أن يعيد الأسقف إلى كرسيّ الإسكندريّة، في الأوّل من شباط سنة 366.

أطلنا الكلام على حياة أثناسيوس، ولا سيّما على المرّات الخمس التي فيها أرسل إلى المنفى. فدفاعه لم يكن فقط دفاعًا بالكلمة يعلنها أو يكتبها، بل بكلّ حياته التي هُدّدت أكثر من مرّة، ولكنّه لم يتراجع. تقوّى لأنّه جعل معونته في الربّ. وفهم خصوصًا أنّ تدخّل السلطة السياسيّة في حياة الكنيسة خراب للكنيسة، ولا سيّما ما حدث في مجمع ميلانو، سنة 355. يوم حُكم على أثناسيوس، لم يوجد سوى ثلاثة أساقفة من أصل ثلاثمئة تجرّأوا فاحتجّوا، ورفضوا أن يوقّعوا على صورة الحكم. أمّا الذين وقّعوا فقالوا: »القانون الوحيد هو مشيئة الإمبراطور«. في هذه المناسبة كتب أثناسيوس »الدفاع إلى قسطنسيوس« يروي ما حدث في ليل 8 شباط سنة 356، ساعة كان يصلّي مع المؤمنين، في الكنيسة، فهجم الجيش...

»أمرتُ الشمّاس بأن يقرأ المزمور: »مراحم الربّ عظيمة إلى الدهور«. وقلتُ للشعب أن يجيبوا، ثمّ ينسحب كلُّ واحد إلى بيته. ولكن في تلك اللحظة، هجم القائد على الهيكل وأحاط الجنود بالمعبد من كلّ جهة... أُشهد الحقيقة السامية، أنّي رغم العدد الكبير من الجنود، ورغم الذين يحيطون بالكنيسة، خرجتُ بقيادة الربّ وأفلتُّ دون أن يراني أحد. فمجّدت الربّ أوّلاً لأنّي ما خنتُ شعبي، بل جعلته في أمان. وهكذا نجوتُ نجاة عجيبة بيد العناية الإلهيّة«.

 

2- آثار أثناسيوس وفكره

ترك أثناسيوس المؤلّفات الدفاعيّة والعقائديّة والتاريخيّة والتفسيريّة والنسكيّة. فهذا البطريرك الذي التزم بالعمل من أجل الدفاع عن إيمان نيقية، والذي عرفت حياته الأحداث المتلاحقة، جاءت كتاباته مرتبطة بالظروف التي يمرّ فيها.

نبدأ فنذكر بعض الآثار الهامّة.

* الردّ على الهلّينيّين، وخطبة حول تجسّد الكلمة. هذان المقالان اللذان ظهرا سنة 318 (كان عمر أثناسيوس 23 سنة. وكان بعد شمّاسًا)، هما في الواقع جزءان لمؤلّف واحد، يذكره إيرونيموس في »الرجال العظام« (ف 87) بعنوان: الردّ على الوثنيّين. يرفض المقال الأوّل ميتولوجيّات العالم الوثنيّ وشعائر عبادته ومعتقداته. ويحلّل جوهر السرّ وأصله وتاريخه. ثمّ يصف الخلود، وجهالة الوثنيّة في كلّ وجوهها. وبعد أن يردّ الكاتب على البوليتاويّة (أو: تعدّد الآلهة) الشعبيّة، يتكرّس للردّ على البوليتاويّة الفلسفيّة التي هي أرفع شكل لعبادة الطبيعة. وبما أنّ الطبيعة والله متميّزان، فالمونوتاويّة (عبادة الإله الواحد) هي الديانة الوحيدة المعقولة. هذا ما قاله أثناسيوس. وأضاف: النفس البشريّة هي خالدة، قريبة من الله ونسيبة له: فهي كمرآة اللوغوس (الكلمة) تستطيع أن تعرف الله، أقلّه في الخلق.

نورد هنا مقطعًا من هذا الردّ حول النفس: »حين تتخلّص النفس من كلّ نجاسة الخطيئة المنتشرة فيها، لا تحفظ في نقاوتها سوى شبه الله وصورته. وبالأحرى حين تستنير هذه الصورة تشاهد فيها، كما في مرآة، الكلمة (لوغوس) صورة الله الآب، وفيه تشاهد الآب الذي صورته المخلّص«.

والمقال حول تجسّد الكلمة يتواصل مع المقال السابق، فيبيّن أنّه لم يكن من دواء لفساد البشريّة، وأنّه لم يكن من إصلاح ممكن للإنسان في تكوينه الأصليّ، إلاّ عبر التجسّد. هذا المقال مهمّ جدٌّا، لأنّه يبيّن إلى أيّ حدّ كان الموضوع السوتيريولوجيّ (موضوع الخلاص) في قلب فكر أثناسيوس حول يسوع المسيح (الكرستولوجيا). فهو يُرجع ضرورة التجسّد وموت المسيح إلى مشيئة الله الفدائيّة: لو لم يَصِر الله إنسانًا، ولو لم يكن المسيح الله، لما كنّا افتُدينا. وإذ أخذ »اللوغوس« الطبيعة البشريّة، ألّه الإنسانَ وقهرَ الموت، لا من أجل نفسه وحسب، بل من أجل جميع البشر: »أعاد إلى اللافساد البشر الذين عادوا إلى الفساد. أحياهم، انتزعهم من الموت، حين اتّخذ لنفسه جسدًا. وبنعمة القيامة أبعد الموتَ وأزاله، كما تزول القشّة في النار«.

في هذا الإطار نفهم أن يكون الموت قُهر: »كما تُرمى الحبّة في الأرض، نحن نلا نفنى، نحن لا نزول، بل نُزرَع لنقوم. وهكذا صار الموت كلا شيء بنعمة الخلاص«. يسير أثناسيوس هنا في خطّ بولس الرسول، في الأولى إلى كورنتوس: »يُزرع الجسد بالفساد ويقوم بلا فساد« (15: 43). وموت المسيح يخلّص جميع البشر. هذا ما تدلّ عليه اليدان الممدودتنان: »لا يموت الإنسان بيدين ممدودتين إلاّ على الصليب. ولهذا وجب على الربّ أن يقاسي هذا الموت ويمدّ ذراعيه: بيد اجتذب الشعب القديم، اليهود. وبالأخرى، بقيّة البشر، فجمع الاثنين في شخصه«.

* الردّ على الأريوسيّين: هي خطبات ثلاث تمثّل العمل العقائديّ الرئيسيّ لدى أثناسيوس. دوّنت سنة 356- 358. وأُتبعت بخطبة رابعة، يبدو أنّها أضيفت لاحقًا بيد كاتب أُغفل اسمُه. الخطبة الأولى تلخّص التعليم الأريوسيّ، الذي يشدّد تشديدًا على تبعيّة الابن للآب، والذي يعتبر أنّ الابن هو، بكلّ بساطة، خليقة. هذا يعني أنّه ليس أزليٌّا مثل الآب. لهذا كانت الخطبة موافقة لقرارات مجمع نيقية، فأعلنت الطابع الأزليّ واللامخلوق واللامتبدّل لابن الله. كما أعلنت وحدة الجوهر بين الآب والابن.

خاف المفكّرون، في خطّ الفلسفة الأفلاطونيّة التي تعتبر أن المادّة تحطّ من كرامة الجسد. ولهذا، إن كانت النفس تسقط حين تنزل في الجسد، فبالأحرى الكلمة لا يمكن أن يقيم في الجسد، في المادّة. غير أنّ الأمور انقلبت في المسيحيّة. فتجسّدُ المسيح وموته لا يؤولان إلى العار، بل إلى كرامة الله. وهكذا أعطينا سببًا لكي نعبد الله. قال: »حين أخذ الكلمة جسدًا، فهو ما انتقص بشكلٍ أخذ يطلب النعمة، بل إنّه لبس ما أعطاه الجنس البشريّ. وكما أنّ الكلمة يُعبَد دومًا على أنّه الكلمة والموجود في صورة الله، كذلك، ومع أنّه إنسان ودُعيَ يسوع، نجد تحت قدميه كلّ الخليقة التي تحني ركبتها لهذا الاسم، وتعترف أنّ تجسّد الكلمة والموت الذي قاساه في جسده، لم يكونا لانتقاص اللاهوت، بل لمجد الآب. فمجدُ الآب يقوم في أن يستعيد الإنسانَ الذي خُلق وضلّ، وأن يُحيي الميت، وأن يُعيده هيكلاً لله. كما أنّه في السماء، القوات والملائكة ورؤساء الملائكة الذي سجدوا دومًا للربّ، يسجدون الآن لاسم يسوع، فهي نعمة لنا وبهجة أن يُسجَد لابن الله الذي صار إنسانًا. فالقوّات السماويّة لا تَدهش إن دخلنا كلّنا في صفوفهم وقد لبسنا الجسد الذي لبسه«.

والقسمان الثاني والثالث من الردّ على الأريوسيّين، يفسّران نصوص الكتاب المقدّس التي تتحدّث عن ولادة الابن، عن علاقة الآب بالابن والتجسّد. فيهما ردّ أثناسيوس على التفسير الأريوسيّ، وفسّر المقاطع الكتابيّة حسب النظرة الكنسيّة القديمة. أكّد أسقف الإسكندريّة أنّ الكلمة لم يُخلق، بل هو وُلد: هو نتيجة جوهر الله، لا إرادته. لهذا فهو يشارك الآب ملءَ اللاهوت، وهو الله حقٌّا. وأشار أثناسيوس إلى تماهي النور الخارج من الشمس، ليبيّن أنّ الولادة على مستوى الله تختلف عن الولادة على مستوى البشر. »فالابن هو في الآب كما الضياء في النور«. لهذا، فالابن والآب هما اثنان ولكنّهما واحد لأنّهما يمتلكان الطبيعة الواحدة: »إذا كان الابن مختلفًا عن الآب لأنّه مولود، فهو أيضًا الكيان عينه بما أنّه الله«. في هذا التعليم عن اللوغوس، لا مكان لطرح البقيّة: الابن مولود من الأزل. هو من جوهر الآب. ومع أنّ أثناسيوس حافظ على التمييز الحقيقيّ بين لاهوت الكلمة وناسوته، بعد التجسّد، إلاّ أنّه شدّد على وحدة شخص المسيح: فهي تشكّل السبب الذي لأجله مريم هي »والدة الله« (تيوتوكوس) لا والدة يسوع المسيح فقط.

ونقرأ تفسيرًا لموت المسيح في إطار الكرستولوجيا مع اللوغوس (الكلمة)، ساركس (البدن بما فيه من ضعف)، ينطلق من إنجيل يوحنّا (12: 27؛ 10: 8): »هو كبشر قال: الآن نفسي مضطربة. وكإله قال: لي سلطان أن أضع حياتي وأن آخذها. فاضطراب البدن، يخصّ البدن، وسلطة وضع الحياة وأخْذها ساعة نشاء، ليس خاصًا بالإنسان، بل بقدرة الكلمة. فالإنسان لا يموت بسلطانه الخاصّ، بل بضرورة الطبيعة وعكس مشيئته الخاصّة. أمّا الربّ الذي هو لا مائت في طبعه، فيمتلك بدنًا مائتًا استطاع بقدرته الخاصّة، وبما أنّه الله، أن ينفصل عنه وأن يستعيده ساعة يشاء«.

إنّ الوحدة الشخصيّة بين الطبيعة الإلهيّة والطبيعة البشريّة أمر مهمّ جدٌّا. في هذا يقول أثناسيوس: »هدفُ الكتب المقدّسة وسماتُها المميّزة كما قلتُ مرارًا، تقوم في إعلان تعليمين اثنين عن المخلّص: كان دومًا الله والابن، إذ هو الكلمة وبهاء الله وحكمته. وبعد ذلك، أخذ من أجلنا جسدًا من العذراء مريم، أمّ الله، وصار إنسانًا«.

وهذه الوحدة الشخصيّة في المسيح، تجعلنا نعبد المسيح حتّى في طبيعته البشريّة. نقرأ في رسالة إلى أدالفيوس الأسقف والمعترف، دوّنت سنة 370 أو 371. فأجابت على تقرير أرسله أدالفيوس إلى أثناسيوس حول اتّهام الأريوسيّين بأن كرستولوجيّة نيقية تعبد الخليقة. أعاد أثناسيوس هذا الضلال إلى جماعات ولنطينس ومرقيون والمانويّين (بدع غنوصيّة)، فشدّد على أن مستقيمي الإيمان لا يعبدون طبيعة المسيح الجسديّة كطبيعة بشريّة، بل يعبدون الكلمة المتجسّد: »نحن لا نعبد خليقة، حاشا. فالوثنيّون والأريوسيّون يقعون في هذا الضلال، بل نعبد سيّد الخليقة الذي صار بشرًا، نعبد كلمة الله. مع أنّ بشريّته في ذاتها جزء من الخالق، فقد صارت جسد الله. نحن لا نعبد هذا الجسد في ذاته، وبمعزل عن الكلمة، ولا نفصله أيضًا عن البشريّة. ولكن إذ نعرف أنّ الكلمة صار بشرًا، نقرّ أنّه الله وإن صار بشرًا«.

وتطرّقت الرسالة إلى إبيكتاتوس (أسقف كورنتوس) إلى العلاقة بين المسيح التاريخيّ والابن الأزليّ. قدّم اسقف كورنتوس مذكّرة حول مسائل طُرحت في أبرشيّته، ومنها نستخلص مضمون جواب أثناسيوس: »أيّة جهنّم تقيّأت هذا القول أنّ الجسد المولود من مريم هو من جوهر لاهوت الكلمة؟ إو أنّ الكلمة تحوّل إلى لحم وعظم وشعر، إلى الجسد، بحيث خسر طبيعته الخاصّة؟ من سمع الكنيسة، أو حتّى مسيحيٌّا، يقول، إنّ المخلّص اتّخذ جسدًا، في الرمز لا في الحقيقة؟ من هو كافر إلى هذه الدرجة بحيث يقول (أو يفكّر) إنّ اللاهوت الذي هو من جوهر الآب نال الختان، وصار ناقصًا بعد أن كان كاملاً؟ وأنّ من سُمّر على الصليب لم يكن جسدًا، بل جوهر الكلمة الخلاّقة؟ من يدعو مسيحيٌّا ذاك الذي يُسند الرأي الذي يقول إنّ الكلمة كوّن لنفسه جسدًا متألّمًا من جوهره الخاص، لا من مريم؟ من استطاع أن يفكّر ويقول إنّ من يعلن أنّ جسد الربّ جاء من مريم، لا يقبل بالثالوث، بل يتحدّث عن رابوع في اللاهوت بحيث يرتئي أنّ البشريّة التي لبسها المخلّص من حشا مريم تنتمي إلى جوهر الثالوث؟ ويرى آخرون أنّ الجسد لم يأتِ بعدَ لاهوت الكلمة، بل هو أزليّ مثله، لأنّه تكوّن من جوهر الكلمة. فكيف استطاع مسيحيّون أنّ يشكّوا بأنّ الربّ الذي خرج من مريم هو ابن الله في الطبيعة وفي الجوهر، حسب البشريّة من نسل داود ومن بشريّة مريم القدّيسة؟«

* أربع رسائل إلى سرابيون، أسقف تمويس (في الصعيد). هذه الرسائل التي دّوِّنت سنة 359 أو 360، تشكّل مؤلّفًا متماسكًا، لا لأنّها تتوجّه إلى الأشخاص ذاتهم وحسب، بل وأيضًا لأنّها تتطرّق إلى الموضوع عينه: التعليم حول الروح القدس. ارتبطت مسألة الروح القدس بمسألة لاهوت الابن، وبالتالي بالجدال الأريوسيّ، من بعيد أو قريب. أكّد بعضهم أنّ الروح القدس هو مجرّد خليقة. وجعل أثناسيوس نصب عينيه أن يردّ على هؤلاء الهراطقة الجدد الذين يفسّرون مقاطع الكتاب المقدّس في المعنى المجازيّ. إنّ تعليم أثناسيوس حول لاهوت الروح القدس وحول هويّة جوهره في العلاقة مع الآب، يلتقي مع الفكر الكرستولوجيّ لدى مفكّري الإسكندريّة. الروح القدس هو الله. فلو كان مجرّد خليقة، لم يكن فيه أيّة مشاركة في اللاهوت. بما أنّه يؤلّه الإنسان، فهذا يعني أنّ طبيعته هي طبيعة الله. إذن، هو كالابن، مساوٍ للآب في الجوهر. وأعلن أثناسيوس أنّ الروح القدس ينبثق من الآب، كما اعتبر أنّنا ندرك انبثاق الروح عبر معرفتنا للرسالة التي تسلّمها من الكلمة.

كان سرابيون قد كتب إلى أثناسيوس: »انفصل بعضهم عن الأريوسيّين بسبب التجديف على ابن الله، ولكنّهم يمتلئون من أفكار معادية للروح القدس، فيعتبرون أنّه لا مجرّد خليقة وحسب، بل أحد الأرواح الخدّام، وهو لا يختلف إلاّ بالدرجة عن الملائكة«. في الرسالة الأولى، ردّ أثناسيوس على هؤلاء الهراطقة، فبيّن عمق فكره وقوّته، مشدّدًا على أنّ معرفتنا للروح تنبع من معرفتنا للابن. فالروح القدس هو روح الابن، لا لأنّ الابن يعطيناه ويرسله، بل لأنّه مبدأ حياة المسيح فينا. وأجابت الرسالتان الثانية والثالثة على سؤال سابق طرحه سرابيون. وناقشت الرابعة براهين »المجازيّين«: »إذا لم يكن الروح القدس خليقة ولا واحدًا من الملائكة، بل ينبثق من الآب، فهو إذًا ابن هو أيضًا، وصار مع الكلمة أخوين اثنين. فإن كان أخا الكلمة، كيف يكون الكلمة الابن الوحيد، أو كيف لا يكونان متساويين؟ كيف يُسمّى الواحد بعد الآب والآخر بعد الابن؟ وإذا كان ينبثق من الآب، كيف لا يقال إنّه هو أيضًا مولود أو إنّه ابن، بل إنّه فقط الروح القدس؟ وإن كان روح الابن، فهذا يعني أنّ الآب هو جدّ الروح«.

ونورد برهان أثناسيوس في هذا المجال: »من لا يقدّسه آخر، من لا يشارك في التقديس، بل هو من يشرك الآخرين معه، من فيه تتقدّس جميع الخلائق، كيف يمكن أن يكون واحدًا من كلّ هذه الكائنات المخلوقة، شبيهًا بالذين يشاركونه؟ فإذا كنّا بمشاركتنا للروح، صرنا »مشاركين في الطبيعة الإلهيّة« (2 بط 1: 4)، جاهلاً يكون من يقول إنّ الروح ينتمي إلى الطبيعة المخلوقة، لا إلى طبيعة الله. لهذا يتألّه أولئك الذين يكون فيهم. فإن كان يؤلّه، فلأنّ طبيعته هي طبيعة الله...«.

وبما أنّ الروح القدس هو جزء من الثالوث القدس، وأنّ الثالوث متماسك، متناسق، فهذا يعني أنّه لا مخلوق، أنّه الله: »لهذا السبب أيضًا، جاهلاً يكون من يقول إنّ الروح خليقة. فلو كان خليقة، لا يرتَّب مع الثالوث. يكفي أن نعرف أنّ الروح ليس خليقة، ولا يمكن أن يُعدّ بين أعمال الله: فلا يمكن لشيء غريب أن يمتزج بالثالوث الذي لا يتقسّم ويبقى شبيهًا بذاته«.

وهكذا يكون الروح، شأنه شأن الابن، مساويًا مع الآب في الجوهر: »فإن كان الروح واحدًا، ساعة الخلائق كثيرة والملائكة عديدون، فأي شبه بين الروح وبين الكائنات التي وُجدت في وقت من الأوقات؟ فمن الواضح أنّ الروح ليس في عداد الكائنات الكثيرة، وليس ملاكًا، بل هو وحيد، كما هو الكلمة الذي هو وحيد، وكما هو الله الذي هو وحيد، ومساوٍ في الجوهر للآب والابن. فالاعتبارات التي يقدّمها الكتاب عن الروح القدس تدلّ وحدها وفي ذاتها، أنّه لا يشارك الخلائق في الطبيعة والجوهر، بل يشارك الابن في الجوهر، داخل الثالوث. وهذا ما يخزي جهالة الخصوم.

بعد كلام عن الابن وعن الروح القدس، نصل إلى الكلام عن الثالوث. فنقرأ ما يقوله أثناسيوس في رسالته الأولى إلى سرابيون:

»إذن هناك ثالوث مقدّس وكامل، يُعترَف به أنّه الله في الآب والابن والروح القدس. هو لا يتضمّن شيئًا غريبًا، شيئًا يمتزج به من الخارج. هو لا يتكوّن من خالق وخليقة، بل هو كلّه قوّة خلاّقة ومنتجة، هو يشبه ذاته. غير منقسم في طبيعته. فاعليّته فريدة. فالآب يعمل كلّ شيء بالابن في الروح، وهكذا تُحفظ وحدة الثالوث، كما يُعلن في الكنيسة إله واحد هو فوق الجميع ويفعل بالجميع وهو في الجميع (أف 4: 6): فوق كلّ شيء كالآب، كالمبدأ والينبوع. بالجميع، بالابن. في الجميع، في الروح. الثالوث موجود ولا يحدّه اسم أو ظاهر لفظ، بل كثالوث في الحقيقة وفي الواقع. فكما أنّ الآب هو الكائن، هكذا كلمته هو الكائن والإله فوق كلّ شيء، والروح القدس لا يُحرم من الوجود، بل هو موجود وقائم حقٌّا. فالكنيسة الكاثوليكيّة لا تفكّر أقلّ من ذلك، لتتجنّب السقوط  مع الذين هم الآن يهود على طريقة قيافا وساباليوس. هي لا تتخيّل شيئًا لئلاّ تقع في بوليتاويّة (تعدّد الآلهة) الوثنيّين...«.

بما أنّ أثناسيوس تحدّث عن ثالوث »غير مكوّن من خليقة، خالق، بل كلّه خالق«، أبعد ضرورة اللوغوس كوسيط لخلق العالم الذي دافع عنه أريوس حسب نظريّة أوريجانس وفيلون. وردّ الأسقف على تعليم أريوس الذي يقول إنّ الله رأى، حين خلق الطبيعة، أنّها لا تقدر أن تتحمّل بشكل مباشر يد الآب، فخلق أوّلاً الابن أو الكلمة كوسيط من أجل خلق ما تبقّى في الكون: »إن قالوا إنّ الله ما أراد أن يتعب ليخلق الباقي، فصنع فقط الابن، رفضت الخليقة كلّها هذه اللغة التي تليق بالله. قال أشعيا في الكتاب: »الإله الأزليّ الذي أعدّ أقاصي الأرض لا يحسّ بالجوع ولا بالتعب« (40: 28). أن يكون الله اعتبر أنّه لا يليق به أن يخلق الباقي، فخلق فقط ابنه وكلّفه بالآخرين، وكأنّه مساعد، فهذا ما لا يليق بالله، لأنّ الله ليس إله تكبّر، الرب يوبّخ (الذين يقولون مثل هذا الكلام) حين يقال: »ألا يُباع عصفوران بفلس، وواحد لا يسقط على الأرض بدون إرادة أبيكم« (مت 10: 29). إن كان يليق بالله أن يهتمّ حتّى بالأشياء الصغيرة، بشعرة، بدوري، بعشب الحقل، يليق به أيضًا أن يخلقها. فالذين تهتمّ بهم عنايتُه هو خالق لهم بالكلمة. والذين يتكلّمون هكذا يقعون في عبثيّة سيّئة، لأنّهم يميّزون بين الخلائق والخلق، ويعتبرون الخلق عمل الآب، والخلائق عمل الابن. أو أنّ جميع الأشياء يجب أن تأتي إلى الوجود بواسطة الآب مع الابن. أو إن جاءت كلّ خليقة إلى الوجود بواسطة الابن، فيجب أن لا ندعوه هو واحدًا من هذه المخلوقات«.

هذا ما قاله أثناسيوس في الردّ على الأريوسيّين، فرفض أن يجعل اللوغوس مع الخلائق، بل مع الله فأعلن: الكلمة غير مخلوق، بل مولود. وتابع الردّ على أريوس الذي اعتبر أنّ الابن خليقة الآب وعمل إرادة الآب. فاسم الابن يفترض ولادته. هو نتيجة جوهر الآب، لا مشيئته. لهذا، لا يمكن أن نسمّي الابن خليقة الآب. فهو يمتلك مع الآب ملء اللاهوت. الآب هو الله في كلّ معنى الكلمة، والابن هو الله في كلّ معنى الكلمة. ويذكّرنا أثناسيوس بتشبيه النور الخارج من الشمس، ليدلّ على أنّ الولادة على مستوى الله تختلف عن الولادة على مستوى البشر:

»بما أنّنا وصلنا إلى الكلام عن العماد، فمن الضروريّ أن نشرح لماذا سُمِّي الابنُ مع الآب. هذا لا يعني أنّ الآب لا يكفي. وليس بغير سبب ومن قبيل الصدفة. فلأنّه كلمة الله وحكمته وبهاؤه، ووُجد معه منذ الأزل. فإن قدّم الآب نعمته، يستحيل أن لا تُعطى في الابن، لأنّ الابن هو في الآب، كما البهاء في النور. فليس عن حاجة أسّس الله الأرض بحكمته (أم 3: 19)، بل لأنّه آب، لهذا صنع كلّ شيء بواسطة كلمته. وثبّت العماد المقدّس في الابن. حيث الآبُ هناك الابن أيضًا، كما أنّه حيث الضوء هناك البهاء. ما يفعله الآب يفعله بالابن والربّ نفسه قال: »أنا أعمل ما أرى الآب يعمله« (يو 5: 19). كذلك في تأسيس العماد: فالذي يعمّده الآب يعمّده الابن أيضًا ويجعله الروح القدس كاملاً. حين تُشرق الشمس يقولون: بهاؤها ينير، لأنّ النور واحد فلا نستطيع أن نقسمه ولا أن نجزّئه. وهنا أيضًا، أن يُوجد الآبُ أو يُسمّى، فالابن يوجد أيضًا. يُسمّى الآب في العماد، فمن الضروريّ أن يُسمّى الابن أيضًا«.

 

خاتمة

تلك كانت مسيرتنا مع أثناسيوس الكبير ودفاعه عن لاهوت الابن. حياته مخاطرة منذ البداية، وقد دخل إلى مجمع نيقية وهو شمّاس، برفقة أسقفه الإسكندر. شابه أهل تسالونيكي الذين اهتدوا إلى المسيحيّة فرافقهم الاضطهاد منذ البداية. فلو لبث أثناسيوس بعيدًا عن هذا المجمع الذي تحدّث عن هويّة الابن المساوي للآب في الجوهر، وعن الثالوث الأقدس، لكان أسقفًا من هؤلاء الأساقفة العديدين الذين عاشوا حياة من الهدوء وماتوا في وسط قطيعهم بعد أن شبعوا من الأيّام. ولو تراخى كما تراخى آخرون أو مالق، لكان كسب المال والسلطة. ولكنّه لم يفعل فذاع صيته في الشرق والغرب، ووصلت إليه الرسائل من هذا الأسقف أو ذاك، فأعطى توجيهاته، ووبّخ ساعة يجب التوبيخ، وشجّع ساعة الحاجة إلى التشجيع. وقوّته التي استمدّها من الربّ ومن محبّة كنيسته، كنيسة الإسكندريّة، وظّفها للدفاع عن العقيدة والتعليم الصحيح. ذكرنا بعض كتب أثناسيوس وتركنا جانبًا رسائل العيد، حياة القدّيس أنطونيوس، ومقالات أخرى عديدة. فلسنا أمام مقال مدرسيّ نجعل فيه كلّ ما نعرفه عن هذا الأب الكبير من آباء الكنيسة، بل أمام تأمّل في ما عمله آباؤنا في الإيمان فتركوا لنا إرثًا روحيٌّا ما زلنا نغرف منه، إرثًا يطلب منّا أن نفعّله من أجل عالمنا العربيّ في القرن الحادي والعشرين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM