الفصل الخامس عشر: عبد الله بن الطيّب وطرق تفسير الكتاب المقدس

الفصل الخامس عشر: عبد الله بن الطيّب وطرق تفسير الكتاب المقدس

 

لـمّا شاهدتُ علوم البيعة المقدَّسة وقد دثرت ولم يبقَ أحد من الكهنة الأكابر يفتح كتابًا ولا يقرأ تفسيرًا ولا يشعر بأنّ عالمًا صنَّف تصنيفًا إلاّ النفر القليل... رأيت أن أجمع سائر تفاسير الكتب الحديثة والعتيقة باختصار بالعربيّة«(1).

بهذه الكلمات يبدأ كتاب فردوس النصرانيّة الذي يشكِّل بدايته سفر التكوين. ألَّفه »الشيخ الأجلّ الأوحد القسّ الطاهر أبو الفرج عبدالله بن الطيّب الفقيه بالعلوم الإلهيّة« (تفسير ص 1).

كان عبدالله بن الطيّب سكرتير الجاثليق إيليّا الأوّل وعاش في بغداد على أيّام الخليفة القادر (991-1031) والقائم (1031-1075) من السلالة البويهيّة. كان طبيبًا ومعلِّمًا في البيمرستان العضديّ، وكان فيلسوفًا عظيمًا جارى ابن سينا بشروحه الفلسفيّة(2). ولكنّه كان قبل كلِّ شيء الكاهن الورع الذي أحبّ الاحتفالات الليتورجيّة(3) والذي حمل همَّ كنيسته(4). من أجل هذا كتب في المجال العقائديّ(5) والأدبيّ والقانونيّ وبالأخصّ فقه النصرانيّة. ولكنّه اشتهر بخاصّة بمؤلّفاته التي تفسّر الكتاب المقدَّس. ففي مقدِّمة فردوس النصرانيّة يورد لائحة بما كتب في هذا المجال: تفسير الإنجيل(6)، تفسير كبير للمزامير(7) ومقدِّمة الرسائل. ثمّ جمع تفاسيره على كتب العهد القديم والعهد الجديد في اللغة العربيّة. ونذكر نحن ما لم يذكره هو ألا وهو تفسير الدياتسّارون لتاتيانُ(8).

أمّا مقالنا فيتوقّف على كتاب فردوس النصرانيّة وبالأخصّ على تفسير التكوين كما نشره الأب جان سندرز في لوفان سنة 1967 ونقله إلى الفرنسيّة.

 

1- كتاب فردوس النصرانيّة

يفسِّر فردوس النصرانيّة الكتاب المقدَّس كلَّه بعهديه القديم والجديد(9). وابن الطيّب نفسه يقدِّم لنا ملخَّصًا عنه حالاً بعد المقدِّمة، فيعرض علينا لائحة بمحتويات هذا الكتاب (تفسير 2-4): كتب الشريعة الخمسة، كتب المجالس (أي يشوع والقضاة وصموئيل والملوك والحكمة والجامعة ونشيد الأناشيد وراعوت وابن سيراخ) وكتب الأنبياء (أشعيا، الاثنا عشر، إرميا، حزقيال، دانيال). بعد هذا، ترد مسائل على العهد القديم والعهد الجديد، ومسائل مختصرة وصعبة في العهد القديم والجديد، ومسائل أخرى مختصرة وصعبة جدٌّا من العهد القديم، ومسائل على العهد الجديد، وشروح للمقاطع الغامضة في كتب الأنبياء، وشرح ألغاز سفر أيّوب.

وتعرض مقدِّمةُ فردوس النصرانيّة أمورًا كتابيّة أو ترتبط بالكتاب المقدَّس. هناك مقالات عن الصوم والصلاة والصدقة والنذور... لماذا أكَل أتقياء العهد القديم اللحم، وما شربوا الخمر. وهناك ملخَّص لأجوبة عن يشوع بُن نون ومسائل على أعمال الرسل والرسائل. لماذا يسمّي المسيحيّون الله أبًا. وهناك مقالات عن الرسول بولس والملك داود...

نحن إذًا أمام مادّة واسعة وقد سمّاها المؤرّخون المعاصرون أوسع مجموعة تفسيريّة في الأدب العربيّ المسيحيّ. أمّا هدف الكاتب، فكان إنقاذ شروح سريانيّة كادت تضيع بسبب جهل المؤمنين والكهنة الذين لا يعرفون من ألَّف هذا الكتاب أو ذاك. من أجل هذا قدَّم ابن الطيِّب مختارات عربيّة من هذه الكتب السريانيّة المعروفة في التراث المشرقيّ، بل أعاد كتابة ما قرأه هنا وهناك بلغة عربيّة وطبعه بطابع السريانيّة المتأصّلة فيه.

ما كان أسلوب ابن الطيّب حين دوَّن فردوس النصرانيّة؟ نستطيع القول بادئ ذي بدء إنّنا لن نجد تأليفًا مبتكرًا عند هذا العالِم الذي كتب في مجالات متعدِّدة، بل سنجد تجميعًا لأفكار سابقة. وفي هذا المجال عمل ابن الطيِّب ما عمله كثير من الآباء السريان فحفظوا من الضياع مجموعات عديدة من الأدب السريانيّ.

ينقل ابن الطيِّب النصّ كاملاً من السريانيّة إلى العربيّة، أو هو يلخِّصه بعض المرّات أو يأخذ منه ما يوافق قارئيه. وهذا واضح إذا قابلنا تفسير سفر التكوين مع ما كتب أيشوعداد المروزيّ، وإليه يعود ابن الطيِّب في أماكن عديدة. ينطلق ابن الطيِّب من آية من الآيات فيفسِّرها بطريقة حرفيّة على مثال ما نرى في مدرسة أنطاكية التي دأبت على شرح الكتاب المقدَّس شرحًا لا يبتعد كثيرًا عن النصّ. يتوسّع ابن الطيِّب في ما تحتويه كلُّ آية بمعناها الأدبيّ ولا ينسى أن يقدِّم لنا المنحى التاريخيّ. هو يطبِّق النصّ على أشخاص التوراة أو على التاريخ العبرانيّ كما فعل في نصوص بركة يعقوب لأبنائه (تك 49) وفي شرح بعض المزامير(10). وهكذا لا نصل إلاّ نادرًا إلى المعاني المسيحانيّة أي تلك التي تتحدّث عن يسوع المسيح. ففي المزامير المنشورة في الروض النضير لا نجد إلاّ في المزمور الثاني ما يربطنا بيسوع المسيح. فالملوك هم بيلاطس وهيرودس ورؤساء اليهود. وحين يبارك يعقوب بنيه (تك 49) لا يقرأ ابن الطيِّب بركة مسيحانيّة إلاّ في شخص يهودا، جدّ المسيح.

هذا هو أسلوب ابن الطيِّب عرضناه بطريقة مقتضبة وسنتوسّع فيه فيما بعد، وهو أسلوب الشرَّاح السريان الذين تعلّموا على يد تيودور المصيصيّ وتيودوريه القورشيّ وديودور الطرسوسيّ وغيرهم من معلِّمي أنطاكية.

 

2- شرح سفر التكوين

هذا النصّ الذي نُشر في لوفان (بلجيكا)، يبدو بشكل شرح للآيات الهامّة في الفصول الثلاثة الأولى في سفر التكوين. هذا ما نجده أيضًا في شرح سفر التكوين عند مار أفرام أو إيشوعداد المروزيّ وابن العبريّ في مسائله في العهد القديم. ولكنَّ ابن الطيِّب سيوجز شرحه لسائر الفصول. يقسم الكتاب إصحاحات (من السريانيّة            ) لا تقابل الفصول التي نجدها في ترجماتنا الحديثة المتأثّرة بالغرب، ولا توافق التقسيمات الليتورجيّة. فالإصحاح الأوّل يبدأ في تك 1: 1 وينتهي في 2: 8. والإصحاح الثاني يبدأ في تك 2: 8 وينتهي في تك 3: 20. والإصحاح الثالث يبدأ في 3: 20 وينتهي في 5: 24. هذا التقسيم لسفر التكوين في 34 إصحاحًا أو قسمًا، أمرٌ معروف لدى السريان وهو واضح في التفاسير المنشورة إلى الآن. ولكنّه تقسيم مصطنع لأنّه لا يرافق المعنى في بعض الحالات. فالإصحاح الرابع مثلاً يتحدَّث عن الطوفان ويتوقّف قبل أن ينتهي الطوفان فيترك للإصحاح الخامس (تك 7: 11-9: 3) أن يتابع الخبرَ  دون أن يُنهيه.

إذا بدأنا قراءة النصّ قراءة سريعة، نلاحظ بادئ ذي بدء الأسلوب السريانيّ الطاغي على الجمل والعبارات. لا ننسى أنّنا في القرن الحادي عشر واللغة العربيّة لم تسيطر بعدُ سيطرة كاملة. فإن كان الكتّاب السريان قد بدأوا بالكتابة في العربيّة منذ عهد بعيد، إلاّ أنّنا سنحسّ بتأثير السريانيّة عليهم خلال القرنين العاشر والحادي عشر. هذه الظاهرة الواضحة عند ابن الطيِّب قد لاحظها الأب مرمرجي في مقدِّمة الدياتسّارون، واعتبرها نتيجة ترجمة حرفيّة قام بها الكاتب فما استطاع التخلُّص من تأثير السريانيّة لغة أجداده. أورد الأب مرمرجي تعابير سريانيّة عديدة في مقدِّمته، ونحن بدورنا نورد بعض العبارات السريانيّة في تفسير سفر التكوين. فالذي يشرح الكتاب هو مفشقان (؟؟؟؟؟؟)    كما في السريانيّة، لا المفسِّر كما في العربيّة (تفسير ص 7). وحين يورد ابن الطيِّب كلام الإنجيل (مت 10: 38) القائل: من لا يحمل صليبه ويتبعني لن يستحقّني، فهو يقول: »لن يستحقّ لي«. والواضح أنّنا أمام عبارة سريانيّة بدليل وجود اللام المفعوليّة مع الياء الضميريّة (تفسير ص 1). ونقرأ أيضًا في نصّ التفسير (ص 21) وجبل الله لآدم. زاد الكاتب اللام المفعوليّة على آدم وما قال كما يقول العرب: وجبل الله آدم(11).

وإنّ كتَّابًا انطلقوا من هذا الأسلوب المطعَّم بالسريانيّة فشكّوا بمعرفة ابن الطيِّب للغّة العربيّة معرفة وافية. وانطلق الأب مرمرجي من هذه الملاحظة ليعارض نسبة النصّ العربيّ للدياتسّارون إلى عبدالله بن الطيّب. قال: كيف نستطيع أن ننسب هذه الترجمة الخسيسة إلى رجل يصوِّره لنا التاريخ عالِمًا كتب الكتب العديدة في العربيّة. أجل، يعزّ علينا أن ننسب إلى ابن الطيِّب هذه الترجمة رغم ما تقوله المخطوطات. فلا بدَّ أن تكون لعبت فيها يدُ الخطّاطين الذين حوَّروها فشوَّهوها.

ويمكننا بدورنا أن نقول على شرح سفر التكوين ما قاله الأب مرمرجي على نصّ الدياتسّارون. كيف نرضى أن يكون ابن الطيِّب ذلك الكاتب الضعيف الذي أوكل إليه البطريرك مطالعة كتاب إيليّا بن شينايا، بيت النصارى في الغراماطيق والمفردات والبلاغة؟ ونعود هنا إلى رأي الأب سمير خليل الذي قال: إنّ الأخطاء الموجودة عند الكتّاب العظام، تعود إلى الناسخين لا إلى الكتّاب أنفسهم. ونفهم موقف يوسف منقاريوس الذي صحَّح عبارة ابن الطيِّب واعتبر أنّه لم يغيِّر شيئًا في مضمون النصّ. أمّا الأب سمير خليل فقد نشر نصٌّا لابن الطيِّب عنوانه في ضرورة العلم(12) فبدا النصّ في لغة عربيّة صحيحة. ونشر أيضًا جيرار تروبو نصٌّا في الوحدة والثالوث في الله(13) فبدا النصّ صحيحًا. ونحن بدورنا ألقينا نظرة إلى فقه النصرانيّة الذي نشر في لوفان فما وجدنا أخطاء لغويّة تذكر، اللهم ما وقع فيه النسّاخ. لهذا اعتبرنا بادئ ذي بدء أنّ الأخطاء الموجودة في سفر التكوين عائدة إلى الناسخين. ولكن لماذا يخطئ الناسخون في نصّ الدياتسّارون ونصّ سفر التكوين ولا يخطئون حين ينقلون مقالات ابن الطيِّب اللاهوتيّة والقانونيّة؟ ونتساءل نحن بدورنا: لماذا يكتب عبدالله بن الطيِّب مقالاته اللاهوتيّة في لغة صحيحة، ثمّ يكتب شروحه الكتابيّة في لغة ركيكة كما قال يوسف منقاريوس؟ لماذا يختلف المؤلِّف عن المترجم؟ هذا أمر لم نجد له جوابًا إلاّ إذا كان ما وصل إلينا من تفاسير كتابيّة وصلت إلينا عبر تلاميذ ابن الطيِّب خلال دروس تلقّوها على يده، فقدّموها لنا في لغة أقرب إلى المحكيّة منه إلى الفصحى، وهذا ما يفسِّر الأسلوب المتقطِّع في النصّ. هذا مجرَّد افتراض لاحظناه عندما تحدَّثنا عن شرح سفر التكوين لأفرام السريانيّ. من هذا القبيل نقول إنّه لا بدّ من إعادة كتابة سفر التكوين بطريقة مصحَّحة ليستطيع القارئ العاديّ أن يعود إليه ويفيد منه، لا أن ينسخ نسخًا مع ما فيه من أخطاء فتضيع الفائدة. هذا ما فعله الناشر، وطريقة لوفان تعتبر النصَّ مقدَّسًا لا يُمسّ ولا يتغيَّر، وتنسى أنّ الكاتب غير الناسخ والمعلِّم غير التلميذ الذي كتب ما استطاع كتابته خلال دروس ألقيت عليه.

وإذا تمعنّا في قراءة تفسير سفر التكوين وجدنا مكانة ابن الطيِّب وسط تقليد سريانيّ نجد بعض آثاره عند إيشوعداد المروزيّ وغيره. في هذا السبيل، نستطيع أن نقابل بين نصّ ابن الطيِّب ونصّ إيشوعداد فنجد أنّ نصّ إيشوعداد هو المرجع الأوّل والوحيد لنصّ ابن الطيِّب. هذا لا يعني أنّ الكاتب العربيّ لم يقرأ إلاّ كتب إيشوعداد السريانيّة. فهو يورد لنا أسماء أفرام (تفسير ص 7، 10، ..52.) وتيودور المصيصيّ (ص 10، 16) وباباي الفارسيّ (ص 61) وباسيليوس (ص 6، 7، 52) وحنانا (ص 8، 28، ..44.) ونرساي (ص 10، 52، ..67.) ويلمِّح إلى تيودور بركوني ويورد له نصٌّا دون أن يسمّيه (ص 30، 40).

وكما قلنا، يبقى إيشوعداد المرجع الرئيسيّ لابن الطيِّب ولا بدَّ من مقابلة نصّ إيشوعداد ونصّ ابن الطيِّب لنرى أنّ ثلاثة أرباع نصّ ابن الطيِّب نقرأه عند إيشوعداد. غير أنّ ابن الطيِّب لا ينقل سابقه كما قلنا، بل يستعمله بحرّيّة ويكيِّفه حسب محيطه. وإليك على سبيل المثال هذه الأرقام. فالإصحاح الأوّل من ابن الطيِّب يقع في 16 صفحة وكذلك الإصحاح الثاني. أمّا عند إيشوعداد فالإصحاح الأوّل يقع في خمسين صفحة والثاني في 35 صفحة. يتطرّق ابن الطيِّب بسرعة إلى شرح تك 1: 1 فيعطي المعنيين الخاصّين بكلمة في البدء (برشيت في العبريّة). أمّا إيشوعداد فيشدِّد على كلمة »برشيت« وكلمة يت (في السريانيّة ؟؟؟) اللتين كانتا مدار بحث عند الكتّاب السريان. ونعطي مثلاً على ذلك فنقرأ ما يقول إيشوعداد: »ولهذا وإذ أراد أن يبيِّن أنّه لم يكن شيء إطلاقًا إلاّ الخالق قبل السماء والأرض، وأنّ الله بدأ الخلق بهما، وأنَّهما أساس سائر المخلوقات لأنَّهما الحقيقة وملء الفضاء، قال الطوباويّ موسى: »في البدء خلق الله...«. وكلّ هذا المقطع يجمله ابن الطيِّب في عبارة واحدة: »قوله (أي قول موسى في البدء خلق) دلَّ به على حدثهما (أي السماء والأرض) وقِدَمه (أي الله) (تفسير ص 5).

وهناك فرق آخر بين إيشوعداد وابن الطيِّب على مستوى استعمال النصّ الكتابيّ. يتطرَّق إيشوعداد إلى النصِّ الكتابيّ كشارح يفسِّر الكلمات ويؤوِّل عبارات الكاتب الملهم. أمّا ابن الطيِّب فيهتمّ بإسناد تعليمه الأخلاقيّ على كلام الكتاب المقدَّس. إنّه يعتبر أنَّ مرحلة شرح النصّ الكتابيّ قد مرَّت، فلم يبقَ له إلاّ التوجُّه نحو معنى يقدِّمه للكهنة ليقرأوه (تفسير ص 1). ونقرأ نصٌّا من ابن الطيِّب »وقول الله لآدم صار كواحد منّا على سبيل الهزء به. أي إن كان ما أشار به الشيطان عليه كان صحيحًا فقد صار كواحد منّا إلهًا. وفي الحقيقة أنّه لم يصر إلهًا، والمجد الذي كان يجلِّله بطلَ. ورأى حزنَه وفاقته وحاجته. وما أبعد ما صار آدم من غرضه أن يصير إلهًا. صار إنسانًا ناقصًا محتاجًا (تفسير ص 38). هذا التفسير لنصّ التكوين 3: 22 يسير في إطار أخلاقيّ لا نجده عند إيشوعداد.

وأترك أن يقابل القارئ شرح تك 4: 15 عند إيشوعداد وعند ابن الطيِّب. يقول الأوّل: »عوقب قايين سبع مرّات ولهذا دام عقابه سبعة أجيال. وبعد ذلك قُتل بحسب خطيئته التي جمعت وجهات سبع. الأولى، أنّه قتل. الثانية، لأنّه كان أوّل من اقترف جريمة القتل. الثالثة، لأنّه قتل أخاه. الرابعة، لأنَّه قتل من هو أفضل منه. الخامسة، لأنّه لم يقبل التوبيخ. السادسة، لأنّه لم يُتب بعد أن قتل. السابعة، لأنّه تجرّأ فعارض الله وكذب عليه حين قال: لا أعلم«. أمّا ابن الطيِّب فيستنتج حالاً الأمثولة الأخلاقيّة فيقول: »معنى القول بأنّ قايين يُجازى عن الواحد بسبعة، يبقى سبعة أحقاب تحت الانتقام ويموت. والآية التي جعلها الله في قايين حتّى لا يقتله من يجده وهو الحفظ له والصدّ عنه وهذا حتّى يبقى فيصير تخويفًا للدهور الآتية« (تفسير ص 43).

ونتساءل: هل نقل ابن الطيِّب إيشوعداد؟ الأمر ممكن. ويمكن أيضًا أن يكون كلٌّ من إيشوعداد وابن الطيِّب قد استقيا من معين واحد. لأنَّ إيشوعداد جمّاع كابن الطيِّب. ولكنَّنا نقابل بين الاثنين لأنَّنا لا نملك النصَّ الجامع بينهما إن كان هناك من نصّ.

 

2- طريقة ابن الطيِّب في تفسير الكتاب المقدَّس

يتفرَّد ابن الطيِّب في طريقة تفسيره للكتاب المقدَّس، بل يدخل في خطّ التفسير النسطوريّ الذي بدأ أوّل ما بدأ مع تيودور المصيصيّ. ما كتب ابن الطيِّب نظريَّتَه في التفسير، ولكنّه اتَّبع الطريقة التي أوردها إيشوعداد في مقدِّمته إلى سفر المزامير. هنا يعرض إيشوعداد مبادئ التفسير فيعارض التفسير الرمزيّ الذي يزيل الواقع ليضع شيئًا آخر محلَّه، مع التفسير التاريخيّ الذي يشرح الأمور في واقعها. الطريقة الأولى هي اختراع أوريجان الإسكندرانيّ الكافر وهي تقود إلى الكفر والتجديف والنفاق. أمّا الطريقة الثانية فهي توافق الحقيقة والإيمان.

ونتوقَّف أوَّلاً على التفسير التاريخيّ في خطِّ مدرسة أنطاكية. فابن الطيِّب يعلن أنّ لجميع روايات سفر التكوين مضمونًا عامٌّا وتاريخيٌّا، هو المضمون الذي عرفه الذين عاشوا في تلك الأيّام. فكلُّ عنصر وكلُّ تفصيل من النصّ الملهم، نفهمه في معناه المادّيّ. فالمياه مياه أينما تحدَّث عنها الكاتب الملهم. قال ابن الطيِّب: »وفائدة الماء الذي فوق الرقيع حتّى إذا تشيط (احترق) الرقيع من حرارة الأنوار تبرَّد من الذي فوقه ويبقى على تلبُّده« (تفسير ص 11). ثمّ يرفض ابن الطيِّب شرح أوريجان الذي يقول »إنّ الماء الذي فوق الرقيع إشارة إلى القوى الروحانيّة« (تفسير ص 11). ولنقرأ أيضًا ما يقوله ابن الطيِّب عن الرقيع: »والسماء شكلها كشكل كفّة الميزان والرقيع كالخيمة المسطَّحة. وإنّما جعل لون الرقيع أزرق لينتفع به النظر. فلو كان أبيض جدٌّا لبدَّد البصر، ولون الزرقة ينفع البصر« (تفسير ص 11).

والأشخاص الذين يذكرهم الكتاب المقدَّس يتفرَّدون بحضورهم التاريخيّ ونحن لن نسلبهم هذا الحضور. فملكيصادق اقتبل بركة سام ونقلها إلى إبراهيم (تفسير ص 56). وملكيصادق هو ملك ساليم واسم أمِّه شالتايل وأبيه هرقلام، وكان كنعانيٌّا (تفسير ص 63-64). ولكنّ هناك من قال إنّه كان ابن الله، ولكنَّ الأمر لا يبدو صحيحًا، كما يقول ابن الطيِّب. في الحقيقة إنّه المثال والنموذج لابن الله (تفسير ص 64). هذا لا يعني أنّ ابن الطيِّب لا يستنتج المعنى الروحيّ من النصّ. فملكيصادق صورة مسيحانيّة، وهذه فكرة نعود إليها فيما بعد. وإذا عدنا إلى تك 3، نقرأ تفسير ابن الطيِّب: »وقوم قالوا إنّ الحيّة كانت قديمًا على مثال الجمل وتمشي على أربعة، وعند اللعن مشت على بطنها. ولو علموا أنّ اللعنة كانت للشيطان(14)، لا لها، لما قالوا هذا القول« (تفسير ص 31). وهكذا نرى أنّ ابن الطيِّب يبحث عن المعنى الروحيّ كما يستنتجه من النصّ دون أن يسير في متاهات الإسكندرانيّين.

أجل، إنّ تفسير المعنى الحرفيّ للنصّ لا يمنع المفسِّر من البحث الذي يتعدّى المعنى الأوّل للكلمات. وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن النبوءات التي يتضمَّنها النصّ الكتابيّ. وإليك بعض الأمثلة. بعد أن خطئ آدم وحوّاء حلَّ بهما العقاب، لا لأنَّهما أكلا من الثمرة، بل لأنَّهما تعدَّيا الشريعة. فحالتهما تشبه إلى حدٍّ بعيد حالة الشهداء الذين امتنعوا عن أكل اللحوم المقدَّمة للآلهة، لا لأنّها كانت لحمًا، بل لارتباطها بالأصنام(15).

هذا تطبيق روحيّ على التاريخ المقدَّس وعلى الكنيسة. وهناك تطبيق آخر على المسيح. يقول ابن الطيِّب: »ولأنّ آدم وحوّاء تجاوزا الناموس في ستّ ساعات، أنقذ (في مخطوطة أخرى: ما بعد) سيِّدنا جسديهما بالصليب في ستّ ساعات« (تفسير ص 34). ولكنَّ ابن الطيِّب يرفض قول القائلين بالتفسير الرمزيّ فيقول: »قوم قالوا إنّ على خشبة التين صلب المسيح لأنّها المأكولة، وهذا محال. وآخرون قالوا: الذي أكله آدم هو السنبل، ولهذا أسلم سيّدنا جسمه إلى تلاميذه بالخبز، وبسرّ ما قالوا السنبل، لأنَّ السنبل نبات وليس بشجرة« (تفسير ص 34).

وتبدو بَركة سام ولعنة حام نبوءة فتنال تفسيرين، تفسيرًا مادّيٌّا وتفسيرًا روحيٌّا. فبعد أن قال ابن الطيِّب إنَّ يافث وسامًا نالا بركة مادّيّة تابع كلامه: »ومعنى قوله: تبارك الربُّ إله سام، رمزًا بأنّ نسله يُكثر التمجيدَ لله. وظهور المخلِّص وحلول الله في خيمة سام (سيم في المخطوطة) يرتبط بالعهود التي عهد قديمًا وبالاتّحاد الذي كان أخيرًا بالمسيح... ويفت (أو يافث) كان الأكبر، وإنّما رُتِّب سام أوّلاً وجُعل البكر لأنّه المسيح منه يظهر« (تفسير ص 57).

وهناك بركة أخرى هامّة، هي بركة يعقوب لأبنائه (تك 49). أمّا ابن الطيِّب فيفهم هذه البركات بالنظر إلى المستقبل الزاهر الذي ستعرفه كلُّ قبيلة من قبائل العبرانيّين. يشبَّه دان بالحيّة لأنّ منه خرج شمشون. وجاد خرج مع أربعين ألفًا (الألف في المخطوطة) الذين خرجوا قدّام الستماية ألف، وكلّهم تبعوه. ونفتالي رسول مسرع لإخوته... وله عبارة حسنة في الرسايل ويأتي بالبشارات (تفسير ص 99-100). أمّا بركة يهوذا (ياهودا كما تقول المخطوطة) فتحظى وحدها بتفسير مادّيّ وتفسير مسيحانيّ. عاد ابن الطيِّب إلى تاريخ يهوذا منذ يوم خلَّص يوسف من يد إخوته، إلى مغامراته مع تامار فوصل إلى الملوك الذين خرجوا منه. هذا ما يصُبّ في خانة التفسير التاريخيّ. أمّا التفسير المسيحانيّ فيبرز في شرح تك 49: 10-12. وهذا ما يقوله ابن الطيِّب: »إلى أن يأتي الذي له الأمر، يعني المسيح الذي من أجله كانت النبوءات. وقوله: وإيّاه رجوا الشعوب، لأنّه غاية أملها والموصل لها إلى المملوءات. وقوله: يربط بالكرمة أتانه وبالغصن جحشه، يريد أن يربط الشعوب التي كانت متمرِّدة كالجحاش بنفسه. التي سمّاها كرمه لأنّ منها سقى الحياة. ودخوله أيضًا إلى أورشليم (يروشليم في المخطوطة) كان راكبًا حمارًا وجحشًا ابن أتان. وقوله: يبيِّض بالخمر لباسه. أمّا لباسه فيشير به إلى ناسوته، وبتبييضها إشراقها. وبالخمر يريد بالصلب الذي طعن فيه وخرج منه دم وماء. وبدم العنب كسوته إشارة إلى الدم والماء الذي خرج على جسمه عند الطعن« (تفسير ص 98-99)

أما تركنا هنا تطبيق النبوءات على المسيح وانتقلنا إلى التفسير الرمزيّ الذي طالما عارضه الأنطاكيّون؟ ما هو مبدأ هذا التفسير؟ إنّه مبدأ أخذت به الكنيسةُ منذ القديم، وهو أنّ الله رتَّب العهد القديم كصورة مسبقة للعهد الجديد. فهناك تفاصيل عديدة من تاريخ الشعب مثّلت تمثيلاً مسبقًا حقائق من التدبير الإلهيّ الجديد. في هذا المجال نقرأ ما قاله ابن الطيِّب: »وقد قلنا إنّ ذبح إبراهيم للحيوانات (كان) مثالاً للسنّة العتيقة، ولابنه مثال السنة الجديدة الذي يفدي الله العالم بابنه بها« (تفسير ص 78).

أمّا ملكيصادق فهو يمثِّل المسيح الكاهن. نقرأ في تفسير التكوين: »وعلّة كهنوته ليكون مثال كهنوت سيِّدنا الذي لم يسبق إليها (كهنوت مؤنَّث في السريانيّة ؟؟؟؟؟؟)     سواه. ولتوبيخ اليهود المفتخرين بكهنوتهم وذبائحهم. وإذا كان هذا، وهو مثال المسيح، يتبرّك منه رئيس الآباء ولاوي هو في ظهره، فكم أولى أن تتبرَّك المعمورة كلُّها بالمسيح الذي هو الحقيقة لا المثال« (ص 64).

وذبيحة إسحق تنبئ بذبيحة المسيح. »وقوله الله: يا بني، ينصر الذبيحة تطبيبًا لقلب إسحق حتّى لا يستشعر عليه في الاختلاف. وموضع الذبيحة هو الذي بناه سليمان هيكلاً وهو موضع قبر آدم وفيه صلب المسيح. والخشبة التي حملها المخلِّص على كتفه، والشجرة التي كان جانبها الحمل، مثال خشبة الصليب« (تفسير ص 77-78).

ويمكننا أن نشير إلى قراءة مسيحيّة لنصّ العهد القديم وتوسيع في الحديث عن الثالوث الأقدس. »وقول الله إنّه الآن صار كواحد منّا رمزًا على الأقانيم« (تفسير ص 77). هذا ما قاله ابن الطيِّب وسيقول أيضًا بمناسبة خلق الإنسان على صورة الله ومثاله (تك 1: 36-27): »وقوله: نفعل إنسانًا لشبهنا ومثالنا أشار إلى آدم. ولفظة نفعل يدلّ على الكثير، وهذا رمز على الأقانيم. فوقت خليقة آدم أبان الآب عن ابنه، وفي وقت تجديده أبان الابن عن الآب. ولم يرد الله بقوله: شبهه ومثاله، أنّ آدم جوهره مثل جوهر الباري، ولا على أنّه كصورته، لكن على سبيل الكرامة له والاختصاص« (تفسير ص 18).

ينطلق ابن الطيِّب من نصّ العهد القديم فيحدِّثنا عن الثالوث وعن عمل الأب والابن. فهل نجد في سفر التكوين كلامًا عن الروح القدس لتكمل الصورةُ الثالوثيّة. كيف يفسِّر ابن الطيِّب العبارة: وكان روح الله يرفُّ على المياه؟ هو لا يسير على خطى باسيليوس الذي اعتبر أنّ روح الله هو الروح القدس، كما لا يسير على خطى تيوفيل الأنطاكيّ وغيرهما. إنّ ابن الطيِّب يقف مع أفرام في تفسيره لسفر التكوين ومع تيودور المصيصيّ وغيرهما من الآباء السريان فيقول: »وروح الله المرفرفة (روح مؤنَّث في السريانيّة ؟؟؟؟)    على الماء. أمّا باسيليوس فيعتقدها روح القدس والمفشقان ومار أفريم يشيرون بها إلى الهواء. ويحتجّون بأنّ كلام النبيّ إنّما كان في كون الموجودات لا في الأقانيم. ولم يكن في ذلك الوقت روح القدس معروف فيذكره ودعيت (؟؟؟؟ مؤنَّث) للطف جوهرها وهواء لحركتها« (تفسير ص 7).

هذه بعض الأفكار عن ابن الطيِّب وتفسيره لسفر التكوين. هذا الكاتب النسطوريّ قدَّم لنا في العربيّة تفسيرًا كتابيٌّا واسعًا يستحقّ أن ينشر في ديارنا فنقرأه في اللغة العربيّة. هو لم يكن مفسِّرًا ابتكر طريقة جديدة في التفسير، بل كان جامعًا استفاد ممّا كتبه سابقوه وقدَّم لنا الغنى الكتابيّ الذي يزخر به التقليد السريانيّ. وكم نستفيد نحن إن تعرَّفنا إلى هذا التفسير إذا أردنا أن نهيئ الدرب لتجديد كتابيّ في هذا الشرق القريب من الذين كتبوا نصوص الأسفار المقدَّسة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM