الفصل الأول: الآب ضابط الكل خالق السماء والأرض.

الفصل الأول:

الآب ضابط الكل خالق السماء والأرض

حين نقابل بين كلامنا عن الله والواقع الذي نعيشه. حين نقابل بين اسم الله الذي تتلفّظ به شفاهُنا والطريقة التي بها نتعامل مع هذا الاله، نرى أن الله الآب ما زال ذاك المجهول. وإن نحن عرفناه، فلا نعرفه على حقيقته، بل نضع صوراً بشريّة فوق صورته. وإن نحن تحدّثنا عن الله، فهو كائن مجرّد لا علاقة له بالبشر. وفي أي حال، يبقى ذاك الذي يخيفنا ويرعبنا ويهدّدنا بضرباته. وإن نحن رفعنا الصلوات إليه فخوفاً من عقابه الذي نحسّ به مصلَتاً علينا كالسيف. يا ليتنا نعود إلى الله إله الآباء وأبي ربّنا يسوع المسيح. ذاك الذي خلق بمحبّة وغفر بمحبّة. ذاك الذي هو أب يريد أن ينمّينا، وأم تغمرنا بحنانها بعد أن وُلدنا بالمعموديّة ولادة ثانية.

1 - شخص الله

نقرأ في بداية الرسالة إلى العبرانيين: »بعد أن كلّم الله آباءنا... كلّمنا بابنه يسوع المسيح« (1:1). وهكذا نكون أمام مقطعين عن الله الآب. هو أبو الآباء. هو أبو ربنا يسوع المسيح. ويتبعهما مقطع ثالث حول بعض العبارات الانجيليّة.

أ - إله الآباء

يتحدّث العهد الجديد عن الله الآب في علاقته بالابن الوحيد، كما يكلّمنا عنه يسوع المسيح. أما العهد القديم، فيتحدّث عن إله الآباء.

أولاً: حذر من الأبوّة

نبدأ فنقول إن التوراة حاولت أن تبتعد عن الرموز البشريّة في التحدّث عن الله. تحدّثت الديانات القديمة عن الله الذي »يتزوَّج« شعبه. وانتظرنا النبيّ هوشع ليصل بنا إلى هذا القول، وذلك في كلام جريء لن يقبله الجميع ولا سيّما حين يقرأون نشيد الأناشيد حيث تقول العروس (تمثّل الشعب): »أنا لحبيبي وحبيبي لي«. وكذا نقول عن أبوّة الله من أجل التعبير عن علاقة الله بالبشر.

فالخبرة أولاً منعت الكتاب المقدّس في عهده القديم من تشبيه الله بالآب. فالآباء قاتلون في عبادتهم للأوثان. يروي إرميا كيف كانوا يحرقون بنيهم بالنار إكراماً للبعل (19:5). ويدلّون على أنهم ليسوا بواعين للمسؤولية الملقاة على عاتقهم. مثل يفتاح الذي نذر بأن يذبح ابنته لكي يربح المعركة ضد بني عمون (قض 11). ضحّى بابنته من أجل كبريائه. والآباء ضعفاء مثل عالي، كاهن معبد شيلو، يخافون أن »يؤدّبوا« أولادهم التأديب الصحيح (1 صم 2 - 3). وحتّى إن ذُكر ابراهيم وفي شخصه ما فيه من عظمة، فنحن لا نرى فيه المثال الرفيع الذي يدلّ على الله. وكذا نقول عن يعقوب وداود وغيرهما.

ثم إن وعي الخطيئة، جعل العبرانيين لا يسمّون الله »أباً«. وأخيراً، الميتولوجيّات الشرقيّة التي تتحدّث عن »زواج« الاله بالبشر. من أجل هذا، اكتفوا بأن تبقى هذه العبارة في البعيد التاريخي، فتحدّثوا عن إله الآباء. نقرأ في خر 3:15: »قال الله لموسى: هذا ما تقوله لبني اسرائيل: إله آبائكم، إله ابراهيم وإله اسحاق وإله يعقوب«. أجل، لا يقال إن الله هو أبو ابراهيم، بل إلهه. وإن سُمّي الله »أبا اسرائيل« فهذه التسمية تأتي في الدرجة الثانية، بعد الكلام عن »الاسم«.

وسبب هذا التحفّظ هو أن الله ليس أباً كما هم آباؤنا البشريون. فالعهد القديم يتهرّب من كل فكرة زواج للاله الواحد مع إلاهة من الإلاهات.

ثانياً: اسم الله وأسماؤه

وننطلق من المرحلة الأساسيّة التي تدلّ على علاقة بني اسرائيل بالله. هي تلك التي فيها أعلن عن اسمه، وذلك في وحي فريد، في رؤية العلّيقة الملتهبة (خر 3:1 - 15). كان موسى يرعى غنم حميّه، فرأى علّيقة مشتعلة لا تحترق فتصبح رماداً. خاف خوف الاحترام أمام الله، وخلع نعليه من رجليه. عند ذاك، أعلن الله لموسى كليمه اسمه: »أنا يهوه، أنا هو الذي هو. أنا هو ذاك الذي يكون معكم«.

»يهوه«. كلمة تعود إلى فعل ساميّ لا نجده في العربيّة إلاّ في الضمير: هو. حين أعلن الله اسمه لموسى، بدا وكأنه يرفض مسبقاً أن يحصر نفسه في لفظة من الألفاظ. لهذا قال: »أنا هو الذي هو«، فلا تسأل أبعد من ذلك. الله يبقى سراً للانسان. وفي مرحلة لاحقة، بيّن أنه الاله الأمين تجاه البشر المتقلّبين: »أنا هو، وسأدلّك على ما سأكون، على ما سأفعل«.

حين يورد الله اسمه، فهو يرفض كل صورة ملموسة عنه. هو الكائن، ولا حاجة إلى زيادة أي شيء على هذا القول. وهكذا سيفهم موسى والشعب العبراني معه، أن الله هو الكائن المطلق الذي يتعدّى حدود الزمان والمكان. ومع ذلك، فهذا الاله ليس ببعيد. فالذي »هو«، هو في الوقت عينه إله ابراهيم واسحاق ويعقوب. أي إله يهتمّ بالبشر، ويسمع صراخ المساكين والضعفاء. ويجازي كل واحد بحسب أعماله.

ولكن اليهود تحاشوا أن يتلفّظوا باسم الله »يهوه« (بحروفه الأربعة)، وذلك احتراماً وإجلالاً. لهذا سمّوه: ادوناي، السيّد، الربّ. وأعطوه أسماء أخرى لا ترتفع على مستوى الاسم، اسم يهوه، بل تدلّ على عمله أو موقفه تجاهنا.

الله هو الخالق. في البدء خلق الله السماء والأرض. وهو الملك كما تقول المزامير. هو ربّ الجنود (السماويّة، أي الكواكب). ربّ القوات، ربّ الأكوان. الرب القدير كما رآه أشعيا النبي (6:2). والله هو المخلّص والفادي ومحرّر شعبه والساهر والديّان... وهناك تشابيه: الله يعمل كالفخاريّ الذي يقف على طينه. هكذا خلق الانسان. الله هو الصخرة والقلعة حيث يحتمي المؤمن. وأخيراً الله هو الزوج وهو الأب. صورتان جريئتان كما قلنا. نقرأ في أشعيا: »زوجك (يا أورشليم) هو خالقك واسمه ربّ الجنود. فاديك هو قدوس اسرائيل الذي يُدعى إله الأرض كلها« (54:5). ونقرأ في سفر التثنية: »لمحبّة الرب لكم ومحافظته على اليمين التي أقسمها لآبائكم... فداكم من دار العبوديّة« (7:8).

ونتوقّف بشكل خاص عند الله الذي هو أبو الملك. قال ناتان النبي لداود بفم الله: »وإذا تمّت أيامك... وأقمت من يليك من نسلك... أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً. وإذا أَثِم أؤدّبه بقضيب الناس وبضربات بني البشر، وأما رحمتي فلا تُنزع عنه« (2 صم 7:12 - 15). الله هو أب وهو يربّي ملِكَه. ونقرأ في مز 2:4 - 7: »أنا مسحتُ ملكي على صهيون، جبل قدسي، دعوني أعلن قول الربّ: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك«. فيوم يتوّج الملكُ يصبح ابناً لله.

وسيأتي يوم يفهم الشعب أبوّة الله، فيقول مز 103:13: »كرأفة أب ببنيه رئف الرب بخائفيه«. ويقول أشعيا: »أنت أبونا... أنت يا رب أبونا وفادينا. هذا هو اسمك منذ الدهر« (63:15 - 16). ويقول أشعيا أيضاً: »والآن يا ربّ أنت أبونا. نحن الطين وأنت جابلنا جميعاً، ونحن جميعاً عمل يدك« (64:8). ويقول ملاخي: »أما لنا كلنا أب واحد؟ أما إله واحد خلقنا؟ فلماذا يغدر الواحد بالآخر مدنّساً عهد الله مع آبائنا« (2:10)؟

في هذا الإطار، يبدو الله أباً وأماً معاً. يقول اشعيا: »أتنسى المرأة مرضعها؟ ألا ترحم ابن بطنها؟ ولكن لو أنها نسيت، فأنا لا أنساك، على كفيّ رسمتك« (49:15 - 16). ويقول هوشع: »يوم كان اسرائيل فتى أحببته، ومن مصر دعوت ابني. كلما دعوته هرب من وجهي... وأنا الذي علّمهم المشي وحملهم على ذراعه... جذبتهم إليّ بحبال الرحمة وروابط المحبّة، وكنت لهم كأب يرفع طفلاً على ذراعه ويحنو عليهم ويطعمهم« (11:1 - 4).

ب - أبو يسوع المسيح

حين نقرأ الأناجيل، تظهر علاقة خاصة وحميمة بين الله ويسوع. فالله هو أبو يسوع المسيح وهي علاقة فريدة، استطاع معها يسوع أن يقول: »لا يعرف أحد الابن إلاّ الآب، ولا يعرف أحد الآب إلاّ الابن« (لو 10:22).

حاول الناس أن يجعلوا يسوع معلّماً بين المعلّمين، ومفكّراً بين المفكّرين ومصلحاً بين المصلحين. ولكنه في الواقع يبقى لغزاً للبشر. والسبب؟ لأنه في علاقة خارقة مع الله. فعلاقته تختلف كل الاختلاف عن علاقة موسى أو داود بالله. قالت الرسالة إلى العبرانيين عن موسى إنه كان الخادم في البيت. أما يسوع فهو الابن.

يسوع هو ذاك الذي لم يعرف الخطيئة. هو ذاك الذي يحرّرنا من الخطيئة. هو ذاك الذي يعلن منذ بداية حياته كفتى: »أريد أن أكون في بيت أبي« (لو 2:49). وسيطرد من الهيكل التجّار الذين يشوّهون الهيكل، فيدلّ على سلطته على بيت الله. كما سيدلّ على سلطته على السبت وعلى الشريعة التي يفسّرها بسلطانه الالهي: »قيل لكم، أما أنا فأقول لكم« (مت 5:21، 27). وتظهر علاقة يسوع كالابن تجاه الآب، بشكل خاص، في الصلاة. علّمَنا أن نقول »أبانا«. بل تفوّه بلفظة فريدة لا نجدها في العالم اليهودي كله، وهي تلك التي يقولها الطفل لأبيه: »أبّا، أيها الآب«. بل علّمنا أن نقولها، على ما في الرسالة إلى غلاطية: »والدليل على أنكم أبناء الله هو أنه أرسل روح ابنه إلى قلوبنا هاتفاً: أبّا، أيها الآب« (4:6).

الله هو أب وهذا الاسم يكفي ليدلّ عليه. هو أب منذ الأزل. هو أبو يسوع المسيح كما تقول الرسالة إلى أفسس: »تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحيّة في السماوات« (1:3). انطلق يسوع من الخبرة البشريّة وحدّثنا عن الله أبيه. لا شكّ في أنه ليس من صورة تكفي لكي تحيط بالله. ولكننا نقول إن الله أب، ونسرع: ولكنه ليس أباً مثل آبائنا. ننفي حالاً ما نقوله. ومع ذلك، يجب أن نقول إن الله أب. هو بعيد كل البعد عن عالم الميتولوجيا حيث الآلهة تتزوّج ويكون لها أولاد: في مصر مثلاً، تزوّج اوزيريس ايزيس فكان لهما ولد هو حورس. وكذا نقول عن بلاد الرافدين. أما إلهنا فلا »امرأة« له مثل زوش وجوبيتر وسائر الآلهة الوثنيّة. وحين نقول إن الله أب، نعلن أنه لا يعيش وحده في عزلة سمائه. نعلن أنه عيلة فيها الابن والروح القدس. وفي هذه العيلة ستدخل البشريّة كلها. والله أب منذ الأزل. هو لا ينتظر كما ينتظر الشاب أن يتزوّج لكي يكون أباً. فالعلاقة بين الآب والابن هي من العمق بحيث لا نستطيع أن نفكّر بالواحد دون أن نفكّر بالآخر. قال يسوع عن نفسه: »أنا والآب واحد«. (يو 10:30). وكان يوحنا قد قال في مطلع انجيله عن الكلمة الذي هو الأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس: »في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة كان الله« (1:1).

هذه العلاقة بين الآب والابن تبقى معبّرة لنا، رغم ضعفها. فنحن ننطلق من خبرتنا فننقّيها بحيث تُوجّهنا إلى الثالوث. وهناك علاقة أخرى بين الآب والروح القدس. فالروح هو شخص، شأنه شأن الابن. هو أقنوم كما نقول في اللاهوت الثالوثيّ. فكما أرسل الله الابن، كذلك أرسل الروح. وما يفعله الابن يفعله الروح أيضاً.

فما هي علاقة الروح بالآب؟ ليس الروح »ابناً« آخر للآب. ومع ذلك فهو روح الآب. وقد حاول الآباء أن يعطوا تشبيهاً يساعدنا على »فهم« بعض الشيء وإن كان هذا الفهم ناقصاً: الشمس هو الآب. والشعاع هو الابن. والحرارة هي الروح. لا تنفصل الشمس عن شعاعها وحرارتها. وهذا ما نقوله عن الآب والابن والروح القدس.

فالآب هو في أصل الروح داخل حركة تشبه تلك التي بها يكون الآب في أصل الابن. ليس الآب أب الروح القدس. ولكنه كأب هو في أصل الروح القدس. هذا يعني أن الابن حاضر في العمل الذي فيه ينبثق الروح من الآب. لا يعبّر عن نفسه جزئياً في الابن وجزئياً في الروح. بل يعبّر عن ذاته كلها في الابن، وفي الروح القدس. وقد قال المعلّمون عن الثالوث: الآب يحبّ الابن ويعطيه كل ما له. والابن يحبّ الآب ويعطيه كل ما له. والعلاقة بين الآب والابن ليست عاطفة وشعوراً وحسب. إنها شخص حيّ هو الروح القدس. وهكذا لا يفترق الآب عن الابن إلاّ بالأبوّة، ولا يفترق الابن عن الآب إلاّ بالبنوّة. أما الثالوث فيتميّز بالانبثاق.

إذا كان الله ثالوثاً، إذا كان عيلة، فقد جعل منّا نحن البشر أعضاء في هذه العيلة. نحن أبناء الله مع الابن الوحيد، يسوع المسيح. بعد القيامة، أفهَمنا يسوعُ أن أباه هو أبونا أيضاً. قال للمجدليّة: »اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم: أنا صاعد إلى أبي وأبيكم«. يسوع هو ابن الله بالطبيعة. أما نحن فأبناء بالنعمة. لقد تبنّانا الله بحيث نستطيع أن نقول له: »أبانا الذي في السماوات«.

ج - آيات صعبة

في معرض حديثنا عن آبائنا، عن أبوّة الله، ترد بعض الآيات الانجيليّة التي يصعب علينا فهمها. ولكن الكنيسة احتفظت بها وما ألغتها رغم أنها تطرح عليها سؤالاً. يبقى علينا أن نحاول فهمها.

أولاً: لا تدعوا أحداً على الأرض أباً (مت 23:9)

جاء أمر يسوع في انجيل متّى قاطعاً. ويحيط به أمران آخران. »لا تُدعوا رابي«. »لا يدعُكم أحدٌ مدبّرين« (23:8، 10). ما هو جوابنا والكاهن يسمّى »أبونا« ورئيس الكنيسة يُسمّى »البابا«؟ واللاهوتيّون الكبار في أوائل الكنيسة يسمّون: آباء الكنيسة؟

إذا عدنا إلى الزمن الرسولي، نرى أن يوحنا وبولس يعتبران نفسيهما كالأب بالنسبة إلى التلاميذ. يقول يوحنا في رسالته الأولى: »يا أولادي الصغار، لا يضلّكم أحد« (3:7). ويقول أيضاً: »أما أنتم، يا أولادي الصغار، فإنكم من الله« (4:4). وكتب بولس في الأولى إلى كورنتوس: »ولست أكتب هذا لإخجالكم، وإنما لأنبّهكم كأولادي الأحبّاء. لأنه وإن يكن لكم ربوات من المعلّمين في المسيح، فليس لكم آباء كثيرون. إذ إني أنا قد ولدتكم في المسيح يسوع« (4:14 - 15).

هذه الأبوّة قد تُسمّى أمومة. فبولس يتعامل مع المؤمنين بعاطفة ملؤها الحنان. بل هو سيتحدّث عن »أولاده الصغار« الذين »ولدهم في ألم المخاض« (غل 4:19). وهكذا »تَصوّر المسيحُ فيهم«. هذه الإشارة إلى الأمومة تذكّرنا بما قيل عن أبوّة الله. وهكذا نحسّ أنّنا أمام أبوّة روحيّة.

إذا كان هذا كلام العهد الجديد، فلماذا التعارض مع أمر يسوع؟ هنا لا بدّ من وضع مت 23:9 في سياق النصّ: يسوع يهاجم الكتبة والفريسيين المتعطّشين إلى الألقاب والكرامات. وهكذا يرفض يسوع من يبحث عن السلطة والنفوذ. يختبئون وراء اسم »الأب« وهم بعيدون كل البعد عن مدلول هذا الاسم بالنظر إلى الله الذي أحبّ العالم فأرسل ابنه.

وهكذا نفهم هذه الآية في روحها، لا في حرفيّتها: »الروح هو الذي يحيي«، يقول القديس يوحنا (6:36). ويقول بولس: »الحرف يقتل، أما الروح فيحيي« (2كور 3:6). هنا نعود إلى ما قيل عن الأبويّة التي بها يحاول الانسان أن يسيطر على الآخرين من أجل منفعته وأنانيته. وعن الأبوّة وما فيها من تضحية وعطاء من أجل تنمية الآخر. في هذا الإطار، يبدو الكتبة والفريسيّون أولئك الذين يسيطرون على البسطاء. ويُشبههم اليوم بعضُ المعلّمين في الشيع التي تعيث فساداً في مجتمعاتنا: يريد الواحد أن يعتبر »أباً« للمجموعة وأباً لكل واحد من الجماعة، وذلك بسلطته الخاصة. إنه يتعدّى على الأبوّة الحقيقيّة. صار منحرفاً وفاسداً.

أما الأبوّة التي يعطيها الله والتي تقود إلى الله، الأبوّة التي تتوافق مع علامات الروح وتقبل تمييز الكنيسة، فهي تحرّر الانسان ولا تستعبده كما لا تحاول التسلّط عليه. هذه الأبوّة هي موهبة من الله. هي في النهاية خدمة على مثال المسيح الذي ما جاء ليُخدم، بل جاء ليخدم ويبذل حياته عن الكثيرين. تلك هي الأبوّة الروحيّة التي أشار إليها بولس ويوحنا والتي هي بعيدة كل البعد عن تلك التي يمارسها الكتبة والفريسيون. هذه الأبوّة هي في النهاية مشاركة في أبوّة الله الذي يشرق شمسه على الأشرار والأخيار ويمطر غيثه على الأبرار والأثمة (مت 5:45).

ثانياً: تلك الساعة لا يعرفها الابن (مر 13:32)

نقرأ في مر 13:32: »وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعرفهما أحد، ولا الملائكة في السماء، ولا الابن إلاّ الآب«. رج مت 24:36.

احتفظ مرقس ومتّى بقول يسوع هذا حول عودة ابن الانسان. فهو يفترض أن الآب ما سلّم إلى ابنه كل شيء. وهذه العبارة التي تبرز اختلافاً أقلّه ظاهراً بين الابن والآب، تدلّ على هويّة يسوع. هو »الابن« كما أن أباه هو »الآب«. قد نستطيع في جواب أول حصر هذه المعرفة في الآب: يسوع يتكلّم هنا كإنسان. فهو كإنسان يعرف ما يعرفه الانسان. ويقول لنا بولس في رسالته إلى فيلبي: »أخلى ذاته، آخذاً صورة عبد، وصار شبيهاً بالبشر« (2:7). ولكننا سنذهب أبعد من ذلك.

فهذه العبارة عن الابن تدلّ على الحدّ الذي وصلت إليه جهوزيّة الابن تجاه الآب. وهي في قساوتها لا تقول إلاّ ما قاله يوحنا الانجيلي مراراً: يسوع لا يكشف شيئاً إلاّ ما يأتيه من الآب، ولا يعمل شيئاً إلاّ ما يرى الآب يعمله. وقد قال في يو 7:16: »إن تعليمي ليس منّي، بل من الآب الذي أرسلني«. ونحن نفهم هذا التحفّظ لدى يسوع حين نعرف أننا في التتمّة الأخيرة للتاريخ. فالآب هو وحده سيّد التاريخ. في هذا المجال تحدّث لوقا في أعمال الرسل عن »الأزمنة التي حدّدها الآب في سلطانه« (أع 1:7).

لقد جاء الابن يعيش تاريخنا في كل ضعفه ومحدوديّته. وما أراد منذ الآن أن يكون في نهاية التاريخ. أراد أن يشابهنا في كل شيء، حتى في جهلنا ذلك اليوم وتلك الساعة. وهو ما أراد أن يعطينا معلومات جديدة عن زمن من الأزمنة. بل جاء يهيّئنا للقاء الرب. جاء يدعونا إلى السهر. فلماذا البحث عن ساعة محدّدة. مجيء الرب حاضر في كل وقت بالنسبة إلى كل واحد منا. وهو سيأتي في آخر الأزمنة في مجد عظيم ليدين الأحياء والأموات.

ثالثاً: الآب أعظم منّي (يو 14:28)

قال يسوع في خطبة العشاء السريّ: »لو كنتم تحبّوني لكنتم تفرحون بأني ذاهب إلى الآب، لأن الآب أعظم مني«. تبدو هذه العبارة الأخيرة وكأنها تجعل تراتبيّة بين الآب والابن. بل هي تتعارض مع ما قيل في مجمع نيقيّة (سنة 325): الابن مساو للآب في الجوهر. وفي المفهوم العام، الابن هو سرّ أبيه، هو صورة أبيه. وسيأتي يوم يكون فيه هو أيضاً أباً.

ولكننا لا نقرأ العبارة بعد أن نقتطعها من سياقها. ولا نقرأ العبارة وحدها دون العودة إلى عبارات أخرى. ففي يوحنا، نقرأ آيات عديدة تشدّد على المساواة بين الآب والابن. ففي 5:18: »ازداد اليهود طلباً لقتله. ليس فقط لأنه كان ينقض السبت، بل أيضاً لأنه كان يدعو الله أباه، مساوياً نفسه بالله«. فلو لم يكن الأمر كذلك، لكان يسوع أوضح فكره. ولكن مع أنه كان مهدّداً بالقتل، إلاّ أنه لم يتراجع. بل تابع كلامه. »ما يفعله الآب يفعله الابن مثله. لأن الآب يحبّ الابن ويريه جميع ما يفعل... فكما أن الآب يقيم الموتى ويحييهم، كذلك الابن أيضاً يحيي من يشاء... وهكذا يكرم الجميعُ الابن كما يكرمون الآب«.

وفي وقت من الأوقات، أعلن يسوع: »أنا والآب واحد« (يو 10:30). تشكّك اليهود وأخذوا حجارة ليرجموه. اعتبروه أنه يجدّف: هو انسان ويجعل من نفسه »إله« (10:33). هل تراجع يسوع أمام الخطر؟ كلا. بل قال: »اعلموا أن الآب فيّ وأني في الآب«. فطلبوا أيضاً أن يقبضوا عليه.

إذا كان الأمر هكذا، فكيف يقول يسوع إن الآب أعظم مني؟ وسيقول أيضاً في 10:27 - 29: »خرافي تسمع صوتي... الآب الذي أعطانيها هو أعظم من الجميع، ولا يخطفها أحد من يد الآب«.

وفي موضع آخر يُفهم يسوعُ تلاميذه بأن »المرسَل ليس أعظم من مرسله« (يو 13:16). ولكن يسوع هو المرسَل. وهكذا يكون يسوع في خطّ الآب. وطعامه هو أن يعمل مشيئة الآب الذي أرسله. وسنقرأ في خطبة بعد العشاء السريّ: إن التلاميذ يعملون أعظم من هذه الأعمال »لأني ماضٍ إلى الآب« (14:12). ومن عند الآب سوف يرسل الابنُ الروح القدس. وسيعد يسوع تلاميذه بأن الروح القدس يقودهم إلى الحقّ كله (16:13). ولكن يسوع كان قد قال إنه الحق، إنه الطريق والحقّ والحياة (14:6).

هنا نقول ما قلناه عن الصعوبة الثانية (مر 13:32). يسوع هو انسان، وقد أراد كإنسان أن ينمو في »القامة والحكمة والنعمة أمام الله وأمام الناس« (لو 2:52). متى ينتهي هذا النمو؟ في الفصح والقيامة. بانتظار ذلك، يسوع يسير مسيرته في الواقع البشريّ الذي هو واقعه، منذ التجسّد. سيمجّده الآب بالمجد الذي كان له منذ إنشاء العالم (يو 17:4 - 5). وعلى التلاميذ أن يفرحوا من أجل يسوع الذي يذهب للقاء الآب من خلال فصحه. هذا ما نقرأه في يو 13:1: »علم يسوع أن ساعته أتت لكي ينتقل من هذا العالم إلى الآب...«. أجل، إن الابن، بما هو انسان، يسير مسيرته إلى الآب الذي منه كل مبادرة. أجل، الآب هو الأول ومنه يخرج الابن كما تخرج الكلمة من الشخص، ومنه ينبثق الروح.

2 - صفات الله

نتوقّف هنا عند ثلاث صفات نكتشفها لدى الله الآب. هو القدير، الضابط الكل. هو الخالق، خالق السماء والأرض، كل ما يُرى وما لا يُرى. هو الغافر الذي يستقبل الخطأة العائدين إليه مع أنهم أخطأوا إليه وإلى السماء.

أ - الله القدير

قدرة الله صفة نفترضها في الله ولا سيّما حين نطلب منه كل شيء. فلو لم يكن قديراً، لما طلبنا منه. ولكن هل تعني هذه القدرة أننا نبقى أطفالاً وننتظر من الله كل شيء كالعصفور الصغير ينتظر في عشّه أباه الذي يحمل إليه الطعام؟ كلا ثم كلا. فالله سلّمنا الوزنات وطلب منّا أن نتاجر بها. وسوف يعاقبنا إن تقاعسنا. ويُطرَح سؤال آخر: إذا كان الله كلي القدرة، فلماذا الشرّ والحروب والمجاعات؟ قد يُقال لنا أن العالم غير كامل، وأن الحريّة البشريّة هي هنا. ويقال لنا: الشرور هي عقاب الخطيئة. كل هذا لا يقنعنا كل الإقناع، لا سيّما وأن المسيح لم يقدّم الجواب النظري، بل اكتفى أن يحمل صليبه ويقبل حُكم الإعدام عليه، مع أنه هو الحمل البريء الذي لا عيب فيه. واكتفى الآب بأن يرى ابنه يموت. غير أن القيامة ستفهمنا أن الشرّ لن تكون له الكلمة الأخيرة. والموت الذي ينتهي بالقيامة لم يعد موتاً بالمعنى الذي يعرفه العالم الوثني. لم يعد نهاية كل شيء. الموت في المسيحيّة هو بداية كل شيء.

يبقى علينا أن نتعرّف إلى الله في الخلاص الذي يحمله، في القدرة التي بها يحفظ الكون في الوجود، في العناية التي بها يسهر على البشر ويسير بالتاريخ لخير الذين يحبّونه.

أولاً: الله المخلّص

الخبرة الأساسيّة التي عرفها العهد القديم، لم تكن فكرة الخلق، بل فكرة الخلاص. فالربّ قد حرّر شعبه من العبوديّة »بيد قديرة وذراع ممدودة«. كان الشعب قوماً من الرعاع، فجعل منهم شعباً منظماً يسير إلى جبل سيناء، كما في تطواف ديني. في النهار، يسير أمامه الربّ من خلال الغمام، وفي الليل من خلال النور.

ولما حرّر الرب شعبه من العبوديّة، قدّم له الخلاص الذي ينتظره، ولا سيّما الخلاص من عالم الشرّ الذي غرق في البحر فعاد إلى أصله. وفي الوقت عينه خَلَقه، فأتاح له أن يعيش حريّة أبناء الله. نقله من العبوديّة إلى العبادة، من عبوديّة للبشر إلى عبادة الله الواحد. وسيعود الشعب العبراني دوماً إلى هذه الخبرة الأولى، خبرة الخروج، ليجد فيها نموذج كل تحرّر وخلاص وخلْق. نقرأ في مز 105:1 -2 : »إحمدوا الربّ وادعوا باسمه، وعرّفوا في الشعوب بأعماله. أنشدوا للربّ ورتّلوا له، وتأمّلوا في جميع عجائبه«. ويخبر المرتّل ما صنعه الرب مع شعبه منذ الخروج من مصر حتى الوصول إلى أرض كنعان.

وهكذا يفتح الطريق للحديث عن »خلاصات« تمّت على مرّ التاريخ. فالله ما زال يمدّ يده للذين يحبّهم. وسوف يعرف المؤمنون حضوره الخلاصيّ في حياتهم. ولكننا سوف نرى أن هذا الخلاص يتمّ عن طريق المفارقة. يتمّ في الضعف والعجز. يتمّ بأيد بشريّة لا يمكن أن ينتظر الناس منها الكثير. يتم بواسطة الأولاد، بواسطة النساء، ولا سيّما الأرامل منهنّ. قهر داود الفتى جليات الجبّار. كان هذا يحمل أهمّ سلاح في ذلك الوقت. أما داود فاستعمل حجراً ومقلاعاً. أسلحة البشر لا تنقع أمام الله. وفي خبر يهوديت، تغلّبت الأرملة على قائد أعظم جيش في العالم، فهتفت: »إجعل شعبك بجميع عشائره يعلم أنك وحدك الاله القويّ الجبّار، وأنّك أنت وحدك قادر على حماية بني اسرائيل« (9:14).

وتهزأ التوراة مراراً بقدرة الملوك التي هي ظاهرُ القدرة. وقد تحدّث المزمور الثاني عن الأمم والشعوب والملوك والحكّام الذين يتآمرون ويثورون. ولكن »الساكن في السماوات يضحك، والرب يستهزئ بهم«. فلا يبقى لهم سوى أن يعبدوه بخشية، ويقبّلوا قدميه برعدة. ونجد في سفر المكابيين الثاني كلاماً عن ليسياس، قائد جيش أنطيوخس، »الذي لم يحسب حساباً لقدرة الله، وإنما اتّكل على مئات الألوف من الجنود المشاة وعلى ألوف الفرسان، وعلى فيله الثمانين« (11:4). ولكن الله »حطّ الأعزّاء عن عروشهم« كما قالت مريم العذراء في نشيد التعظيم.

وننهي هذا المقطع بكلام لأشعيا النبي يقول فيه لأورشليم التي تحاول أن تعيد تجميع الشعب بعد محنة المنفى: »إصعدوا على جبل عال، يا مبشّري صهيون، إرفعوا صوتكم مدوياً يا مبشّري أورشليم! إرفعوه ولا تخافوا. قولوا لمدائن يهوذا: ها هو الرب إلهكم آت وذراعه قاضية... يرعى قطعانه كالراعي ويجمع صغاره بذراعه. يحملها حملاً في حضنه، ويقود مرضعاتها على مهل« (40:9 - 11).

ثانياً: الله حافظ الكون في الوجود

إن خبرة الخروج الأولى تجد امتداداً لها في اتجاهين: في الأصل والماضي، وفي الحاضر. فكما أن الله خلق شعبه بواسطة أناس ضعفاء، هكذا خلق الكون من العدم. خلق شعبه بعشر كلمات هي الوصايا العشر. وخلق الكون بعشر كلمات. قال للنور كن فكان النور. قال فصار كل شيء. وأمر فظهر كل موجود (مز 33:9).

أعلن الشعب إيمانه بهذا الاله الذي صنع كل شيء، الذي صنع الكون وعناصر الطبيعة وجميع الأحياء. فهتف: ليس من إله آخر تحت السماء. في الماضي، كان لكل شعب إلهه: كان للموآبين كموش. وللعمونيين ملكوم. وللصوريين بعل ملقارت. وكان كل إله يملك في أرضه. أما الآن، فإله العبرانيين صار الاله الواحد الوحيد. ووعى شعبُ الله قدرة إلهه التي لا يحدّها حدود. فهو خلّص شعبه. بل هو خلق الكون، فصارت جميع الخلائق انعكاساً لقدرته. ولكن هذا لا يعني أننا في الحلوليّة، وأننا نمزج بين الخالق والخليقة. قال سفر الحكمة: »وما من شكّ أن جميع الذين يجهلون الله هم حمقى من طبعهم، ولم يقدروا أن يعرفوا الكائن من الروائع المنظورة التي صنعها، فظنّوا أن النار أو الهواء أو الريح العاصفة... ظنوا هذه آلهة سيطرت على العالم. وهم عندما ظنّوا أن هذه آلهة، فلأنهم فُتنوا بجمالها غير عالمين أن لها سيّداً أعظم منها، لأنه هو الذي خلقها، وهو مصدر كل ما فيها من الجمال. أو عندما دُهشوا من قوتها ومن حسنها، كان عليهم أن يفهموا بها كم صانعها أعظم منها« (13:1 - 5). وسيستعيد بولس هذا البرهان في الرسالة إلى رومة فيقول: »فإن صفاته (= صفات الله) غير المنظورة ولا سيّما قدرته الأزليّة وألوهته، واضحة جليّة تدركها العقول في مخلوقاته« (1:20).

أما المزامير فتدعونا إلى التأمل في عمل الخلق، وكيف يحفظه الله في الوجود. »الربّ ملك ولبس الجاه. الرب ارتدى العزّة واتَّزر بها. ثبّت الكون في مكانه فلا يتزعزع إلى الأبد. عرشك ثابت منذ البدء، ومنذ الأزل أنت« (93:1 - 2). ترفع الأنهار عجيجها، والبحار أمواجها، ولكننا نسمع ضجّة ولا شيء بعد ذلك. قد تحاول الجبال أن ترتفع، ولكن »الجبل الصغير« يسود عليها. ونقرأ في مز 147:4 - 5: »الرب يحصي عدد الكواكب ويدعوها كلها بأسماء (لأنه يعدّها). إنه عظيم وقوّته كثيرة، ولا حدّ لعلمه«.

ثالثاً: عناية الله

عناية الله هي حكمته حين يدير الكون، ويوجّه مصائر الشعوب. بل يوجّه كل شيء لخير الذين يحبّونه. عناية الله هي عينه الساهرة والمساعِدة والمحامية. فإذا كان الله »عناية« فلا يبقى على المؤمن إلاّ أن يثق به ويتّكل عليه. هنا نعود إلى المزامير التي تعلّمنا الموقف الذي يجب أن يقفه المؤمن تجاه الله، ولا سيّما في ساعات الضيق والحرب والجوع والمصائب. »أحبّك يا رب يا قوتي. الرب صخرتي وحصني ومنقذي. إلهي صخرتي وبه أحتمي. دعوتُ إلى الرب له الحمد، فخلّصني من أعدائي. حبائل الموت اكتنفتني وباغتتني سيول الهلاك. وأشراك الموت نُصبت قدّامي. في ضيقي دعوت الرب، وإلى إلهي صرخت، فسمع من هيكله صوتي، وبلغ صراخي أذنيه« (مز 18:2 - 7).

وينشد المرتّل إلى الملك: »يعينك الرب يوم الضيق، يرفعك اسم إله يعقوب، يُرسل لك من مقدسه نصراً، ويشدّد ساعدك من صهيون« (مز 20:2 - 3). ويتابع: »لهم مركباتهم والخيول، ولنا اسم الربّ... هم يَرتَمون ويسقطون ونحن نقوم متأهبين«. ونقرأ في مز 27: »الربّ نوري وخلاصي فممّن أخاف؟ الرب حصن حياتي فممّن ارتعب؟ إذا هاجمني أهل السوء، أعدائي والذين يضايقونني ليأكلوا لحمي كالوحوش، يعثرون ويسقطون جميعاً. وإذا اصطفّ عليّ جيش، فلا يخاف قلبي«.

استند العبرانيون إلى التاريخ ليكتشفوا عناية الله في شعبه منذ الحياة في البرية: مع المن والسلوى، والماء الذي خرج من الصخر... ولكنهم ما نسوا أن هذه العناية هي موضوع إيمان ورجاء. فالله لا »يحمي« ابنه من العبور في الصعوبات والمحن. ولكننا نعلم أنه يجعل كل شيء يؤول لخير الذين يحبّونه (روم 8:28). وإن كانت هناك تجربة أو محنة، فالله يجعل لنا مخرجاً. وفي النهاية، وإن مررنا في الآلام، فالله يمسح كل دمعة من عيوننا (رؤ 21:4). هو معنا. عمانوئيل. هو حاضر بجانبنا. فلا نخاف من هول الليل، ولا من سهم يطير في النهار، ولا من وباء يسري في الغروب، ولا من آفة تسود في الظهيرة (مز 91:5 - 6).

ب - الله الخالق

نقول في قانون الإيمان: »نؤمن بإله واحد... خالق السماء والأرض«. فنشاط الله الخلاّق هو عنصر جوهريّ للإيمان بحيث إنه وحده يُنسب إلى الله. والكتاب المقدّس يشدّد على عظمة عمل الخلق منذ البداية فيقول في سفر التكوين: »في البدء برأ، خلق الله السماوات والأرض« (1:1). ويقول الشيء عينه الأنبياء وأسفارُ الحكمة.

نتوقّف عند الخلق كعمل الله الآب. عند الخلق الذي هو حسن والذي جعل الله سعيداً في ما خلق. عند الخلق الذي يتواصل حتى نهاية العالم من أجل أرض جديدة وسماء جديدة.

أولاً: الخلق عمل الله الآب

نبدأ فنقول أولاً إن الخلق هو عمل إلهي. وحين نقول إن الخلق هو عمل الآب، فنحن لا نفصل الآب عن الابن والروح القدس، لا في علاقاتهم ولا في تجلّيهم في العالم. الخلق عمل ثالوثيّ. ثم، حين نشدّد على عمل الخلق، فنحن لا نفصل هذا العمل عن سائر ظهور الله وتجلّياته. كلها تنبع من اهتمام واحد، وهو الدلالة على حضور الله وحنانه من أجل شعبه، من أجل البشريّة كلها. الله يخلق لأنه يخلّص. ويخلّص لأنه يخلق.

أما الإيمان بالله الخالق فقد ظهر في التوراة بشكل تدريجيّ. وهو يرتبط بخبرة الخلاص. في البدء خلق الله. ثم قال: ليكن نور، فكان نور. وقال الله: لتنبت الأرض نباتاً... فأخرجت الأرضُ نباتاً. ورأى الله ذلك إنه حسن. وخلق الله الشمس والقمر والكواكب والحيوان. وأخيراً خلق الانسان. لنخلق الانسان على صورتنا ومثالنا. ورأى الله جميع ما خلقه فإذا هو حسن جداً. هذا في تقليد الكهنة الذين انطلق من عالم المياه، فأعلن عمل الله حين صنع ما صنع. أما في تقليد الحكماء، فانطلق الكتاب من عالم الصحراء التي منها جعل الرب »جنّة غنّاء«، جعل »الفردوس« بأنهار أربعة تحوّل القفر إلى خصب. واكتشف الانسان العبراني رغم ما عرف من ميتولوجيات بلاد الرافدين، أن الله وحده هو الخالق. وقد صنع الانسان بمحبّة كما يصنع الفخاريّ الفنّانُ إناءً. صنعه من التراب ونفخ فيه نسمة حياة. خلقه رجلاً وامرأة يكونان على صورته ومثاله.

لا يقول العهد القديم إن الله الآب هو الذي خلق. ولكن القراءة المسيحيّة لهذه النصوص ربطت الله الخالق بالله الآب. هنا نبتعد عن العالم اليوناني الذي يفصل بين الله و»الخالق«، بين الله وإله آخر من مستوى أدنى قد خلق (داميورغوس. ندعوه الباري). كان الأقدمون يعتبرون المادة شيئاً منحطاً فلا يمكن لله أن يتّصل بها. أما في المسيحيّة، فالله الآب الذي هو الصلاح وينبوع كل صلاح، قد خلق. فالخليقة كلها مجموعة في نظرة الله، وموحّدة في يده. هو أبو الانسان وأبو سائر الخلائق.

ثانياً: حُسن الخليقة وجمالها

حين كنا نتكلّم عن الله، كن نشدّد على أزليّته تجاه العدم، على كيانه الذي هو علّة كل شيء. واعتبر بعض الناس أن التوراة هي كتاب فلسفة تحدّثنا عن أصل الانسان، عن طبيعته المركبة من نفس وجسد. أن التوراة تدرس الأمور القديمة حول تكوين الأرض في مراحلها الأربعة، ولا سيّما في الأخيرة منها، ساعة ذابت الثلوج وأحدثت الطوفان. لا، لا نبحث عن مشاكل حول التطوّر في العهد القديم الذي يؤكّد قبل كل شيء وجود إله خالق. فالانسان ليس كائناً ضالاً في العالم مثل النيازك في الفضاء.

وبما أن الله هو أصل كل ما وُجد، الكائنات الحيّة والكائنات الجامدة، فمن الطبيعي أن يعرف الانسانُ هذا العالم ويؤثّر فيه. فالكون ليس بغريب كلّه عنا. وحين ننظر إليه على أنه عمل الله، فكأننا ننظر إليه كأنه عطيّة إلهيّة تحيينا. وحين ننظر إلى نفوسنا على أننا خليقة الله، نسمع النداء الذي تحويه الخليقة والذي يوجّهنا إلى الخالق. فكل كائن مخلوق هو كائن مدعوّ من الله.

في الحضارات القديمة، كان الله يواجه القوى المعارضة، يواجه مبدأ شرّ يتجسّم في حيوانات مثل لاويتان (أو: الملتوي) وبهيموت (أو: القوّة البهيميّة) ورهب. أما في التوراة، فالله يفعل بقوّة كلمته. يكفي أن يقول للخليقة كوني فتكون. ثم إن الخليقة ليست شريرة. ليست رديئة. هي صالحة. والشرّ الذي نراه ليس فيها وليس من صُلبها. فالانسان هو الذي حمل الخطيئة إلى العالم ومع العالم كان الموت. هذا لا يعني أن الخليقة هي كاملة. بل هي في طريق الكمال. فالله الذي يحترم الانسان كل الاحترام، ترك له أن يضع الجمال في الخليقة، أن يكمّلها، وأن يعمل فيها فيجعلها أكثر انسانيّة. »في البدء« رأى الله جميع ما صنعه فإذا هو حسن. وفي نهاية التاريخ سيجعل الله خليقته ناجحة.

ويُطرح السؤال: لماذا خلق الله ما خلق؟ لا نجد جواباً على ذلك في الكتاب المقدس. وفي عدم الجواب دعوة إلى التواضع. فكل ما نستطيع أن نقوله انطلاقاً من الوحي، هو أن الله خلقنا بحريّة تامّة. لم يخلقنا مكرهاً. لم يخلقنا لأنه كان بحاجة إلينا. فهو عيلة ثالوثيّة. ولا يستطيع البشر أن يزيدوا شيئاً على سعادته اللامحدودة. وكل ما نستطيع القول هو أن الله خلقنا، لأنه أراد أن يشركنا في سعادته. وما هو رائع، هو أن الله يشبه الفنّان الذي رسم لوحة جميلة: أخذ الله يتأمّل فرحاً بالخليقة التي كوّنها. والنصّ في سفر التكوين يردّد سبع مرات عبارة: ورأى الله ذلك إنه حسن. الرقم سبعة هو رقم الكمال. وهو يدلّ على ملء فرح الله وسعادته بعد أن لبّت الخليقة كل آماله.

ونجد في هذه الخليقة تنوّع الأصناف. فالعالم واحد، ولكن مخلوقاته متنوّعة. »صنع الله الوحوش بحسب أصنافها والدواب بحسب أصنافها وحشرات الأرض بحسب أصنافها« (تك 1:25). وفي هذا الكون المتعدّد الجوانب، يأتي الانسان في الأخير كما في تطواف ليتورجيّ، ويتّخذ مكانة خاصّة به. قال الله: »لنصنع الانسان على صورتنا كمثالنا«. فجاءت ولادة الانسان في قلب العالم تحمل الرضى كل الرضى لله: هو حسن جداً (1:31). لا حسن فقط. وجاء الانسان هو أيضاً متنوّعاً. جاء رجلاً وامرأة. ذكراً وأنثى. والاثنان يدلاّن على صورة الله. يعبّران عن حضور الله في العالم، ولا سيّما في عمل الخلق: انموا واكثروا واملأوا الأرض.

ثالثاً: تواصل الخلق حتّى نهاية العالم

تحدّث سفر التكوين عن الانسان الذي »يشبه« الله، الذي هو على صورة الله ومثاله. وهذا الشبه يعني أن الانسان خالق. أنه، وهو الخليقة، يتابع عمل الخلق مع الله. والله لا يحسد الانسان ولا يغار منه، كما قالت بعض النظريات. فمجد الله في عظمة الانسان. والله يفرح حين ينمو الانسان ويكبر. لهذا، سلّم الله إلى الانسان الأرض لكي يملأها، لكي يفلحها ويزرعها. قال: »انموا واكثروا واملأوا الأرض« (تك 1:28). ونقرأ في 2:15: »وأخذ الربّ الإله الانسان وأسكنه في جنّة عدن ليفلحها ويحرسها«. قيل أن الربّ استراح في اليوم السابع من العمل الذي عمله. ولكن هذا لا يمنعه من أن يعمل دوماً مع الانسان ومن أجل الانسان، من أجل كمال العالم، وتمام التاريخ.

وهكذا نفهم أنه إن سيطر الانسان على العالم، فهو لا يتعدّى على قدرة الله. وحين صعد الانسان على القمر أنشد نشيد الخلق: في البدء خلق الله السماء والأرض... إملأوا الأرض وأَخضعوها وتسلّطوا على سمك البحر وطير السماء وجميع الحيوان الذي يدبّ على الأرض. فقدرة الله لا تزاحم سلطة الانسان في الكون.

في هذا المجال نقرأ كلام يسوع في انجيل متّى: »لا تحلف أيضاً برأسك. لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة منه بيضاء، أو سوداء« (5:36). وقال أيضاً: »من منكم يستطيع مع الجهد أن يزيد على عمره ذراعاً واحدة« (6:27)؟ ما يريد يسوع أن يقوله هنا، هو أن حياتنا تظلّ في يد الله.

ويرد في الانجيل مثَل الزرع كما نقرأه في انجيل لوقا: يتشارك الله مع الانسان. الكلمة هي التي تحمل ثمراً. والله هو في أساس كل حياة. غير أن الزرع يحمل ثماراً كثيرة أو قليلة بقدر عناية الفلاّح بأرضه لكي تصبح »صالحة«، حسنة. فالأرض المليئة بالصخر والأشواك، لا يمكن أن تعطي ثمراً يدوم. ونتذكّر مثل الوزنات (مت 25:15). إن يسوع يجعلنا أمام مسؤولياتنا بالنسبة إلى النعمة أو إلى المواهب التي نلناها.

وهكذا لا تتعارض أعمال البشر بالضرورة مع أعمال الله. وحين ينجح الانسان يفرح الله بهذا النجاح. ولكن يجب أن لا ننسى أن النجاح العقليّ (أو: النجاح العلميّ) قد لا يعني نجاح الانسان، قد لا يعني تقدّماً ونمواً من أجل الانسان. فالتقدّم العلميّ قد يحمل الخير كما يستطيع أن يحمل الشرّ. ويكفي أن نذكر أن أول اكتشاف للذرة كان من أجل تدمير مدينتين كبيرتين في اليابان هما هيروشيما وناغازاكي. وهذه الذرّة ما زالت تهدّد بإفناء الكون والعودة به إلى العدم.

حين أعطى الله الانسان القوّة بأن يتسلّط على الكون، فهو لم يسمح له بأن يستعبد قريبه: فالأخوّة بين أبناء الآب السماويّ يجب أن تخفّف من القوّة التي بها يفعل الانسان على حساب الضعفاء. ثم إن السلطة على الكون هي قبل كل شيء مسؤوليّة. فالعالم المخلوق هو، على جميع مستوياته، عمل الله، وعلى الانسان أن يؤدّي عنه حساباً. هنا تُطرح مسألةُ احترام البيئة، احترام الخليقة التي سلّمها الله إلى أيدينا.

أجل الله خلق. وهو ما زال يخلق. فالخليقة لم تصل بعد إلى النهاية. فالله ما زال يعمل مع الانسان من أجل إتمام العمل الذي فيه يجمع المسيح في شخصه كل ما في السماء وما على الأرض (أف 1:10).

ج - الآب الغافر

عرفنا الله القدير الذي لا يقف شيء أمام وجهه. هو الضابط الكل. وعرفناه الخالق الذي برأ كل شيء بقوّة كلمته. ولكنه ما زال يتابع خلقه في شركة مع الانسان. وهكذا نصل إلى علاقة يتعاهد فيها الله القدير القدوس مع الانسان الضعيف والخاطئ. فالله  الذي هو إله الرحمة والحنان يحنو على الانسان، يمسك بيده. وإن سقط يغفر له غفراناً.

نتوقّف هنا عند ثلاث محطات: الانسان والعهد. الربّ إله الرحمة والغفران. مثل الابن الضال.

أولاً: الانسان والعهد

منذ الصفحات الأولى في الكتاب المقدّس، أكّد الله أنه يريد أن يتعاهد، أن يقيم عهداً مع الانسان، مع أن لا تكافؤ بين الله والانسان. منذ الصفحات الأولى، يبدو »العهد« في قلب الوحي البيبليّ، وذلك من خلال الوصيّة التي أعطاها الله للإنسان. وهذه الوصيّة سوف تتجدّد مع نوح: »هذه علامة العهد الذي أقيمه بيني وبينكم وبين كل خليقة حيّة معكم مدى الأجيال: جعلتُ قوس قزح في السحاب، فتكون علامة عهدي بيني وبين الأرض« (تك 9:12 - 13).

وهذا العهد سيتجدّد بشكل رسميّ مع موسى. »أخذ كتاب العهد وتلاه على مسامع الشعب، فقالوا: كل ما تكلّم به الربّ نعمله ونأتمر به. فأخذ موسى الدم ورشّه على الشعب وقال: هذا هو دم العهد الذي عاهدكم الرب به على جميع هذه الأقوال« (خر 24:7 - 8). وكذا سيكون في شكيم مع يشوع. قال الكاتب الاشتراعي: »فقطع يشوع للشعب عهداً في ذلك اليوم... وقال: هذا الحجر يكون شاهداً بيننا لأنه سمع جميع أقوال الربّ التي كلّمنا بها، فيكون شاهداً لئلاّ تُنكروا إلهَكم« (يش 24:25 - 27).

ولكن الانسان لن يكون دوماً أميناً للعهد. سيكون خائناً. يتجاهل بسلوكه واقع العهد وعمق التزام الله تجاه البشر. هذا التجاهل أو التناسي هو ما نسمّيه الخطيئة التي هي قطع علاقة مع الله ونقض لعهده: يريد الانسان أن يدلّ على شخصه بمعزل عن الله أو ضدّ الله. في تك 3، تحدّى الانسان الله، وسمع للخطيئة، سمع للحيّة التي ترمز إلى الشيطان. وفي تك 11، أراد أن يرتفع إلى السماء، أن يبني وحدة الجنس البشريّ بدون الله، فكان التشتّت الكامل. وفي خر 32، »فبرك« الانسان إلهاً على »قدّه«. فبرك العجل الذهبي ليتجاوب مع نزواته. وقد يُبرز الانسان شخصيّته بعنف حين يقتل أخاه. هذا ما فعل قايين مع هابيل. وداود حين قتل الضابط أوريا ليأخذ له امرأته بتشابع. وايزابيل التي أزالت بشهادة الزور والقتل نابوت لتأخذ له كرمه وتوسّع ساحات القصر. وفي كل وقت، كان الله يعاقب، لأن الخطيئة ليست الكلمة الأخيرة. والشرّ لا يمكنه أن ينتصر في النهاية. ونقول أيضاً إن العقاب ليس الكلمة الأخيرة عند الله الذي لا يريد موت الخاطئ بل عودته عن ضلاله من أجل الحياة. فالتاريخ يجب أن يتواصل. وبعد الطوفان أعلن الله أنه لا يُزيل البشريّة.

ثانياً: الله إله الرحمة والغفران

إذا كان الله لا يريد أن يزيل البشريّة، وإذا كان يهمّه خلاص الانسان ولو خاطئاً، فلأنه إله الرحمة والغفران. هذا ما نكتشفه عبر العهد القديم كله. هنا نوضح أمراً نجده مراراً في الكتاب المقدس: يصيب الانسان شرّ فيعتبر أن هذا الشرّ هو عقاب يحصل له من »مصيبة« وكأنها انتقام الله منه. بل قالوا: إن الله ينتقم من الآباء في الأبناء. لسنا بعدُ على مستوى كمال الوحي. وسنفهم فيما بعد أن الانسان يجازى على عمله.

من جهة، نقرأ الوجه السلبيّ: »الربّ بطيء عن الغضب وغنيّ بالرحمة. غافر الذنب والاثم، ولكنه لا يترك شيئاً بدون عقاب. يعاقب ذنوب الآباء في البنين إلى الجيل الرابع« (عد 14:18). ومن جهة ثانية، نقرأ الوجه الايجابي: »فاعلموا أن الربّ إلهكم هو الله الإله الأمين، يحفظـ العهد والرحمة لمحبّيه والعاملين بوصاياه إلى ألف جيل، ويجازي مبغضيه في شخصهم« (تث 7:9 -10).

وأعلن حزقيال أن الله لا ينتقم من الخاطئ في الأجيال الآتية. »ما بالكم تتمثّلون بهذا المثل على أرض اسرائيل قائلين: الآباء أكلوا الحصرم وأسنان البنين ضرست؟ حيّ أنا، يقول السيّد الربّ، لا يكون لكم من بعد أن تتمثّلوا بهذا المثل في اسرائيل. إن جميع النفوس هي لي. نفس الأب مثل نفس الابن. كلتاهما لي. النفس التي تخطأ هي تموت« (18:1 - 4).

كان الله قد ظهر لموسى بعد خطيئة الشعب في عبادة العجل الذهبيّ، فقال له بعد أن غفر خطيئة شعبه: »الربّ الربّ، إله الحنان والرأفة. بطيء عن الغضب غنيّ بالرأفة والأمانة« (خر 34:6). وقال أشعيا في هذا الخطّ مشدّداً على أن ليس من خطيئة وإلاّ ويغفرها الربّ. »تعالوا نتحاجج يقول الرب. لو كانت خطاياكم كالقرمز، تبيضّ كالثلج. ولو كانت حمراء كصبغ الدود تصير كالصوف« (1:18). لهذا فالخاطئ يستطيع أن يعود إلى الله ويتقبّل غفرانه. قال داود إنه خطئ بعد أن بيّن له ناتان خطيئته ووبّخه عليها. ويقال أنه في ذلك الوقت أعلن: »ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، وكمثل كثرة رأفتك امحُ مآثمي. اغسلني كثيراً من إثمي ومن خطيئتي طهّرني« (مز 51:3 -4).

وفي النهاية نتوقّف عند مز 103 الذي ينشد فرح الخاطئ: رأى أن الله أبعد عنه خطاياه، بُعد المشرق عن المغرب، فأحسّ بالسلام. »باركي يا نفسي الربّ، ويا كل أحشائي اسمه القدوس... يغفر جميع ذنوبك، ويشفي جميع أمراضك... الربّ رحوم حنون، صبور وكثير الرأفة. لا يخاصم على الدوام، ولا يحقد إلى الأبد. لا يعاملنا حسب خطايانا، وبحسب ذنوبنا لا يجازينا. كارتفاع السماء عن الأرض ترتفع رحمته على خائفيه. كبُعد المشرق عن المغرب يُبعد عنا معاصينا. كرحمة أب ببنيه الرب رحوم لأتقيائه. لأنه عالم بجبلتنا ويذكر أننا تراب«.

ثالثاً: مثل الابن الضال

هذا الكلام عن الرحمة نجده في الأناجيل، ولا سيّما في انجيل لوقا الذي يُسمّيه الشرّاح انجيل الرحمة. ونحن هنا نتوقّف بشكل خاص عند مثل الابن الضال (15:11 - 32) أو ما نستطيع أن ندعوه: مثل الأب الرحيم والغافر. فبعد الكلام عن رجل أضاع خروفاً ثم وجده، ثم عن امرأة أضاعت درهماً ثم وجدته، يروي لوقا مثل الابن الضال مع أب هو في الوقت عينه أم تتحرّك أحشاؤها حين يعود ابنها إليها. وفي نهاية المثلين قال يسوع: إن الملائكة يفرحون بعودة خاطئ واحد إلى التوبة.

قد يمثل الابن الضال الوثنيين وهم الذين تُصوّرهم الرسالة إلى أفسس »البعيدين« (2:13)، بعد أن كان يرعى الخنازير التي هي حيوانات نجسة. أما الابن الأكبر فيدلّ على اليهود الذين لهم التبنّي والمجد والعهد والشريعة والعبادة والمواعيد والآباء (روم 9:4 - 5). وهكذا دلّ المثَل عند لوقا على عودة الوثنيين الذين رفض اليهود أن يستقبلوهم كما يليق بمن كانوا من البيت، وغادروه ثم عادوا إليه.

ماذا فعل الابن الأصغر؟ بذّر ماله ولم يستثمره. أجل، إن الخطيئة هي نعمة تشوّهت بين أيدينا. هي كسل تجاه الوزنات التي أهملنا المتاجرة بها. وضاعت كرامة البعيد عن بيت الأب. صار مثل خنزير، بل أقلّ من خنزير.

وتذكّر الابن أباه. وقد يكون الشقاء دفعه إلى ذلك. ولكن، إن فكّر في العودة إلى أبيه، فلأنه اعتبر أنه لن يُرذل. فالأب لن ينتقم. سيكون سخياً كما كان يوم قسم الميراث بين الأخوين. إذا كان الابن قد خسر صفته كابن، فالأب لم يخسر صفته كأب.

وشاهد الأب ابنه من بعيد. أسرع إلى لقائه. ألقى بنفسه على عنقه، سار الابن والخطيئة تُثقل خطواته. وأسرع الأب يحمله حبّه. وتقبّل اعتراف ابنه: خطئت إلى السماء وإليك. ولكنه منعه من أن يكمّل »الخطاب« الذي هيّأه. أنت ابني وتظلّ ابني. هكذا يستقبل الله الخاطئ الذي يأتي مُقراً بخطاياه.

حين نقرأ خبر الابن الضال، نكتشف أباً يريد ويحبّ أن يغفر. أباً يعطي، وحين يعطي فهو يعطي كل شيء. الأب هو في قلب المثل. ونحن قد نكون الابن الأصغر الذي ترك البيت الوالدي. او الابن الأكبر الذي يستعدّ لترك البيت لأنه لم يفهم غفران أبيه. هكذا تبدأ أمثال الرحمة في لو 15:1 - 2: »وكان جباة الضرائب والخاطئون يدنون من يسوع ليسمعوه. فقال الفرسيون ومعلّمو الشريعة متذمّرين: هذا الرجل يرحّب بالخاطئين ويأكل معهم«. أجل، إن الله يحيّرنا بتصرّفه، سواء شعرنا أننا لا نستحقّ غفرانه أو ظنّنا أننا لا نحتاج إلى هذا الغفران.

ولكن عبر عطيّة الآب نكتشف غفرانه الذي هو أكثر من عطيّة، الذي هو عطاء كامل تامّ. غفران الله هو عمل به يخلقنا من جديد كما يقول مز 51: »قلباً نقياً أخلق فيّ يا الله، وروحاً جديداً كوّن في أحشائي«. يخلقنا الله فيفتح أمامنا طريقاً من الحريّة والحياة والحوار. فالاله الذي يغفر هو الاله الذي يخلق. هذا ما جعل أوغسطينس يتحدّث عن الخطيئة التي كانت لنا سبب خلاص عظيم. خلقنا الله بشكل عجيب، وخلّصنا بشكل أعجب. هذا هو الاله الغافر، هذا هو الأب الذي يحنو علينا حين نبتعد عن البيت الأبويّ.

3 - صفتنا كأبناء الله

إذا كان الله أباً، فنحن أولاده. وإذا كنا أبناء، فيجب علينا أن نعيش كأبناء أحبّاء، أن نقتدي بالله، كما يقول بولس الرسول (أف 5:1). وامتداداً لهذه البنوّة نفهم أننا إخوة بعضنا لبعض. رفض الابن الأكبر أن يكون أخوه الضال الخاطئ أخاه، فذكّره أبوه بذلك. وهو ما زال يذكّرنا لئلا نكون قاتلين مثل قايين الذي أبغض أخاه. وفي النهاية، نكون كلّنا معاً في صلاة نرفعها إلى الآب. فنقول له كما يقول الأبناء الأحباء: أبانا الذي في السماوات.

أ - نحن أبناء الله

قال بولس الرسول في رسالته إلى رومة: »وما دمنا أبناء الله، فنحن ورثة، ورثة الله وشركاء المسيح في الميراث« (8:17). هكذا يبدو توسّعنا هنا في ثلاث محطات. نحن أبناء. نحن ورثة. نحن نعيش كالأبناء.

أولاً: نحن أبناء

ويُطرح السؤال: من هم أبناء الله؟ ويأتي الجواب: جميع البشر هم أبناء الله. ولكن ما الذي تعنيه كلمات يسوع لنيقوديمس حول الولادة الثانية من أجل الدخول في الملكوت (يو 3:5)؟ وما معنى كلام يوحنا حين يقول لنا في مطلع الانجيل إن الامكانيّة التي بها نصير أبناء الله (1:12) هي عطيّة من المسيح؟ فإذا كنا مدعوّين لكي نصير أبناء الله، فهذا يعني أننا لسنا كذلك منذ ولادتنا.

من الواضح أن الله لا يصير أباً حين نصبح نحن أبناءه. فهو أب منذ الأزل. ولكن نصير نحن أبناءه حين يعطينا، في المعموديّة، روحَ ابنه. منذ العهد القديم كان الربّ قد حدّث شعبه فقال: »تدعوني أبي ولا ترتدون من السير ورائي« (إر 3:19). ونقرأ في هو 2:25: »وأزرع شعبي في الأرض وأرحم »لا رحمة« وأقول لـ »لا شعبي« أنت شعبي، وهو يقول لي: أنت إلهي«.

فبالمعموديّة نحن نتيقّن أننا نلنا روح الابن. لهذا يقول لنا بولس بأن لنا الجرأة على التقرّب إلى الله مطمئنين (أف 3:12). نتعامل مع الله كما الابن مع أبيه، مع الاكرام اللازم لهذا الاله الذي هو قريب وبعيد عنّا في الوقت عينه. ما يعطينا إياه العماد هو أن نحدّد موقعنا من الله، نتعرّف إلى أبينا ونراه، نسمعه، نتكلّم معه. وسيكون لنا بعض المرات أن نعارضه. تلك هي العلاقة التي تكوّنها المعموديّة فينا.

لا شكّ في أن العلاقة بين الابن الذي صرناه والآب السماويّ الذي هو أبو يسوع، يجب أن تنمو على مثال نموّ المسيح في القامة والحكمة النعمة. وكما أقيم يسوع ابن الله بقيامته من بين الأموات (روم 1:4)، كذلك تتمّ بنوّتنا عبر خبرة الصليب والقيامة. كما يقول الرسول: إن كنا قد متنا معه فسنقوم معه.

في هذا المجال قال لنا يوحنا في رسالته الأولى: »أنظروا كم أحبَّنا الآب حتّى نُدعى أبناء الله. ونحن بالحقيقة أبناؤه... يا أحبّائي، نحن الآن أبناء الله، وما انكشف بعد ماذا سنكون. نحن نعرف أن المسيح متى ظهر نكون مثله (أبناء) لأننا سنراه كما هو« (3:1 - 2). وقال لنا الرسول في كلامه إلى كنائس غلاطية: »فأنتم كلكم أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، لأنكم تعمّدتم جميعاً في المسيح فلبستم المسيح. ولا فرق الآن بين يهودي وغير يهوديّ...« (3:26 -28). قد نكون أبناء هذا الشعب أو ذاك، ولكننا في النهاية أبناء الله. ويتابع الرسول: »فما أنت بعد الآن عبد، بل ابن. وإذا كنت ابناً فأنت وارث بفضل الله« (4:7). كان التبنّي امتيازاً خاصاً بشعب اسرائيل (روم 9:4). أما الآن، فكلنا ننعم بالتبنّي بعد أن صرنا أبناء مع الابن.

ثانياً: نحن ورثة

ما يميّز الابن قبل كل شيء هو أنه وارث. كما سبق قلنا: نحن وارثون لله، ووارثون مع المسيح. عبارة غريبة، لأن الولد لا يرث أباه إلاّ بعد موت أبيه. ولكن إذا كان المسيح وارثاً لأبيه، فهذا لا يعني أن »الله مات«. وهكذا نفهم أن الميراث بالمعنى البشري (بعد موت الأب) غريب عن المفهوم الانجيلي.

ماذا نرث من الله؟ نرث مجده (روم 8:17)، كما ورث يسوع هذا المجد بقيامته. ونرث الملكوت والحياة الأبديّة. هناك العبارة السلبيّة التي تقول إن »الأشرار لا يرثون ملكوت الله« (1 كور 6:9). وهناك العبارة الايجابيّة التي نقرأها في تي 3:7: »نتبرّر بنعمة المسيح ونرث الحياة الأبديّة التي نرجوها«. وقال لنا بولس في رسالته إلى غلاطية: »إذا كنتم للمسيح، فلكم الميراث حسب الوعد« (3:29).

ثالثاً: نعيش كالأبناء

قال يسوع عن نفسه: »الآب يحبّني لأني أعمل دوماً ما يرضيه« (يو 8:29). وقال أيضاً: »الآب يحبّني لأني أعطي حياتي لكي استرجعها« (يو 10:17). وقال بولس مصوّراً موقف يسوع في انحداره وفي رفعته: »صار طائعاً حتّى الموت والموت على الصليب، لذلك رفعه الله وأعطاه الاسم« (فل 2:8).

وهكذا رُسم لنا خطّ العيش كأبناء الله. بالطاعة لأبينا كما يطيع الأبناء الأحباء. بالطاعة المليئة بالثقة، والبعيدة كل البعد عن الاكراه. قال لنا متّى: »لا يهمّكم لحياتكم ما تأكلون وما تشربون. أنظروا طيور السماء كيف لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن، وأبوكم السماويّ يرزقها. أما أنتم أفضل منها كثيراً« (6:25 -2 6)؟ ويتابع: »أبوكم السماويّ يعرف أنكم تحتاجون إلى هذا كله. فاطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه« (6:32 - 33). البرّ هو مشيئة الله. هو الدخول في مخطّط الله من أجل حياتنا وأعمالنا ورسالتنا.

مهما كانت الظروف التي نعيشها، فالآب لا يتخلّى عنّا. يقول بولس عن نفسه: »أعرف أن أعيش في الضيق كما أعرف أن أعيش في السعة، وفي جميع الظروف اختبرتُ الشبع والجوع، والفرج والضيق. وأنا قادر على تحمّل كل شيء بالذي يقوّيني« (فل 4:12 - 13). إذا كان الله أبانا، فلماذا نحمل الهموم. نكتفي بأن نلقي همّنا عليه وهو يفعل. هنا نتذكّر الشعب العبراني الذي كان أمام خطرين: الجيش من ورائه والبحر من أمامه. ماذا قال لهم موسى: أنتم لا تفعلوا شيئاً. فالرب سيفعل. وهكذا نفهم أنه حين تكثر الصعوبات، الله هو الذي يفعل، وهو يفعل في كل شيء لخير الذين يحبّونه (روم 8:28). أترى تترك الأم أبناءها؟ كلا. ولكن، حتّى إن تركتهم فالرب لا يتركنا. فيقول لنا: »لا تخف أيها القطيع الصغير، فقد سُرّ أبوكم أن يعطيكم الملكوت« (لو 12:32).

ونقرأ شهادة من بولس الرسول في نهاية حياته؛ ساعة تخلّى عنه الجميع، لم يتخلّ الرب عنه. قال: »ما وقف أحد معي عندما دافعت عن نفسي لأول مرة، بل تركوني كلهم. صفح الله عنهم. لكنّ الربّ وقف معي وقوّاني... فنجوت من فم الأسد، وسينجّيني الربّ من كل شرّ ويحفظني لملكوته السماويّ« (2 تم 4:16 - 18).

ولماذا هذه الثقة الواسعة؟ لأن الله أعطانا ابنه. وبهذا الابن تكون قوتنا. قال يوحنا: »هكذا أحبّ الله العالم فبذل ابنه الوحيد« (3:16). وتابع بولس في الخطّ عينه مشدّداً على الخطيئة التي فينا والتي لم تمنع الله من المجيء إلينا. »قلّما يموت أحد من أجل انسان بار. أما من أجل انسان صالح، فقد يجرؤ أحد أن يموت. ولكن الله برهن عن محبّته لنا بأن المسيح مات من أجلنا ونحن خاطئون، فكم بالأولى بعدما تبرّرنا بدمه« (روم 5:7 - 9).

وينهي بولس قسماً هاماً من الرسالة إلى رومة بهذا النشيد المليء بالاتكال على الله. »وبعد هذا كله، فماذا نقول؟ إذا كان اله معنا، فمن يكون علينا؟ الله الذي ما بخل بابنه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعاً، كيف لا يهب لنا معه كل شيء... وأنا على يقين أن لا الموت ولا الحياة... ولا شيء يقدر أن يفصلنا عن محبّة الله في المسيح يسوع ربّنا« (8:31 - 32، 38 - 39).

ب - نحن إخوة

قال يسوع في معرض حديثه عن الكتبة والفريسيين الذين يمكن أن نكون مثلهم: »لا تسمحوا بأن يدعوكم أحد: يا معلّم، فأنتم كلكم إخوة ولكم معلّم واحد« (مت 23:8). إذا كان الله أبانا جميعاً، فنحن إخوة، وهذا ما يفرض علينا أن نعيش الأخوّة. فالبشر يكوّنون كلهم عائلة واحدة. والمسيحيون بشكل خاص، هم إخوة في روح المسيح.

أولاً: البشريّة عائلة واحدة

حين نعلن أن الله هو الخالق الوحيد، هو الذي خلق جميع البشر لكي يتحابّوا، نشجب بقوّة العنصريّة من أي جهة كانت. نشجب العداوة بين قريب وبعيد، بين ابن هذا البلد وابن ذاك. فجميع البشر يكوّنون عائلة واحدة مهما كانت حضارتهم ونمط حياتهم ولون وجههم. كلّهم مخلوقون على صورة الله. ولكن الله لا يريد لجميع البشر أن يكونوا بحسب شكل واحد. بل يريدهم متنوّعين.

نحن متنوّعون ومع ذلك نحن إخوة. فالسامريّ الغريب والمحتقَر هو أخو اليهودي. هكذا عامله (لو 10). وسمعان الفريسي هو أخو الخاطئة التي أمّت داره لتبكي خطاياها عند قدمي يسوع (لو 7). والكتاب المقدس يقول لنا إن البشريّة تعود إلى عائلة واحدة. إلى الرجل المرتبط بالحقل والفلاحة. لهذا كان لونه بلون التراب. وهو يعود إلى التراب. إلى المرأة التي هي أم كل حيّ. ولما سيطر العنف، بدت البشريّة متحدّرة من نوح وأبنائه، سام وحام ويافث. وهكذا توزّعت على الأرض. وقد بدأ العلم يقول بأن الدم الواحد يسري في جميع البشر. وأنه كان لهم لغة واحدة، ستتوزّع بتنوّع الجغرافيا والتاريخ.

وإذا كنّا إخوة، فهذا يعني أن خيور الأرض هي للجميع، لا لفئة صغيرة، ولا لمنطقة من المناطق. من أجل هذا يروي الكتاب كيف قسم موسى الأرض بين القبائل بحيث تكون المساواة، بحيث لا يكون فقراء (تث 15:4). وحين »أرسل« الله المن، أخذ كل واحد حاجته. ومن أراد الاحتفاظ به إلى الغد، رأى الدود يتسلّل إليه. فقال الكاتب الملهم: »الذي جمع كثيراً لم يفضل عنه. والذي جمع قليلاً لم ينقصه« (خر 16:18).

بما أن الله هو أبونا جميعاً، فهو لا يريد أن يغتني البعض على حساب الآخرين. أما حقّ الملكيّة فقد جُعل من أجل شخصيّة البشر. ولكن لا ننسَ أن نعطي. وقد قال الآباء إن الثوب الذي في خزانتك ليس لك بل هو القريب. وقال القديس يعقوب بلغته القاسية مهدّداً الأغنياء: »أموالكم فسدت وثيابكم أكلها العث. ذهبكم وفضّتكم يعلوهما صدأ يشهد عليكم ويأكل أجسادكم كالنار« (5:2 - 3).

ثانياً: إخوة في المسيح

على مستوى الله، يرى جميع البشر أنهم إخوة. ولكننا نحن المسيحيين نؤمن أن الله عرّف بنفسه بمبادرة منه: أرسل ابنه انساناً بين الناس، شبيهاً بالبشر في كل شيء ما عدا الخطيئة.

فالله الواحد يكشف عن نفسه أباً ليسوع المسيح الذي هو وإياه واحد في وحدة الثالوث. في هذا الخطّ نحن إخوة المسيح. »فالذين سبق واختارهم، سبق فعيّنهم ليكونوا على مثال صورة ابنه حتى يكون الابن بكراً لإخوة كثيرين« (روم 8:29). وهكذا نتكوّن في عائلة من الإخوة على خطى يسوع. يسوع هو الابن بشكل فريد. ونحن أبناء معه بشكل لا يتصوّره عقل انسان. وبالتالي إخوة مع يسوع كما تقول الرسالة إلى العبرانيين: »ما أستحى بأن يدعوهم إخوته« (2:11).

ماذا تفرض هذه الأخوّة علينا؟ أولاً نغفر بعضنا لبعض. لا سبع مرات فقط، بل سبعاً وسبعين مرّة. فإن كنا لا نغفر للناس، فالله لا يغفر لنا. ثم، الاهتمام بعضنا ببعض. في العهد القديم، طلب المشترع الاهتمام بالأرامل واليتامى والغرباء. وقد قال في ما قال: »لا تلعن الأصمّ، ولا تضع حجر عثرة أمام الأعمى. لا تجوروا في الحكم، ولا تحابوا عظيماً« (لا 19:14 - 15). وقال السفر عينه: »قف احتراماً للأشيب وأَكرم وجهَ الشيخ« (19:32).

ويسوع كان لنا مثالاً في ذلك. فما رفض أحداً بسبب الوسط الاجتماعي الذي ينتمي إليه، ولا بسبب مستواه الاقتصادي. فأحاط به بشكل خاص أولئك العائشون على هامش المجتمع: المرضى، الأطفال، الخطأة. وبشكل عام »الصغار«. صغار القوم. الصغار في الجماعة الذين لا يحقّ لهم أن يتكلّموا... وسيكون له أن يغسل أرجل تلاميذه. وقد قال لنا: »كل ما فعلتم لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي قد فعلتموه. وما لم تفعلوه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي لم تفعلوه«. وعلّمنا أيضاً: »من أراد أن يكون العظيم يكون بينكم كالخادم« (مت 20:26).

ويورد يوحنا في انجيله كلاماً حول المحبّة التي هي علامة التلاميذ: »بهذا يعرف الناس أنكم تلاميذي إن كنتم تحبّون بعضكم بعضاً« (13:35). ويُروى عن المسيحيين الأوّلين أنهم كانوا يُعرفون بهذه العلامة. فيقول الناس فيهم: »أنظروا كم يحبّ بعضهم بعضاً«. وكانت هذه المحبة أعظم شهادة وأعظم عظة توصل الانجيل إلى غير المسيحيين. وقد بدت هذه المحبّة حين ألغيت جميع الحواجز: لا يهودي ولا يوناني. قال بولس الرسول: »فالمسيح هو سلامنا. جعل اليهود واليونانيين شعباً واحداً وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما« (أف 2:14) في هذا المناخ، اعتُبر أونسيموس العبد أخاً لفيلمون الرجل الغني ومالك العبيد الكثيرين. وطُلب من السادة أن »يعاملوا عبيدهم بالعدل والمساواة عالمين أن لهم هم أيضاً سيّداً في السماوات« (كو 4:1).

ج - صلاة الأبناء

حين كان يسوع في بستان الزيتون، رفع صلاته إلى الآب قائلاً: »يا أبي، إن شئت فأبعد عني هذه الكأس! ولكن لتكن إرادتك لا إرادتي« (لو 22:42). صلاة يسوع هي مثال صلاتنا سواء في المزامير، سواء في ما نكتشفه في الأناجيل. وهي مثال لنا بشكل خاص في الصلاة الربية: أبانا الذي في السماوات.

أولاً: صلاة المزامير

كانت المزامير صلاة المؤمن في العهد القديم. فهي تنشد الله من أجل أمانته ورحمته. اعترفوا للرب فإنه صالح وإن إلى الأبد رحمته. وهي تنشد قدرة الله. »السماوات تنطق بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه، فيعلنه النهار للنهار والليل يخبر به الليل بغير قول وكلام ولا صوت يسمعه أحد« (مز 19:2 - 4). وهذه المزامير تنشد أيضاً حكمة الله في خلقه، كما تنشد شريعته. »شريعة الرب كاملة تنعش النفس، وفرائضه حقّ تجعل الغبيّ حكيماً. أمر الربّ مستقيم يفرّح القلب، ووصيّته صالحة تنير العيون. كلام الرب طاهر ثابت إلى الأبد. وأحكامه حقّ وصدق وحدها« (مز 19:8 - 10).

والمزامير ترى في الله أباً للملك على مثال ما في المزمور الثاني: »قال الرب لي: أنت ابني. أنا اليوم ولدتك. اليوم تبنّيتك«. أجل، يوم يتوّج الملكُ يصبح ابنَ الله. ونقرأ في مز 89:27 - 29: »هو يدعوني أبي وإلهي، وخالقي ومخلّصي. وأنا أجعله بكري، علياً فوق ملوك الأرض. إلى الأبد أحفظ له رحمتي، ويبقى عهدي أميناً له«. أما يمكن أن يكون مثل هذا الاله أبانا؟ نستطيع أن نتلو صلاة المزامير أمامه على مثال ما فعل يسوع خصوصاً عند ساعة موته: »إلهي إلهي لماذا تركتني وامتنعت عن نجدتي وسماع أنيني؟ في النهار أدعو فلا تجيب، وفي الليل فلا تحرك ساكناً« (22:2 - 3؛ رج مت 27:46؛ مر 15:34). وأورد لوقا صلاة أخرى ليسوع يتلوها الطفل قبل أن يخلد إلى النوم. »يا أبت، في يديك أستودع روحي« (23:46؛ رج مز 31:6).

ثانياً: الأناجيل كتاب صلاة

حين نقرأ بشكل خاص عظة الجبل في مت 5 - 7، نكتشف حضور الآب السماويّ الذي إليه نرفع صلاتنا. فهذا الآب لا نصلّي أمامه كما يفعل المراؤون. فيقول يسوع لكل واحد منا: »أدخل غرفتك وأغلق بابك عليك وصلّ لأبيك الذي لا تراه، وأبوك الذي يرى في الخفية هو يكافئك« (مت 6:6). وهذا الآب لا نصلّي أمامه كما يفعل الوثنيون الذين يظنون أن الله يستجيب لهم لكثرة كلامهم. »لا تكونوا مثلهم، لأن أباكم يعرف ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه« (6:8). هذا الآب نصلّي أمامه فنغفر قبل أن نرفع إليه صلاتنا: »إن كنتم تغفرون للناس، يغفر لكم أبوكم السماوي زلاَّتكم. وإن كنتم لا تغفرون للناس زلاّتهم، لا يغفر لكم أبوكم السماويّ زلاَّتكم« (6:14 - 15).

هذا الآب الذي في السماوات يمجّده الناس حين يرون أعمالنا (5:16). ويمجّده يسوع فيقول له: »أشكرك، يا أبت ربّ السماء والأرض... نعم، يا أبتاه، هذه مشيئتك« (11:25 - 26). هذا الآب، يعود إليه يسوع في الشدّة والضيق والاستعداد للموت: »يا أبت، إن أمكن أن تعبر هذه الكأس« (26:39). وتُذكر أخيراً صلاةُ يسوع التي سُمّيت الصلاة الكهنوتيّة، لأن يسوع قدّم بها نفسه ذبيحة للآب قبل آلامه: »يا أبي، جاءت الساعة: مجّد ابنك ليمجّدك ابنك بما أعطيته من سلطان على جميع البشر« (يو 17:1 - 2).

ثالثاً: الصلاة الربيّة

الصلاة التي علّمنا إياها يسوع، تتوجّه نحو الآب، غير أن كل مضمون هذه الصلاة، ولا سيّما الطلبات الأولى، تكشف لنا وجه الآب. هذا الذي هو أبونا، هو في الوقت عينه في السماء. ويسوع الذي نزل من السماء (يو 3:13) يخبرنا عنه. الله أبونا. فإذ نصلّي إليه بهذا الشكل، نشدّد على رباط الأخوّة المسيحيّة، ونعطي صوتنا للذين لا يعرفون بعدُ أباهم الذي يحبّهم رغم بعدهم عنه.

ونذكر اسم الآب وملكوته ومشيئته. وكل هذا يرتبط بيسوع المسيح. ففي يسوع تَمجّد اسمُ الله (يو 12:28)؛ وفيه حلّ الملكوت. ولا سيّما حين أخرج الأرواح النجسة (مت 12:28). أما مشيئة الآب فهي طعام يسوع (يو 4:34). هي ثلاث طلبات نرفعها لا إلى إله مستبدّ، ولا إلى إله مجهول، بل إلى إله هو أب. ونحن إذ نتلوها، لا نحسب نفوسنا وكأننا نريد أن نقدّس اسم الله ونجعل ملكوته يأتي. بل نحن نفتح قلوبنا لنجعل اسم الله يتقدّس فينا، وملكوته يحلّ، ومشيئته تتمّ. قال الرب في حز 36:23: »أنا أقدّس اسمي العظيم الذي دُنّس وسط الأمم«.

إذا كان الأمر هكذا، فلماذا نصلّي؟ لأن للرب كل مبادرة. ومع ذلك، فهو لا يفرض شيئاً. ونحن حين نصلّي، ندخل في مشروعه، ندخل في نظرته. قال الرسول: »لا نعرف كيف نصلّي كما يجب« (روم 8:26). ولكن »الروح يجيء لنجدة ضعفنا«.

وبعد هذا، نطلب الخبز، والغفران، والنجاة من التجربة. وفي النهاية، نطلب النجاة من الشرير. هذا ما يلتقي مع صلاة يسوع في يو 17:15 - 17: »لا أطلب منك أن تخرجهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير. هم ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم. قدّسهم في الحقّ، لأن كلمتك حقّ«.

خاتمة

تلك هي مسيرتنا في التعرّف إلى الله الآب. جاءت في ثلاثة أقسام: شخص الله. صفات الله. صفتنا كأبناء الله. وفي كل قسم، تطرّقنا إلى ثلاثة مواضيع. من الله الذي هو إله الآباء إلى أبي ربنا يسوع المسيح. من الله القادر والخالق، إلى الاله الذي يمحو الذنوب ويغفر الزلاّت. وانتهى كلامنا في الحديث عن أبناء الله الذين يُطلب منهم العيش كالإخوة، ويُطلب منهم أن يصلّوا إلى الآب كما يصلّي الأبناء. فيسوع قال لنا: »لا أدعوكم عبيداً بعد، لأن العبد لا يعرف ما يعمل سيّده. بل أدعوكم أحبائي، لأنّي أخبرتكم بكل ما سمعته من أبي« (يو 15:15). هذا هو المناخ الذي نودّ أن نعيش حين نتحدّث عن الله الآب. إلهنا عيلة ونحن ندخل في هذه العيلة. نحبّ كما يحبّون في هذه العيلة. نعيش كما يعيشون في هذه العيلة فنردّد كلام بولس في الرسالة إلى أفسس: »اقتدوا بالله كالأبناء الأحبّاء«.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM