الفصل الخامس: قيامة يسوع في قلب التعليم الانجيليّ

الفصل الخامس:

قيامة يسوع في قلب التعليم الانجيليّ

ليس موضوع الإنجيل تذكيرًا بخبر يسوع منذ الحبل به حتّى موته، مع لائحة لأقواله نضعها في مكانها. لا ليس الإنجيل مجموعة تقارير صحافيّة تحاول أن تُرضي فضول القرّاء. فتعليم الإنجيل هو تعليم من نوع آخر. حين أورد لوقا خطبة بطرس الأولى يوم العنصرة، لخَّص مضمون حياة يسوع في أعمال الرسل فقال: »كان يسوع الناصريّ رجلاً أيَّده الله بينكم بما أجرى على يده من العجائب والمعجزات والآيات كما أنتم تعرفون. وحين أُسلم إليكم بمشيئة الله المحتومة وعلمه السابق، صلبتموه وقتلتموه بأيدي الكافرين. ولكنّ الله أقامه« (أع 2: 22-24). »فليعلم بنو إسرائيل كلُّهم علم اليقين أنّ الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم ربٌّا ومسيحًا« (آ36).

هذا هو التعليم الإنجيليّ، وهو يجد ذروته في إعلان قيامة يسوع. لسنا هنا أمام تسجيل حرفيّ لأقوال تلفّظ بها بطرس: فالنصّ تأسّس على رسمات الكرازة الإنجيليّة القديمة، وأوجز الموضوعَ المركزيّ. ونلاحظ أنّ خبر الرسالة التي أتمّها يسوع وسط شعبه وانتهت بدراما الصليب، قد أُعيدت قراءتُها وتفسيرها على ضوء القيامة. حين انتزعه الله من قيود الموت، أشركه في سلطانه، وجعله ربٌّا ومسيحًا.

نطرح على نفوسنا ثلاثة أسئلة. الأوّل: ما معنى القيامة من بين الأموات؟ الثاني: ماذا تقول الأخبار الإنجيليّة عن قيامة يسوع؟ الثالث: كيف بدت الأخبار المتعلِّقة بالظهورات؟ وننهي كلامنا في الظهور على تلميذَي عمّاوس.

1- القيامة من بين الأموات

إنّ موضوع القيامة من بين الأموات ينتمي انتماءً خاصٌّا إلى رجاء إسرائيل: فنحن لا نجده في أيٍّ من معتقدات الشرق القديم الذي تحدَّث عن »موت الآلهة وقيامتهم«، فظنّ بعض مؤرّخي الديانات أنّنا أمام القيامة!

ليس يسوع إلهًا يقف في »العالم الفوقيّ« ويجسّد قوى الطبيعة. إنّه إنسان حقيقيّ عاش في أرض فلسطين وعرف تاريخَ شعبه، وخبر الموتَ على الصليب شأنه شأن أيِّ مجرم في تلك الحقبة المضطربة. لقد احتفظ الرسل بهذه الذكريات فعرفوا عمّا يتكلَّمون.

اعتبر درافرمان(1) أنّ المصريّين آمنوا منذ زمن بعيد »بقيامة الأموات« كما في العالم اليهوديّ. إذن، سطُرة (عالم الميتولوجيا) المسيح القائم من الموت هي بعث لسطُرة أوزيريس المائت لكي يظهر في شكل ابنه حورس(2). كيف نستطيع أن نجمع بين قيامة المسيح والسطرة المصريّة؟ إنّ هذا لمستحيل. فأوزيريس يرتبط بسطرة ترتبط بعالم الطبيعة حيث »يموت« النبات في الخريف و»يولدَ« في »الربيع«. ويتكرَّر الموت والحياة في شكل دوريّ. وهكذا يُسقطون على هذه السطرة الخبرةُ البشريّة عن الولادة والموت. ويُسقطون الخبرة عينها على الشمس المؤلَّهة التي تغيب في المساء وتقوم في الصباح. نحن أمام صورتين من الميتولوجيا تؤلَّه فيها قوى الكون. أمّا عبادة الإله الواحد في إسرائيل، فقد استبعدت استبعادًا جذريٌّا عبادة قوى الطبيعة التي بها ربطت مصر عبادة الموتى بواسطة تأليه الفرعون.

في إسرائيل، الله هو وحده الله. »هو يميت ويحيي، ويُحدر إلى الجحيم ويصعد« (1صم 2: 2). الجحيم أو الشيول هو مثوى الأموات جميعًا أكانوا أشرارًا أم أبرارًا. كم نحن بعيدون عن عبادة الموتى وتأليه قوى الكون. فهناك أمل للشعب في نهاية محنه التاريخيّة: إنّ الربّ سيُحيي شعبه الذي قتلته المصائب التاريخيّة. وإذ أراد النبيّ حزقيال أن يعبّر عن هذه الفكرة، لجأ إلى رمز قيامة الموتى في صفحة شهيرة. »أيّتها العظام اليابسة، سأُدخل فيك روحًا فتحيَين« (حز 37: 4-5). »أيّها الروح، هُبَّ على هؤلاء الموتى فيحيوا« (آ10). »وقال الربّ: هذه العظام هي بيت إسرائيل« (آ11). وسار هذا الموضوعُ مسيرتَه، فطبَّقه أشعيا على أشخاص ماتوا ولم ينالوا المجازاة العادلة عن أعمالهم. كان أش 26: 14 قد اشتكى إلى الربّ: »هم أموات ولا يحيون. هم أشباح ولا يقومون«. فجاء الجواب في أش 26: 19: »تحيا موتاك وتقوم أشلاؤهم. فاستَفيقوا ورنّموا يا سكّان القبور! نداك ندى النور يسقط على أرض الأشباح«. انطلق الناس من هذا الرجاء فشجّعوا أولئك الذين ضحّوا بحياتهم من أجل إيمانهم بين سنة 167 وسنة 164 ق.م. وقد أعلن دا 12: 2-3 استيقاظهم من الموت من أجل حياة أبديّة فقال: »كثيرٌ من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون. بعضهم للحياة الأبديّة وبعضهم للعار والذعر الأبديّ. ويضيء العقلاء... كالكواكب إلى الدهر والأبد«.

بعدئذٍ، اعترفت شريحة واسعة من العالم اليهوديّ (التيّار الفرّيسيّ، التيّار الإسيانيّ) بالرجاء بالقيامة الفرديّة، يوم يمارس الله دينونتَه العظيمة ويعيد إلى الأشياء نظامها النهائيّ. وعاد المؤمن إلى نصّ هو 6: 2 (يحيينا بعد يومين، وفي اليوم الثالث يقيمنا فنحيا) فسمّى ذاك اليوم »اليوم الثالث«، يوم »تعزية الموتى«. وتفرّد تيّار الصادّوقيين المتعلِّق فقط بأسفار الشريعة الخمسة، فأنكر هذا الاعتقاد الذي لم يجده عند موسى.

وتدخَّل يسوع بشكل إيجابيّ ليدافع عن هذا الرجاء بالقيامة ضدّ الصادوقيّين الذين هاجموه ساخرين ومتحدِّثين عن القيامة وكأنَّها عودة إلى الحياة الحاضرة (مر 12: 18-27؛ مت 22: 23-33 = لو 20: 27-40). أعلن إيمانه جهارًا بمجازاة الأفراد في الآخرة، ولم ينفِ اللجوء إلى صوَر جاءت من عالم الجليان اليهوديّة (مثل لعازر والغنيّ، لو 11: 19-31). والقيامة »في اليوم الثالث« حسب القول المعروف، شكَّلت رجاءه الخاصّ. تكلَّم بوضوح مع تلاميذه عن فشله البشريّ وموته، فأنبأ عن آلامه ثلاث مرّات. »إنّ ابن الإنسان يجب أن يتألَّم كثيرًا... ويموت وأن يقوم بعد ثلاثة أيّام« (مر 8: 31). »سيسلَّم ابن الإنسان فيقتلونه وبعد قتله بثلاثة أيّام يقوم« (مر 9: 31).

فالعبارة »بعد ثلاثة أيّام« (حسب مرقس) أو »في اليوم الثالث« (حسب مت 16: 21؛ لو 9: 22) كانت تدلّ على »يوم عزاء الموتى«. لقد استعمل يسوع لغة عصره ليتحدَّث عن رجائه وراء الألم والموت اللذين يتحمَّلهما ليتمَّ مقصد الله(3). حلم التلاميذ بنجاح أرضيّ يقوم بدحر الأعداء وإعادة الاستقلال إلى البلاد، أو بنجاح روحيّ يتمّ باهتداء الشعب اليهوديّ، أو بنجاح زمنيّ في مُلك مجيد يتمتّع به مسيح إسرائيل. لهذا، حين حدَّثهم يسوع عن آلامه، تشكّكوا وذُهلوا، لأنَّهم لم يكونوا ينتظرون مثل هذا الكلام.

عرف يسوع أنّ موته له معناه الساميّ. أمّا هم فلم يفهموا شيئًا. قال يسوع: على ابن الإنسان أن »يهب حياته فدية عن كثيرين« (مر 10: 45). فما معنى هذا الكلام؟ وخلال العشاء الأخير، تلفّظ بهذه العبارة على كأس الخمر: »هذا هو دمي، دم العهد الذي يُراق من أجل الكثيرين لمغفرة الخطايا« (مت 26: 28). عبارة ملغزة سيُكشف معناها فيما بعد. إذن، قُتل يسوع بعد أن أسلمته السلطات الدينيّة في العالم اليهوديّ إلى الحاكم الرومانيّ بيلاطس البنطيّ. كان هذا الموت على الصليب بالنسبة إلى الرسل، نهايةَ حلم ودمار أمل. وسنسمع تلميذَيْ عمّاوس يقولان وهما يتركان أورشليم: »كنّا نأمل أن يكون هو الذي يخلِّص إسرائيل. ومع ذلك، فهذا هو اليوم الثالث لتلك الأحداث التي وقعت« (لو 24: 21). اليوم الثالث! كانت عبارة اصطلاحيّة تدلّ على »يوم تعزية الموتى« في الرجاء اليهوديّ. فاتّخذت معنى جديدًا بواسطة العناية الإلهيّة التي تُوجّه الأحداثِ بشكل غير منظور. لهذا نقول في قانون الإيمان: »وقام في اليوم الثالث«.

2- شهادة الأخبار الإنجيليّة

لا تُعرف أحداث القيامة إلاّ بشهادة الأخبار الإنجيليّة المؤسَّسة على أقوال الشهود الأوّلين. فلفظة »شهادة« مهمَّة جدٌّا، لأنَّنا لسنا أمام وقائع مادّيّة يستطيع كلُّ واحد أن يتحقَّق منها، بل أمام خبرة مميّزة ومحفوظة بطبيعتها لحلقة مختارة. ففي أع 10: 39-42، يوجز بطرس في بضع كلمات هذا الواقع. بعد أن ذكر بداية رسالة يسوع في الجليل والعماد الذي أعلنه يوحنّا، قال: »نحن شهود على كلِّ ما عمل من الخير في بلاد اليهود وفي أورشليم، وهو الذي صلبوه وقتلوه. ولكنّ الله أقامه في اليوم الثالث وأعطاه أن يظهر، لا للشعب كلِّه، بل للشهود الذين اختارهم من قبل، أي لنا نحن الذين أكلوا وشربوا معه بعد قيامته من بين الأموات. وأوصانا أن نبشِّر الشعب ونشهد أنّ الله جعله ديّانًا للأحياء والأموات«.

إنّ التشديد على الشهادة وعلى اختيار الله للشهود، يدلّ على أنّنا لم نعد هنا أمام واقع تاريخيّ يستطيع كلُّ واحد له أذنان وعينان أن يتحقَّق منه. نحن أمام خبرة تخرج من إطار الحياة اليوميّة، وقد عاشها الشهودُ وحدهم، فدخلت في حياتهم، ووضعت حدٌّا لسقوط الرجاء الذي تلا موت يسوع على الصليب. نحن أمام انقلاب داخليّ جعل منهم حينئذٍ شهود المسيح يسوع الذي قام بقدرة الله ودخل في مجد الآب ليكون »ديّان الأحياء والأموات«. كلّ هذا كان نتيجة خبرة ارتبطت بالنعمة الإلهيّة وحدها، كان من العالم الفائق الطبيعة المرتبط ارتباطًا مباشرًا بالإيمان. إذن، يجب أن نقف على مستوى الإيمان لنفهم طبيعة هذه الخبرة. يجب أن نتجاوز »علم« المؤرِّخين الملتصقين بأمور الأرض وبما تلمسه أيديهم. والمدافعون الأوروبّيون في القرن التاسع عشر (وصل تأثيرهم إلينا) أخطأوا حين جعلوا نفوسهم في »ملعب« العقلانيّين الذين ينكرون قيامة المسيح: ظنّوا أنّهم يستطيعون أن يُثبتوا الواقع بالعودة إلى النهج التاريخيّ وحده. فأخطأوا. فنحن لم نعد في التاريخ، بل ما وراء التاريخ. وخبرة القيامة لا ترتبط بالتاريخ في ذاتها، بل بالشهود الذين يعيشون في التاريخ.

من العبث أن نحاول أن نبرهن على قيامة المسيح بوسائل المعرفة الطبيعيّة التي في متناول البحث التاريخيّ. إنّ قيامة المسيح تتعلَّق بنظام الإيمان ولا يمكن أن تُعرَف إلاّ بهذه الوسيلة.

ولكن كيف تَعرّف إليها تلاميذُ يسوع الذين أسّسوا عليها كرازتهم وألقوا بهذا الضوء على كلِّ حياة يسوع على الأرض؟ لقد أعطى يسوع علامات واضحة. ولكن يُطرح السؤال: لماذا لم يلاحظ جميعُ الناس في أورشليم هذه العلامات؟ هنا نتذكّر مر 16: 33:  إنّ المسيح ظهر بشكل آخر لتلميذين ذاهبين إلى القرية«، لتلميذَي عمّاوس (لو 24: 14-35). لسنا هنا أمام إدراكات عاديّة موضوعها أمور هذه الدنيا. فظهور قيامة السميح يرتدي بشكل وحي، الأمورَ الإلهيّة. ومعرفة هذه الأمور ترتبط باستعدادات الإنسان. إذن، ظهر المسيح بوجهه الخاصّ للذين استعدّوا للإيمان. ليس الإيمان هو الذي يخلق الظهور، بل نحتاج إلى استعداد إيمانٍ داخليّ لكي نكتشف ظهور المسيح.

إنّ جميع الشعب رأوا آلام يسوع. أمّا قيامته التي تمّت في مجد الآب (روم 6: 4)، فلم تظهر سوى إلى بعض الذين اختارهم الله مسبقًا. لهذا نقرأ في أع 10: 40 أنّ »الله أظهره لا للشعب كلِّه، بل لشهود اختارهم«.

ويرد اعتراض. تقول النصوص إنّ التلاميذ رأوا المسيح القائم من بين الأموات. وحين شرح بولس دعوته إلى الرسالة قال بوضوح: »ألست رسولاً؟ أما رأيت يسوع ربَّنا« (1كور 9: 1)؟ وكتب لوقا في أع 1: 3 أنّ يسوع »تراءى (رُؤي) مدّة أربعين يومًا«. إذن يكفي بأن يكون لنا عيون لكي نرى!! كلاّ. فهناك رؤية العين ورؤية الإيمان.

إنّ رؤية المسيح المنبعث لا تدخل في نظام المعرفة المبنيّة على الملاحظة المادّيّة. ليس الإدراك الحسّيّ هو الذي يحرِّك الإيمان، بل إنّ للإيمان عينين كما للجسد. هذا ما قاله غريغوريوس الكبير عن تلميذَيْ عمّاوس: »عمل يسوع في عيون جسديهما ما تمّ فيهما في عيون قلبيهما«.

لا يستطيع المؤرّخون إلاّ أن يتفحّصوا شهادات الذين نعموا بظهورات المسيح القائم من الموت. وهذا التفحّص هو أساس مهمَّتهم شرط أن لا يستبعدوا مسبقًا ولأسباب فلسفيّة أو إيديولوجيّة، مضمونَ هذه الشهادات. غير أنّ عليهم أن يتركوا مقابلة موضوع هذه الشهادة مع ما يرتبط بالخبرة العاديّة ونتيجة استقصائاتهم اليوميّة. ولكن يستطيعون محاولة فهم هذه الشهادات متفحِّصين الظروف التي تجعلها أهلاً للتصديق. هذا لا يعني أنّهم سيدخلون بالضرورة في الإيمان، إلاّ إذا دعتهم إلى ذلك نعمةُ الله. فيبقى لهم أن يفهموا الموضوع الذي تشير إليه الشهادات آخذين بعين الاعتبار المحيط الحضاريّ والدينيّ الذي فيه حصلت خبرةُ ظهور المسيح المنبعث.

في هذا المجال تكون المعرفة الدقيقة لرجاء القيامة لدى اليهود، كانتصار قدرة الله على الموت من أجل البشر الذي وُعدوا بالحياة الأبديّة، تكون هذه المعرفة شرطًا لا غنى عنه من أجل الاستقصاء التاريخيّ نفسه. هنا نعود إلى الاختلاف بين معجزات الله التي هي »موضوع« إيمان، والمعجزات التي هي »آيات« تقود إلى الإيمان. نجد في الأخبار الإنجيليّة ثلاث معجزات قيامة اجترحها يسوع خلال حياته على الأرض: ابنة يائيرس، رئيس المجمع (مر 5: 22-24، 35-43). ابن أرملة نائين الذي وضعوه على محمل، وتوجّهوا به إلى القبر (لو 7: 8-11). لعازر الذي من بيت عنيا والذي قام بعد أربعة أيّام (يو 11: 1-44). هذه المعجزات هي علامات (آيات) تقود الشهود لتقبُّل إنجيل ملكوت الله، كما قال يسوع لتلميذَي يوحنّا المعمدان (مت 11: 4-6 = لو 7: 22-23).

ونلاحظ أنّ يسوع يشدِّد لا على القدرة الخارقة التي تظهر هنا، بل على تتمّة الكتب التي وعدت بذلك، على الوعد الأخير الذي هو إنجيلُ يعلَن للفقراء والذي ليس بمعجزة في المعنى الحصريّ للمعجزة. فالإيمان لا يظهر بالضرورة لدى الذين شاهدوا هذه »الآيات«. فيسوع يزيد: »طوبى لمن لا يشكّ فيّ، يعثر بسببي، يفقد إيمانه بي« (مت 11: 26؛ لو 7: 23). أمّا قيامة يسوع »في اليوم الثالث« بعد موته، فهي تحقِّق له استباقًا خارقًا وغير متوقَّع لموضوع رجاء إسرائيل والمواعيد النبويّة في آخر الآيّام. فبالنبسة إلى يسوع وبالنسبه إليه وحده، صار »اليوم الثالث« استباقًا لتعزية الموتى وحياة جديدة ستكون للبشر في نهاية الأزمنة.

وأعطيَت علامةُ القيامة لـ »شهوده« حين تمّت القيامة في »اليوم الثالث« بعد موته، »في اليوم الأوّل من الأسبوع« (أي: يوم الأحد) (يو 20: 1؛ مر 16: 12؛ مت 28: 1؛ لو 24: 1). لهذا استطاع بولس أن يقول إنّ يسوع قام »كباكورة الراقدين« (1كور 15: 20). »كبكر من قام من بين الأموات« (كو 1: 18). إنّ اليوم الأخير في تاريخ العالم، يوم الدينونة والخلاص الذي ينتظره إسرائيل، يجد في قيامة يسوع استباقًا له بحيث إنّ التاريخ الذي يلي، سيكون عملَ »المسيح والربّ« (أع 2: 36)، وسيط الحياة والنعمة للبشر الذين يجمعهم في كنيسته. يبقى علينا أن نعرف كيف نرى من زاوية التاريخ »الواقعيّ«، حقيقةَ الظهورات التي نعم بها شهودُ المسيح المجيد.

3- أخبار الظهورات

لا ننتظر أن نقرأ في العهد الجديد أخبارًا مفصَّلة ومنسَّقة حسب الظروف لهذه الخبرات. فما يجب أن نطلبه قبل كلِّ شيء في النصوص، هو تقاطع الشهادات المختلفة التي جُمعت كما وردت، وقُدِّمت في شكل لا يتطلَّع كثيرًا إلى الواقع الملموس في كتب لا تتوخّى سرد الخبر من أجل قرّاء فضوليّين. فالإنجيليّون (والتقاليد التي سبقتهم) لم يمارسوا البحث التاريخيّ بحسب طريقتنا الحديثة، بل توخّوا هدفًا آخر وهو: إفهامنا جوهر حقيقة لا نستطيع أن نصوِّرها في طبيعتها الأصليّة. فيسوع الذي قام بقدرة الله السرّيّة، انتقل إلى ما وراء الزمن وتاريخ البشر (والكون)، ليصبح حاضرًا وفاعلاً في تاريخ كلِّ الأزمنة. وظهوراته لتلاميذه المدعوّين لكي يكونوا شهوده، شكَّلت اجتياحًا لما وراء التاريخ في تاريخنا. نعِمَ التلاميذ بهذه الظهورات، فطُلب منهم أن يشهدوا لها.

ولكن إن أرادوا أن يتكلّموا عنها، وجب عليهم أن يلجأوا إلى لغة تتلمَّس كلماتها وتحاول أن تكون قريبة من كلمات هذا العالم وخبراته. وكانت نقطتان أكيدتان في نظرهم. الأولى: يسوع الذي مات على الصليب ووُضع في القبر قد تراءى لهم حيٌّا بحياة تختلف عن تلك التي قادته إلى الموت: هي الحياة الأبديّة التي جعلته مشاركًا في حياة الله ومجده. الثانية: إنّ الوجه الذي به تراءى أتاح لهم أن يتعرّفوا إليه بالتأكيد، أن يلاحظوا أنّ جسده احتفظ بسمات آلامه وموته. قال لتوما: »هاتِ إصبعك إلى هنا وانظر يديّ، وهاتِ يدك وضعها في جنبي« (يو 20: 27). وقال لتلاميذه في لو 24: 39-40: »أنظروا إلى يديّ ورجليّ. أنا هو. المسوني وتحقّقوا. الشبح لا يكون له لحم وعظم كما ترون لي«. »قال هذا أراهم يديه ورجليه«.

لا شكّ في أنّ الرسل ارتفعوا إلى مستوى القيامة ليروا (لا بعين الجسد) ما يدلُّهم عليه يسوع. لقد دلَّت أعمالُه أنّ له جسدًا حقيقيٌّا، ولكنّه تحوَّل من أجل شكل وجود جديد. كان يحضر فجأة دون أن ينتظره أحد، وكان يختفي بالطريقة عينها. هكذا تراءى للتلميذين على طريق عمّاوس. »وبينما هما يتحدّثان ويتجادلان، دنا منهما يسوع (فجأة) ومشى معهما، ولكن أعينهما عمِيَت عن معرفته« (لو 24: 15-16). وهكذا اختفى فجأة عن هذين التلميذين بعد كسر الخبز. »انفتحت أعينهما وعرفاه، ولكنّه توارى عنهما« (آ31). ويحدِّثنا يوحنّا عن ظهور يسوع على المجدليّة وقد حسبته البستانيّ (20: 13ي)، عن دخوله على التلاميذ »والأبواب مقفلة« (آ19، 26).

ومع ذلك يقول النصّ إنّه »أكل وشرب معهم« (أع 10: 41). »قال لهم: أعندكم طعام هنا؟ فناولوه قطعة سمك مشويّ. فأخذ وأكل أمام أنظارهم« (لو 24: 41-43). هذا ما يصبح فيما بعد »عشاء الربّ«، أي المشاركة في مائدة المسيح القائم من الموت. هذا ما فعله مع تلميذَي عمّاوس: »أخذ خبزًا وبارك وكسر وناولهما« (لو 24: 30). وهذا ما سيفعله مع التلاميذ المجتمعين (لو 24: 41-43). وبعد الصيد العجيب، قال لهم يسوع: »تعالوا كلوا«. ثمّ »أخذ الخبز وناولهم، وكذلك ناولهم من السمك« (يو 21: 12-13؛ رج مر 16: 14).

واستعاد بولس التقليد المتعلِّق بعشاء يسوع الأخير (1كور 11: 23-25) فاستعمل بحقٍّ عبارة »عشاء الربّ« (1كور 11: 20). وبَّخ الكورنثيّين لأنَّهم لا يأكلون عشاء الربّ حين لا يمارسون المحبّة الأخويّة. ولكنّ النموذج الأوّل لهذا الطعام الليتورجيّ نجده في إنجيل لوقا وخبر تلميذَي عمّاوس. دُعي يسوع ليكون ضيفًا (لو 24: 29: أقمْ معنا)، فإذا هو يقلب الوضع ويترأَّس المائدة ويجعلهما يعرفانه »عند كسر الخبز« (آ30، 35).

إذا أردنا أن نرجع في الزمن لنكتشف تقليد الشهادات حول موت يسوع، سنجد عند بولس الرسول الصدى الأقدم، واللائحة المفصَّلة بالشهود، والخبر الأقصر عن الحدث. في خلال كلامه إلى أهل كورنتوس، ذكّر المؤمنين بالتقليد الأساسيّ الذي تسلَّمه قبل أن يسلِّمه (1كور 15: 5).

»تسلَّمه« منذ بشّر كورنتوس. ولكن، متى تسلَّمه؟ منذ اهتدائه ولا شكّ. حين اتّصل بالجماعة المحلِّيَّة في دمشق حسب أع 9: 6-9؛ 22: 11-16؛ 26: 14-17. أو أقلّه حين اتّصل بالجماعة الأمّ في أورشليم (غل 1: 18-19). »وبعد ثلاث سنوات صعدت إلى أورشليم لأرى بطرس، فأقمتُ عنده خمسة عشر يومًا«. إنّ ظهور يسوع القائم من الموت، الذي تلقّاه بنفسه وسمّاه »وحي يسوع المسيح« (غل 1: 11) هو آخر الظهورات. تحدَّث عنه بولس دون أن يسمّيه: كان اليوم الذي فيه »أدركه« (أمسك به) يسوعُ المسيح (فل 3: 12)، يحوِّله من مضطهد للمؤمنين إلى »رسول الأمم« (غل 1: 13-15). ولكنَّ آخرين سبقوه في خبرة القيامة، وهذا ما نعرفه في التعداد المذكور بمناسبة التقليد الذي تسلَّمه.

»سلَّمتُ إليكم قبل كلِّ شيء ما تلقَّيته، وهو أنَّ المسيح مات من أجل خطايانا كما جاء في الكتب، وأنَّه دُفن وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب، وأنّه ظهر لبطرس وللإثني عشر. ثمّ ظهر لخمسمئة أخ معًا لا يزال معظمهم حيٌّا وبعضهم ماتوا. ثمّ ظهر ليعقوب، ثمّ لجميع الرسل. وبعدهم كلِّهم، ظهر لي أنا أيضًا كأنّي سقط« (1كور 15: 3-8).

إذن، نستطيع أن نتحقَّق من شهادة هؤلاء الناس: ما زالوا أحياء في معظمهم ساعة كتب بولس 1كور عائدًا إلى المعلومات التي تلقّاها بنفسه. كان ذلك حوالي عيد الفصح سنة 57، والأحداث الواردة تعود على ما يبدو إلى سنة 30. هذه اللائحة التي لا تتضمَّن أي تفصيل، هي وثيقة تحمل معلومات مباشرة. صاحبها هو إنسان حوَّلته خبرة »وحي« المسيح في المجد تحويلاً تامٌّا. من هذا القبيل، كانت خبرته فريدة. فجميعُ الشهود الذين رأوا (من جديد) المسيح الحيّ عبر الموت، عرفوا فيه يسوع الناصريّ الذي قُتل بعد محاكمة جائرة. رأوه حيٌّا بحياة أخرى. وسمعوا أقواله، ودشّنوا معه »عشاء الربّ« الذي هو مركز تجمُّع كلِّ الذين يؤمنون به.

كنّا نودُّ أن نمتلك تفاصيل عن كلٍّ من هذه الظهورات. ولكنّنا نكون في ذلك الوقت في عالم الفضول والحشريّة التي يطلبها اليوم الصحافيّ الذي يطلب الجديد والغريب. أمّا الإنجيليّون الذين أسّسوا إيمان المسيحيّين الأوّلين على أخبار أورده الشهود المباشرون الأوّلون، فلم يراعوا الاهتمام الثانويّ. لم يبقَ في أخبارهم أثرٌ لظهور لخمسمئة أخ، ولا »ليعقوب أو الرسل« (هم مجموعة أوسع من الاثني عشر). كلُّ ما نجده عند لوقا هو تلميح إلى ظهور لبطرس (لو 24: 34) الذي سمّاه »كيفا« (أي الصفا)، إلاّ إذا تضمّن خبر مت 16: 16-19 إشارة إلى القيامة وضعت في غير محلِّها. قال بطرس: »أنت المسيح ابن الله الحيّ«. فذكّرنا بإيمان توما: »ربّي وإلهي«.

إذن نكتفي ببعض الإشارات الإخباريّة التي يصعب التنسيق بينها. هناك أمور حصلت في أورشليم. ظهور يسوع لمريم المجدليّة ومريم الأخرى (مت 28: 1-10)، أو لمريم المجدليّة ومريم أمّ يعقوب وسالومة (مر 16: 1-8). إنّ لوقا جعل كلَّ الظهورات تتمّ في أورشليم أو في جوارها (ف 24) وكذا فعل يو 20. وهناك ظهورات حدثت في الجليل (كما في مت 5) »مثلما أمرهم يسوع«. وفي يو 21: 1ي، ظهر يسوع للتلاميذ السبعة على شاطئ بحيرة طبريّة الواقعة في الجليل.

أمّا التفاصيل فلا تُرضي فضوليّة الإنسان الحديث: فلقد انطلق الإنجيليّون من تقاليد شفهيّة حملتها الجماعاتُ الأولى في أورشليم وفي الجليل، فبنوا أخبارًا تهدف إلى إثارة الفقاهة المسيحيّة. وهكذا بدت الحقيقة التي قدَّموها على مستوى لا يخضع للحقيقة »التاريخيّة«. فخبرةُ العلاقة الجديدة (كانت قد انقطعت بالموت، فأعيد الرباط) مع يسوع الحيّ بحياة جديدة وراء الموت، تهمُّهم أكثر من تفاصيل الظروف التي أحاطت بهذه الظهورات. دخلت هذه الخبرةُ في حياة التلاميذ (وفي حياة بولس)، فبيَّنت اجتياح »ما وراء التاريخ« في حياة أولئك الذين سيشهدون لقيامة يسوع الذي صار »مسيحًا وربٌّا«.

كنّا ننتظر أن نجد سمات جليانيّة كما في سفر رؤيا يوحنّا. ولكنَّ هذه السمات نادرة، إلاّ فيما يتعلَّق »بصورة« »ملاك الربّ« الذي جاء يدحرج الحجر عن القبر ويحدِّث النسوة (مت 28: 2-7؛ مر 16: 5-7؛ لو 24: 4-7). وفي مشهد صعود المسيح إلى السماء كما توسّع فيه أع 1: 9-11 (رج لو 24: 51؛ مر 16: 19). في المواضع الأخرى، تستعيد علاقةُ المسيح مع أخصّائه، شكلَ حوار بين صديق وأصدقائه. ويلاحظ لوقا أنّ هذا »الحوار« دام أربعين يومًا (أع 1: 3)، ويشدِّد على »عشاءات الربّ« مع أخصّائه (أع 1: 4؛ 10: 41). وقد أتاحت لهم هذه الحوارات بأن يتذكّروا كلمات تلفّظ بها يسوع في الماضي، وأعمال أتمَّها خلال حياته على الأرض، بعد أن أعادوا قراءتها على ضوء آلام الربّ وقيامته. نحن لا نجد التفاصيلَ هنا أيضًا، بل نتيجةَ هذه القراءة الجديدة لا في خبرة ما بعد القيامة، بل في كلِّ حياة يسوع ورسالته.

إذن، نحفظ نفوسنا من موقفين غريبين معًا عن هدف الإنجيليّين. الموقف الأوّل يستلهم أصوليّة ساذجة تجعل حقيقة الإنجيل في دقّة التفاصيل الإخباريّة دون رجوع إلى الوراء من أجل قراءة الأخبار كمجموعات لها معناها العميق: نقرأ هذه الصفحات وكأنّها فيلم صوَّر الواقع الملموس، أو تسجيلات مباشرة لأقوال يسوع بحرفيّتها. وإن حاول أحد أن يفسِّرها بطريقة »ذكيّة« وروحيّة، نعتناه بالهرطقة وتشويه كلام الله باسم العقل. هناك وحي دوَّنه الإنجيليّون بصور بشريّةُ تسندهم نعمةُ الإلهام. يبقى علينا أن ننطلق من الصور البشريّة لنصل إلى هذا الوحي. فإن تعلّقنا بالصور ولم نفلتها، ظللنا على المستوى البشريّ ولم نلتقِ بالخبرة التي عاشها الشهود الأوّلون في رفقة المسيح يومًا حسب الجسد، »فنحن لا نعرفه الآن هذه المعرفة« (2كور 5: 16). ما يؤسِّس الرسالة ليس معرفة »تاريخيّة« ليسوع، بل ظهور القائم من الموت (فل 3: 10).

الموقف الثاني يتكمّش بالنظرة »التاريخانيّة« التي وصلت إلينا من الغرب: خاب أملنا حين اكتشفنا في الأخبار الإنجيليّة تصوّر يسوع القائم من الموت، فنلقي جانباً كلَّ ما لا يبدو »تاريخيٌّا« بهذا الشكل، ونترك التقاليد الإيجابيّة التي نقلها إلينا الإنجيليّون بواسطة هذه الأخبار التي لا تعتبر نفسها »تاريخيّة« (مثل تقرير صحافيّ).

جوهرُ الأمور هو أن نفهم الهدف التعليميّ الذي أشرف على تدوين هذه الأخبار، أن نكتشف وظيفة كلِّ تفصيل من التفاصيل (مثلاً، لو 24: 39: الشبح ليس له لحم وعظم). هناك وظيفة »تاريخيّة« للمجموعات على أساس الاصطلاحات الأدبيّة التي تُستعمل في ذاك المحيط وذاك الزمان. هناك وظيفة لاهوتيّة خصوصًا حين تذكر الكتبُ المقدَّسة. وهناك وظيفة »إنجيليّة« دائمة، على أنّ هذه النصوص تعلن حضور المسيح المنبعث الذي يكلِّمنا ويعمل لأجلنا وينقل إلينا نعمته. هذه النعمة نستشفّها عبر شهادات بسيطة وصلت إلينا في لغة »بيبليّة« تتوسَّل الرموز لتصل بنا إلى التعليم.

4- خبر تلميذَي عمّاوس

ونأخذ مثلاً لكي نتحقَّق من خصب هذا الأسلوب في قراءة النصوص. نأخذ ظهور يسوع على تلميذَي عمّاوس.

لا نقرأه وكأنّه خبر قصير بشكل متجرِّد، حدثًا نستطيع أن نتحقَّق من كلِّ تفاصيله. فالفنّ الذي فيه دوِّن يلفت الانتباه إلى وجهات عميقة من خبرة »يصوِّرها« الكاتب. وقد احتفظ لوقا باسم أحد التلميذين »كليوباس« (لو 24: 18) الذي هو كلوبا المذكور في يو 19: 25. والإشارة إلى قرية عمّاوس (لو 24: 13)، تدلّ على تجذّر الخبر في التاريخ الحقيقيّ. لن نتوقّف هنا عند تحديد موقع هذه القرية.

ما هو مرمى هذا الخبر؟ هناك هدفان في تأليفه الأدبيّ. أوّلاً، توخّى الكاتبُ  أن يبيِّن المسيرة الروحيّة التي قادت التلميذين من سقطة الرجاء والإيمان التي سبَّبها موتُ ذاك الذي تعلَّقا به، إلى عودة الإيمان المؤسَّس على فهم جديد للكتب المقدَّسة. لا شكّ في أنّ نعمة الله تدخَّلت طوال التاريخ بواسطة كلمات ذاك المسافر السرّيّ الذي لم يعرفاه. قالا: »أما كان قلبنا يحترق في صدرنا، حين حدَّثنا في الطريق وشرح لنا الكتب« (24: 32)؟ إنّ هذا الكلامُ يبرز دورَ الكتب الذي لا يُستغنى عنه لفهم معنى آلام المسيح في علاقتها بالقيامة (رج آ25-27). نحن هنا أمام نموذج المسيرة الداخليّة التي تصل بنا إلى انفتاح القلب على الإيمان.

ثانيًا، في نهاية المسيرة، دعا التلميذان يسوع إلى قريتهما ليشاركهما في العشاء. حينئذٍ قلب الوضع، وترأَّس هو المائدة، و»كسر الخبز« على عادته. إذن، هو حقٌّا »يسوع الناصريّ«. هو »النبيّ القدير في القول والعمل عند الله والشعب كلِّه« (آ19). هو ذاك الذي أكلوا مرارًا معه. حينئذٍ »انفتحت أعينهما وعرفاه«. ولكنّه كان قد »توارى عن أنظارهما« (آ31). حينئذٍ عادا توٌّا إلى أورشليم ليُعلنا الخبر. وقطعا المسافة بسرعة، فوجدا الأحد عشر مجتمعين بعد أن تأكّدوا من القيامة على أساس الخبرات الأولى. لقد انقلبت الحالة لا على أساس بناء خياليّ، بل إيمانٍ ما أراد أن يموت. كان انقلابٌ غير متوقّع بعد اليأس الذي سيطر على التلاميذ.

هل هذا الخبر تاريخيّ مثل نبذة قصيرة في الصحافة؟ هدفه بالأحرى هو أن يصوِّر خبرة روحيّة غير منتظرة فيها فتح يسوع المنبعث »عيون الإيمان« التي عميت في هذه القلوب الغبيّة والبطيئة عن الإيمان (آ25). كما فتح عيون الجسد التي استطاعت بعد الآن أن تعرفه لدى أناس خسروا كلَّ أمل رغم تعلُّقهم بيسوع.

كلُّ الأخبار في الأناجيل، التي بعد الفصح، تشدِّد على صعوبة الإيمان التي أصابت شهود حياة يسوع (مت 28: 17؛ لو 24: 37-41؛ مر 16: 11-13؛ يو 24-26). فوجب على موت يسوع أن يُحدث هذه السقطة الجذريّة لإيمان لم يبلغ إلى بنيته النهائيّة، لكي تجعل هذه الخبرةُ الروحيّة والحسّيّة وغير المتوقَّعة معًا من تلاميذ يسوع شهود قيامته من بين الأموات، شهودَ انتصاره على سلطة الموت بالنسبة إليه وبالنسبة إلى جميع البشر. من هنا انطلق التعليم الإنجيليّ وتوسَّع، فوصل إلينا في أخبار روت أحداثًا حقيقيّة عاشها التلاميذ وأوصلوها إلينا. يبقى علينا أن ننطلق من الكلمات التي تركوها لنا، لكي نشاركهم في خبرة عاشوها. أمام قيامة يسوع، لا يستطيع أحد أن يبقى على الحياد. ولكنّ عمل النعمة يتطلَّب منّا تجاوبًا لندائه. هنا نتذكّر كلمة يسوع: »لا يأتي أحد إليّ إن لم يجتذبه الآب« (يو 6: 44). ولكنّنا نجهل كيف يجتذبنا الآب، وكيف يختار كلَّ واحد منّا. لهذا نحن نقترب من سرِّه بعيون منخفضة وقلب ساجد ونظرة تتوجّه إلى من هو الربّ الإله الذي مات وقام من أجلنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM