الفصل الحادي عشر: يسوع التاريخي.

الفصل الحادي عشر: يسوع التاريخي.

 

في 23 - 28 من كانون الثاني 2005، عقدت الرابطة الكتابيّة، إقليم الشرق الأوسط، المؤتمر البيبليّ التاسع، في دير سيّدة البير، جلّ الديب، لبنان.

كان موضوعه: يسوع التاريخيّ، أو: موقع يسوع في التاريخ.

وشعاره »وُلد يسوع في بيت لحم، أيّامَ هيرودس« (مت 2:1).

حضر المؤتمر وفود من إيران والعراق وأبو ظبي وسورية وفلسطين ومصر والسودان ولبنان. كانوا قرابة مئة شخص طوال أسبوع مثقل بالمحاضرات والمداخلات المتنوّعة، وقد خرجوا بفرح كبير لما نالوا من معلومات قيّمة في هذا المضمار، مع العلم أنّا نقف بين تيّارين كبيرين: واحدٍ يرى المسيح الممجَّد الذي لا يمكن أن يكون إنسانًا بسيطاً مثل سائر البشر. هو إله منذ الحبل به وإلهٌ في حياته كطفل وفتى وشابّ. ولقد اعتبر بطرس أنّه لا يتألّم، بل يكون المسيحَ المجيد، بحيث يجلس عن يمينه وشماله »وزيران« هما يعقوب ويوحنّا. ولكن في الواقع، عند صليبه حيث بدا ملكًا كما في إنجيل يوحنّا، كان لصّان: واحد شتمَه، والآخر قال له: أذكرني حين تأتي في ملكوتك (لو 23:42).

والتيّار الثاني الذي انطلق من أوروبّا في القرن الثامن عشر، اعتبر يسوع إنسانًا فقط. حياته مثل حياة كلّ إنسان. كان في فلسطين وما خرج من فلسطين. جُعل لاهوته جانبًا، فصار يهوديٌّا في الغرب، كنعانيٌّا في الشرق. أرادوه فيلسوفًا، معلّمًا، ثوريٌّا. وكثر المعلّمون في خطّه فأرادوا أن يحلّوا محلّه. وعلى مستوى الثورة، استوحوا عنفه حين طرد الباعة في الهيكل، كما في فيلم زفيريلي »يسوع الناصريّ«. ولكن حين نقرأ النصوص الإزائيّة، لا يُذكر السوط الذي »حمله« يسوع وهجم كالنسر الكاسر على الناس. كلّ ما جرى هو أنّ يسوع طرد الذين يبيعون ويشترون. كانوا في رواق الأمم بحسب مرقس (11:17)، لأنّهم اعتبروه غير مقدّس، فقال لهم يسوع: »بيتي بيت صلاة لجميع الأمم«، لليهود وللوثنيّين. ومثله قال متّى حفاظاً على قدسيّة الهيكل (21: 12 - 13). وفي لوقا (19: 45 ي)،أراد أن يبيّن أن لا حاجة لكلّ هذا. فالهيكل يخصّ الآب، وقد جاء إليه يسوع وهو ابن اثنتي عشرة سنة (2:46)، وها هو يعلّم فيه كلّ الفترة التي وصل فيها إلى أورشليم حتّى موته (19:47؛ 20:1؛ 21:52). وأوجز لوقا حياته هذه في 21:37 - 38: »وكان يسوع يعلّم في الهيكل... وكان الشعب كلّه يبكّر إليه في الهيكل ليسمع كلامه«. وحده يوحنّا قال: »جدل سوطاً من حبال وطردهم كلّهم من الهيكل مع الغنم والبقر« (21:15). لا حاجة بعد إلى مثل هذه الذبائح بعد أن صار يسوع الذبيحة الوحيدة. ونلاحظ أنّ لا عنف في تصرّف يسوع، حين قال لباعة الحمام: »إرفعوا هذا من هنا« (آ 16).

ما استطاعوا أن يرتفعوا إلى مستوى يسوع، فأحدروه إلى مستواهم، في عالم يعرف العنف إلى أقصى حدوده. وما قلناه عن العنف، نقوله عن عالم الجنس. يجب أن يكون يسوع »عاشقًا« مثل كلّ شابّ من عمره. فمريم المجدليّة هي هنا، يقبّلها على فمها، يتزوّجها، يكون له منها أولاد. ذاك كان عنوان فيلم جعل يسوع ينزل عن صليبه، واليوم عنوان كتاب في الموضوع عينه(*). وإذا كان يسوع على هذا المستوى، فماذا نقول عن أمّه الممتلئة نعمة التي ما أرادت أن تعرف رجلاً لتكون أمّ المسيح. أمّا كيف جمعت البتوليّة والأمومة، فالروح القدس حلّ عليها، وقدرةُ العليّ ظلّلتها (لو 1:35). ولكن هذا أمرٌ لا يريد أن يفهمه عالم اليوم. لماذا الاستثناء لمن دُعيت »المباركة بين النساء«؟ ولماذا لا يكون يسوع شبيهًا بنا في كلّ شيء؟ هكذا نقترب منه بسهولة. وبالتالي يبقى معنا على الأرض. ولا حاجة أن يرفعنا إلى السماء، بل نحن نرتفع مثله. »المسيح هو ، بلا ريب، دون ا؟، وأنّه ليس بمطلق حالٍ هو ا؟، وأنّ ا؟ أكبر، وأنّ المسيح أكبر كبرًا من مقولة الإله الوهميّة على الأرض. لا ألوهة على الأرض«(1).

أمّا الإيمان المسيحيّ في هذا المضمار، فيبدأ تحديده، انطلاقًا من الإنجيل الذي لا نقرأه مبتورًا، مع مجمع نيقية في الردّ على أريوس، ذاك الراهب المصريّ، الذي اعتبر أنّ ا؟ واحد. وأنّ يسوع أدنى منه. تلك نظرةٌ تواصل وجودُها في الشرق، وقد جاءتنا من الغرب مع »شهود يهوه« مثلاً، وعددٍ من الكتّاب المتأثّرين باليهوديّة، والذين لا يرون في يسوع إلاّ مجرّد إنسان. هو رفيع جدٌّا. ولكنّه لا يمكن أن يكون مساويًا للآب في الجوهر. وبالتالي لا محلّ لعقيدة الثالوث، حيث الآب والابن والروح القدس يشاركون في الجوهر الواحد: إله واحد في ثلاثة أقانيم. مع مجمع أفسس (431)، شدّدت الكنيسة على أنّ المسيح الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، تجسّد في مريم التي دُعيَتْ أمّ ا؟، وفي مجمع خلقيدونية (451)، كان كلام واضح عن الطبيعتين في المسيح: إلهٌ كامل وإنسان كامل. هو سرّ عظيم لا يستطيع أن يفهمه الذين »من الخارج«. فإن لبثوا على مستوى الجسد، لا يستطيعون أن يعرفوا، مثل نيقوديمس. وإن لبثوا على مستوى العقل، سوف يتوقّفون في منتصف الطريق ولن يصلوا إلى كلمة الحياة التي رآها الرسل وسمعوها ولمسوها. إن توقّفنا عند يسوع الإنسان، نعرف بعض الحقيقة. فالهرطوقيّ هو من يأخذ بقسم من الحقيقة ويترك القسم الآخر. وإن اعتبرنا أنّ يسوع هو إله فقط، جعلناه في الغيوم وما كان لنا وصولٌ إليه.

من أجل كلّ هذا كان المؤتمر البيبليّ التاسع الذي تقرّر منذ أربع سنوات. وكان الضيف الكبير فيه الأب جاك شلوسر (Jacques SCHLOSSER)، العميد الأسبق لكلّيّة اللاهوت في ستراسبورغ، فقدّم لنا خمسة مواضيع كاملة:

الأوّل: يسوع التاريخ ومسيح الإيمان. هما وجهتان هامّتان، ولا نستطيع أن نتمسّك بوجهة دون الأخرى، ولا أن نفصل الواحدة عن الأخرى. يسوع التاريخ هو الذي وُلد في حقبة من الزمن، في عهد أوغسطس قيصر، ومُلك هيرودس. ومات في زمن بنطيوس بيلاطس. عاش في فلسطين، وقلّما خرج منها ليأتي إلى نواحي صور وصيدا أو إلى المدن العشر مثل جرش وغيرها في الأردنّ. ومسيحُ الإيمان نتعرّف إليه من خلال نصوص الإنجيل كما قرِئت على ضوء القيامة. تبدّل معنى الكلمات ومفهومها. فلفظة »كيريوس« مثلاً لم تعد تعني فقط »السيّد« في كلام مع أحد الناس، بل السيّد السيّد أي الربّ يسوع المسيح. والكلام عن الهيكل الذي يُهدَم فيُبنى في ثلاثة أيّام، ظنّه اليهود ذاك المبنيّ بالحجارة، أمّا التلاميذ ففهموا على ضوء القيامة أنّه جسد المسيح القائم من القبر.

المحاضرة الثانية كانت »البحث الثالث عن يسوع«. أول من بحث في شخص يسوع كان ريماروس الذي شدّد على المسافة بين تعليم الرسل وكرازة يسوع. والبحث الثاني مع كازمان. بيّن الانشداد بين تعليم يسوع ونظريّات أساسيّة في العالم اليهوديّ. والبحث الثالث انطلق من العالم اليهوديّ كإطار لفهم تعليم يسوع. في الحقبة الأولى، كانت قناعة بأنّه يستحيل أن نكتب سيرةُ يسوع كاملة، بل نصل إلى السمات الكبرى من نشاط يسوع في القول والعمل. في الحقبة اللاحقة، هذه الانشدادات قادت يسوع إلى الموت قتلاً. ولكنّنا فهمنا أن محور كرازة يسوع هو إعلان ملكوت ا؟، لا كواقع اجتماعيّ أوّلاً، بل كأمر عظيم في الأزمنة الأخيرة، حيث يقدّم ا؟ مشروع الخلاص ويحقّقه. كلُّ هذا بيّنه يسوع بقوله وعمله، وأعلن أنّ حصوله آتٍ قريبًا.

يوم الثلاثاء، تحدّث الأب شلوسر عن يسوع داخل العالم اليهوديّ. هنا نلاحظ نظرته إلى الشريعة. ما رفضها، ولكنّه أتـمّها. وعارضها أكثر من مرّة، ولاسيّما على مستوى الطهارة. لمس الأبرص، كما لمس الميت . »عمل« يوم السبت، فاعتبر نفسه ربَّ السبت. وقال: السبت للإنسان، لا الإنسان للسبت. لم تعد الشريعة هي الغاية، بل وسيلة لبلوغ الإنسان إلى ا؟. وتعامُل يسوع مع الرؤساء واضح. ابتعد عنهم كثيرًا، وفي النهاية كان قاسيًا عليهم: الويل لكم. والهيكل الذي هو قلب العالم اليهوديّ، كان أحد الأسباب في الحكم على يسوع، كما سيكون بالنسبة إلى بولس.

وطُرح السؤال: ماذا يقول يسوع عن نفسه؟ هو ابن الإنسان. إنسان ابن إنسان، في خط ما قال حزقيال. ولكن »ابن الإنسان« على ضوء القيامة، هو ذاك الآتي على سحاب السماء، كما في دا 7:13. وهناك تعابير يؤكّد فيها يسوع سلطته: الحقّ الحقّ أقول لكم. قيل لكم، وأنا أقول لكم. أمّا في إنجيل يوحنّا، فيعلن يسوع أكثر من مرّة: أنا هو. أنا هو خبز الحياة. أنا القيامة. أنا نور العالم. أنا الطريق والحقّ والحياة. وفي العلاقة مع الآب، يدلّ يسوع على علاقة حميمة: يدعوه »أبّا« كما الأطفال والديهم. ومع فعل »جئت« أو »ما جئت« نكتشف وجهة بنويّة كما نكتشف أبعد من ذلك. هو جاء من عند الآب، ويعود إلى الآب. مثلاً، في لو 12:49 - 50، »جئتُ لألقي نارًا على الأرض، وكم أتمنّى أن تكون اشتعلت. وعليّ أن أقبل معموديّة، وما أضيق صدري حتّى تتمّ«.

والمحاضرة الأخيرة عالجت موت يسوع وأسبابه. عن هذا الموت تحدّث المؤرّخ اليهوديّ فلافيوس يوسيفس في العاديّات. وتحدّث المؤرّخ الرومانيّ تاقيتُس (Tacite) عن المسيح الذي أسلمه للعذاب الوالي بنطيوس بيلاطس في زمن حكم طيباريوس. ولكن التفاصيل عن هذا الموت لا نجدها إلاّ في الأناجيل. ولكن المؤرّخ يعرف أن مرمى أخبار الآلام لم يكن تقديم التاريخ ولا تقريرًا موثّقًا عن الوقائع. فالمرمى هو لاهوتيّ في الدرجة الأولى. ا؟ حاضر، وما يحصل يتوافق مع نبوءات الكتاب المقدّس. وهو روحيّ في كلام عن صبر الربّ وأمانته. وهو دفاعيّ وهجوميّ على اليهود. على المستوى القانونيّ، بنطيوس بيلاطس (ومن خلاله الرومان)، لعب دوره في قتل يسوع. وعلى المستوى الدينيّ، أحسّ اليهود بخطر على الشريعة وخصوصاً على الهيكل. طهّر يسوع الهيكل، وحاول أن يصلح شعائر العبادة مُبعدًا الانحرافات.

وكان ضيفنا الثاني الأب ميكالي بتشيريلو الإيطاليّ، الآتي من الأراضي المقدّسة. حدّثنا عن التنقيبات التي تمّت في فلسطين ورَبطَها بالإنجيل. وأرفق كلامَه بصوَر سلايد مفصّلة حول الأماكن التي مرّ فيها يسوع، ولاسيّما في مسيرة الآلام. وسار بنا المحاضر إلى مغاور قمران وقلعة مصعدة وبحيرة طبريّة وقلعة جرش. وهكذا تأصّل الإنجيلُ في جغرافية محدّدة، جعلت الذين يبحثون عن أصولٍ أخرى في أماكن أخرى، يتيهون في نظريّات لا أساس لها في الأناجيل ولا على الأرض. وحين نتذكّر أنّ الحجّاج بدأوا يحجّون إلى القبر المقدّس منذ القرن الأوّل، وهذا ما تشهد له الأناجيل، ويحجّون إلى فلسطين منذ القرن الثاني، لا نستطيع أن نبحث عن يسوع إلاّ في فلسطين. وذاك الذي وُلد من امرأة، ووُلد تحت الشريعة، وخُتن وتطهّر واعتبر نفسه ابن الوصيّة وهو في الثانية عشرة من عمره، قد ارتبط بالعالم اليهوديّ وأخذ بعاداته. ولكنّه لم يتوقّف عند شعب واحد. بل أرسل تلاميذه إلى شعوب الأرض كلّها، بل إلى الخليقة. كما لم تنحصر الكنيسة في فلسطين. فهي وصلت إلى أنطاكية ثمّ رومة مع بطرس وبولس، وما تزال تمتدّ لتصل إلى أقاصي الأرض.

*                     *                     *

قبل ظهر الأيّام الخمسة، كانت أربع محاضرات قدّمها باحثون من مصر والعراق وإيران، وخصوصاً من لبنان: الكاثوليكيّ والأرثوذكسيّ والإنجيليّ. ففي قراءة الكتاب المقدّس، يلتقي جميع المسيحيّين، شرط أن يسمعوا كلام ا؟ خاشعين، ولا يُسقطوا »لاهوتهم« الخاص فيظهر الاختلاف في ما بينهم.

كان كلام عن ميلاد يسوع، في بيت لحم، في أيّام أوغسطس قيصر. هذا الإمبراطور ليس ملك المسكونة. وحده طفلُ المذود هو الملك. ثمّ عن سنوات يسوع الخفيّة، التي عاشها يسوع ككلّ فتى وشاب من عمره. فالتشديد على حياة يسوع العلنيّة، جعلنا ننسى بعض الشيء مسيرة يسوع كإنسان بكلّ ما للإنسانيّة من معنى. ومن يدري التأثير الذي كان له في المحيط الذي عاش فيه. وما كانت علاقة يسوع بيوحنّا المعمدان؟ لا شكّ في أنّ هناك علاقة قرابة، لم يتوقّف عندها الإنجيل. ولكن موقف يوحنّا المتشدّد سيواجهه موقف يسوع القريب من الخطأة، الذي لا يستعدّ أن يقطع الشجرة التي لا تثمر، بل يعطيها مهلة. والتساؤل البارز: لماذا يسوع واحد وأربعة أناجيل؟ هي الكنيسة السابقة لكتابة الأناجيل عرفت الشهادة الحقّة عن يسوع وتركت كلّ ما انتحل صفة ليست له. تركت الأناجيل المنحولة. ونحن، في أيّ حال، إزاءَ شخص يسوع أمام أربع شهادات: في عالم رومة مع مرقس. مع المثقّفين في اليونان مع لوقا. في محيط متأثّر بالتعاليم اليهوديّة مع متّى. وأخيرًا إنجيل يوحنّا، الذي انطلق من تيّارات يهوديّة ولاسيّما الإسيانيّة، فدوَّن في إطار غنوصيّ يحاول أن يعرف نفسه بنفسه. الإنجيل الرابع ربط معرفة المؤمن بمعرفة المسيح.

وفي انتقال إلى حياة يسوع العلنيّة، طُرح موضوع طرد الشياطين. في الواقع، أراد يسوع أن يعيد هؤلاء المنبوذين، المهمّشين، إلى إنسانيّتهم. ذاك كان وضع مجنون الجراسيّين. صار »لابسًا، جالسًا، صحيح العقل«. والمرأة المحدودبة التي لامس فمُها الأرض، انتصبت ومجدّت الله. وعبارات البركة واللعنة (أو بالأحرى الويل) تدلّ على عواطف يسوع تجاه الذين التقاهم.

في اليوم التالي، توقّف المحاضرون عند النظرة الإسلاميّة إلى يسوع المسيح: في الإسلام، في القرآن، في كتابات المؤرّخين الإسلام. جاء الحصاد كثيرًا ولا بدّ من تمحيصه وقراءته في المحيط الذي ورد فيه، بحيث لا نحكم عليه بحسب نظرتنا المعاصرة. وبموازاة الإسلام، كان التلمود مع كلام عن حياة يسوع وموته. وقرئ كتاب هامّ للاهوتيّ كاثوليكيّ أميركيّ: جون ماير. انطلق من معطيات التاريخ ليتحدّث عن يسوع في المحيط الذي عاش فيه. كما قُرئت مؤلّفات ريماروس الذي فصل بين يسوع التاريخيّ وكرازة الرسل. نسيَ دور الروح القدس في الربط بين يسوع على الصليب والرسل الذين انطلقوا يوم العنصرة وحلول الروح عليهم بألسنة كأنّها من نار. وعاد الكلام عن الهيكل وعن البعد الأركيولوجيّ.

يوم الخميس قُدِّمت أربع مداخلات: الأولى، يسوع معلّم يهوديّ. هكذا اعتبروه، وسمّوه »رابي« كما فعل ذاك الشابّ الغنيّ. ولكن الفرق هو أنّ التلميذ يختار معلّمه، أمّا يسوع فهو الذي اختار تلاميذه. دعاهم واحدًا واحدًا. ثمّ قرئ النصّ الإنجيليّ قبل الفصح وبعده. حين لا نميّز، أقلّه في عقلنا، بين هذين المستويين، نقع في صعوبات عديدة. مثلاً، كيف نفهم كلام يسوع لأمّه في عرس قانا الجليل: »ما لي ولكِ، يا امرأة«؟ في المعنى الأوّل هي مسافة بين الربّ وأمّه. لماذا هذه المسافة؟ لأنّ أمّه التي سبقته إلى العرس، كانت تمثّل العالم اليهوديّ، شعبها الذي رفض أن يؤمن بالمسيح. ذاك هو المعنى الذي نكتشفه بعد الفصح حين مرّت مريم في »الساعة« ووصلت مع ابنها إلى »اليوم الثالث«. والمرأة التي هي أمّ يسوع، تمثّل بشريّة جديدة تسير وراء يسوع، في خطّ حوّاء التي مثّلت البشريّة القديمة. تحدّث بولس الرسول عن آدم والمسيح، وتحدّث آباء الكنيسة عن حوّاء ومريم.

وفي إطار الدستور عن الوحي، درس المبدأ الآبائي: العهد القديم يستنير بالعهد الجديد. والعهد الجديد يجد جذوره في القديم. لهذا وردت أكثر من مرّة، في إنجيل متّى، لفظة »يتمّ«. هل إنّ حياة يسوع كانت مكتوبة فوجب عليه أن يُنفِّذ ما كتب عنه؟ كلاّ. فيسوع حرّ كلَّ الحرّيّة. وإن هو أراد أن تكون حياته بحسب الكتاب، فلأنّ الكتاب يحمل كلام ا؟ ومشيئته. هو قال: »ما جئت لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني«. ومشيئة الذي أرسله قرأها في الكتاب. ثمّ إنّ المسيحيّين الأوّلين عادوا إلى الكتاب كلَّ مرّة لم يفهموا أمرًا من الأمور. خان يهوذا يسوع. أترى لم يعرف يسوع أن يختار تلاميذه؟ ولكن لكي يتمّ الكتاب. كيف تحبل مريم وهي بتول؟ تمّ الكتاب بحسب أشعيا: »ها إنّ العذراء تحبل وتلد ابنًا ويُدعى اسمه عمّانوئيل« (7:14). لماذا أخفى يسوع شخصيّته مع أنّه عمل عددًا من العجائب، وتكلّم كما لم يتكلّم إنسان؟ هكذا تمّ ما قال النبي أشعيا: »ها هو فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي به رضيت« (متى 12:18).

وطُرح السؤال حول بولس الذي اعتبره بعضهم »مؤسّس المسيحيّة«. لا. فمؤسّس المسيحيّة هو يسوع المسيح. أو بالأحرى الأساس الذي بُنيت عليه الكنيسة. أمّا بولس فأوّل من كتب »بشارة« أو خبرًا سارٌّا. حدّثنا عن يسوع في الرسالة الأولى إلى تسالونيكي، التي دوّنها سنة 51، فيما ظهر أوّل إنجيل (إنجيل مرقس) سنة 69 - 70.

هل عرف بولس يسوع خلال حياته على الأرض؟ يرى البعض أنّه ربّما سمع عنه خلال حياته على طرق الجليل واليهوديّة، منطلقين من 2 كور 5:16: »وإذا كنّا عرفنا المسيح يومًا حسب الجسد«. في أيّ حال، عرف بولس يسوع من خلال ما سمع من اليهود، بشكل سلبيّ. ولكن حين قال بطرس والرسل إنّ يسوع حيّ، تبدّل موقفه إلى أن  »صعقه« الربّ على طريق دمشق، فخرّ ساقطاً على الأرض. عندئذٍ مضى إلى بلاد العرب، إلى حوران وشرقيّ الأردنّ، وهناك تعلّم الكثير من الجماعات المسيحيّة الأولى التي انتشرت انتشارًا واسعًا بعد موت يسوع وقيامته ببضع سنوات. هناك شارك في العشاء السرّيّ وكتب في 1 كور 11:23: »تسلّمت ما سلّمتكم، وهو »أنّ الربّ يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزًا«. وأورد عددًا من أقوال يسوع، مثلاً: »يوم الربّ يجيء كاللصّ في الليل« (1 تس 5:2). هذا ما نقرأه في متى 24:43؛ لو 12:39.

والمواضيع الأخيرة، محاكمة يسوع، ثمّ الصلب في أسبابه وأهدافه. وبعد تقديم لكتاب يسوع الناصريّ، قابل ابن من المشرق بين الفرس والمجوس. وتقرّر مبدئيٌّا أن يكون المؤتمر العاشر في الأسبوع الأخير من شهر كانون الثاني، سنة 2007، على أن تدرس الرابطة إنجيل مرقس الذي هو أوّل الأناجيل التي وصلت إلينا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM