الفصل الرابع عشر: كنيسةالإسكندرية من عظمتها إلى إنحدارها.

الفصل الرابع عشر:

كنيسةالإسكندرية من عظمتها إلى إنحدارها

كانت الإسكندريّة، مع أثينة وأنطاكية، قطبًا هامٌّا في الحضارة اليونانيّة، كما كانت المركزَ الرئيسيّ للعلوم الفيلولوجيّة والفلسفيّة واللاهوتيّة. ففي محيط  الإسكندريّة، وُلدت الحضارة العبريّة في اللغة اليونانيّة وتوسَّعت: فيها كانت السبعينيّة. ثمّ فيلون الفيلسوف المتأثِّر بالعالم الأفلاطونيّ. على المستوى الاجتماعيّ والسياسيّ، كانت هذه المدينة جزيرة يونانيّة تامّة وسط مملكة مصر القديمة، من أجل النظر في توسُّع الغنى الزراعيّ والتجاريّ في تلك البلاد. وورث الحكم الرومانيّ من هذا الوضع الذي ساعد على إقامة مستوطنة يهوديّة هامّة. كلُّ هذا ساعد على انتشار المسيحيّة باكرًا، فرُبطت بشخص مرقس، تلميذ بطرس.

إلى هذه الكنيسة نتعرَّف. ونمضي قبل انتشار المسيحيّة، فنكشف المناخ الذي فيه انطلق الإنجيل وامتدّ باتِّجاه سائر أفريقيا، قبل أن ينغلق على ذاته، في جماعات تحاول أن تحافظ على إيمانها في محيط  معادٍ يحاول أن يخنقها. أترى تتغلَّب عليها أبوابُ الجحيم، كما قال المسيح لسمعان بطرس ولسائر الرسل؟

1- الكنيسة قبل الكنيسة

الكنيسة هي في الأصل الجماعة التي تلتئم باسم الربّ. وقد كان في الإسكندريّة جماعة يهوديّة كبيرة. أقاموا في مصر، بشكل عامّ، وفي الإسكندريّة بشكل خاصّ، ونشروا هناك العهد القديم، فأعدّوا الطريق للعهد الجديد. اجتذبهم إلى الإسكندريّة مؤسِّسُ المدينة، الإسكندر المقدونيّ (356-323 ق.م.) ثمّ البطالسة الأوّلون(1)، كما قال المؤرِّخ يوسيفُس في »ردِّه على أبيّون« (2: 4) وفي »العاديّات اليهوديّة« (12/1: 11؛ 19/5: 2). كوَّنوا هناك مستوطنة، صارت فيما بعد أهمّ مستوطنة في الشتات. وصارت لها اللغة العبريّة، لغة غريبة، بعد أن أخذوا باللغة اليونانيّة. فنقلوا إليها كتبهم المقدَّسة في ما يُسمّى السبعينيّة. كان ذلك النقل حدثًا هامٌّا في تاريخهم، فاعتادوا أن يحتفلوا به في عيد سنويّ، على ما يروي فيلون في حياة موسى (2/7: 149). وبفضل هذه الترجمة، نشر يهود الإسكندريّة تعاليمهم بعد أن صارت في لغة يفهمها جيرانهم في هذه المدينة الكوسموبوليتيّة (مدينة توجز الكوسموس، الكون).

هذه الترجمة التي كانت أوَّل(2) ترجمة للبيبليا عن اليونانيّة إلى العبريّة، والتي قيل إنّ سبعين عالمًا (أو 72 عالمًا، على أساس 6 علماء من كلِّ قبيلة من القبائل) عملوا فيها، أنشدها اليهود في الإسكندريّة وتحدَّثوا عن طريقة نقلها. هذا ما تخبرنا به »رسالة أرستايس«(3) التي تعود إلى منتصف القرن الثاني ق.م.، وتشير إلى الغيرة الجامحة لدى اليهود بأن يُبرزوا قيمة أسفارهم المقدَّسة. فأرسطوبولس مثلاً، الذي عاش في القرن الثاني ق.م.، اعتبر أنَّه وُجد في مصر، قبل السبعينيّة، ترجمة يونانيّة للبنتاتوكس أو الأسفار الخمسة، فقرأها الوثنيّون وأخذوا الكثير عنها. وبيَّن ذلك حين نشر تفسيرًا متحيِّزًا ومغرَضًا، بعضَ الشعراء والفلاسفة في العالم القديم. كما ''فبرك'' نصوصًا من تأليفه نسبها إليهم.

وحين ظهرت المسيحيّة، كان يهود الإسكندريّة يعيشون ازدهارًا كبيرًا، على المستوى المادّيّ كما على المستوى الروحيّ، بحيث نظر إليهم سائر السكّان نظرةَ الحسد. حلّوا في حَيَّين كبيرين في المدينة، كما قال فيلون في »ردِّه على فلاكوس« (الوالي الرومانيّ). أقاموا بشكل خاصّ، في حيّ الدلتا، كما قال يوسيفس في »الحربّ اليهوديّة« (2/18: 8). في تلك الحقبة، برز رجل من أعظم رجالاتهم. هو فيلون. علَّم الحكمة في نظرة رفيعة ولغة نقيّة، ذكّرت الناس بأفلاطون. وتكوَّنت رؤية تروي عنه أنَّه رأى القدّيس بطرس في رومة قبل وفاته.

روى أوسابيوس القيصريّ في كتابه الثاني ما يلي: »إنّ فيلون، على ما يُروى، اتَّصل في عهد كلوديوس، في رومة، ببطرس الذي كان يبشِّر آنذاك سكّان المدينة. وذلك لا يكون مستبعَدًا...« (17: 1). هذا ما يذكره أيضًا القدّيس إيرونيمس في كتابه »الرجال المشهورون« (ف 11). في تلك الحقبة عينها، أقام في مصر نسّاك أتقياء. دُعوا الشفَّائين(4). صوَّر فيلون عاداتهم وممارساتهم في كتابه »حياة المشاهدة«. كانت مساكنُهم في جوار الإسكندريّة، عبر بحيرة مريوط. وكان تساؤل دام طويلاً: أما كان هؤلاء النسّاك مسيحيّين؟

وكان ليهود الإسكندريّة أماكن خاصّة بهم من أجل الصلاة، وكانوا على اتّصال دائم بفلسطين، فيحجّون إلى أورشليم، إذا أمكن، ثلاث مرّات في السنة، في عيد الفصح، وعيد العنصرة، وعيد المظال، فلا يختلفون عن المؤمنين في فلسطين. بل كان لهم مجمع في أورشليم حسب أع 6: 9، وكما قال المعلِّمون اليهود، عارضوا إسطفانس وكانوا السبب الأوَّل في رجمه، ولاسيّما حين نعتهم: »يا قساة الرقاب والقلوب، ويا صمَّ الآذان« (أع 7: 51). وبما أنَّ هؤلاء الآتين من الإسكندريّة اعتادوا الحجّ سنة بعد سنة، لا بدّ أن يكونوا سمعوا بكرازة يسوع ومعجزاته، وبالأحداث التي رافقت موته وقيامته. ودليلُنا إلى ذلك ما سمعوه من إسطفانس. فلماذا لا يكونون سمعوا يسوع؟ وقد يكونون حملوا شيئًا في عودتهم إلى مدينتهم، فكانوا أوَّل من حمل البشارة بالإنجيل.

2- أصول المسيحيّة

نتوقَّف هنا في القرنين الأوّل والثاني، ونتساءل: كيف أنَّ بولس لم يبشِّر الإسكندريّة، عاصمة الحضارة الهلّينيّة في أيّامه؟ ولكنَّه استقبل بين معاونيه يهوديّ من هذه المدينة، اسمه أبلُّس. قال عنه أع 18: 24-26:  من أهل الإسكندريّة. فصيح اللسان، قدير في شرح الكتب المقدَّسة. تلقَّن مذهب الربّ، فاندفع يتكلَّم بحماسة ويعلِّم تعليمًا صحيحًا ما يختصّ بيسوع. ولكنَّه كان لا يعرف إلاّ معموديّة يوحنّا. فلما بدأ يتكلَّم بجرأة في المجمع (في أفسس) سمعته برسكلّة وأكيلا، فأخذاه إلى بيتهما وشرحا له مذهب الربّ شرحًا دقيقًا.

قد يكون بولس بشَّر الملاّحين في المركب المسافر من الإسكندريّة إلى إيطالية (أع 27: 6). ولمّا انكسرت السفينة في مالطة، أُرسلت سفينة أخرى من الإسكندريّة »عليها رسم الإلهين التوأمين« (أع 28: 11). في أيّ حال، يورد قانون موراتوري(5) الذي دُوِّن في نهايــة القـرن الثـاني أو بداية القرن الثالث، »رسالة بولس إلى الإسكندرانيّين« (الآباء اللاتين 3: 191) التي لا نعرف عنها شيئًا.

وظهر في المسيحيّة القديمة كتيِّب هو »جدال ياسون وبابسكس«. كان ياسون يهوديٌّا وصار مسيحيٌّا. فأخذ يدافع عن المسيحيّة ضدّ بابسكس الذي كان يهوديٌّا من الإسكندريّة. عاند هذا، وفي النهاية اعترف أنَّه غُلب. دوَّن هذا الكتابَ(6) أرستون من بلاّ في الأردنّ، فقدَّم طريقة بها يتجادل المسيحيّ مع اليهوديّ: ينطلق من الكتابات اليهوديّة ويبيِّن أنَّ النبوءات المتعلِّقة بالمسيح وجدت كمالها في يسوع. في النهاية، اعترف بابسكس بالمسيح وتقبَّل العماد. هنا نلتقي مع يوستينس وحواره مع اليهوديّ تريفون. اعتبر باميليوس في حواشي عن القدّيس قبريانس (باريس 1916، ص 567، حاشية 61) أنّ ياسون هذا هو قريب القدّيس بولس، وقد ذُكر في أع 17: 5 وفي روم 16: 21.

وهناك وثيقة قديمة جدٌّا »الرسائل الإقليميّة المزعومة«. تبيِّن أنّ برنابا أتى إلى الإسكندريّة والتقى وثنيٌّا يطلب الحقيقة. هو إكلمنضس الرومانيّ الذي سيخلف القدّيس بطرس (عظة 1: 8، 9). ولكنّنا لا نستطيع أن نستنتج شيئًا من هذا الخبر الخياليّ. تبقى رسالة برنابا التي عرفها إكلمنضُس الإسكندرانيّ وأوريجانس ونسباها إلى رفيق بولس. ويميل الباحثون اليوم إلى القول إنّ كاتبها يهوديّ إسكندرانيّ اهتدى إلى المسيحيّة، وذلك في نهاية القرن الأوّل أو بداية القرن الثاني(7) . وكان كلام عن الرسالة إلى العبرانيّين التي أُرسلت من مصر إلى رومة مع تأثير كبير من الأسلوب الفيلونيّ على تفسير أليغوريّ(8) . أمّا رسالة يهوذا فنبّهت المؤمنين من الذين يحرِّكون الهرطقات. هذا الكلام ينطبق على كاربوكراتس(9)، كما ينطبق على غنوصيّين آخرين عرفتهم الإسكندريّة في القرن الثاني (إكلمنضُس الإسكندرانيّ، الموشّيات 3/2). وقيل إنّ لوقا درس في مصر وأتى إليها بعد ذلك وبشَّر فيها(10) . وراجت هذه الرواية في مخطوطات فارسيّة وسريانيّة لإنجيل لوقا تقول (في إمضاء) إنّ إنجيل لوقا كُرز به في الإسكندريّة. وكانت برديّة قديمة تحدَّثت عن لوقا مطران الإسكندريّة(11). وروت القوانين الرسوليّة 7:46 (الآباء اليونان 1:1052) أنّ القدّيس لوقا رسم أبيليوس أسقفًا على الإسكندريّة بعد أنيانس (7: 46؛ الآباء اليونان 1: 1052). وقال سليمان البصريّ في تواريخه الشرقيّة إنّ لوقا استُشهد في الإسكندريّة ودُفن فيها(12).

نسب التقليد إلى مرقس تأسيس كنيسة الإسكندريّة. نقرأ في الكتاب الثاني من التاريخ الكنسيّ: »يُقال إنّ مرقس هذا أُرسل الأوّل إلى مصر، التي بشَّر فيها بالإنجيل الذي وضعه، وإنَّه أنشأ كنائس، أوّلاً في الإسكندريّة بالذات«. قال عنه الذهبيّ الفمّ (العظة الأولى في إنجيل متّى): بشَّر في مصر ومنطقة تيبة والبنتابوليس. في عيد الفصح، قبض عليه الوثنيّون المحتفلون بعيد إلههم سرابيس. جرّوه بعنف(13) في الشوارع وفي الضواحي. توفّي في هذه المعاملات السيّئة، ودُفن في الإسكندريّة. قرب مدفنه رقد خلفاؤه: بطرس أسقف الإسكندريّة الذي استُشهد سنة 311.

وإليك لائحة بخلفاء مرقس بحسب أوسابيوس: بعد أنيانُس، أبيليوس، قردون، بريمُس، يوستُس، أومينيس، مرقس الثاني، قيلاديون، أغريبينُس، يوليانس.

3- الغنوصيّة (القرن الثاني)

في الإسكندريّة، تلك المدينة العالميّة والمغامرة، سرحت التعاليم الأكثر خطورة: الاستعارات بلطائفها ودقائقها، السحر... كلّ هذا قاد إلى عالم من الأحلام. والغنوصة(14) (المعرفة الباطنيّة) التي اعتبرت أنّ باستطاعتها البلوغ إلى المعرفة الكاملة للأمور الإلهيّة والبشريّة، بحيث تكون العلمَ في كلِّ تساميه. كانت في الواقع مزيجًا من النظم الوثنيّة والمعتقدات اليهوديّة والمسيحيّة.

وُلدت الغنوصيّة في آسية الصغرى، وتوسَّعت في مصر أكثر من أيِّ مكان آخر. قيل إنّ مؤسِّسها سمعان الساحر الذي مضى إلى مصر، كما قالت »العظات الإقليميّة المزعومة« (2: 24). في القسم الأوّل من القرن الثاني، كان باسيليدس تلميذ مناندريس، الذي كان بدوره تلميذ سمعان. كان في أنطاكية. ثمّ ترك سورية وأقام في الإسكندريّة حيث نشر تعاليمه. وواصل عمله ابنه إيزيدورس فوصل إلى أقصى النتائج اللاأخلاقيّة. في الوقت عينه، علَّم كربوكراتس في الإسكندريّة غنوصة تحرّر الإنسان من كلِّ شريعة. وابنه إبيفانيوس الذي مات وهو ابن 17 سنة، كرز في خطّ أفلاطون، شركةَ الخيرات والنساء. وإلى الإسكندريّة أتى أبايس لاجئًا، بعد أن طرده المرقيونيّون بسبب حياته اللاأخلاقيّة.

ترك هؤلاء الغنوصيّون أثرًا سيِّئًا في الكنيسة، فتبلبل المؤمنون. ولكنّ الثابتين عرفوا أنّ هذه المجموعات لا يمكن أبدًا أن تكون »كنيسة واحدة، جامعة«. قال دوشان(15): »لا نعتقد أنّ هذه الظواهر الضالّة تمثِّل المسيحيّة كلَّها. فهذه المدارس التي ليست سوى مدارس، تفترض وجود كنيسة، الكنيسة الكبرى. وهذه الانحرافات التي تحمل أسماء أصحابها، تدلّ بشكل معاكس، على وجود التقليد المستقيم«.

هنا نتذكَّر أنّ مصر عَرفت أهمّ المخطوطات الغنوصيّة. في نجع حمّادي التي تبعد 127 كلم إلى الشمال من الأقصر. كشفت في نهاية 1945، ووصلت إلى أيدي الأخصّائيّين سنة 1947. فتألَّف من 13 كودكسًا في 1153 صفحة إنجيل الحقيقة، صلاة الرسول بولس، إنجيل فيلبُّس، منحول (أبوكريفون) يوحنّا..(16). نشير إلى أنّ متحف برلين سبق فاشترى سنة 1896 نصّين هامّين: إنجيل مريم (المجدليّة)، أعمال بطرس(17).

4- مدرسة الإسكندريّة (القرنان 3-4)

في مجتمع منفتح على عالم الفكر، وسط اليهود والوثنيّين والهراطقة، شعرَ المسيحيّـون بالحـاجـة إلى فهـم معتقداتـهـم والدفـاع عنهــا. قـال إيرونيمـس في الرجال المشهورين (36، الآباء اللاتين 23: 650): منذ زمن مرقس، وُجد بينهم »معلّمون كنسيّون نَعموا بفطنة كبيرة وتبحُّر كبير، في الأسفار المقدَّسة، كما في الأدب الدنيويّ«. وظهرت مدرسة الفقاهة(18). هل كان أثيناغوراس أوَّل معلِّم في هذه المدرسة؟ ذاك ما قاله فيلبُّس ابن سيدي (بمفيلية، تركيّا) في الآباء اليونان (39: 329). ولكنّ هذه الشهادة تبدو بعيدة عن الصحّة.

أ- تأسيس المدرسة

يبدو أنّ بانتينس(19) هو الذي أسَّس المدرسة. جاء من صقلِّية. كان فيلسوفًا وثنيٌّا واهتدى إلى المسيحيَّة. ثمَّ عيِّن مسؤولاً عن المدرسة المسيحيَّة في الإسكندريَّة. مضى يعظ في الحبشة حيث وجد إنجيلاً عبريٌّا لمتّى، بعد أن تركه هناك الرسول برتلماوس. فحمله بانتينس إلى الإسكندريَّة (التاريخ الكنسيّ 5: 10؛ الرجال المشهورون 36). نبغ في العلم الإلهيّ وفي الآداب البشريَّة فنال شهرة واسعة. »إنَّ تلك النحلة الآتية من صقلِّية، ارتشفت أزهار الأنبياء والرسل، فكوّنت في آذان السامعين زادًا نقيٌّا من العلم«. ذاك ما قاله إكليمنضُس الإسكندرانيّ في »الموشَّيات« (1:1). ما ذكر اسمَ بانتينس. ولكن أوسابيوس قال إنَّه بانتينس (التاريخ الكنسيّ، 5: 11).

وُلد إكليمنضُس (150-215؟) في الإسكندريّة، أو في أثنية كما قال إبيفانيوس أسقف سلامينة. سافر إلى اليونان وإيطالية وسورية قبل أن يستقرّ في مصر حيث تعلَّق بتعليم بانتينس. قال: »آخر واحد التقيت به، وكان الأوَّل بالفضيلة والعلم، وجدتُه مختبئًا في مصر، فما طلبتُ بعد سواه« (الموشّيات 1: 1). انضمّ أوَّلاً إلى معلِّمه حوالي سنة 190، ثمّ خلفه حوالي سنة 200. مع اضطهاد سبتيمُس سويريوس (سنة 202 أو 203)، ترك الدراسة والإسكندريّة، في فطنته، واعتزل في كبادوكية حيث توفّي سنة 215 تقريبًا. ضمَّ إكليمنضُس إلى التعليم الشفهيّ الكتابةَ، فجُمعت كتاباتُه في الآباء اليونان، الجزءين الثامن والتاسع.

الكتاب الأوّل: الإرشاد إلى اليونان(20). هو مقال يدعو الناس إلى الاهتداء. توخّى فيه الكاتب أن يُقنع عابدي الآلهة ببلاهة المعتقدات الوثنيّة ودناءتها. وهكذا يكشف على عيونهم الوجه الوقح للمستورات الخفيّة، ويعيدهم إلى الديانة الحقّة، إلى تقليد اللوغس الإلهيّ، الذي أعلنَه الأنبياء وظهرَ في المسيح. هذا اللوغس يعد بحياة تشبه الانتظار البشريّ العميق، فتمنح الفداء والخلود. قال: »لماذا أرشدك؟« أنا معجّل لكي تخلص. وهذا ما يريده المسيح أيضًا.

الكتاب الثاني، المربّي(21). يواصل في ثلاثة كتب ما بدأه في »الإرشاد«. يتوجَّه إلى الذين أخذوا بنصيحة إكلمنضُس وتعلَّقوا بالإيمان المسيحيّ. الآن صار اللوغس مربّيٌّا يعلِّم المهتدين كيف يوجِّهون حياتهم. »الهدف هو أن يجعل النفس أفضل، لا أن يعلِّمها. أن يُدخلها في حياة من الفضيلة، لا في حياة عقليّة«.

الكتاب الثالث، الموشّيات(22). تتضمَّن ثمانية كتب. درست العلاقات بين الديانة المسيحيّة والعلم الدنيويّ، بين الإيمان المسيحيّ والفلسفة اليونانيّة. اعتبر بعضُ المسيحيّين أن لا فائدة من الفلسفة اليونانيّة. فدافع إكليمنضُس عنها: »هي موهبة من عند الله. منحتها العنايةُ الإلهيّة لليونان، كما منحت الشريعةَ لليهود. وهي تُقدِّم خدماتٍ هامّة للمسيحيّين، ضروريّة لتبرير اليونان. والآن هي مفيدة لتقود النفوس إلى الله، لأنّها مربّية أولى للذين يبلغون إلى الإيمان بالبرهان... فالفلسفة أعطيَت بشكل رئيسيّ لليونان قبل أن يدعوهم الربّ: هي قادت اليونان إلى المسيح، كما قادت الشريعة العبرانيّين. والآن، تبقى الفلسفة إعدادًا يجعل في الطريق القويم، ذاك الذي اكتمل بالمسيح« (الموشّيات 1/5: 28).

ب- قمّة المدرسة

أوَّلاً: أوريجانس (185-253)

وُلد في الإسكندريّة. كان ابن شهيد اسمه ليونيدس. تلقّى من والده تربية متينة كمَّلها متتبِّعًا دروس إكلمنضُس. في عامه الثامن عشر، كان مدير جماعات الفقاهة المسيحيّة والتعليم. في تلك الحقبة عينها، كان أمونيوس ساكاس وهو معلِّم مسيحيّ معروف، يعطي دروسًا رائعة في حيّ بروخيوم الغنيّ. سعى إلى مصالحة فلسفتين ما زالتا متزاحمتين، فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو. وكان من تلاميذه المشهورين: لونجينُس وأفلوطين. كما فتح الطريق أمام الأفلاطونيّة الجديدة التي تنتقي من الفلسفات المختلفة أفضلها. وتتلمذ أوريجانس على يده، إذ كان ابن خمس وعشرين سنة. فتطوَّر علمه تطوُّرًا كبيرًا.

سنة 212، سافر إلى رومة، وسنة 215 إلى عرابية. وكان في ذلك الوقت يقوم بالتعليم، فيأتي إليه الوثنيّون والهراطقة، الموعوظون والمؤمنون، الفلاسفة من كلِّ جانب. كما كانت النساء يتسابقن للاستماع إليه. وتكاثر الناس حوله وتكاثروا فما عاد وحده يستطيع القيام بالمهمّة. فقسم تلاميذه قسمين، فأوكل بالمبتدئين واحدًا من أفضل تلاميذه، وهو وهرقلاس واحتفظ لنفسه بالمتقدِّمين. سنة 215، حصلت قلاقل في الإسكندريّة، فأجبر على اللجوء إلى فلسطين: هناك بناء على دعوة صديقَيه أسقفَي أورشليم وقيصريّة، شرح الكتاب المقدَّس في الكنائس. فاعتبر ديمتريوس، أسقف الإسكندريّة، أنّ ما يفعله أوريجانس، وهو من العوام، يتعدّى على سلطة الكهنة والأسقف، فدعاه، فعاد إلى عمله في الاسكندريّة. وكان أحدُ المعجبين، واسمه أمبروسيوس (هداه من الغنوصيّة)، يساعد أوريجانس بسخاء، فيقوم »بنشر« كتبه، ويضع في خدمته الناسخين. كانوا سبعة. بل أكثر بعض المرّات. يكتبون كلُّ واحد بدوره ما يُملي عليهم.

سنة 228، دُعيَ أوريجانس إلى آخائية، في اليونان، ليحارب بعض الهراطقة، مع رسالة توصية من أسقفه ديمتريوس. وحين مرَّ في فلسطين، رُسم كاهنًا وهو ابن 43 سنة. ولمّا عاد إلى الإسكندريّة، عادته السلطةُ الكنسيّة عداءً. فجمع ديمتريوس سينودوسين عليه، سنة 231، واتَّهمه بمخالفة القوانين وبالهرطقة في التعليم. حرمه وحطَّه من الكهنوت، وسحب منه الإذن بالتعليم، وجعل مركزه لهرقلاس. حينئذ ابتعد أوريجانس بشكل نهائيّ عن الإسكندريّة، وأتى إلى فلسطين. سافر إلى الكبادوك، إلى اليونان، إلى عرابية. وعاد في النهاية إلى قيصريّة في فلسطين. خلال اضطهاد داقيوس سنة 250، قُبض عليه، سُجن، عُذِّب. ومات في صور (لبنان) سنة 253 بسبب سوء المعاملات التي قاساها.

خلال حياته، قام بنشاط تعليميّ هائل. جُمعت مؤلَّفاته في جزئين من الباترولوجيّا اليونانيّة. دُعيَ أدامنتيوس، أي رجل ألماس diamant ورجل الأحشاء البرونزيّة chalcentros. لن نقول إنّه كتب 6 آلاف كتاب، كما قال إبيفانيوس في كتابه عن الهراطقة (64: 63، الآباء اليونان 41: 1177) وإيرونيمُس في »الدفاع عن كتب روفينس« (مترجم أوريجانس إلى اللاتينيّة، 2: 13؛ الآباء اللاتين 23: 436). ولكنّنا نعرف أنَّ مؤلَّفاته كانت كثيرة جدٌّا.

في كتابه »المبادئ« كان أوَّل من قدّم التعليم المسيحيّ بطريقة منهجيّة. في »الردّ على قلسيوس« واجه بقوّة افتراءاتٍ تصيبُ المؤمنين. أمّا أعماله الكبيرة الكبيرة، فكانت في مجال الكتاب المقدَّس. وأوَّلها الهكسبلة: جعل في ستّة عواميد متقابلة (بل سبعة وثمانية وتسعة لبعض الأجزاء) كلّ ترجمات العهد القديم إلى اليونانيّة، بدءًا بالسبعينيّة. بعد ذلك، كانت التفاسير كثيرة والعظات في الكتاب المقدَّس، فيسعى بدقّة ولطافة إلى التعرُّف إلى معانٍ ثلاث في النصوص: المعنى السرديّ (السوماتيّ)(23) أو الحرفيّ، المعنى البسيخيائيّ أو النفسيّ أو الخلقيّ، المعنى البنفماتيّ أو الروحيّ. والمعنى الثالث أفضل من الأوّل وأكمل من الثاني.

كان لتعليمه تأثير كبير، وبعضه كان موضع جدال في زمانه وبعد موته. اتَّهموه خصوصًا بالكلام عن أزليّة النفوس البشريّة، عن روحانيّة الأجساد القائمة من الموت، والإقامة الأخيرة لجميع المخلوقات العاقلة في صداقة مع الله. وبكلمة أخرى، بخلاص الملائكة والبشر جميعًا بحيث »تنغلق« جهنَّم، ويزول الشرّ من خليقة الله. لا شكّ في أنّ تلاميذه نسبوا إليه أفكارًا لم يكن مسؤولاً عنها. وخلال حياته، حين أجبر على ترك الإسكندريّة بعد أن حكم عليه أسقفها ديمتريوس، اشتكى من أصدقائه الذين أفسدوا كتاباته، وتبرّأ من ضلالات نُسبت إليه كذبًا(24). وفي رسالة إلى البابا فابيانس، ندم على بعض أخطائه. وفي الوقت عينه، اشتكى من صديقه أمبروسيوس الذي نشر له عددًا من المقالات كانت خاصّة به (إيرونيمس، الرسالة 84، الآباء اللاتين 22: 751).

بعد أوريجانس، كان هرقلاس (+247) الذي شارك معلِّمه في التعليم. ولكنّ عمله لم يدُم طويلاً بعد أن صار أسقفًا. وقيل إنّه حكم حالاً على تعاليم صديقه القديم أوريجانس.

وكان ديونيسيوس (+264) تلميذًا آخر لأوريجانس. اتَّخذ إدارة المدرسة سنة 231 ثمّ صار أسقفًا بعد هرقلاس سنة 247، كما قال أوسابيوس في التاريخ الكنسيّ (الكتاب السادس، فصل 29، 35). عاش في حقبة مبلبلة بسبب الاضطهاد. خلال أسقفيّته، تدخَّل في عدد من المسائل الكنسيّة. كتب إلى نوفاتيانس الذي جعل نفسه »أنتي بابا«، بابا تجاه بابا رومة، كورنيليوس، سنة 251-253. حثَّه هرقلاس مع جماعته على الاعتراف بسلطة البابا. سنة 256، شارك في جدال حول شرعيّة عماد الهراطقة، وأسمع كلمات التوافق. ومضى إلى أرسينوئيّ (على حدود ليبيا) ليحارب أسقفًا مصريٌّا يشرح مُلك ألف سنة الذي أعلنه سفر الرؤيا، في شكل بشريّ، لحميّ، على طريقة اليهود والهراطقة. ونشر مقالين في هذا المجال.

وحين تفشَّت بدعة ساباليوس(25) في مصر (خصوصًا في البنتابوليس)، حول الثالوث الأقدس، حارب ديونيسيوس تعليمًا. وينكر تميُّز الأقانيم الثلاثة ويتحدَّث عن ثلاثة أشكال أو وجهات في اللاهوت، على مستوى الخلق والفداء والتقديس. وفي سنة 264، دُعيَ إلى أنطاكية ليحكم على ضلالات بولس الشميشاطيّ حول الثالوث. لم تسمح له قواه بالسفر، فاكتفى بمؤلّف في هذا المجال. بعد موته دُعيَ »الكبير«. وقال فيه أثناسيوس، أسقف الإسكندريّة:»معلِّم في الكنيسة الكاثوليكيّة«. ودعاه باسيليوس في الرسالة الثانية (188) »الكاتب القانونيّ«، أي ذاك الذي كتاباته هي قاعدة الإيمان.

ثانيًا: ديديمس

ونصل إلى المعلِّم الثالث عشر(26)، ديديمس. وُلد في الإسكندريّة حواليّ سنة 310. أصابه العمى في عامه الرابع أو الخامس. فتنسَّك من أجل الدرس والصلاة. عادى الأريوسيّة وحاربها، فعيَّنه أثناسيوس مديرًا على المدرسة، ولبث في مهمَّته نصف قرن من الزمن. اجتذبت شهرتُه في العلم والفضيلة العديدَ من الناس: القدّيس أنطونيوس، روفينُس، القدّيس إيرونيمس، بلاديوس(27).

نَعِمَ ديديمس بمعرفة واسعة أدهشت معاصريه، وتجسَّدت في عدد كبير من الكتب. قال فيه بلاديوس: »فسَّر لفظًا لفظًا العهد القديم والعهد الجديد. وكان تنبُّهه إلى التعليم كبيرًا، فعرضه بدقَّة وصواب، بحيث تجاوز القدماء كلَّهم بتعليمه«. ووافق هذا الرأيَ إيرونيمس الذي تحدَّث عن كتبه »العديدة والنبيلة«(28) في تفسير الكتب المقدَّسة. ثمّ في العقيدة.

ألَّف »في الثالوث« بين سنة 381-392، في ثلاثة كتب(29). توافق فيه مع أثناسيوس ليدافع عن وحدة الجوهر في الأقانيم الثلاثة. رفض التبعانيّة(30) وردّ على اعتراضات الأريوسيّين (يرفضون ألوهيّة الابن) والماقيدونيّين (يرفضون ألوهيّة الروح القدس). عالج الكتابُ الأوَّل موضوع الابن. والكتاب الثاني موضوع الروح القدس، والكتاب الثالث أوجز الكتابين الأوّلين، وتطلَّع إلى المقاطع البيبليّة الرئيسيّة التي بنى عليها الخصومُ براهينهم.

أما كتاب ديديمس في الثالوث (الينابيع المسيحيّة 386)، فوصل إلينا في اللاتينيّة بعد أن ضاع الأصلُ اليونانيّ. نقله إيرونيمس بناء على طلب البابا داماسيوس، فكان من أفضل الدراسات حول المسألة في القرن الرابع.

وشرح ديديمُس الكتاب المقدَّس بعهديه. نشرت الينابيع المسيحيّة (في الفرنسيّة) كتابه »عن التكوين« (233، 244) وكتابه »عن زكريّا« (83، 84، 85). أكَّد إيرونيمس أنّ ديديمس ألَّف تفاسير المزامير، أيّوب، أشعيا، هوشع، زكريّا. كلُ هذا ضاع، ولكن وُجدت برديّات عديدة في طورا، في مصر، سنة 1941. تضمَّنت مقاطع واسعة من تفاسير حول التكوين وأيّوب وزكريّا. وتحدَّث إيرونيمس عن تفسير المزامير في »الرجال المشهورين« (109) وفي الرسالة 112: 20. كان كبيرًا جدٌّا. وما ورد منه هنا وهناك، يعطينا فكرة عن التفسير الأليغوريّ (الاستعاريّ) والتصوُّفيّ في خطّ مدرسة أوريجانس. اهتمّ ديديمس بالنقد النصوصيّ، وقابل مختلف مخطوطات السبعينيّة وهكسبلة أوريجانس. اعتبر هذا المؤلِّف أنّ العهد القديم يتضمَّن تعليمًا مسيحيٌّا، وأنَّ كلَّ مزمور يعود إلى المسيح.

كان لكتابات ديديمس قيمة كبيرة بالنسبة إلى تاريخ الفلسفة. فإن لم نكن أمام عمل ضخم أو أصيل، وإن كنّا أمام فسيفساء من المقاطع، فهذه الكتابات تحتلّ مكانة هامّة في توسُّع التعليم الثالوثيّ والكرستولوجيّ. جاء ديديمس بين أثناسيوس والآباء الكبادوكيّين. فكان شاهدًا لانتقال هامّ من مرحلة إلى مرحلة في تاريخ اللاهوت. وما كتبه ديديمس، سبق وعلَّمه، فهيّأ الطريق أمام كيرلُّس الإسكندرانيّ وتعليمه عن يسوع المسيح.

5- الاضطهادات (202-312)

ما نقوله هنا هو أنّ كنيسة الإسكندريّة لم تعرف الاضطهاد في القرنين الأوّل والثاني بيد السلطات الرسميّة. كلّ ما كان، ثورات شعبيّة أو اندفاع على اليهود، فيُحسب المسيحيّون بعض اليهود. فالأباطرة ما كانوا يفهمون مرارًا الوضع الدينيّ في هذه البلاد. مثلاً، زار هدريانس مصر سنة 132 وكتب إلى قريبه ما يلي: »مصر هذه التي امتدحتَها لي، يا عزيزي سرفيانس، وجدتُها خفيفة، متقلِّبة، خاضعة لكلِّ نزوات الآراء الآتية إليها. فالذين يعبدون سيرابيس هم مسيحيّون وما من رئيس مجموع يهوديّ، ما من سامريّ، ما من مسيحيّ إلاّ وهو منجِّم، مبرِّج، مشعوز. »وبطرك« اليهود نفسه، حين يأتي إلى مصر، يُكرهه البعض على عبادة سيرابيس، والبعض الآخر على عبادة المسيح«(31).

هذه الرسالة، مهما تكن، هي علامة عن مدينة تستقبل كلَّ جديد، وخصوصًا مفكِّرين يمزجون في نهج تلفيقيّ الديانات الوثنيّة واليهوديّة والمسيحيّة. أجل، سيطر الهدوء في مصر، ولكن في نهاية القرن الثاني، حوالي سنة 195، كتب إكلمنضُس الإسكندرانيّ:

»كلَّ يوم نرى بعيوننا كيف يجري مدرارًا دمُ الشهداء، المحروقين أحياء، المصلوبين، المقطوعي الرؤوس« (الموشية 2: 20). هل يتكلَّم عن مصر أم عن منطقة أخرى؟ في أيِّ حال، أوَّل اضطهاد معروف كان مع سبتيمس سويريوس سنة 202 وما بعد. سنة 202، كان هذا الإمبراطور في فلسطين، فمنع كلَّ إنسان أن يصير يهوديٌّا أو مسيحيٌّا، وهدَّد بالعقاب الكبير. بعد ذلك الوقت بقليل، زار الإسكندريّة وعامل أهلها باللطف ومنحها مجلسَ شيوخ. ولكنَّه نفّذ قراراته ضدّ المسيحيّين. امتدَّ الاضطهاد إلى كلِّ الكنائس، ولكنَّه كان قاسيًا جدٌّا في الإسكندريّة. إليها جاء المقاتلون الأشداء من كلِّ إنحاء مصر كما إلى حلَبة واسعة ليقاتلوا من أجل الله، كما قال أوسابيوس في الكتاب السادس (ف 1) من التاريخ الكنسيّ. قبل المؤمنون العذاب بشجاعة، ولكنَّهم امتنعوا عن جميع التحدّيات. وسبق إكلمنضُس فكتب: »قال لنا الربّ: حين يلاحقونكم في مدينة تهربون إلى أخرى. هو ما قال لنا بأن نهرب من الاضطهاد على أنَّه شرّ، أو بأن نخاف من الموت. ولكنَّه يريد أن يمنعنا أن نكون سبب خطيئة للذين يضطهدوننا (أو يشاركون معهم). فمن لا يسمع للمسيح يكون إنسانًا متهوِّرًا« (الموشية 4: 10). وإكلمنضُس نفسه أبان عن فطنته فأوقف تعليمه في المدرسة وترك البلاد. نجد أنّ آخرين دلّوا على عزم لا يُقهر. كان ليونيدس أوَّل الشهداء. حين كان بعدُ في السجن، كتب إليه ابنه أوريجانس يحثُّه على الثبات.

كتب أوسابيوس في التاريخ الكنسيّ (المجلَّد الثاني، ص 99): »كان الأمر يحتاج إلى قليل لتكون نهاية الحياة قريبة منه (من أوريجانس). ولكنّ العناية الإلهيّة والسماويّة وضعت عراقيل أمام حماسه، بواسطة أمِّه، في سبيل فائدة عدد كبير جدٌّا. وقد توسَّلت إليه هذه الأخيرة بكلمات أوَّلاً، حاضّة إيّاه على الإشفاق على نوايا أموميّة كانت لها حياله. لكنَّها وقد رأته يَنزع في شكل أشدّ، عندما تملَّكته الرغبة في الاستشهاد، إذ عرف توقيف أبيه وسجنه، خبّأت كلَّ ثيابه، وأرغمته هكذا على البقاء في المنزل. أمّا هو، فبما أنّه لم يعد يقدر أن يصنع شيئًا آخر، ولأنّ رغبته كانت متناهية أكثر من عمره بحيث لا تسمح له بالبقاء خاملاً، بعث إلى أبيه برسالة ملؤها حضّ على الاستشهاد، وشجَّعه فيها قائلاً حرفيٌّا ما يلي: حاذر تغيير رأيك بسببنا«.

عرَّض أوريجانس نفسه للخطر أكثر من مرّة، انطلاقًا من شبابه الجامح. إنّه ما مات من أجل إيمانه، بل جرُّوه أكثر من مرّة في الكنيسة، وأشبعوه شتمًا وأخضعوه للمعاملات الشنيعة. وفي يوم من الأيّام، قبض عليه الوثنيّون وحلقوا له شعر رأسه. ثمّ اقتادوه إلى درجات هيكل سيرابيس، وأمروه بأن يوزِّع أغصان النخل، كما يفعل الكهنة الوثنيّون مع الصاعدين لعبادة الصنم. ما تردَّد ولا خاف، بل قدَّم الأغصان وقال بصوت عالٍ: »خذوها باسم المسيح، لا باسم آلهتكم الكاذبة« (إبيفانيوس، الهرطقات 64: 1؛ الآباء اليونان 41: 1069). وعدد من تلاميذه قدَّموا حياتهم لأجل إيمانهم. وكان يشجِّعهم. منهم بلوتارك، شقيق هرقلاس، سارانُس، هرقليديس، هيرون. ونالت عمادَ النار، إحدى الموعوظات. أمّا البتول فوتاميانة التي سمعت دروس أوريجانس، فكانت شهيدة عفَّتها. أنهت حياتها في الزفت المغليّ مع أمِّها مارسلاّ. والجنديّ الذي اقتادهما، اهتدى إلى الربّ ومات شهيدًا بضربة فأس.

سنة 250، كان اضطهاد داقيوس. ما إنّ تسلَّم الحكم حتّى أصدر قراره القاسي. قال ديونيسيوس، أسقف الإسكندريّة: حسبنا أنّ الوقت حان، حيث المختارون أنفسهم يسقطون، لو كان ذلك ممكنًا. وفي الواقع، كانت الانسحابات كثيرة. غير أنّ الإيمان كان له أبطاله: كرونيون ويوليانس الشيخ. الجنديّ بيسا. مكاريوس الليبيّ... في ذلك الوقت، رأى الأسقف أنَّه من الفطنة أن يترك مصر. فمضى إلى ليبيا، ومن هناك كان يرسل من يستطلع أحوال المؤمنين. وخلف غلّوسُ داقيوس في الحكم. ما أخذ قرارًا بالاضطهاد، ولكنَّه »هاجم القدّيسين الذين كانوا يطلبون له الصحة والعافية« (التاريخ الكنسيّ 7: 1).

كان الإمبراطور فاليريانس سموحًا مع المؤمنين. ولكنَّه أخذ يضطهدهم في السنوات الأخيرة من حياته (سنة 257). قال فيه ديونيسيوس: »أعطي له فمٌ يتبجَّح بوقاحة ويجدِّف. ونال سلطانًا بأن يحارب خلال 42 شهرًا«. مَثُل الأسقفُ نفسه لدى الوالي، إميليانس، مع الكاهن مكسيمس والشمامسة وبعض المؤمنين. بعد الاستجواب، أُرسل إلى المنفى إلى ليبيا. وحين عاد، رأى المدينة عرضة للحرب الأهليّة. قطعت الثورةُ المدينة قسمين مع هوّة لا يمكن أن يجتازها أحد. فقال ديونيسيوس: من السهل أن نمضي من الشرق إلى الغرب، أكثر من الانتقال من إسكندريّة إلى إسكندريّة. وبعد مآسي الخلاف، جاء الوباء.

سنة 304، كان اضطهاد ديوكلسيانس. تُدعى سنة الشهداء. معها يبدأ التاريخ. كان لهذا الإمبراطور مكان هامّ في تاريخ مصر. فحين قسم الإمبراطوريّة، سنة 286، وأخذ معه مكسيمس هرقل مع لقب أوغسطس، احتفظ لنفسه بحكم وادي النيل. سنة 292، حاصر الإسكندريّة التي أقام فيها أرخيلاوس بعد أن أعلن نفسه إمبراطورًا. غضب ديوكليسيانس على المدينة، بسبب حصار طويل دام ثمانية أشهر. ولمّا احتلّها أشعل فيها النار وأعمل القتل، وكان قاسيًا جدٌّا على مصر. بعد ذلك، أشفق على الفقراء وأرسل إليهم القمح، فبنوا له مسلَّة. في الأصل، لم يكن معاديًا للمسيحيّين، ولكن سنة 303-304، تأثَّر بغاليريوس فأصدر أربعة قرارات اضطهاد، فنالت مصر أكبر محنة في تاريخها.

سنة 305 ارتاحت مصر بعض الشيء، بعد أن استقال ديوكليسيانس. فاهتمّ بطرس، أسقف الإسكندريّة، بالذين سقطوا في الجحود من أجل إعادتهم إلى الكنيسة. ولكن سنة 310-312، عاد الاضطهاد مع مكسيميانس دايا الذي صار سيِّد مصر وسورية. ولمّا وصل قسطنطين إلى الحكم سنة 306، بدا سموحًا مع المسيحيّين. وحين انتصر على ماكسانس سنة 312 وسيطر على الغرب، أجبر مكسيمين على وضع حدٍّ للحرب. وسنة 313، التقى مع ليسينيوس في ميلانو، فأصدر قرارًا به يسمح لكلّ إنسان بأن يعتنق الديانة التي يختار. ومنح المسيحيّين الحرّيّة التامّة بأن يمارسوا إيمانهم. هنا نقرأ أوسابيوس، الكتاب العاشر (ف 5) من التاريخ الكنسيّ:

»منذ زمن طويل، معتبرين أنّ حرّيّة الدين لا ينبغي رفضها، بل ينبغي منح عقل كلِّ فرد وإرادته، موهبةَ الاهتمام بالأمور الإلهيّة، كلٌّ بحسب إيثاره، دعَوْنا المسيحيّين إلى المحافظة على شيعتهم ودينهم. لكن بما أنّ شروطًا كثيرة ومختلفة كانت تبدو بوضوح أنَّها أضيفت إلى المنشور، حيث مُنح هؤلاء المسيحيّون أنفسهم إذن كهذا، ربّما حدث أنّ البعض منهم صُدّوا بعد فترة طويلة، ومُنعوا من ممارسة هذه العبادة.

»عندها جئنا، أنا قسطنطين أوغسطس وأنا ليسيونيوس أوغسطس في طالع سعيد إلى ميلانو، وكنّا نبحث هناك عن كلِّ ما كان يهمّ الصالح والخير العامّين، بين الأمور الأخرى التي بدت لنا مفيدة للجميع، لاعتبارات كثيرة، قرَّرنا في المقام الأوَّل، وقبل كلِّ شيء، إعطاء أوامر بحيث يتأمَّن احترام الألوهة وإكرامها. أي أنّنا قرَّرنا منْحَ المسيحيّين وكلَّ الآخرين، الخيارَ الحرّ باتّباع الدين الذي يريدون، بحيث إنَّ كلَّ ما يُوجَد من ألوهة وسلطة سماويّة، يمكنه أن يكون رفيقًا بنا، نحن وكلّ أولئك الذين يعيشون تحت سلطتنا.

»هكذا إذًا، قرّرنا في هدف مفيد، ومستقيم تمامًا، أنَّ مشيئتنا هي أنّ حرّيّة اتّباع الالتزام أو دين المسيحيّين واختياره، لا ينبغي أن يُمنعا عن أحد إطلاقًا. وينبغي أن يُمنَح كلّ فرد حرّيّة الانخراط المتبصِّر في هذا الدين الذي يعتبر أنَّه مفيد له، بحيث يمكن للألوهة أن تزوِّدنا في كلّ المناسبات، بحمايتها المألوفة وحسن التفاتها«.

6- انشقاق ميليتيوس وهرطقة أريوس

ما إن ارتاحت كنيسة الإسكندريّة من الاضطهادات، حتّى ضربتها محنةٌ في محنتين: انشقاق مع ميليتيوس وهرطقة مع أريوس.

أ- ميليتيوس(32)

كان انشقاق ميليتيوس نتيجة الاضطهاد الأخير الذي ضرب مصر، وامتدّ سنة 302-312، مع فترات من التضييق وفترات من التسامح. وسبب هذا الانشقاق، السلوك تجاه المسيحيّين الذين جحدوا إيمانهم، وحاولوا أن يعودوا إلى الجماعات التي تركوها. في قلب الاضطهاد، وساعة كان بطرس، أسقف الإسكندريّة، بعدُ في السجن، مع أساقفة آخرين، جعل ميليتيوس نفسه المعبَّر الرئيسيّ عن الاتّجاه القاسي حول العلاقات مع الساقطين lapsi. وعارض كلّ اعتدال منِ قبل بطرس. وبدأ الانشقاق حين شرع ميليتيوس يرسم أساقفة من أجل كراسي بقيَت فارغة بسبب سجن الأساقفة أو إبعادهم. عاد بطرس إلى الحرّيّة، بانتظار أن يُسجَن مرّة أخرى ويموت شهيدًا، فاتَّخذ تدابير قاسية ضدّ المنشقّين الذين كانوا عديدين وأقوياء، وتنظّموا في كنيسة منفصلة. وتواصل الانشقاق مع خلفاء بطرس: أخيل، الإسكندر... وارتسمت في بعض المدن معارَضة بين العنصر الوطنيّ القبطيّ والعنصر الهلّينيّ اليونانيّ.

رفض مجمع نيقية (325) أن يعاقب المنشقّين عقابًا قاسيًا. فاحتفظ ميليتيوس بلقبه، شرط أن لا يقوم برسامات أخرى. وكذلك حافظَ الأساقفةُ والكهنة والشمامسة على وظائفهم، بعد أن نالوا وضْعَ اليد من جديد من الإسكندر، أسقف المدينة. ولمّا مات الإسكندر سنة 328، حاول الميليتيّون أن يعارضوا انتخاب أثناسيوس، فاشتعلت الحرب من جديد. كانت ردّة فعل أثناسيوس قاسية وعنيفة ضدّ المنشقّين: اشتكوا لدى قسطنطين فما نالوا شيئًا. انضمّوا إلى أصحاب أوسابيوس في مجمع صور (335)، فحطّوا أسقف الإسكندريّة. ولكنّ معارضة أثناسيوس للأريوسيّة ولسلطة الإمبراطور، أعطت لأثناسيوس نفوذًا عظيمًا، فضعُفَ تأثيرُ الميليتيّين وانتهت حيويَّتهم وأهمِّيَّتهم(33). ولكن تواصل ذاك الانشقاق حتّى منتصف القرن الخامس.

ب- أريوس(34)

هو ابن الإسكندريّة، وإن قيل إنّه ولد في ليبيا. وُلد حوالي سنة 260. ويبدو أنّه اتّصل بلوقيانس الأنطاكيّ أو ربّما تتلمذ له. في أيّام بطرس، أسقف الإسكندريّة (300-311)، انضمّ إلى انقسام ميليتيوس، ثمّ عاد إلى الكنيسة الكاثوليكيّة. ولكن سنة 320، أخذ ينشر في كنيسته تعاليم مغلوطة حول الثالوث. بدأ الجدال، فتدخَّل الأسقف الإسكندر. كان نقاش عامّ وانتهى بالحكم على أريوس، وثبَّت الحكمَ مجمعُ أساقفة مصريّين. فأخذ أريوس يعلن أفكاره في شعر في كتاب دعاه ''الوليمة'' (تالايا في اليونانيّة). كما أرسل رسالتين، واحدة إلى أوسابيوس أسقف نيقوميدية، والثانية إلى الإسكندر، بانتظار فعل إيمان أمام قسطنطين.

كيف بدا تعليم أريوس؟ انطلق من التعليم التقليديّ في الإسكندريّة، كما قدَّمه أوريجانس: الآب والابن والروح القدس هم أقانيم، أو واقع فرديّ قائم في ذاته. يتميَّز الواحد عن الآخر، ويخضع الواحد للآخر. كما يشاركون في الطبيعة الإلهيّة الواحدة. شدَّد أريوس بشكل جذريّ على التبعانيّة، في ردِّ فعل على السابيليانيّة، وبعض النظريّات المادّيّة حول ولادة الابن من الآب. فالآب، بحسب أريوس، هو جوهر فرد(35)، يسمو على الابن الذي هو أدنى منه، ويختلف معه بالطبيعة وبالأقنوم. الابن هو أيضًا الله، ولكنّه أدنى على مستوى الدرجة والسلطة والمجد.

أكَّد أوريجانس وبعده الإسكندر، أنّ الابن أزليّ مع الآب الذي هو المبدأ (أرخي) الأونطولوجيّ (على مستوى الكيان)، لا الكرونولوجيّ (على مستوى الزمن). أمّا أريوس فاعتقد أنَّه، إن كان الابن أزليٌّا مع الآب، فيجب أن يكون لامولودًا مثله. وبما أنّه لا يمكن أن يكون لامولودان، فالابن، ومع أنّه سابق كلَّ الأزمنة وكلَّ الخلائق، هو بعد الآب ومنه ينال كيانه. كان هناك وقت لم يكن فيه الابن موجودًا. ما قبل أريوس بأن يكون الابن مولودًا من جوهر (= طبيعة) الآب، لأنّ هذا يتضمَّن انشطار الواحد الفرد الإلهيّ. في وقت أوَّل، وحين كتب أريوس إلى أوسابيوس، أعلن أنّ الآب خلق الابن من العدم. بعد ذلك، تجنَّب هذا القول لما فيه من شكوك. فتحدَّث عن ولادة الابن من الآب، ولبث يعتبر هذه الولادة خلقًا: الابن هو الخليقة الوحيدة(36) التي كوَّنها الآب مباشرة. وبقيّة الخلق هو عمل الابن المباشر بمشيئة الآب. ما تكلَّم أريوس كثيرًا عن الروح القدس، ولكنَّه حاول أن يُسند تعليمه على عدد من المقاطع الكتابيّة في كلام عن الإبن مع فعل »صنع، خلق« وما يشبههما. رج أم 8: 22؛ أع 2: 36؛ كو 1: ..15.

حُكم على أريوس في الإسكندريّة، فوجد خارج مصر، في الشرق، من يدافع عنه. هم تلاميذ لوقيانس الأنطاكيّ وبينهم أوسابيوس أسقف نيقوميدية وأوسابيوس أسقف قيصريّة فلسطين. فهذا ما شارك في تبعانيّة أريوس الجذريّة، ولكنه اتَّخذ موقفًا يتوسَّط تعليم أريوس وتعليم الإسكندر. وكان صراع قاسٍ، فحاول قسطنطين أن يضع حدٌّا له، فأرسل إلى الإسكندريّة أوسيوس القرطباويّ (قرطبا، إسبانيا). فشلت الوساطة فدعا الإمبراطور إلى مجمع يُعقَد في نيقية، وذلك بناء على نصيحة أوسيوس والإسكندر. أعلن المجتمعون الإيمان النيقاويّ. فوافقوا جميعًا ما عدا أريوس وأسقفان من ليبيا. حُكم على أريوس، ولكنّ الأريوسيّة لم تنتهِ بسرعة(37)، ومنها سيتألَّم أثناسيوس أسقف الإسكندريّة.

ج- أثناسيوس(38)

وُلد أثناسيوس في الإسكندريّة حوالي سنة 295. يبدو أنّ والديه كانا وثنيّين، يونانيّين. ويبدو أنّه اهتدى إلى المسيحيّة في صباه. نال تربية أساسيّة مع بعض عناصر من الفلسفة. وعرف هوميرُس وديموستين وأفلاطون وفلاسفة أخرى، عبر كتبِ مختارات. كما قرأ بعض المؤلَّفات المسيحيّة مثل »التهيئة الإنجيليّة« لأوسابيوس القيصريّ. ويبقى مصدرُ، إلهامه الأساسيّ، البيبليا اليونانيّة، السبعينيّة. واستقى أثناسيوس من أغناطيوس الأنطاكيّ وأثيناغوراس وإيريناوس وأوريجانس. غير أنّ لاهوته يختلف عن لاهوت أسقفه الإسكندر. كما لم ينطبع بطابع أوريجانس. اجتذبته في البداية الحياةُ النسكيّة. ولكن يبدو أنّه لم يتَّصل بأنطونيوس، مع أنَه كتب سيرة حياته. رُسم شمّاسًا، فرافق أسقفه إلى مجمع نيقية وقد يكون كتب لأسقفه الذي رسمه الرسالة »جسد واحد«.

مات الإسكندر في 17 نيسان 328، بعد أن عيَّن أثناسيوس خلفًا له، على ما يقول سوزومين (التاريخ الكنسيّ 2: 17). وأمام خطر اعتراض ميليتيوس، رُسم الأسقف بسرعة (8 حزيران)، فاعتبر بعضهم رسامته غير شرعيّة. أمّا الإمبراطور قسطنطين فاعترف بتكريس الأسقف. غير أنّ أثناسيوس رفض الشركة مع أريوس، حسب طلب الإمبراطور. وجاءت الإجراءات جازمة من أجل تثبيت سلطته وإخضاع الميليتيّين والأريوسيّين. وهذا فرض زيارات واسعة في الأبرشيّة. كلّ هذا سبَّب ردّة فعل لدى المتشيِّعين لأريوس خارج مصر. فاتُّهم أثناسيوس بالفساد والخيانة، وبقتل الأسقف الميليتيّ أرسينيس، مع أنّه كان بعدُ حيٌّا. رفض أثناسيوس أن يمضي إلى قيصريّة سنة 334، فحُكم عليه في صور، في السنة التالية، بعد أن قدَّمت اللجنة الملكيّة تقريرًا عن الأمور الكنسيّة في مريوط (في مصر). استأنف أثناسيوس لدى الإمبراطور، فلاقاه اتّهام آخر: هدَّد بمنع امدادات القمح المصريّ إلى مصر. حينئذٍ نفى قسطنطينُ الأسقف إلى تريار Trèves في ألمانيا، في 7 تشرين الثاني سنة 335.

مات قسطنطين في 22 أيّار 337. فعاد أثناسيوس سنة 338 ودعا إلى سينودس ألغى مجمع صور. ردّ حزب أوسابيوس وأرسل غريغوريوس الكبادوكيّ ليحتلّ كرسيّ أثناسيوس بمساندة السلطة المدنيّة. فانفجرت الفتنة، فترك أثناسيوس المدينة في 18 آذار 339. لجأ إلى رومة فاستقبله البابا يوليوس. وتوفّي الأسقف غريغوريوس في 25 حزيران 345. فأعيد أثناسيوس إلى كرسيه حيث استُقبل بحفاوة كبيرة، في 21 تشرين الأوّل 346.

عشر سنوات (346-356) قضاها أثناسيوس في الإسكندريّة، دُعيت »العهد الذهبيّ«. نشاط أدبيّ ورعائيّ، ولكنّ الصعوبات أطلّت في الأفق، تارة يمضي أثناسيوس إلى المنفى إذا كان الإمبراطور أريوسيٌّا، وطورًا يعود، إذا كان الإمبراطور نيقاويٌّا. وفي النهاية توفّي أثناسيوس في 2-3 أيّار 373.

نورد هنا صورة عن عودة أثناسيوس، سنة 347. انطلق الأسقف من رومة، وفي أنطاكية عرَّج على الإمبراطور الذي استقبله استقبالاً طيّبًا. أمّا سينودس أورشليم فهتف للأسقف العائد. ولمّا اقترب من الإسكندريّة، بدأت مظاهر الفرح التي لا تُقام إلاّ للأشخاص العظام. سارع أساقفة المدينة وإكليروسها للقائه وكانوا يقولون: هذا أجمل يوم في حياتنا. ومضى لاستقباله الموظّفون الكبار. وتدفَّق الشعب »مثل النيل الجميل بأمواجه الذهبيّة« وهذا ما ذكَّر الناس بدخول المخلِّص إلى أورشليم. هذا ما قالته الكرونيكة السريانيّة. وغريغوريوس النازينزي في الخطبة 21، في مديح أثناسيوس الكبير (العدد 9، الآباء اليونان 36: 1116). وتواصلت الابتهاجات وأفعال الشكر والولائم العامّة، أيّامًا عديدة. انتظر القدّيس باخوميوس، أبو الرهبان، هذه العودة، ولكنَّه مات قبل أن يراها.

عندئذٍ بدت الحياة المسيحيّة وكأنّها وُلدت من جديد، بعد عودة الأسقف القدّيس، فتكرَّست البتولات بأعداد كبيرة لله، والشبّان اعتزلوا في البرّيّة. والوالدون والأولاد، والأزواج حرَّكوا بعضهم بعضًا شطر التوبة. وجاء من يعين الأرامل والأيتام والفقراء. وكانت منافسة على الفضيلة في المدينة كلِّها، بحيث حسب كلُّ بيت وكأنّه كنيسة. فانحسر الأريوسيّون يعيشون في الخفية. وجاء عدد كبير منهم إلى أثناسيوس، خلال الليل، يقرّون بذنبهم، ويطلبون منه أن ينسى. وكم فرحَ هذا الأسقفُ حين علم أنّه في شركة مع نيّف وأربع مئة أسقف منتشرين في الأصقاع المسيحيّة. كلّ هذا أنشده أثناسيوس في الرسالة إلى الرهبان.

لن نذكر من مؤلِّفات أثناسيوس سوى رسائل العيد(39). خلال القرن الثالث، اعتاد أساقفة الإسكندريّة، أن يعلنوا كلَّ سنة بداية الصوم والتاريخ الدقيق لعيد الفصح، في رسالة تُنشَر عادة بعد الدنح والغطاس. وكانت تلك الرسالة تتفحَّص مختلف الأمور الكنسيّة الطارئة ومسائل الحياة المسيحيَّة، وتحثّ المؤمنين على الصوم والصدقة وتقبُّل الأسرار. أوّل من أرسل رسالة من هذا النوع كان ديونيسيوس أسقف الإسكندريّة. ولبث أثناسيوس أمينًا لهذا التقليد حتّى حين كان في المنفى. بعد موته، جمع أحدُ أصدقائه هذه الرسائل التي انتشرت انتشارًا واسعًا. لم يحفظ اليونانيّ سوى أجزاء. ولكنّ السريانيّ عرف 13 رسالة كاملة كتبت سنة 329-348. والقبطيّ 17 رسالة. جوّ الفصح، جوّ الفرح، يسيطر في هذه الرسائل. والتعليمات عن الصوم تفترض أنّ الصوم الأربعينيّ كان متجذِّرًا في ذلك الوقت. الرسالة الأولى، سنة 329، تتحدَّث عن صوم يمتدّ ستّة أيّام. ولكن منذ سنة 330، شدَّد أثناسيوس أنّه يجب أن نحافظ على الصوم منذ الأسبوع السادس قبل الفصح.

كتب مثلاً في رسالة العيد سنة 332 ما يلي: ''يكون بدء الصوم في الأوّل من آذار. وبعد أن نتطهَّر ونستعدّ أفضل استعداد، نبدأ الأسبوع المقدَّس للفصح العظيم في الأوّل من شهر نيسان. خلال هذا الوقت، إخوتي، يجب أن نتكرَّس للصلوات والأصوام والأسهار المتواصلة لكي نمسح أعتابنا بالدم الثمين فننجو من المهلك (كما كان العبرانيّون يفعلون، خر 12). وفي مساء السبت، نسمع الملائكة يقولون: ''لماذا تطلبون الحيّ بين الموتى؟ إنَّه قام''. والأحد الكبير يستنير لنا في اليوم السادس، في 10 نيسان، حيث قام ربُّنا ومنحنا السلام مع قريبنا«(40).

د- بعد أثناسيوس

بعد أثناسيوس، جلس على كرسيّ الإسكندريّة القدّيس بطرس الثاني (373) ثمّ القدّيس تيموتاوس (380-385). امتاز بطرس بتقواه وعلمه، فعيَّنه أثناسيوس خلفًا له وهو على فراش الموت. ووافق الأساقفةُ والكهنة والشعب كلُّه. ولكنّ التيّار الأريوسيّ تدخَّل يسانده الإمبراطور ووالي المدينة، فهرب بطرس ولجأ إلى رومة، لدى البابا داماسيوس. وخلفه إخوه تيموتاوس الذي شارك في المجمع المسكونيّ الثالث.

مع البطريرك تيوفيلس (385-412) كانت حرب على الوثنيّين. خسروا حماية الدولة، ولكن ما زالوا حاضرين. حُوِّلت معابد وثنيّة إلى كنائس. ودُمِّر بشكل خاصّ معبد سيرابيس، بعد أن ضرب جنديٌّ تمثالَه بالفأس. حطّموه وداروا به في المدينة قبل أن يُحرقوه. وكانت أيضًا حرب على الأريوسيّين.

حين توفّي تيوفيلس، كان جدال حول خلفه. أيكون كيرلُّس ابن أخيه، أمّ الشماّس الأوّل تيموتاوس. ولكن وقع الاختيار على كيرلُّس (412-444) كما قال سقراط في التاريخ الكنسيّ (7/7، الآباء اليونان 67: 749).

بدأ كيرلُّس يحارب النوفاتيّين(41): أغلق كنائسهم، وضع يده على كنوزهم، وسلب أسقفهم أملاكه. وعرف صعوبات كبيرة مع اليهود في انتقامات وانتقامات معاكسة. ولكنّ العمل الكبير في حياة كيرلُّس كان الحرب على النسطوريّة.

اختير نسطور أسقفًا على القسطنطينيّة سنة 428، فأخذ يعظ علانية بأنّ في يسوع المسيح شخصين، أقنومين: أقنوم الله وأقنوم الإنسان. وبالتالي، مريم ليست أمّ الله، بل أمّ الإنسان. وصلت العظات إلى مصر، فعمَّت البلبلة في الأديرة. فكتب إليهم كيرلُّس ليثبِّتهم في الإيمان. وكانت مراسلات انتهت بعقد مجمع أفسس سنة 431: أقنوم واحد في طبيعتين، الإلهيّة والإنسانيّة. ومريم أمّ يسوع هي أمّ الله.

مع الانقسام المونوفيسيّ (أصحاب الطبيعة الواحدة)، بدأت كنيسة الإسكندريّة، في الانحدار السريع والعميق، فخسرت دورها شيئًا فشيئًا في المسيحيّة العالميّة. خلف ديوسقورس (444-451) كيرلُّس. في ذلك الوقت برز أوطيخا، رئيس أحد الأديرة في القسطنطينيّة. قال هناك أقنوم واحد في المسيح، وطبيعة واحدة، لأنّ الطبيعة الإلهيّة تمتصّ الطبيعة البشريّة. وراحت كنيسة الإسكندريّة في خطّ أصحاب الطبيعة الواحدة، لأسباب سياسيّة أكثر منها عقائديّة. هكذا ترتاح من تسلُّط بيزنطية. وكان على رأس محاولة »التحرُّر« ديوسقورس نفسه. وسار أساقفة عديدون في خطِّه حتّى القرن السابع، مع انقسامات واضطهادات متبادلة. فضعفت كنيسة الإسكندريّة، بعد عزّ عرفته خلال أجيال عديدة.

الخاتمة

ماذا نستطيع أن نقول في كنيسة الإسكندريّة؟

أوّلاً: هي كنيسة مرقس. لها كرامتها. منذ سنة 325، كانت في المقام المرموق مع رومة وأنطاكية.

ثانيًا: اعتاد الكهنة أن يختاروا واحدًا منهم ليكون الأسقف، وذلك مثل الجنود الذين يختارون إمبراطورهم.

ثالثًا: رئيس الجماعة المسيحيّة في الإسكندريّة هو الأسقف أو المراقب. أعطيَ اسم »بابا« للمرّة الأولى لهرقل، في النصف الأوّل من القرن الثالث.

رابعًا: جماعات المؤمنين أصبحت في الإسكندريّة ما سندعوه رعايا فيما بعد.

خامسًا: على مستوى الليتورجيّا. اعتُبر العماد »قوّة مولّهة«، حشًا أموميٌّا (الموشيّة 4: 25). كان الموعوظ يعلن إيمانه (أوريجانس، المواعظ في الخروج 8: 4) ثمّ يُغطَّس ثلاث مرّات في حوض الماء مع دعوة الثالوث الأقدس. ويلبس المعمَّد الجديد اللباس الأبيض. قال ديديمس في الثالوث (2: 12): »حين نخرج من حوض الماء، نلبس المسيح المخلِّص ثوبًا غير فاسد«. ويُعطى سرّ التثبيت حالاً بعد العماد. أمّا التوبة فهي وسيلة لنوال الغفران »تكون الدموع خبز أيّامنا وليالينا، فلا نستحي من الإقرار بخطايانا للكاهن مع طلب الدواء« (أوريجانس، سفر اللاويّين 2: 4). وعن الإفخارستيّا، قال أثناسيوس: »أترى اللاويّين يحملون الخبزات وكأس الخمر، ويضعون كلَّ هذا على المائدة. ليس هناك سوى الخبز والخمر ما دامت الأدعية والصلوات لم تبدأ. ولكن حين تُلفظ الأقوال العظيمة والعجيبة، يصبح الخبز جسد ربِّنا يسوع المسيح، والخمر دمه«.

سادسًا: عيد الفصح. اتَّخذت مسألة الفصح أهمّيّة خاصّة في الإسكندريّة. في الحقبة الأولى، كان مسيحيّو آسية الصغرى يحتفلون بالفصح مع اليهود، في 14 نيزان، أيٌّا كان اليوم في الأسبوع. وفي الأماكن الأخرى، كان المؤمنون يحتفلون بالفصح في الأحد الذي يلي 14 نيزان. وكان جدال. فاجتمع أساقفة فلسطين حوالي سنة 190 وتوافقوا مع الإسكندريّة. فاعتاد أساقفة الإسكندريّة أن يوجِّهوا رسائل العيد: متى يقع الفصح. ثمّ بعض الاعتبارات التقويّة.

سابعًا: الحياة الرهبانيّة. الحركة التي تدفع بعض النفوس إلى العزلة، عُرفت في كلِّ الأزمنة، وفي جميع البلدان. ولكنَّها برزت بشكل خاصّ في الأجيال الأولى للمسيحيّة، في مصر. وكانت الإسكندريّة على علاقة متواصلة مع الرهبان، سواء عاشوا معًا، أو انعزل الواحد في قلاّيته. في منتصف القرن الثالث، وخلال اضطهادات داقيوس، انطلق شابّ اسمه بولا (ابن الإسكندريّة) وراح يطلب العزلة. ثمّ أنطونيوس. ثمّ تلميذه هيلاريون الذي وُلد في فلسطين ودرس في الإسكندريّة. أمّا باخوميوس فأسّس الحياة المشتركة في الصعيد، وكان على اتِّصال وثيق مع أثناسيوس.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM