الفصل الثاني: من ألف وألف سنة إلى النهاية

الفصل الثاني:

من ألف وألف سنة إلى النهاية

اعتاد الناس منذ مدّة غير قصيرة أن يقولوا: »إن تؤلِّف، لا تؤلِّفان« يعني إذا وصل تاريخ البشريّة إلى ألف سنة فهو لن يصل إلى ألفي سنة. ولكنّه في الواقع، قطع عتبة الألف الأوّل وهو يقطع عتبة الألف الثاني، ويتوجّه إلى الألف الثالث والرابع والخامس. فالطريق طويلة قبل نهاية العالم، لأنّ البشارة بالإنجيل ما زالت في بدايتها. وأسند بعض الناس كلامَهم إلى الكتاب المقدّس. ولكنّ العبارة غير موجودة في الكتاب المقدّس. وعادوا إلى مار أفرام السريانيّ؛ ولكنّ أحدًا لم يكتشف هذه العبارة عند كنّارة الروح القدس. أمّا نحن فننطلق من هذه المقولة، وفيها ما فيها، لكي نتحدّث عن الألف الأوّل والألف الثاني متطلّعين إلى نهاية العالم، حسب كلام الربّ.

1- الألف الأوّل

نبدأ فنقول إنّه، حين نتحدّث عن الألف سنة الأولى نكون في إطار مسيحيّ، وفي إطار مسيحيّ غربيّ. فعدّ السنين في العالم الإسلاميّ هو غيره في العالم المسيحيّ. والعدّ لدى الأقباط يختلف عمّا في الكنيسة الغربيّة. ولن نتكلّم عن العالم البوذيّ خاصّة وعن عالم الشرق الأقصى عامّة. ثمّ إنّ الناس، ما اهتمّوا بعدّ السنين كما اعتدنا أن نفعل اليوم. فهناك أيّام مهمّة وسنوات طبعت بطابعها الناس من خلال حقبة طويلة أو قصيرة. نذكر، على سبيل المثال، في الكتاب المقدّس، يوم مديان الذي أشار إليه أشعيا عائدًا إلى زمن القضاة (قض 7-89)، ليدلّ على أنّ النصر هو وليد تدخّل الله لا قوى البشر (أش 9: 7). وأرّخ عاموس (أو تلاميذه) بداية رسالته بسنتين قبل الزلزال الذي حصل على ما يبدو سنة 760 ق.م. فبيّن أنّ في كلمة الله من القوّة ما يجعلها تفعل فعل الزلزال (عا 1: 1). ويذكر النبيّ زكريّا هذا الزلزال (14: 5) الذي حصل في زمن عزيّا ملك يهوذا. وفي إطار العالم العربيّ، نشير إلى »أيّام العرب« التي ظلّت عالقة في الأذهان قبل أن تدوّن وتصبح مادّة كتب »ملحميّة«.

عرف الشرق سنة السلوقيّين (311 أو 312 ق.م.)، فأرّخ الأمور بالنسبة إليها. كما عرفت مصر سنة اعتلاء ديوكليسيانس العرش سنة 284. وانطلق العالم الإسلاميّ من هجرة النبيّ التي بدأت في الفاتح من محرّم الذي يقابل 16 تمّوز سنة 622. ولا ننسى العالم اليهوديّ الذي يعود إلى الخليقة. فمنذ القرن الثاني ب.م. حسِب يوسي بن حلفتا سنة الخلق على أنّها السنة الأولى في الكلندار (أو التقويم) اليهوديّ. وكانت حسابات معروفة في القرن التاسع، تأسّست على لوحة الأنساب في التوراة (تك 5: 2)، على طول حياة أشخاص بيبليّين (مثلاً عاش إبراهيم 175 سنة، تك 25: 7)، الله خلق الكون في ستّة أيّام (تك 1: 1-37، يوم سادس). فإذا اعتبرنا أنّ اليوم هو ألف سنة كما يقول مز 9: 4: »ألف سنة في عينيك يا ربّ كيوم أمس الذي عبر«، نفهم أنّ عمر الكون سيكون ستّة ألاف سنة. والمسيح يأتي في بداية الألف السابع. وأنّ سنة 1992-1993 مسيحيّة تقابل سنة 5753 في الكلندار اليهوديّ.

هذا يعني أنّنا لا نستطيع أن نتكلّم عن سنة ألف واحدة بالنسبة إلى البشريّة كلِّها. كما لا نستطيع أن نتوقّف عند »زلزال« كونيّ قد يهدّد الكون بالزوال. فالعالم الغربيّ عرف هجمة البرابرة في ذروتها في القرن الخامس. فاعتبر القدّيس أوغسطينُس (354-430) أنّ النهاية صارت قريبة. والعالم الشرقيّ عرف أكثر من اجتياح، منذ الفرس الذين ردّهم هرقل، حتّى التتر والمغول. وقد ظهرت مؤلّفات جليانيّة في اللغة السريانيّة، فاعتبرت أنّ مجيء المسيح صار قريبًا.

وإذا عدنا إلى العالم الغربيّ، نفهم أوّلاً أنّ الفلاّح لم يكن يحسب عدد السنين كما نحسبها نحن. فما يهمّه هو توالي الفصول سنة بعد سنة. أمّا الأمير فارتبط بملكٍ نزلَ عن العرش وملك اعتلاه. فالناس، حتّى المتعلّمون منهم، أرّخوا الأحداث التي عرفوها بسنوات الحاكم. في الواقع، لا نجد في الأناجيل ولا في سفر الرؤيا ما يقول بأن مجيء المسيح الثاني يحصل ألف سنة بعد الميلاد. في هذا المجال يبدو أنّ سنة 1000 كانت سنة شبيهة بالتي سبقتها وبالتي تلتها.

بالإضافة إلى ذلك، نشير إلى الخطأ الذي وقع فيه الراهب ديونيسيوس الصغير. سبقته الإسكندريّة فبحثت عن بداية المسيحيّة في تحديد تاريخ الفصح. ونظّم كيرلّس أسقفها سنة 440 لائحة تدلّ على عيد الفصح للسنوات المئة الآتية، فانطلق من سنة 284 لديوكليسيانُس وأعطى رقمًا للسنين. ولكن جاء ديونيسيوس في القرن السادس، فرفض عدّ السنين انطلاقًا من ذاك الإمبراطور الذي كان أكبر مضطهد للمسيحيّين. فاعتبر أنّ سنة 247 لديوكليسيانُس هي سنة 531 مسيحيّة (أي 284+247= 531). ولكنّه أخطأ ستّ سنوات. فالتاريخ المسيحيّ يجب أن يبدأ سنة 6 ق.م. وبعد مئة سنة تقريبًا جاء رهبان من إنكلتره حاملين نظرة ديونيسيوس وسمّوها »التاريخ الديونيسيّ«، لا التاريخ المسيحيّ. ودخل عدّ السنين هذا في القرنين التاسع والعاشر في بلاد فرنسا، ولم يدخل في الوثائق البابويّة إلاّ بعد سنة ألف. وانتظرت اليونان حتّى القرن الخامس عشر، وروسيّا القرن السابع عشر مع بطرس الأكبر.

من أجل كلّ هذا نقول إنّ الكلام عن سنة الألف لا يساعدنا على تصوّر البشريّة في نهاية الألف الأوّل وهي تعيش الخوف ممّا سيحدث، على غرار ما نقرأ عند معاصرينا الذين اعتبروا نهاية العالم قريبة، وقاموا بالدراسات التي انطلقت من الكتاب المقدّس أو من الأبراج والنجوم. لكن من أين جاءت هذه الفكرة؟

2- أسطورة الذعر والهلع!

أوّل من تحدّث عن الذعر سنة الألف هو الأدب الرومانسيّ في القرن التاسع عشر مع جذور تعود إلى القرن الرابع عشر. واعتبر بعض المؤرّخين المعاصرين أنّ همومًا أخرى استحوذت على انتباه الناس في تلك الحقبة، وهي تطوُّر بُنى الإقطاعيّة في أوروبّا.

نشير هنا إلى أنّ بين الوثائق الغربيّة التي تعود إلى نهاية القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر، ليس هناك من وثيقة تتكلّم عن خوف عمّ الكون من نهاية العالم القريبة. بل إنّ الكاتب الوحيد الذي ربط المجيء الثاني بسنة ألف وأشار إلى الفكرة كي يستبعدها، هو اللاهوتيّ أبّون دي فلوري الذي كتب سنة 995، فذكر أنّه سمع عظة في باريس سنة 960، وفيها أعلن الواعظ: »ما إن يتمّ عدد الألف سنة حتّى يأتي المناوئ للمسيح (أنتيكريست أو المسيح الدجّال)، ثمّ الدينونة الأخيرة«. فعاد إلى الكتاب المقدّس وفنّد هذا الكلام.

تقول النظرة المسيحيّة إلى التاريخ إنّ مُلك القدّيسين ألف سنة، كما يصوِّره سفر الرؤيا، يبدأ بعد المجيء الثاني. لا شكّ في أنّ هذا لم يكن تعليم الكنيسة في نهاية الألف سنة. فالتعليم الكاثوليكيّ تأسّس على تعليم أوغسطينُس الذي اعتبر العودة إلى ألف سنة مجرّد استعارة. ويرى مؤرّخون عديدون أنّ غياب الذعر الذي يرافق الألف سنة لا يدهشنا، لأنّ السلطة الدينيّة الوحيدة في الغرب عارضت بشكل واضح كلّ محاولة لكشف زمن النهاية.

هنا نعود إلى معنى الألف سنة. في التفسير الحرفيّ، ألف سنة تعني ألف سنة، وكلّ سنة مؤلّفة من 365 يومًا. أمّا التفسير الروحيّ، فألف سنة تعني حقبة طويلة جدٌّا. هي مكعّب 10 (10×10×10). فإذا كان المربّع يدلّ على الكمال، فالمكعّب يدلّ على كمال الكمال. في سفر التكوين (الفصل 5) نجد أنّ بعض الآباء عمّروا طويلاً، فتعدّت سنوات حياتهم التسع مئة. هو الكاتب يضخّم الأمور ليدلّ على أنّ هؤلاء كانوا أبرارًا، ومع تقلّص البرّ تقلّصت سنوات الإنسان. ولكن ما نلاحظه هو أنّ ما من واحد منهم بلغت حياته الألف سنة. فلو بلغت، لكان بلغ إلى خلود الله على مثال الأبطال السومريّين والبابليّين. فنوح نفسه الذي يقابل بطل الطوفان البابليّ لم يدخل الخلود مثل سابقه، بل خطئ ومات كما يموت جميع البشر.

ويرتبط بهذه الحقبة الحرفيّة أو الرمزيّة، حديثٌ عن مخلِّص يغلب الوحش مع معاونيه، وعن حقبة تلي هذه الحقبة. أمّا حساب الحقبات فقديم جدٌّا. فهو يظهر أوّل ما يظهر في سفر دانيال: »إنّ سبعين أسبوعًا حدّدت على شعبك وعلى مدينة قدسك لإفناء المعصية وإزالة الخطيئة، وتكفير الإثم والإتيان بالبرّ، واختتام الرؤيا والنبوءة، ومسح قدس الأقداس« (9: 24). نحن هنا أمام وعد لا أمام وعيد وتهديد: سيتمّ الخلاص الذي أعلنه الأنبياء. ومن ينال هذا الخلاص؟ الشعب وأورشليم المدينة المقدّسة. وفي النهاية يُمسح قدسُ الأقداس (أي الهيكل في كلّ قدسيّته) بالزيت المقدّس من أجل انطلاقة جديدة.

وتوقّف العالم المتأثّر باليهوديّة عند سبعة أيّام الخلق وربطها بالمقولة التي ترى أنّ يومًا عند الربّ يساوي ألف سنة. وتَذكر رسالةُ برنابا المزعوم أنّ الله سيرتاح في اليوم السابع، فيدين الكافرين ويحوّل الشمس والقمر والكواكب. أمّا أوسابيوس القيصريّ فأورد نصٌّا يتحدّث عن الوفر الذي يسود الألف سنة: »ستأتي أيّام تنمو فيها الكروم فيكون لكلّ كرم عشرة آلاف جفنة. وعلى كلّ جفنة عشرة ألاف فرع. وعلى كلّ فرع عشرة آلاف برعم. وعلى كلّ برعم عشرة آلاف عنقود. وعلى كلّ عنقود عشرة آلاف حبّة، وكلّ حبّة تُعصر تعطي عشرين كيلة من النبيذ«. ويتوالى النصّ فيذكر الحنطة وسائر الأثمار، والنبات والحيوان. أمّا الحيوانات فتعيش في سلام وتوافق، وتخضع خضوعًا تامٌّا للإنسان، وهذا في خطّ نبوءة أشعيا التي تجعل »الذئب يسكن مع الحمل، والنمر يربض مع الجدي، والأسد يأكل التبن كالثور« (أش 11: 6-7).

وراح ترتيليانُس الإفريقيّ وإيريناوس أسقف ليون الفرنسيّ وهيبوليتس الرومانيّ في الخطّ عينه، يتحدّثون عن الألف سنة على أنّها فردوس جديد. وأشار هيبوليتس إلى أنّ عودة المسيح ما زالت بعيدة، وذلك كي يهدئ الحمّى الإسكاتولوجيّة التي سيطرت على الجماعات المسيحيّة حوالى سنة 200. أمّا أوغسطينُس فعارض النظرة المادّيّة للألف سنة كزمن وفر وازدهار. لماذا؟ لأنّه برز تفسيرٌ يشدّد على الوفر والولائم والملذّات والطعام والشراب. من أجل هذا اندفع في تفسير روحيّ بدأ منذ الآن، وكلّنا ما زلنا في مصارعة مع العدوّ.

إن كان الغرب تعلّق بعض الشيء بسفر الرؤيا وصُورِه للتحدّث عن الألف سنة، فهو سوف يتركه على أثر أوغسطينُس. والدليل إلى ذلك غياب الصور والإيقونات. أمّا الشرق فلم يعترف بهذا السفر القانونيّ بشكل نهائيّ قبل القرن العاشر. غير أنّ إحساس المسيحيّين بوجود قوى تتجاوزهم جعلهم يتطلّعون إلى النهاية وانتصار الكنيسة في خطّ سفر الرؤيا: »إلى متى يا ربّ تنتظر؟« (6: 10) وهذا الانتظار يلتقي مع ما قالته رسالة بطرس الثانية: »يقولون أين موعد مجيئه؟ فإنّه منذ رقد الآباء ما زال كلّ شيء على ما كان عليه من بدء الخليقة« (3: 5). أجل، لم يحدث شيء بعد أن مات الجيل المسيحيّ الأوّل؛ لذا يكتفي الرسول بأن يُهدئ الخواطر ويقول: »الله يطيل أناته عليكم« (3: 9).

ورغم كلّ ذلك، يحاول الناس أن يحدّدوا تاريخًا لمجيء المسيح ونهاية العالم. قال هيبوليتس العائش سنة 200: ينتهي العالم سنة 500، ويواكيم دي فيوري سنة 1260، وغيره سنة 1453 مع سقوط القسطنطينيّة على يد العثمانيّين. وهناك من حدّد هذه النهاية مع بداية الحرب الأخيرة. أمّا الشيع فقالت: 1844 (السبيّون، المجيئيّون أو الأدفنتيست)؛ ثمّ 1914 ثمّ 1918 وأخيرًا 1975 (شهود يهوه). نلاحظ أنّ هذه التواريخ هي قريبة من كوارث طبيعيّة حصلت حقٌّا في العالم: نهاية الإمبراطوريّة الرومانيّة، سقوط القسطنطينيّة، تهديد الأتراك لأوروبّا. وفي القرن السادس عشر عاشت أوروبّا أزمة حضارة جاء على أثرها إصلاحان دينيّان. وأخيرًا الحربان العالميّتان الأولى والثانية، وتهديد بحرب عالميّة ثالثة.

3- على مشارف الألف الثالث

أمّا الآن، وقد وصلنا إلى سنة 2000 وتجاوزناها دون أن تحصل كارثة تنبّأ بها المنجّمون، فالبشريّة لم تتخلَّص بعد من نبوءات ترتبط بالألف سنة. ونذكر هنا كتابًا صدر سنة 1944 تحدّث عن نبوءات ألفيّة فقال: »إنّ شهر كانون الأول سنة 999 رأى التعصّب الدينيّ يصل إلى ذرى جديدة حين حاول مسحاء عديدون أن يتخلّصوا من الكفر الذي في أرضهم، لئلاّ يكون لملاك الدينونة شيء يقوله. وسارت أفواج من الناس في الريف يجلدون نفوسهم، كما طلب الشعب تنفيذ حكم الإعدام بأناس يزعمون أنّهم سحرة وبورجوازيّون غير شعبيّين؛ وأفلتوا بهائم من الحظيرة لتهيم في المدن. وهنا بدت الأمور بوجه غير واقعيّ«.

غير أنّ المؤرّخين الذين يعارضون قراءة نهيويّة لسنة ألف، يرذلون مثل هذه الأقوال. فالذعر والهلع هما من نتاج النظرة والخيال. ومع ذلك حاول البعض أن يقرأوا الكوارث في إطار الدينونة الآتية وعودة المسيح الدجّال. هذا في إنكلتره. وفي فرنسا كتب أحد الرهبان سنة 995: »بما أنّ أمام البشر حياة قصيرة، فالرغبة الجامحة تلتهمهم«. وصوّر آخرون أحداث سنة 990 مشدّدين على »شرّ الإكليروس« كعلامة رؤيويّة، وعودة الجنس البشريّ كلِّه وبإرادته إلى هوّة الفوضى الأولى والسقطة.

هذا يعني أنّ الشعور بأحداث رؤيويّة كان منتشرًا في أماكن عديدة. ولكنّ هذا لا يعني أنّ مثل هذا الشعور سببه نهاية الألف القريبة. يبقى أنّنا نجد أكثر من شهادة تشير إلى كوارث وتنبّؤات سرّيّة تشبه إلى حدّ بعيد ما يصوّره الكتاب المقدّس، حيث يعود العالم إلى الفوضى قبل المجيء الثاني.

هنا نتذكّر النصّ الإنجيليّ كما نقرأه في القدّيس متّى. ينطلق من دمار الهيكل الذي هو نهاية عالم وبداية عالم، على المستوى اليهوديّ كما على السمتوى المسيحيّ. حين أحرق الهيكل سنة 70 ب.م. على يد الرومان، ضاع مكان اللقاء بين اليهود في العالم. وأحسّ المسيحيّون المتأثّرون بالعالم اليهوديّ أنّ الأرض زحلت من تحت أرجلهم. ونرى أثرًا من ذلك في الرسالة إلى العبرانيّين: غاب الهيكل، غاب الكهنوت، غابت الذبائح وشعائر العبادة. فماذا بقي إذن؟ ولكنّ صاحب الرسالة يوجّه أفكار الناس وقلوبهم إلى يسوع الهيكل الجديد ومركز حضور الله، إلى يسوع الذي هو الكاهن الأوحد، بعد أن فشل كهنة العهد القديم في تأمين الطهارة التي يحتاج إليها الشعب (مت 24: 1-3).

في القسم الثاني من خطبة يسوع هذه، يقرأ متّى كلام يسوع على ضوء الأحداث التي تعيشها كنيسته، ويحاول أن ينبّه الكنيسة لئلاّ تقع في ضلال، فتسير وراء مسحاء كذبة. انطلق الناس في نهاية القرن الأوّل المسيحيّ ممّا يحدث من حروب وثورات، ومجاعات وزلازل. أمّا الإنجيل فرأى فيها أمورًا ترتبط بمسيرة العالم. ويقول النصّ الإنجيليّ: »ينبغي أن يحصل هذا«. ففعل »ينبغي« يدلّ على أنّ الربّ يأخذ على عاتقه كلّ تاريخ البشر، فيحوّل الشرّ إلى خير. بل يفهمنا أنّنا أمام ولادة عالم جديد. ولكنّ هذا ليس النهاية. ومن المؤسف أنّ المنظّرين منذ البدء حتّى أصحاب الشيع يعتبرون أنّ الحروب والثورات هي علامة عن نهاية العالم. ولكنّ يسوع واضح في هذا المجال: »ليس هو المنتهى بعدُ... فلا تخافوا« (مت 24: 6).

كيف يكون وجه الكنيسة في تلك الحالة؟ إنّها تعرف العدوّ الخارجيّ الذي هو المضطهد: يسلّم المؤمنون إلى الضيق والاضطهاد كما سُلِّم السيّد. يُقتلون كما قُتل الربّ يسوع. وكما أبغض يسوع سيُبغض المسيحيّون. ذاك كان وضع الكنيسة، وسيظلّ حتّى نهاية العالم، بقدر أمانتها لمسيحها وإنجيلها. وتعرف العدوّ الداخليّ الذي هو الإثم المتكاثر وبرودة المحبّة والضلال الذي يتغلغل إلى القلوب.

أمّا موقف المؤمنين فموقف عمليّ، مليء بالرجاء والنظر البعيد. لا ينتظرون مسيحًا يأتي من هنا وآخر من هناك. ولا يترقّبون الساعة واليوم. بل يثبتون، يثبتون في الإيمان فلا يزعزعهم المضلّون. ويثبتون في الجهاد فلا تقوى عليهم الاضطهادات. والثبات لا يدوم فترة محدّدة. الثبات يدوم إلى المنتهى وهو شرط الخلاص: »فمن كان أمينًا حتّى الموت أعطي إكليل الحياة« (رؤ 2: 11). ومن لم يتمسّك بالإيمان »يؤخذ منه إكليله« (رؤ 3: 11). في هذا المجال نفهم أنّ تكون خطبة يسوع حول نهاية العالم قد انتهت بنداء إلى السهر: »فاسهروا لأنّكم لا تعلمون في أيِّ وقت يأتي سيِّدكم« (مت 24: 42).

في هذا السهر لا يكتِّف المؤمن يديه ويرفض أن يشتغل. لا يسلك في الكسل وينتظر أن يأكل خبزه مجّانًا (2تس 3:6-8). لا ينتظر الجزاء إن لم يشتغل بتعب وكدّ ليلاً ونهارًا. المؤمن لا ينام لأنّه لم يعد في الليل والظلمة بل في النور والنهار، ويلبس الإيمان والمحبّة درعًا ورجاء الخلاص خوذة (1تس 5: 4-8). وعمله هو حمل البشارة إلى المسكونة كلّها، هو الشهادة للمسيح تجاه جميع الأمم (مت 24: 14).  لا ينظر إلى ذاته بل إلى المسيح »مُبدئ إيماننا ومكمّله« (عب 12: 2). وهو يعرف أنّ نهاية العالم ستأتي حين يصل الإنجيل إلى المسكونة كلّها ويصبح الله كلاٌّ في الكلّ. وبانتظار ذلك، لا ينظر إلى الوراء، ولا يحسب حساب ما عمله، كما يفعل الفرّيسيّ الذي يمنّن الله بما عمله، بل يتأمّل في نعمة الله التي ''تريد أن يَخلص جميعُ البشر ويُقبلوا إلى التوبة« (2بط 3: 9).

أجل، الحروب والكوارث لا تدلّ على نهاية العالم. هي بداية الأوجاع، بداية عالم جديد. بدأ هذا العالم مع موت يسوع على الصليب وقيامته، ولن يصل إلى كماله إلاّ في مجيء يسوع الثاني. وهذا المجيء تستطيع الكنيسة أن تجعله يأتي سريعًا حين تحمل بشارة الإنجيل إلى العالم كلِّه. أمّا اليوم، فالإنجيل لم يصل بعد إلى جميع البشر. لهذا نستطيع القول إنّ النهاية ما زالت بعيدة. وإذا اعتبرنا أنّ يسوع هو مركز التاريخ نستطيع القول إنّ السنوات التي ستأتي بعد المسيح ستكون مئة ألف سنة؛ ولم يمرّ منها حتّى الآن سوى ألفين. وهكذا نعلم أنّ نهاية العالم ما زالت بعيدة؛ لا سيّما وأنّ الإنسان لم يكتشف بعد كلّ غنى الكون كي يقدّمه لله الذي يريد »أن يجمع في شخص ابنه يسوع كلَّ ما في السموات وما على الأرض« (أف 1: 10).

4- حتّى نهاية العالم

وماذا بعد قراءة سفر الرؤيا ولا سيّما الفصل 20 والنظر إلى أزمنة القلق التي نعيش فيها؟ ولماذا يخفّ هذا الاهتمام بخطبة المسيح حول »نهاية العالم« حين تعرف البشريّة أوقات الهدوء، فتعود إلى التفسير الروحيّ والرمزيّ؟ الجواب ليس في الأحداث بل في القلوب. ووجود المسحاء العديدين مع ضلالاتهم يحرّك هذا القلق، فيعلن هؤلاء »المعلّمون الكذبة« أنّ الألف سنة قد بدأت، وأنّ نهاية العالم صارت قريبة. وأخذوا يفسّرون كلّ ما يحدث في العالم مع التشديد على الدمار والخراب والحروب والزلازل. ويحلّ التشاؤم عند الناس، ومع التشاؤم القلق والخوف، فيلجأ الناس إلى من يحميهم، إلى قائد يأخذ منهم حرّيّتهم وإرادتهم ويسوقهم كما المواشي، بعد أن يغسل لهم أدمغتهم. هذا في الواقع ما تفعله الشيع في الكنيسة.

فالشيعة جماعة لها بنيتها وعقيدتها المحدّدة ونظمها الدقيقة. يدخل فيها الإنسان فينغلق على ذاته وعلى جماعة محدودة. عندئذ يترك الكنيسة التي هي موضع انفتاح على الآخر مهما كان عرقه أو لونه أو دينه. والشيعة تلقي نظرة متشائمة إلى الزمن الحاضر، نظرة متشائمة إلى العالم الذاهب إلى الدمار، مع أنّ سفر الرؤيا يحدّثنا عن أرض جديدة وسماوات جديدة. نظرة متشائمة إلى الكنيسة بضعفها وخطاياها وخيانة المسؤولين فيها والمؤمنين، مع أنّ بولس قال عنها: ''هي مجيدة، لا كلف فيها ولا غضن ولا شيء مثل ذلك. بل مقدّسة ولا عيب فيها« (أف 5: 27). لا شكّ في أنّ أبناءها خطأة، وهم يحاولون أن يعيشوا التوبة يومًا بعد يوم، فتوثّر فيهم بقداستها. ولكن أترى المنتمين إلى الشيع لا خطيئة فيهم؟ هل نسوا قول المزمور الذي ردّده بولس وطبّقه علىالبشريّة كلِّها: »لا بارّ، لا واحد« (روم 3: 9)؟ فلا بارّ سوى واحد، هو يسوع المسيح وهو الذي يبرّرنا بدمه ويحمل إلينا الخلاص (روم 5: 9).

ولكنّ أصحاب الشيع يعتبرون نفوسهم أبرارًا، وكلّ الآخرين خطأة. وحدهم يخلصون. والباقون ذاهبون إلى الهلاك. فإذا أراد الإنسان أن ينال الخلاص فليلتحق بإحدى هذه الشيع التي تجعله يترك كلّ التزام تجاه عالم اليوم، ويؤلّف جماعة صغيرة تعيش انتظار المجيء في حمّى تدفع المتشيّعين إلى هروب إلى الوراء وهم يظنّون أنّهم يسيرون إلى الأمام. وبما أنّ هؤلاء المبشّرين يشدّدون على الخوف، فهم يلتقون مع عالم يعرف الخوف والقلق. وبدلاً من أن يقدّموا جوابًا يحمل إلى الناس المثقلين راحة يسوع المسيح (مت 11: 12)، يتركونهم في خوفهم، بل يجذّرونهم في هذا الخوف ليُحكموا السيطرة عليهم. جاء يسوع ليحرّر الناس؛ فإذا هم يطلبون أن يكونوا عبيدًا. لا يعودون يفكّرون ولا يعودون يقرّرون. يصبحون كأداة في يد ذاك الذي يوجّههم ويقودهم.

في هذا الخطّ الذي يشدّد على الألف سنة، نجد أوّلاً السبتيّين »المجيئيّين« الذين يدلّ اسمهم على مجيء المسيح القريب ونهاية العالم. تقول هذه الشيعة: ''مجيء المسيح الثاني هو رجاء الكنيسة السعيد وذروة الإنجيل. يقوم الموتى الأبرار ويمجَّدون مع الأحياء الأبرار ويُخطفون إلى السماء. أمّا الهالكون فيموتون... في الحقبة الواقعة بين القيامة الأولى والقيامة الثانية يُدان الموتى الهالكون وتكون الأرض كلُّها مقفرة فلا يبقى عليها كائن بشريّ واحد بل يحتلّها إبليس وملائكته...«.

ثمّ نجد شهود يهوه الذين أنكروا الثالوث الأقدس وألوهيّة المسيح، وفسّروا الكتاب المقدّس تفسيرًا حرفيٌّا وكيفيٌّا، وقاموا بترجمته بشكل تتوافق نصوصه مع تعليمهم. هم يقبلون أن يكون تضارب في نصوص الكتاب المقدّس، ولكنّهم لا يقبلون البتّة أن يكون تضارب في تعليمهم، مع أنّ هذا التضارب حاضر من طبعة إلى طبعة في الكتاب الواحد. أمّا تفسيرهم الحرفيّ للكتاب فقد سبّب لهم مشاكل حين أرادوا أن يتنبّأوا حول نهاية العالم. وتعليمهم تطوّر وتبدّل من رئيس إلى آخر.

يقوم شهود يهوه بعمليّات حسابيّة معقّدة، وقد انتهت بهم هذه الحسابات إلى إعلان نهاية العالم سنة 1914. وجاءت الحرب العالميّة الأولى تنبيهًا لهذه النبوءة التي دشّنت أزمنة الاضطراب في النهاية. نشير هنا إلى أنّ شهود يهوه انطلقوا من الفصل 20 من سفر الرؤيا ونصوص أخرى، فقسموا البشريّة ثلاث فئات: البقيّة الباقية، أي 144000، لا أكثر ولا أقلّ. ثمّ النعاج المخلَّصة أو يوناداب. وأخيرًا المحكوم عليهم لأنّهم رفضوا أن يلتحقوا بشهود يهوه. هؤلاء سيزولون من الوجود. يعودون إلى العدم. أمّا أصحاب يوناداب فيعيشون على الأرض، شأنهم شأن الحيوان، يأكلون ويشربون وينامون. والبقيّة الباقية هي النخبة المحصورة في قلّة قليلة ومعدودة. نشير هنا إلى أنّ العدد 144000 هو عدد رمزيّ. هو مربّع الرقم 12 (12×12) الذي يدلّ على الكمال (3×4)، يدلّ على آباء الشعب الأوّل وعلى رسل المسيح. وهو يُضرب بالرقم ألف الذي هو مكعّب 10. هذا يعني أنّنا أمام عدد كبير جدٌّا. وهو يقابل ما نقرأه في سفر الرؤيا: »نظرت فرأيت جمعًا كثيرًا، لا يستطيع أحد أن يحصيه، من كلّ أمّة وكلّ قبيلة، وكلّ شعب، وكلّ لسان« (7: 9). نلاحظ تكرار لفظة »كلّ«. ثمّ تتكرّر أربعة أسماء. والرقم 4 يدلّ على المسكونة كلّها بشمالها وجنوبها وغربها وشرقها. فإن إردنا قراءة الرقم 144000، فمن يستطيع أن يُحصي كلّ هذا العدد في هذه الفترة القصيرة جدٌّا؟ أمّا إن قرأناه قراءة رمزيّة روحيّة، نفهم أنّنا أمام عدد كبير لا يُحصى. فجميع البشريّة مدعوّة إلى الخلاص فيبقى على كلّ واحد منّا أن يتجاوب مع هذا النداء.

خاتمة

إنطلقنا في كلامنا من ألف أوّل عاد المؤرّخون إليه فيما بعد ليقرأوه، فوجد فيه بعضهم كلامًا عن كوارث آتية، وقال البعض الآخر إنّ سنة الألف كانت سنة مثل سائر السنوات. وقلنا إنّ الناس لم يكونوا يحسبون السنين في روزنامات وُجدت في البيوت، كما هي الحال في أيامنا. فحين وقعت سنة الألف، لم تكن تعني شيئًا بالنسبة إلى جميع فئات الشعب. وكانت عودة إلى الوراء. انطلق الباحثون من الحاضر الذي يعيشون فيه واستشرفوا الماضي ليجدوا فيه جوابًا من أجل المستقبل. فانطلقوا من الخوف الذي يعرفونه أمام الكوارث، وأسقطوا هذا الخوف على الألف الأوّل، وهو خوف لم يكن موجودًا. وأصبحنا في نهاية الألف الثاني وما عرف من حروب ودمار. وها هي البشريّة قد دخلت إلى الألف الثالث لتجسّد المسيح.

طُرح السؤال على مستوى التاريخ، والدول تعجّ بالأسلحة الفتّاكة. وطُرح في إطار الشيع التي بحثت عن الطمأنينة من خوف يلفّ البشريّة. أمّا نحن فرأينا الجواب في الإنجيل بشكل خاصّ، وفي الكتاب المقدّس بشكل عامّ. الآب هو إله الخلاص، وهو يريد أن يجمع البشر كلَّهم تحت رأس واحد. من أجلهم مات المسيح، وباسم المسيح تُحمل البشارة. ولن يعود المسيح في مجده إلاّ حين تعمّ البشارة المسكونة كلَّها. عندئذٍ فقط تكون نهاية العالم، بل بالأحرى بداية عالم جديد يزول منه الشرّ والموت، ويملأه الله بحضوره. فلماذا الخوف بعد ذلك؟ ولماذا الانتظار القلِق؟ المسيح آتٍ ونحن ننتظره يومًا بعد يوم، ونبشِّر به في انتظارنا. فهنيئًا لنا إن وُجدنا مستعدّين لمجيئه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM