الفصل السادس عشر: المرقيونيّة والتعامل مع الكتاب المقدس

الفصل السادس عشر: المرقيونيّة والتعامل مع الكتاب المقدس

 

يشكّل الفصلُ بين الشريعة والانجيل مؤلّف مرقيون الخاصّ والرئيسيّ. فتلاميذه لا يستطيعون أن يُنكروا ما يكوّن في نظرهم الكتاب السامي الذي به يتدرّجون ويتحجّرون في هرطقتهم. إنه ''تناقضات'' مرقيون، أي التعارضات المتناقضة التي تحاول أن تثبت الخلاف بين الشريعة والانجيل لتستنتج من المواجهة الفكريّة في كتابين، المواجهة بين إلهين«.

هذا ما كتبه ترتليان(1) ابن قرطاجة، وأكبر المدافعين المسيحيين (155 - 222 تقريباً)، عن مرقيون وعن المرقيونية، فتوسّع في ما قاله في كتابه الحكم على الهرطقات. »إذا كان مرقيون قد فصل العهد القديم عن العهد الجديد، فهو لاحق لما فصل، لأنه ما كان يمقدوره أن يفصلهما لو لم يكونا واحداً«(2).

فمن هو مرقيون، وما هي المرقيونيّة، وكيف تعامل هذا التيّار مع الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد؟ سوف نرى أن ما قالته المرقيونيّة حول التعارض بين إله العهد القديم وإله العهد الجديد، لا يزال حاضراً في محيطنا حيث تُنتزع بعضُ الآيات من أصولها وتُقرأ بشكل حرفيّ، فتدلّ على أن إله التوراة يتعارض تعارضاً كلياً مع إله الانجيل.

1 - مرقيون

قبل أن نكتب سيرة مرقيون وفيها ما فيها من النقاط الغامضةُ ولا سيما في ما يتعلّق بالزمن الذي انتقل فيه إلى الهرطقة، نقدّم المراجع التي تساعدنا على التعرّف إلى فكر مرقيون والمرقيونيّة.

 

أ - المصادر والمراجع

نبدأ قولنا في هذا المجال بأنه لم يبق لنا شيء من مرقيون ولا من تلاميذه المباشرين. والسبب بسيط: لقد أتلفت كتاباتُهم بشكل لا يقبل الجدال. ولكن بما أن تأثيرهم كان كبيراً في الشرق والغرب، وبما أن المسائل التي طرحوها على الكنيسة منذ القرن الثاني كانت خطيرة، لهذا جاء الردّ عليهم قوياً في مختلف الكنائس.

أقدم ردّ نجده عند يوستينس، ابن نابلس في فلسطين (100 - 165 تقريباً) في »سنتغما« أو مجموعة تقابل كل البدع(3). وذكر اوسابيوس القيصري في تاريخه الكنسي مرقيون الذي جاء من البنطس، وأعلن عن وجود إله أكبر من خالق الكون(4). هذا ما ورد على لسان يوستينس الذي ذكره أيضاً ايريناوس، أسقف ليون في فرنسا(5).

ولكن يجب أن ننتظر نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث لنكتشف جوهر معلوماتنا عن مرقيون والمرقيونيّة: ايريناوس في كتابه ضدّ الهراطقة. ترتليانس في أربعة كتب: الحكم على الهراطقة، بشريّة المسيح، ضد مرقيون، في القيامة. هبيوليتس في ردّ على كل الهرطقات ومجموعة الردّ على البدع. وأخيراً، ضد مرقيون الذي ضاع. وهناك كتاب ينسب خطأ إلى ترتليان واسمه: ضدّ كل الهرطقات. أما في الاسكندريّة، فقد ناقش اكليمنضس الأفكار الأخلاقيّة والنسكيّة التي ينادي بها مرقيون. واوريجان نظرته إلى الكتاب المقدّس.

أما الكتّاب الذين جاؤوا بعد هؤلاء، فقد استقوا من سابقيهم. مثلاً، حوار ادامنتيوس كما ترجمه روفين الى اللاتينيّة. وافرام السرياني في الردّ على ماني، مرقيون، برديصان، وفي تفسير الانجيل. ونذكر أيضاً ابيفانيوس في باناريون أو صندوق الأدوية (يتحدّث عن الهرطقات)، وفيلستريوس في الهرطقة 45 من كتاب الهرطقات. وتيودوريه القورشي في كتاب قد ضاع. وإزنيك أي كولب في كتابه حول الشيع الذي يقول في القسم الثاني من كتابه: »حين ضلّ مرقيون، أدخل شخصاً غريباً تجاه إله الشريعة، بعد أن جعل مع هذا الاله، الهيولى (كائنة في ذاتها) وثلاث سماوات. في الأولى جعل الغريب مسكنه. في الثانية إله الشريعة. وفي الثالثة جيوش إله الشريعة. وكانت الهيولى على الأرض وقد سمّوها: قوّة الأرض«(6).

 

ب - سيرة مرقيون

وُلد مرقيون في سينوبي في البنطس (اليوم، سينوب على البحر الأسود). كان والده الذي كان أسقف المدينة قد طرده لأنه اعتدى على فتاة عذراء(7). ولكن هناك من يعتبر أنه يجب أن نفهم العبارة في معنى رمزي: لقد اعتدى مرقيون على بتوليّة الكنيسة حين اعتدى على الإيمان(8).

نقرأ في المطلع المناوئ لمرقيون، والموضوع في بداية إنجيل يوحنا، أن مرقيون ترك سينوبي ليكون صاحب سفن؛ وكان في المدن التي يمرّ فيها، يقدّم رسائل توصية من إخوته في البنطس. هذا يعني أنه ما زال له »أصدقاء« في موطنه. ويعلن المطلع المذكور أن »يوحنا« طرد مرقيون بعد جداله مع بابياس. أيكون يوحنا الشيخ، لا يوحنا الانجيليّ الذي كان قد مات في ذلك الوقت؟ وسوف يسير فيلستربوس في هذا الخطّ فيقول: طرده »يوحنا وشيوخ أفسس«.

هنا نجد صدى في خبر رواه ايريناوس عن لقاء بين مرقيون وبوكيربوس. »أتعرفنا«؟

- نعم أعرفك يا بكر الشيطان«.

فالتعارض بين »نحن« (المتكلّم الجمع) و»أنت« (المخاطب المفرد) يجعلنا نفترض أن مرقيون ترك الكنيسة و»أسّس« حزباً له بعد ذاك اللقاء في آسية (أي تركيا).

وترك مرقيون بلاده لسببين: التجارة أولاً. ثم كنيسة »متحرّرة« يزرع فيها أفكاره. فجاء إلى رومة سنة 138. وحين وصل إليها، قدّم إلى الجماعة المسيحيّة  مبلغ 200000 سسترس (عملة رومانيّة). حينئذ اتصل بقردون الغنوصيّ فتأثّر به تأثيراً عميقاً. ويقول عنه إيريناوس إنه أنمى مدرسة قردون في رومة: »جدّف بوقاحة على الله الذي أعلنته (أسفار) الشريعة والأنبياء. وأكّد أنه إله شرّير يحبّ الحرب. وهو أيضاً متقلّب في أحكامه ويعارض نفسه بنفسه. أما يسوع في نظر مرقيون، فجاء من الآب الذي هو فوق الاله الذي صنع الكون. جاء إلى اليهوديّة في زمن الوالي بونطيوس بيلاطس، ممثل طيباريوس، وظهر بشكل بشريّ لسكان اليهوديّة ليُلغي الأنبياء والشريعة وكلَّ أعمال هذا الاله الذي صنع العالم والذي يسمّيه مرقيون ضابط الكون.

ومرقيون نفسه يشوّه أيضاً انجيل لوقا، فيُلغي منه كل ما كُتب عن مولد يسوع المسيح. كما يلغي قسماً كبيراً من تعاليم وخطب ربّنا حيث كُتب بوضوح أن ربّنا اعتبر صانع هذا الكون أباه. وحمل تلاميذه على الاعتقاد بأنه أهل للتصديق أكثر من الرسل، الذين كتبوا الانجيل. وفي ذلك الوقت يجعل (مرقيونُ) بين أيديهم، لا الانجيل، بل جزءاً صغيراً منه.

»ويشوّه أيضاً رسائل بولس الرسول، فيرذل كل ما يقوله الرسول بوضوح عن الاله الذي خلق الكون، الذي هو أبو ربّنا يسوع المسيح. ويلغي أيضاً جميع التعاليم التي يشير فيها الرسول إلى الكتابات النبويّة على أنها نبوءات عن مجيء المخلّص. وقال أيضاً: لن يكون خلاص إلا للنفوس التي تربّت في تعليمه. أما الجسد الآتي من الأرض، فلا يستطيع اطلاقاً أن يشارك في الخلاص«(9).

حين نقرأ هذا المقطع الطويل، نحسّ أننا قريبون من هذه الشيع المنغلقة على نفسها، والتي تعتبر نفسها أنها وحدها تحمل الخلاص. كما نحسّ بأن الأفكار التي تقابل بين إله العهد القديم وإله العهد الجديد، هي هي منذ ألفي سنة ولم تتبدّل. أما الكنيسة فأعلنت وما زالت تعلن أن الاله الذي تحدّث عنه العهد القديم هو أبو ربنا يسوع المسيح. هو الذي خلق العالم بكلمته، وهو الذي أرسل ابنه لكي يخلّص العالم. كل مبادرة على مستوى الخلق وعلى مستوى الفداء تجد ينبوعها في إله ابراهيم واسحق ويعقوب. كما في الاله الذي حدّثنا عنه يسوع المسيح.

روى ترتليان أن مرقيون قدّم في حرارة إيمانه ما قدّم من أجل كنيسة رومة. ولكن حين تعرّف إلى قردون، ترسّخ في بدعته التي فيها الكثير من العناصر الغنوصيّة مع مزج بين أفكار وثنيّة وأفكار مسيحيّة. فهناك تمييز بين إله صالح يعيش في السماء الثالثة، وإله عادل أدنى منه. كما نجد ذات الطابع الغنوصي في الكوسمولوجيا، في علم الكائنات. فالاله الثاني الذي خلق الكون والانسان هو »دميئورغوس« (باري الكون) الذي عرفته الشيع الغنوصيّة. وفكرة خلق الكون من مادة أولى، هي الهيولى، لا من العدم، هي أيضاً فكرة غنوصيّة.

المادة هي مبدأ كل شرّ، ولهذا لا تقوم الأجساد. ثم إن هذا الاله الثاني هو إله اليهود. إنه عادل ولكن له نزواته. إنه سريع الغضب ومنتقم، وهو »خالق« كل شر طبيعيّ وأدبيّ. إنه في أساس كل الحروب.

ونجد أيضاً هذا الاتجاه الغنوصيّ في الكرستولوجيا التي يقدّمها مرقيون. فيسوع المسيح ليس »الماسيا« الذي أنبأ به العهد القديم. هو لم يُولد من العذراء مريم. لم يعرف طفولة ولا نمواً ، حتى في الظاهر. ففي السنة الخامسة عشرة من حكم طيباريوس قيصر ظهر فجأة في مجمع كفرناحوم. بعد ذلك كان له ظاهر بشريّ احتفظ به حتى الموت على الصليب. وحين سفك دمه، خلّص النفوس من سلطة باري الكون (دميئورغوس)، وألغى قدرتَه بكرازته ومعجزاته.

نلاحظ هنا أيضاً كيف أن هذا الفكر الذي نما في القرن الثاني ما زال اليوم حاضراً. فالمسيح لم يأخذ جسداً. لم يكن طفلاً ترعرع مثل سائر الأطفال. بل ظهر فجأة واختفى فجأة. وخلّص لا بدمه، بل بتعليمه ومعجزاته. هو لم يمُت، بل ظنّ الناس أنه مات. لهذا، نتساءل عن أصل هذا الاله العادل. من أين جاء؟ كما نتساءل: لماذا ترتدي ذبيحة الصليب كل هذه الأهميّة مع أنها ذبيحة »شبح« لا ذبيحة انسان عاديّ حمل على عاتقه البشريّة كلها ليخلّصها لأنه إله وانسان(10).

نستطيع القول إن »هرطقة« مرقيون بدأت في رومة. ولكن النصوص جعلت ضلاله يولد معه. يُولد في موطنه. كما أن اللقاء بينه وبين بوليكربس قد يكون حدث في رومة لا في آسية. ففي رومة حقاً بدأت هرطقة مرقيون وإن كانت بذورها في الشرق. وقد نمت، كما قلنا، حين تعرّف الى مدرسة قردون. لهذا تلوّن تعليمه باللون الغنوصيّ.

يروي ترتليان في كتابه الأول ضد مرقيون أن الجماعة المسيحيّة في رومة استقبلته في البداية أفضل استقبال. ولكنها ما عتّمت أن طلبت منه إيضاحاً عن إيمانه. عرض لاهوته في رسالة وجّهها إلى الكنيسة. حينئذ حرمته الكنيسة سنة 144، وردّت إليه المال الذي قدّمه لها. فأسّس كنيسته الخاصة وجعل فيها أساقفة وكهنة وشمامسة، كما نظّم لها ليتورجيا وأسراراً.

حين بدت آراء مرقيون متنافرة مع تعاليم الكنيسة، جاء وقت النقاش الحاسم في تموز 144. يقول هيبوليت: كان الموضوع لو 6:43 حول الشجرة الرديئة التي لا تقدر أن تعطي ثماراً صالحة. أما حسب ابيفانيوس فالموضوع كان لو 5:36 - 37 حول الرقعة الجديدة والثوب البالي، حول الخمرة الجديدة والزقاق العتيقة.

بعد ذلك الوقت، تضيع آثار مرقيون بالنسبة إلينا، ونعرف أنه مات حوالي سنة 160. وتابع تلاميذه تعليمه، فعرفه ترتليان من خلال هؤلاء التلاميذ الذين امتدوا إلى الشرق كما وصلوا الى سواحل افريقيا الشماليّة فضلاً عن رومة وبلاد غالية (أي فرنسا الحاليّة)(11).

 

2- مؤلّفات مرقيون وتعليمه

في عمق النهج الذي قدّمه مرقيون (أو تلاميذه) نجد نقطتين أساسيتين: المعارضة بين الشريعة والانجيل، مجانيّة الخلاص في المسيح الى درجة تنفي كل حريّة بشريّة. نبدأ في هذا المقطع، فنتحدّث عمّا تركه لنا مرقيون من كتابات، ونتوقّف بشكل خاص عند السوتيريولوجيا، أو التعليم عن الخلاص الذي حمله لنا المسيح. ونترك ما يتعلّق بالكتاب المقدّس الى المقطع الثالث والأخير حيث الانفصام سيكون تاماً بين إله اليهود وإله المسيحيّين، بين العهد القديم والعهد الجديد.

 

أ - كتابات مرقيون

إذا وضعنا جانباً رسالة مرقيون(12) التي يذكرها ترتليان في بشرية المسيح وضدّ مرقيون ثمّ الخلاصة أو كتاب الطروحات، وكتاب المزامير، نستطيع أن نتحدّث عن ثلاثة مؤلفات رئيسيّة حدّثتنا عنها المراجع التي ذكرناها في بداية هذا المقال، وهي: التناقضات، الدليل، كتاب الرسائل.

أولاً: التناقضات

يذكر الكتّاب الأقدمون كتاباً لمرقيون عنوانه في ترتليانس التناقضات وفيه يشير مرقيون الى الخلافات بين الانجيل والشريعة. والاختلاف بين العهد القديم والعهد الجديد. ويعارض بين إله العهد القديم وإله يسوع المسيح. وفي الوقت عينه يعارض بين بولس وسائر الرسل الذين زوّروا الأناجيل.

لا يقابل مرقيون ولا تلاميذه بين الكتب المقدّسة و»التناقضات«. الكتب المقدّسة مهمة وهي ترتبط ببولس الرسول. أما التناقضات فهي كتاب بشريّ يرتبط بمؤسّس المرقيونيّة. قدّم المؤلّف كتابه إلى أحد المعترفين، فدوّنه في اليونانيّة. ثم جاء من ترجمه إلى اللاتينيّة.

ما هو مضمون هذا الكتاب؟ أظهر مرقيون »التعارض« بين أقوال وأعمال الاله الذي يظهر في العهد القديم، وأقوال وأعمال ربنا يسوع. وهكذا واجهت الشريعةُ الانجيل في تناقضة قويّة: عرف آدم ونسله خالق الكون، وجهل إله يسوع المسيح. مثلاً: جهل إله الكون اين اختبأ آدم فسأله أين أنت (تك 3:10). أما المسيح فعرف جميع أفكار البشر (يو 2:25). إن يشوع بن نون قد تلقّى أمراً من الله بأن يذبح الكنعانيين بدون شفقة. أما المسيح فبشّر بالرحمة والسلام. ان خالق الكون لم يُعد النظر إلى اسحق بعد عماه. أما المسيح فجعل العميان يبصرون.

تكفي هذه الأمثلة الثلاثة لتعرّفنا إلى نهج مرقيون الذي ما زال يتبعه عدد من المسيحيّين عندنا في هذا الشرق. أترى الله لم يشفِ بواسطة نبيّه اليشاع نعمان السوري؟ أتراه لم يُقم صبياً من الموت بواسطة نبيّه إيليا؟ ألم يهتمّ بالفقراء وأطعم مئة منهم بواسطة اليشاع؟ انقسمت المحكمة، وأراد رحبعام بن سليمان، أن يرسل جنوده ليردّ المتمرّدين، فأرسل الله نبيّه يقول للملك: »لا تصعدوا ولا تقاتلوا إخوتكم« (1 مل 12:24). وضلّ بعض الأراميّين الطريق، فسأل الملك النبيّ: »هل أقتلهم«؟ أجاب اليشاع: »لا، بل قدّم لهم خبزاً وماء ليأكلوا ويشربوا وينصرفوا إلى سيّدهم« (2 مل 6:21 - 23).

أما الأمثلة التي أعطيَت، فنفهمها داخل ما يسمّى الفنّ الأدبيّ. أترى الله لا يعرف أين هو آدم؟ بلى يعرف. ولكنه يصوّر وكأنه انسان أضاع »صديقه«. وعبارة »أين أنت« تدلّ بالأحرى: أين أنت بالنسبة إلى الوصيّة؟ والمثل الثاني عن يشوع نفهمه في الإطار الذي كُتب فيه هذا السفر. بعد العودة من المنفى وضياع الأرض، فهم العبرانيّون أنهم أضاعوا عطايا الله بسبب العبادات الوثنيّة التي حملها اليهم »الكنعانيون« (مثلاً، ذبح الأطفال، البغاء المكرّس). فلو أفنوهم، لما كانوا وقعوا في ضلالهم. ولكنهم في الواقع لم يفنوهم كما نفهم من قراءة الكتاب، لأن الكنعانيين ظلّوا يعيشون مع العبرانيّين في فلسطين. ولما تشتّت اليهود بعد سنة 70 ب.م. على أثر الحرب الرومانيّة، ظلّ الكنعانيون في البلاد مع الشعوب التي امتزجت بهم.

إذا كنّا نعرف المواضيع العامّة التي توسّعت فيها التناقضات، فما يرد عند ترتليان (الكتاب الرابع من ضد مرقيون) وعند ادامنتيوس، لا يتيح لنا أن نتمثّل الشكل الخارجي للكتاب. هل كان تفسيراً متواصلاً للكتاب (المقدّس) المرقيوني. هل كان سلسلة من الحواشي التأويليّة تسبقها مقدّمة تاريخيّة وعقائديّة على التعارض بين العهدين؟ أم شكّل مؤلفاً مستقلاً عن الدليل؟ يبدو حسب هارناك أن الكتاب انقسم إلى قسمين. في القسم الأول، سلسلة مقالات تاريخيّة وعقائديّة تناقش علاقات بولس بسائر الرسل، وتؤسّس »الكتاب« (المقدس) الجديد الذي كوّنه مرقيون، وتشجب الأناجيل والأعمال التي يستعملها الكاثوليك. والقسم الثاني هو مجموعة ملاحظات متتابعة حول »الأداة« المرقيونية.

ثانياً: الدليل

نفهم كلمة »دليل« (انسترومنتوم) كما وردت عند ترتليان في معنى قانونيّ: وثيقة تبرهن، تدلّ. وينحصر الدليل أو رفيق المبشّر في انجيل لوقا ورسائل القديس بولس (ابوستوليكون) التي وردت بحسب الترتيب التالي: غل، 1 كور، 2 كور، روم، 1 تس، 2 تس، أف (يسميها: لاودكيين) فل، فلم، كو. ثم إن هذه الرسائل قد تنقّت من كل ما يتعلّق بتاريخ شعب اسرائيل ومصيره.

انطلق مرقيون من فكرة تقول إن بولس وحده فهمَ فكر يسوع الحقيقيّ، وحافظ عليه، ونقله بأمانة. لماذا؟ نجد الجواب في الرسالة الى غلاطية: فالذي دعا بولس إلى الرسالة ليس انساناً، بل يسوع المسيح بشكل مباشر (غل 1:1). والانجيل الذي علّمه لم يكن بحسب البشر، لم يتقبّله من انسان، لم يتعلّمه من انسان، بل بوحي من يسوع المسيح (غل 1:11 - 12). أما الرسل الآخرون فهم رسل كذبة. لم يستطيعوا أن يتحرّروا تحرراً كلياً من التأثير اليهوديّ، بل ظلّوا أمناء للممارسات اليهوديّة بحيث أجبر بولس على مقاومة بطرس نفسه. اذن، ليس من انجيل إلا انجيل بولس: فإن بشّر أحد بخلاف ذلك، فليكن محروماً (غل 1:8 -9).

نلاحظ الأساس الفكري هنا. بدأ مرقيون فرفض العهد القديم، وبالتالي كل ما يتحدّث أو يرتبط بالعهد القديم. فالرسل ارتبطوا بالشعب اليهودي. إذن، هم رسل كذبة. وبولس الذي توجّه إلى الوثنيين، عرف كيف يتحرّر. وهكذا لم يكتف مرقيون برفض العهد القديم، بل الأناجيل الثلاثة متى، مر، يو، هذا مع العلم أن مرَ دُوّن إلى العالم الوثنيّ المقيم خاصة في رومة. وإن قبل مرقيون برسائل بولس الرسول نفسه، فهو قطعها قطعاً تاماً عن العهد القديم. هل ننسى أن العهد الجديد قد غرز جذوره في العهد القديم. فمن اقتلع الجذور يكون وكأنه اقتلع الشجرة كلها. وإن قبل انجيل لوقا، فقد اقتطع منه ما اقتطع ليكون الانجيل حسب تفكيره هو، لا أن يكون تفكيره حسب الانجيل. هذه هي البدعة الكبرى: فباسم العرقية والسياسة والنظريات التاريخيّة المسبقة، نأخذ ما نشاء من الكتاب المقدّس، بل من الأناجيل. ونكوّن عن يسوع نظرة هي أقرب إلى الخيال منه الى الواقع. يصبح يسوع »كنعانياً« من عندنا، وكأن القرابة بحسب الجسد تكفي لنكون مسيحيّين. ننغلق على الآخرين، نستعبدهم، وبعد هذا نحسب نفوسنا تلاميذ يسوع! هذا ما يسمّى عالم الرياء على ما كان عند الفريسيين الذين كان يسوع قاسياً تجاههم.

ويتابع مرقيون: الانجيل الذي كرز به بولس لم يستطع أن ينتقل بطريقة شفهيّة. لم يعتدّ مرقيون يوماً أنه نبيّ وأنه يحمل تعليماً جديداً. إنه تلميذ، وكل دوره يقوم بأن يكتشف الانجيل الحقيقيّ الذي كُتب بقيادة بولس وموافقته. هذا الانجيل موجود، هو انجيل لوقا. أما الأناجيل الثلاثة الأخرى فقد استلهمت العالم اليهوديّ. وحتى انجيل يوحنا الذي يعتبر اليهود أعداء المخلّص قد رُذل. بما أنه يقول »جاء الى خاصته« (1:11)، فهذا يكفي لاستبعاده بدون أي بحث. أما عن لوقا فنعرف أنه كان تلميذ بولس، وأنه عاش معه طويلاً.

ولكن انجيل لوقا قد حُرّف، واندسّت فيه نصوص غريبة ليست ببولسيّة، وأوّلها أخبار الطفولة. فيسوع، كما قلنا، ظهر فجأة في كفرناحوم وبدأ يعلّم. إذن لم يُولد كسائر البشر، ولم تكن له طفولة وصبا. لهذا، يجب تحرير الانجيل من كل الحواشي والزوائد. بل نزيد بعض الكلمات التي ألغيت والتي هي ضروريّة من أجل المعنى. أما المعيار الذي اتخذه فهو حسّه الخاص و»عبقريته« التي تفرض نفسها على عبقريّة الروح القدس الذي ألهم هذه الكلمات. وهكذا »فصّل« مرقيون انجيلاً على قياسه، بل أخذ من الكتاب كله ما يوافق أفكاره واستغنى عن الباقي.

وبجانب انجيل لوقا، هناك رسائل مار بولس. ولكن بعضاً منها نُسبت الى الرسول ولم تكن منه، فلا بدّ من استبعادها: فلم، تي، 1 تم، 2 تم. ثم الرسالة الى العبرانيين. وبما أن باقي الرسائل قد دُسّت فيها أمور، يجب تنقيتها لكي نصل إلى النصّ »الأصلي« الذي يحكم فيه مرقيون(13).

كيف أعاد مرقيون بناء »الدليل«؟ بدأ الانجيل فجأة بخبر كرازة يسوع في كفرناحوم (لو 4:31). وجُعلت كرازة الناصرة (4:16 - 30) بعد آ 39. بعد هذا تبع مرقيون ترتيب لوقا حتى آخر ظهور القائم من الموت لتلاميذه. ولكنه ألغى هنا وهناك آيات لم تكن لتروق له. مثلاً: 5:39: »الخمرة المعتّقة طيّبة«، 7:31 -3 2: الأولاد الذين يلعبون، 8:19: أم يسوع واخوته، 9:26 - 27: مجيء ابن الانسان، 9:30: ظهور موسى وإيليا، 10:12 - 15: التشكّي من المدن الخاطئة، 10:24: رغبة الأنبياء بأن يروا ما يراه الرسل، 10:26 - 28: ما كتب في الشريعة، 11:29 - 32: يونان وملكة سبأ... هذا القدر يكفي لكي يفهمنا كيف تصرّف مرقيون ليلغي ما ألغاه: كل ما يدلّ على صفة يسوع البشريّة. كل ما يشير من بعيد أو قريب إلى العهد القديم. هنا نشير إلى أن الذين يريدون أن ينتزعوا يسوع من الإطار اليهودي الذي فيه وُلد وترعرع، ما يعتّمون أن ينكروا بشريّته. يشبهون »الظاهريّة« التي تعتبر أن يسوع، لم يكن انساناً كاملاً، بل تظاهر أنه انسان. هو لم يمت، بل تظاهر أنه مات. لهذا، ارتبط الخلاص في العالم الغنوصي بالمعرفة الباطنيّة، لا بالصليب.

ثالثاً: كتاب الرسائل

»ألّف« مرقيون، كما قلنا، كتاب رسائل خاصّ ب »كنيسته«. وقد وصل إلى يدي ترتليان كما نقّحه المرقيونيّون بعد موت المعلّم. هذا الكتاب رذل الرسائل إلى تيطس وتيموتاوس. كما رذل الرسالة الى العبرانيين لما فيها من تقاربات بين المخلّص والشريعة الموسويّة.

أخذ مرقيون عشر رسائل من مار بولس، ولكنه قام بحذف بعض المقاطع. حذف من غل 1:18 - 24؛ 2:6 - 9؛ 3:6 - 9، 10 - 12، 14 أ، 15 - 25؛ 4:27 - 30. وأعاد صياغة 4:21 - 26. ألغى ما ألغى ليزيد كل مديح لسائر الرسل، وليستغني عن الدرس الذي نستخلصه من خبر ابراهيم. وترك مرقيون 1 كور و2 كور دون أي تبديل يُذكر. وألغى من روم 1:17 ب؛ 1:19 - 2:1: أعمال الخلق تدلّ على الله. لا عذر للوثنيين لأنهم لم يعرفوا الخالق؛ 3:31 - 4:25: إيمان ابراهيم؛ 9:1 - 33: دعوة ابراهيم، اسرائيل الحقيقيّ؛ 10:5 - 11:32: خلاص قسم من اسرائيل. وظلت 1 تس،2  تس، أف بدون تبديل إلا في ما يتعلّق بواجبات الزوجين (أف 5:28 - 32). وألغى مرقيون كو 1:15 - 17 عن دور المسيح في عمل الخلق، فقال: »المسيح هو صورة الله غير المنظور، وهو قبل كل شيء«. وظلت فل وفلم بدون تغيير يُذكر.

المبادئ هي هي: الاله الخالق هو غير الاله المخلّص. إله العهد القديم غير المسيح. انجيل على قياس شيعة تقرأه كما تشاء لكي تنشر تعليمها، كتاب رسائل تنقّى من »الشوائب« التي تربط بولس بالعهد القديم. وهكذا لم نعد أمام انجيل ربنا يسوع المسيح، بل انجيل مرقيون. ولم نعد أمام رسائل القديس بولس، بل رسائل جماعة مرقيون. رسائل في خدمة »دعاية« ضيّقة النظر، سوف تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى أن تزول المرقيونيّة من الكنيسة منذ منتصف القرن الثالث في الغرب، وخلال القرن الخامس في الشرق.

 

ب - موضوع الخلاص في المرقيونيّة

إن »أبا المراحم وإله كل تعزية« (2 كور 1:3) قد جاء في يسوع المسيح يعلن الانجيل على جميع البشر، لا على فئة صغيرة من الناس(14). لهذا، لا نتمثّل المسيح بشكل »ماسيا« ينتظره اليهود، فتقوم رسالته بأن ينشر سلطة الشريعة في كل مكان. بما أن يسوع هو ظهور الآب، فالآب يتماهى مع يسوع المتجرّد من بشرية استعارها لوقت محدّد (ليست بشريته). هو لم يولد من امرأة ولم يعرف بطء النموّ البشريّ. بل ظهر فجأة في أيام طيباريوس قيصر دون أن يكون له تاريخ سابق امتدّ على ثلاثين سنة قبل أن يبدأ رسالته. دون أن يكون له تاريخ طويل يتجذّر فيه، هو تاريخ شعب الله القديم.

غير أن المسيح أراد أن يتألّم، فاختار الموت على الصليب ليتحدّى الخالق الذي لعن هذا الصليب (ملعون من علّق على خشبة، تث 21:23). ولكن جسده لم يكن مثل أجسادنا. لم يكن مؤلفاً من عناصر ماديّة. كان بالأحرى »جسداً من عالم الخيال، وهذا ما يجعلنا نظنّ أنه بشر«. ولكنه في الواقع ليس ببشر. هو صورة عن الجسد، هو »روح خلاصي«. اشترى بموته الانسان، ولم يفسده، لأنه ظلّ غريباً عن الانسان. ونزل إلى الجحيم ليأخذ معه أولئك الذين عرفوا فيه المخلّص أي قايين، أهل سادوم، المصريون (لا هابيل، وابراهيم وموسى) الذين رفضوا أن يخضعوا للإله المنتقم، إله الشريعة القديمة(15).

هذا في الماضي. أما في المستقبل، فلا ينال الخلاص إلا الذين يقبلون الانجيل. ولكنهم يكونون قلّة قليلة. فالأكثرية لا تطلب البرّ بالإيمان في إله يحبّ ولا يدين، بل تسقط، من جديد، تحت نير إله ديّان وعادل. وفي اليوم الأخير يُقسم الناس: يكون للمؤمنين الحياة الأبديّة، والآخرون »تمسكهم نار الباري«. وفي النهاية، يدمّر إله الكون (ديمئورغوس) نفسه ويدمّر العالم معه. هذا ما يقوله ازنيك دي كولب (445 - 448) في كتابه »حول الشيع«.

فإذا أراد الانسان أن يخلص، عليه أن يعيش بحسب روح التطويبات التي تعارض الشريعة القديمة. لهذا يُطلب من المؤمن زهدٌ قاس لاحتقار أعمال الباري وتدميرها. أما الخلاص فلا يكون إلا للنفس. لأن الانسان لا يخلص إلا إذا لم يعد على صورة الخالق. يعني يجب أن يزول كل ما يعطي الانسان قوامه.

نحن هنا في شيعة، لا أمام كنيسة منفتحة على الآخرين وعلى العالم. فالمسيح مات من أجلنا (جميعاً) ومن أجل خلاصنا نحن البشر. وخلاصه لا يتمّ إلا حين يحمل في جسده جميع البشر، بل جميع الخلائق ليجمع في شخصه كل ما في السماوات وما على الأرض.

 

3- مرقيون والكتاب المقدّس

بدأ مرقيون تفكيره حول المسائل الدينيّة والأخلاقيّة ولا سيّما مسألة الشرّ. ووجد التوجيه الأخير لفكره في رسائل القديس بولس. فمرقيون هو قبل كل شيء انسان بيبلي، انسان مشغوف بالكتاب المقدّس. وقد لفت انتباهه لعنة بولس ضد الشريعة اليهوديّة وضدّ الممارسات التي تفرضها، قال: بما أن الشريعة ملعونة لدى بولس الرسول، وبما أنها سبب خطيئة ومبدأ ظلمة، فلا خير فيها. اذن، ليست عمل الاله الصالح. ويسوع الذي بولس هو تلميذه، قد جاء ليلغيها لا ليكمّلها.

في هذه الظروف، من أدخل الشريعة وسط البشر؟ الاله العادل. لا يسميه مرقيون الاله الشرّير، ولا يرى فيه خالق المادة الشرّيرة. غير أن هذا الاله العادل هو رهيب ومخيف. وعدالته الضيّقة والمحدودة، تجعل البشر أسرى ألف ممارسة وممارسة. هم لا يستطيعون أن يتحدّوها، ولهذا فهو يعاقبهم عن ذنوب لا يستطيعون أن يتحاشوها. وكانت السعادة حين ظهر المسيح، حين أشفق الاله الصالح على البشريّة وظهر لها.

بما أن الاله الصالح لا علاقة له بالاله العادل، فيسوع لا يستطيع أن يكون محقّق النبوءات المسيحانيّة. بل هو يحمل تعليماً جديداً. ولفت انتباه مرقيون عبارتان من الانجيل: »لا تستطيع الشجرة الصالحة أن تحمل ثماراً رديئة، ولا الشجرة الرديئة أن تحمل ثماراً صالحة. فكل شجرة يدلّ عليها ثمرها« (لو 6:43). والعبارة الثانية: »ما من أحد ينتزع قطعة من ثوب جديد لترقيع ثوب عتيق، لئلاّ يُشقّ الثوب الجديد وتكون الرقعة التي انتزعها منه لا تلائم الثوب العتيق. وما من أحد يضع خمراً جديدة في أوعية جلد عتيقة، لئلاّ تشقّ الخمر الجديدة هذه الأوعية، فتسيل الخمر وتُتلف الأوعية« (لو 5:36 - 38).

يستنتج مرقيون من هذين النصّين أن العالم مع نقصه وشقائه، ليس صنيعة الاله الصالح. وأن الخمرة الجديدة، خمرة الانجيل، لا يمكن أن تصبّ في أوعية عتيقة، أوعية الشريعة.

وبعد أن قام مرقيون بعمليّة التنقية، أي رفض العهد القديم كله، ثم أناجيل متى ومرقس ويوحنا وبعض الرسائل البولسيّة، بعد ذلك قدّم عدداً من المبادئ لخّصها على الشكل التالي(16):

*   إن خالق الكون إله العهد القديم، لا يمكن أن يكون أبا يسوع المسيح. هو الاله العادل، ولا تنظر مواعيده إلا إلى الخير الماديّ للشعب اليهوديّ.

*   لا يمكن أن يكون العهد القديم قد تنبّأ عن المخلّص ورسله. فلا يسوع ولا بولس عادا الى سلطته.

*   ظلّ الاله الصالح خفياً عن إله الكون، حتى ظهر في شخص يسوع.

*   ليس الاله الصالح موجّه العالم الماديّ ولا العناية التي تهتمّ به.

*   ليس الاله الصالح دياناً، بل إلهاً رحيماً.

*   موضوع مواعيد الاله الصالح ورحمته هو الحياة الأبديّة وحسب.

*   لا يختلف المسيح ابن الله عن الله الصالح. هذا يعني أن التعليم المرقيوني في هذا المجال يعتنق الشكلية وهي بدعة تقول بأن الآب والابن والروح القدس هم أشكال مختلفة لأقنوم إلهي واحد.

*   ليس في جسد ابن الله »شيء« أرضيّ. فجسده لم يُولد من امرأة.

* لم يُتمّ شريعة موسى، بل ألغاها. والتعارض بين الشريعة والانجيل أمر أساسيّ.

* خلّص العالم من قوّة العالم وقوّة الباري.

* لم يكن له إلا تلميذ حقيقيّ، هو بولس الرسول.

* سيأتي في نهاية العالم، لا ليدين، بل ليعلن الفصل بيت الأبرار والخطأة.

هذا هو »قانون إيمان« البدعة المرقيونيّة، الذي ينطلق من الكتاب المقدّس الخاضع مسبقاً لفكر مؤسّس هذه الديانة »الجديدة«. وهذه هي نظرة مرقيون إلى البيبليا بعهديها القديم والجديد(17). بدأ برفض العهد القديم، ولكنه لم يستطع أن يتوقّف عند  هذا الحدّ، فرفض القسم الأكبر من العهد الجديد، وترك عقيدة الثالوث أو شوّهها. فهل نستطيع بعد كل هذا أن نعتبره مسيحياً؟

 

خاتمة

أطلنا الحديث عن مرقيون والمرقيونيّة، لأن جذور هذه البدعة ما زالت حاضرة في أيامنا. فهي شيعة تشبه إلى حدّ بعيد الشيع التي تحاول أن تصطاد الناس فتدخلهم في عالم ضيّق يحسّون فيه بالدفء، ولكنهم ما يعتّمون أن يختنقوا فيه. يحسّون بنفسهم أنهم »تحرّروا« من كنيسة وُلدوا فيها، فإذا هم عبيد لرئيس بشريّ سلب منهم الارادة فما عادوا يملكون نفوسهم. والمرقيونيّة ترفض العهد القديم كما يرفضه بعض الناس في بلادنا، وان اختلفت الأسباب بين عصر وآخر. ولكن الرافضين لجزء من الكتاب المقدّس، هم في الواقع رافضون للكتاب المقدّس كله، عن جهل أو تعصّب أو روح ضيّقة، لا تنتمي بشكل من الأشكال الى الانجيل الذي يعتبرون أنهم يتعلّقون به. يعتبرون فكرهم جديداً فإذا هو قديم جداً. ويحاولون أن يؤسّسوا »كنيسة« داخل الكنيسة الجامعة، تنغلق على فكرها ولا تحسب حساب المسيحيّين في العالم أجمع. من أجل كل هذا، حاولنا أن نربط الماضي بالحاضر حين تحدّثنا عن المرقيونيّة التي هدّدت في وقت من الأوقات بعض الشرائع في كنيسة المسيح، ولكنها ما عتّمت أن تلاشت وزالت من الوجود. ومثلها سيكون مصير هذه التيارات الفكرية والشيع. أما الكنيسة فوحدها باقية وهي التي قال لها يسوع بأن أبواب الجحيم، أبواب الشرّ والموت، لا تقوى عليها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM